الفصل الرابع

إن ما يُنْجِزه النيل قبل أن يُوغِل في مصرَ خاصٌّ بعالَم الأساطير على ما يظهر. والنيل — إذ يَخرُج من بحيرة عظيمة، فيَسْكَع١ بين مَنْقَعٍ ومَنْقَعٍ ويُعَرَّض أعزَلَ للسُّهْب والصحراء ويُصَدُّ بمتارس الصوَّان — يذكِّرنا بأولئك الأبطال الذين يَسلَمون من جميع المغامرات ويَنجُون من جميع المصائب لِمَا قُدِّر عليهم أن يقوموا بعملٍ يُتِمُّونه في مَشِيبهم، وما عانَوْه من ابتلاءٍ فقد بلغ من شَدِّ نفوسهم ما تُحَلُّ العقدةُ معه بوصولهم، وهذا هو أمرُ النيل الذي إذا ما مَضَى في مصرَ أدَّى حضورُه إلى ولادةِ بلدٍ من غير نزاعٍ بما فيه من قدرةٍ على التكوين.

والنيل في كل عام يُثبِت نشاطَه وإبداعه، وذلك بقلبه نظامَ المواسم رأسًا على عَقِب، والنيل في الصيف — حين تجفُّ مياه الأنهار الأخرى أو تنقص إلى أدنى درجةٍ — يَبلُغ الغايةَ من الزيادة، والنيلُ فيما بين يونيو وسبتمبر يَبلُغ مستواه من الارتفاع في مصرَ العليا ١٣ ذراعًا أو ١٤ ذراعًا، ويبلُغ من الارتفاع في الدلتا سبعَ أذرعٍ أو ثمانيَ أذرعٍ، والنيلُ في أثناء هذه الأيام المائة يَقبِض على هذه الأرض التي تنتظره، ثم يرتدُّ النيل كإلهٍ غيرَ تارك وراءَه سوى كُهَّانٍ يقومون مقامَه ويَحرُسُون مَعبَدَه، ولا يزال الناس — والفاتحون أيضًا — يَعبدونه على ضِفافه مثلَ إله.

ويَنظُر المصريون إلى الفيضان الذي هو مُقَسَّم الأرزاق نَظَرَ الخائف الرَّاجِي، وترى المصريين — كالأم التي تُسَائِل نفسَها في أشهر الحَمْل التسعِ عن وَضْعِها ذكرًا أو أنثى — يَرجِعون إلى الفأل والجَفْر والكهنة والمهندسين ليعرفوا مقدارَ ارتفاع الفيضان القادم. وكان رهبانُ الأقباط يَعرِضون لطَرَاء الليل قطعةً من فخَّار على أن يَزِنوها في الصباح وفي المساء ويستخرجوا من فَرقِ الوزن قوةَ الفيضان، وكان المنجِّمون يَحسبون اقترانَ السياراتِ وصولًا إلى ذلك، وكان العرب في القرون الوسطى يَرَوْن أن اصطباغ النهر باللون الأخضر دليلٌ على الفيضان الضعيف؛ وذلك لأن عدم كفاية الأمطار يؤدي إلى جَرِّ النيل جميعَ أعشاب البحيرات التي يأتي منها.

واليوم تُعلِم أمواجُ الكهربا في كلِّ ساعةٍ فريقَ المهندسين في القاهرة وأُسوان مقدارَ ارتفاع النيل. وقد بَلَغَ فنُّ الريِّ في كثيرٍ من الأماكن بمصرَ درجةً من الكمال تَقضِي بالعَجَب، فترى من القوائم ما يَسهُل معه في كلِّ يومٍ حسابُ مقدارِ الماء الذي يَصِلُ ووجه توزيعه وما كان يجهله الفراعنة والرومان والعرب مع ما لديهم من مقاييس النيل، ولكننا إذا ما سألنا أقدرَ مهندسي الريِّ عن مقدار الفيضان القادم وَجَدْناهم من العَجْز عن الجواب ما لا يفوقون معه أقدم السكان الذين كانوا منذ ألوف السنين يُنْشِئون على ضِفاف النهر أولَ الأسداد، والذين كانوا أولَ من جَرَّ المِحْراث ورفعَ الماء بالساقية الأولى.

وكان القدماء مع جهلهم يُبصِرون الفيضانَ قبل وقوعه كما نُبصِر وإن كنا نَعرِف مصدَره، وتقول نظريةٌ يونانية إن ريح الشمال تَدحَر النيل وتَحُول دون انصبابه في البحر، وتقول نظريةٌ أخرى إن البحر يُحِيط بقُرص الأرض، وإن النيل يأتي من البحر، وتقول نظريةٌ ثالثة إن النيل يأتي من ثلوج الجبال العالية البعيدة. ويَهزَأُ هِيرُودُوتس بجميع ذلك من غير أن يجيء بما هو خيرٌ من ذلك، فمن قوله: «تُلغِز الطبيعة في وَضَح النهار من دون أن تَدَعَ أحدًا يَهتِك حِجَابَها.»

واليوم — أيضًا — يظلُّ سِرُّ الرياح الموسمية خفيًّا مع أنه يَتَكَسَّر على جبال الحَبَشَة، ولا أَحَدَ يَعرِف قوة هذه الرياح، ولا أحدَ يَقْدِر مقدمًا على حساب ما تَحْمِلُه من سحاب، ولا على حساب مقدار الأمطار التي تَنزِل على إثيوبية، ولا على حساب قوة الفيضان الذي يعتور النيلَ الأزرق والعطبرة.

ومع ذلك نستطيع أن نَقِيس الفيضان ونُوزِّعه عند وصوله، وهذا ما كان الفراعنة يصنعونه فيما مضى. وكان يُقَاسُ ارتفاعُ الفيضان، وكانت الآلهة تُسأَل أن يبلغ الفيضان ستَّ عشرةَ ذراعًا قبل هِيرُودُوتسَ بزمنٍ طويل، هيرودوتسَ الذي جابَ مصرَ قبل الميلاد بخمسة قرون.

ولذا أحيط تمثالُ النيلِ الألحَى الشهيرُ الموجودُ في الفاتيكان بستةَ عشرَ ولدًا، ويُلَخِّص بليني ذلك بما عُرِف عن الرومان من إيجازٍ فيقول: «تكون المجاعةُ باثنتيْ عشرةَ ذراعًا، وتكون الكفاية بثلاثَ عشرةَ ذراعًا، وتكون المَسَرَّةُ بأربعَ عشرةَ ذراعًا، وتكون السلامةُ بخمسَ عشرةَ ذراعًا، وتكون السَّعَة بستَّ عشرةَ ذراعًا.» وتتجلَّى روحُه الدينية العميقة حينما يُضِيف إلى ذلك قولَه: إن انخفاض مياه النيل في عام فِرْسَالُوسَ٢ يُثبِت أن هذا النهر أراد إظهارَ ما ساوره من نفورٍ بسبب قَتْلِ بُونبِيي! وماذا يَحدُث لو أن الأنهار في العصر الحاضر تَدَخلت في سياسة أوروبة؟

وتَرجِع الحساباتُ إلى أقدم الأزمنة كما يظهر، وما وُجِدَ بين أُسوانَ والقاهرةِ من مقاييسَ عشرينَ للنيل فقد كان له على رواية الحِدِّيث العربي المقريزي، شكلُ بئرٍ رُخاميةٍ قائمٍ على فُوهَتها نَسْرَان من نُحَاسٍ أحدُهما ذَكَرٌ والآخر أنثى، فكان الجمهور في اليوم الأول من الفيضان يَرصُد أولَ صفيرٍ للنَّسْر عند فتح فرعونَ والكاهنِ للبئر، فإذا خرج الصفيرُ الأول من ذَكَر النسر عُدَّ ذلك دليلًا على غزارة الفيضان وزاد الملكُ ثمنَ الحبِّ الذي لم يُبذَر، فيَالَاتِّحاد وَجْدِ الفراعنةِ الديني وروحهم العملية!

ويجد الجغرافيون قياسَ النيل أمرًا طبيعيًّا بعد زمنٍ وفي عهد الطُّغاة، ويُصرِّح استرَابُون في زمن قيصرَ بأنه لا شيءَ أفيد من مقاييس النيل للفلاح الذي يعلم بها مقدارَ ما يعتمد عليه من الماء، وما يَجِبُ أن يَدَّخِرَه للقَنَوات والأسداد، وبأنه لا شيءَ أفيدُ من مقاييس النيل للحكومة التي تعتمد عليها في فرض الضرائب فتَزِيدُها بزيادة الفيضان، ويراها جِيرارُ وهو واقفٌ على ضِفاف النيل مع الجنرال بونابارت بعد ألفيْ سنة فيَدعُوها بما أُثِرَ عن عصره من تَهَكُّم بريءٍ ﺑ «الذخائر المقدسة لشمَا كانت الحكومة تَقْدر عليه من رفع علامةِ مستوى الفيضان وصولًا إلى ضرائبَ عاليةٍ.»

ونَعْلَم تواريخ ارتفاع فيضانات النيل منذ ثلاثةَ عشرَ قرنًا قمريًّا ونصف قرن قمريٍّ، بأوثقَ مما في تواريخ أوروبة من أنباء، ولم يَقُلْ لنا علماء العرب في القرن الرابعَ عشرَ من الميلاد كيف اهتدوا إلى أرقامِ القرون الستة المتقدمة، ولم يَذْكُروا لنا مصادرَهم، بيد أن ما نراه من بساطة جداول هؤلاء العلماء الكثيرين وما نأتيه من مقابلةٍ بأرقامِ القرون القادمة يُجِيزُ لنا أن نعتقد صحةَ تلك الأرقام التامة على الإطلاق.

ومنذ هجرة النبيِّ في سنة ٦٢٢ لم تُعوِزْنا الأرقام حتى سنة ١٩٣٥، وعن جميع تلك القرون، إلا لمدةِ ١٩٢ سنة، ونحن نَعرِف ارتفاع الفيضانات لمدة ١١٣٢ سنة.

وتَطِنُّ القوائمُ بأرقامها كما يترنَّم الكهنة في صَلَوَاتهم، ويَقرَع رنين ذلك آذانَنَا ويَدُلُّ على المعدَّل المتوسط للمستوى الأدنى بالقرون هكذا: في القرن الأول ١١٫٥١ ذراعًا، وفي القرن التاسع ١٢٫٥٢، وفي القرن الثالثَ عشرَ ١٣٫٩٠. ويدلُّ على المعدَّل المتوسط للمستوى الأعلى بالقرون هكذا: في القرن الأول ١٧٫٥، وفي القرن التاسع ١٨٫٢١، وفي القرن الثالثَ عشرَ ١٩٫٣١، وخَلْف هذه الأرقام البزنطية والإسكندرية واليهودية والصليبية والعربية والفَرَنجية يمرُّ الخلفاء والقُوَّاد والأباطرة والكَرَادِلة والأثَريون والفُنْدُقيُّون على طول النيل حتى وصولِ الإنكليز الذين قهروا النهرَ بالأسداد وعبَّدُوه لتستقلَّ مصانعُ جزيرتهم البعيدة فلا يَرِدُ القطن الذي يًستعمل في مَنْشِستِر من تَكْساس بعدئذ.

ومن خلال رَقْص الحوادث ذلك تَبدُو إحدى الحقائق من أعماق التاريخ، وإذ كان يُشَعْبَذ على طول النيل مع القرون فإنه يُسْتَخْرَج من جداول جغرافيِّي العرب وقاصِّيهم تلك أمرٌ فريد في تاريخ معارفنا، فبما أنه أمكن أن يقابَل بين أعلى المياه وأدناها في ألف وثلاثمائة سنة أمكَن أيضًا أن يُقَاسَ ما يأتيه النيل في كلِّ سنة من غِرْيَن في أربعة أماكنَ واقعةٍ بين أسوان والقاهرة. فالأرض قد ارتفعت بين القرن الثاني والقرن الثانيَ عشرَ مترًا وثلاثين سنتيمترًا كما ارتفعت بعد ذلك — أي في ٧٧٠ سنة — مترًا واحدًا، وفي حساباتٍ أخرى رُئِي أن ارتفاع هذا المتر وَقَعَ في السنوات اﻟ ٥٧٠ الأخيرة.

وحينما نُحَدِّث عن ألوف السنين التي لا بدَّ من انقضائها قبل أن يَصِلَ إلينا نور الشموس البعيدة نَتِيه في بحرٍ من الأرقام كما نَتِيه عندما يَبْحَث علماء المُسْتَحاثات٣ في قِدَم الأرض ويَخُوضُون في مئاتِ ألوف السنين، فالنور الطَّيْفِيُّ والأنسابُ العدديَّة والمَرَاقب والجماجم أمورٌ تُثِير من المُدَد ما لا يَخطُر على قلب بشر.
ولكن مدة ٧٧٠ سنة مما يَتَصَوره الذهن، ومنذ ٧٧٠ سنة خَلَتْ دَخَلَ الإمبراطور بارباروس ميلانَ مصالحًا البابا بعد حَرْبٍ محاطًا بأمراءَ من الألمان وقساوسةٍ من الطليان وبأولاده وحَفَدَته، وحاول أن يحقق مشاريعَه الواسعة، ثم مات غرقًا في نهرٍ بآسية الصغرى، ويجيء دور عظمة إيطالية بعد القرون الوسطى، ويتخاصم المئات من الملوك والأمراء، وتتنازع مدنٌ وبلدانٌ، وتَتَجَمَّع أممٌ ويحاوِل بعضُها إبادةَ بعض، ويظهر سان لويس ثم آلُ نابليون، ويَظهَر فردريك الثاني ثم الجُمهورية الألمانية، ويَظهَر دانتي ثم نِيتْشه، ويَظهَر جِيُوتُّو٤ ثم رُودان،٥ ويظهَر حصان الفارس ثم الدَّبَّابة، ويتعارك الناس بأوروبة في سبيل آرائهم مدةَ سبعة قرون، ويتقاتل الخلفاء وزعماء الشعب بمصر، وفيما كانت السُّحُب الثِّقَال تَصدِم جبال الحَبَشة سبعمائة مرةٍ كان النيل الأزرق يَجُرُّ الملياراتِ من نِثَار البراكين سبعمائة مرة ليَضَعَها على ضِفاف النهر رَفْعًا لمستوى هذه الواحة العاطلة من الماء مترًا واحدًا، وهذا أمرٌ نُدْرِكه، وهذا أمرٌ نَلْمسه.

وما الذي ظلَّ ثابتًا غيرَ متغيرٍ في وادي النيل في هذه القرون السبعة؟ إطاعة العبد لسيده وموتُ ملايين الناس الصامتُ في سبيل مجد — أو خزي — أولئك الذين حَفِظَ التاريخ أسماءَهم، وما بَذَلَه المفكرون من جهودٍ — أو ما قام به الأقوياء والأغنياء من مضارباتٍ — لم يمنع الفلاحَ في نهاية القرون السبعة من العَيْش بائسًا كما كان عليه أجداده في عهد الفراعنة الأوَّلِين، ولكن الفلاح كان يعيش منذ خمسة آلاف سنة على أرضٍ أسفلَ من الأرض الحاضرة سبعةَ أمتار.

والنيلُ كفاتح موهوبٍ لم يفتأ يَزِيد ويَرْكُم كنوزَ الذهن، والنيل — منذ البُداءة — يجمع الموادَّ الخصيبةَ الضرورية لشَيْبَتِه ويوسِّع عالمَه بلا انقطاع. وإذا كانت الأرض التي يَحرُثُها الفلاح غِرْيَنًا عمقُه اثنا عشرَ مترًا ففكِّروا فيما يؤدِّي إليه هذا من سرعة المحصول وكثرته.

ولذلك السبب ترى ضِفاف النيل نفسَها أعلى من الأراضي البعيدة التي لا تأخذ من الغِرْين غيرَ القسم الذي تَعَافه الأراضي القريبة، ويَتَوَقَّف الخِصْب — أيضًا — على عرض النهر وانحداره، وكلما كان هذا الانحدارُ كثيرًا قَلَّ الغِرْين المخزون، ويكاد الانحدار يكون مترًا واحدًا في كل عشرة كيلومترات بين أُسوان والقاهرة، ويظلُّ معدَّل ارتفاع الأرض التدريجي في مصر العليا ومصرَ الدنيا على حاله في غضون القرون.

والطبيعة هنا — كما في كل محلٍّ — توزِّع عطاياها بإحكام، والطبيعة تُخْصِب بغرين الحَبَشَة أرضَ هذه الواحة العاطلةِ من المطر، والطبيعة تَدَعُ الشمسَ والغرين الجديد يَنْفُذان في كلِّ مكان، والحقل إذا ما شَمِله الفيضانُ القادم أعطى محصولًا بلا مِحْراث، أوجب حَصادًا لا ينفكُّ يَطِيب؛ وذلك لأن الغرين يَحُلُّ الموادَّ اللاقحة ويساعد على نُمُوِّ النبات، حتى إن حوادث التاريخ تُعِين على عمل الطبيعة هذا بأن تتحوَّل إلى سَمَادٍ أطلالُ المدن والقرى والبيوت المبنيَّة بذلك التراب.

ومع ذلك تَكسِب صحراءُ ليبية في الغرب أيضًا وتَنزِع من الإنسان أطيانًا كان أجداده يزرعونها. وهكذا تُبصِر تنازعَ التراب والماء يَحمِل الإنسانَ المستقرَّ بضِفاف النيل على التأمل، وهكذا تَجِدُ الطبيعةَ حافزةً للإنسان إلى التفكير في أمر الريِّ.

أجل، يرجع الريُّ إلى أوائل الزراعة في وادي النيل، غير أن أولَ تَقْنِيَةٍ تعود إلى عهد سيزوستريس الذي حَمَل — حوالي سنة ٢٠٠٠ قبل الميلاد — أسرَى الحرب على حفر التُّرَع، وقد تَوَجَّع هيرودوتس من مصرَ؛ لأنها بلدٌ لا يُطاف فيه بعَرَبَةٍ أو على حِصان.

والطواف ممكنٌ في الوقت الحاضر، فقد غدت الأسداد دُرُوبَ هذا البلد الذي تسير فيه السيارات بسهولةٍ فلا يَشُكُّ السائح في أن الأسدادَ الملائمة للريِّ هي طرق هذا الوادي الضيق الثمين.

ولا يزال أسلوب الفراعنة — أي الري بواسطة الأحواض — مستعملًا في مجرى النهر الفوقاني قبل أسيوط، فإذا جاوزت الدرجة السابعة والعشرين من العرض الشمالي — أي إذا بلغتَ بدء مِنطقة زراعة القطن — أبصرتَ احتياجًا إلى ريٍّ دائم تَضمَنُه الأسداد. ومما لا ريب فيه أن فنَّ الأسداد وحَفْر القَنَوات بَلَغَ درجة من الكمال في عهد الفراعنة والخلفاء؛ وذلك لأن المدن والقرى كانت تَبْرُزُ كجُزُر في وَسَط مصرَ التي لم تَظْهَر غيرَ بحيرةٍ كبيرة في الصيف، واليوم تَرَى عدد تلك الجُزَيِّرات قليلًا إلى الغاية، واليوم تَخزُن الأحواضُ الماءَ الغِرْيَنِيَّ وتحفظه أربعين يومًا، ثم يجري هذا الماء إلى أحواضٍ تنحدر مقدارًا فمقدارًا فتتألَّف منها سلسلةٌ.

وتبلغ الحواجزُ التي تفصل بعضَ هذه الأحواض عن بعضٍ من العُلُوِّ ما بين مترين وثلاثة أمتار فتُمسِك الماءَ في حقولٍ يترجح عمقُها بين خمسين سنتيمترًا ومترين وَفْقَ وضع الأرض، ويبقى الماء في تلك الأحواض بين منتصف شهر أغسطس وآخر شهر سبتمبر، ويكون الجنود من اليَقظة ما يمنعون به الفلاحَ الحافيَ من خَرْق الحواجز برجله أو هدمها بها، وذلك كما تُرْقَب مياه المَرَازِّ٦ حولَ ميلانَ أو كما تُحْرَس خزائن المصارف٧ الكبرى في المدن. وهنالك محكمة خاصةٌ للحكم على لصوص الماء، بيد أن الفلاح يكون من الانتباه بفضل الله أكثرَ من الجنديِّ في الغالب.
figure
خزان أسيوط.

وجميع الناس يسعون في الاستقرار بالقرب من الماء ما قَدَروا على ذلك، وهم في ذلك كالألمان الذين يتهافتون على برميل الجِعَة حينما يُثقَب ليُستَقَى منه مُرْغيًا؛ وذلك لأن الذي يكون بعيدًا من النيل قريبًا من حدود الصحراء يُحرَم «الماء الأحمرَ»، على حين يستطيع من يَبذُر بالقرب من الضِّفَّة أن يَسْقِيَ حقله بالساقية وينالَ محصولين.

والملحُ سببُ ألمٍ أيضًا، وفي غابات بحيرة ألبرت، وعند منبع النيل، وفي اليوم بعد اليوم، تَجرُف الزِّنجيات الملحَ من فوق الأرض بأيديهنَّ ليأخذَه الأقزام ثمنًا لطرائدَ وحِرَابٍ حادَّةٍ، ولكن ما يُعوِز النيلَ في شبابه يُزعِجه في مَشِيبه، فما تحت الأرض من سُمُط ماءٍ فيُدخِل الملح إلى ماء القَنَوَات الصافي ويُهلِك — حديثًا — أشجارَ الجُميز والمِشمِش، وتُمسِك أسدادُ النيل ملحًا كذلك، ومع ذلك تَرَى سِماطَ النيل الواقعَ تحت الأرض يُعِين الأطيانَ على الحياة حين الهَرَم فيُمِدُّ نحوَ ألف بئر أرتوازية، وأكثرَ من خمسين ألفَ ناعورةٍ.

وإن بلدًا يَضمَن رزقَه على ذلك الوجه الغريب يُثِير أساطيرَ لا ريب، فما يُصدِره من بُرٍّ كثير فيجعل منه نِبْرَ فَيْضٍ ووَفر. وهل يكون بلدٌ هذا أمرُه مع صفاءٍ سماء غيرَ سعيد؟ ويَنصَح أحدُ علماء الجغرافية في القرن الثامنَ عشرَ أن يُخلَط تراب مصرَ بالرمل لكيلا يكون كثيرَ الخِصْب، ومما قاله هذا الجغرافي إن الإناث في مصرَ هم من قوة النسل ما تَلِدُ الأنعامُ معه مرتين في العام وما تَلِد المرأةُ معه توأمًا في كلِّ مرة تقريبًا.

ويلوح أن هِيرودُوتسَ لاحظ مثلَ هذا البِشْر عند الكهنة في القرن الخامس قبل الميلاد، ومن المحتمل أن كان هؤلاء الكهنة يبتسمون حينما قالوا له: «بما أن بلاد اليونان عاطلةٌ من نهر يَرْوِيها صار من الممكن أن تموتوا جوعًا إذا لم يُنْزِل إلهُكم مطرًا عليكم.» واسمعْ جوابه: «وأنتم — أيها الماكرون — تنالون ثمراتِ الأرض في الوقت الحاضر بأسهلَ مما يناله به سواكم من الناس؛ أي من غير أن تستعملوا حتى المِحْراث، ولكن إذا دام ما أثبتمُّوه لي من ارتفاع أرض الدلتا كما أخذ يقع في القرون التسعة الأخيرة أفلا يُصَاب أبناؤكم بالمجاعة يوم ينقطع النيلُ عن الخروج من مجراه فائضًا؟»

وهذا وَقَعَ في حديقةِ معبدِ مَنْفِيس حين تحادث كَهَنَة أمون وضيفُهم العالِم الذي كان يُؤمِن بزوسَ٨ فيزايدهم عن غرور قوميٍّ وزَهْو دينيٍّ.
١  سكع: مشى على غير هداية.
٢  فرسالوس: من بلاد اليونان، وفيها انتصر قيصر على بونبي سنة ٤٨ بعد الميلاد.
٣  Paléontologues.
٤  جيوتو: مصور فلورنسي وصديق لدانتي (١٢٦٦–١٣٣٦).
٥  رودان: نحَّات فرنسي (١٨٤٠–١٩١٧).
٦  المراز: جمع المرزة، وهو منبت الأرز.
٧  المصارف: البنوك.
٨  زوس: هو أبو الآلهة وسيدها لدى الإغريق كما جاء في الأساطير، وهو يُسمى جوبيتر أيضًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤