الفصل العاشر

من المحتمل أن يزور الفلاح مع ابنه ضريحًا ملكيًّا، ويكون الدليلٌ صديقًا له فيأذن له في الدخول، ويرى على نور المصابيح الكهربية ما كان يُضَاء بالمشاعل إضاءةً خفيفة فيما مضى؛ أي يُرَى على الجدر تصاوير ممثِّلةٌ لجميع حياة الرجل الذي شاد ذلك الضريح ولحروبه وعيشه المنزليِّ وقِصَصِه وقصائده وزوجه وأولاده وموظفيه وعبيده وبذوره وحصائده وصيده وألعابه. وإذا ما كان الضريحُ مفتوحًا حديثًا أُبْصِرت الأدوات والأثاث في مكانها، ويَقِفُ الفلاح بجانب السُّيَّاح صامتًا حاملًا ابنه بيده، ولا يَفهَم الفلاح ماذا يقولون، ولكنه يُدْرِك بأحسنَ مما يدركون جميعَ ما يشاهده هنالك، ويظلُّ مشدوهًا.

ومن الصحيح — إذن — ما يقصه عليه الشيخ والساحر وما يذكره القاصُّ في القهوة! والحياةُ هي هي، ويَرفَع ابنَه ضاحكًا ويُوضِح له بصوتٍ خافت ما هو مصوَّرٌ هنا من تاريخٍ عجيب يَرجع إلى ما قبل هجرة النبيِّ بألوف السنين، وماذا يَجِد الفلاح في ذلك الضريح الفرعوني؟ يَجِد نفسه في كلِّ ناحيةٍ منه.

وإليك الشادوفَ الذي يَعلُو ويَنزِل لمَتْحِ١ الماءِ من غير صريفٍ ولا أنين، وإليك الحقولَ الطويلةَ التي تَفصِل الجداولُ بعضَها عن بعضٍ. وإليك المحراثَ الذي هو لَوْحٌ ذو قبضتين مربوطٌ بحبلٍ مع عَطَلٍ مع أنفٍ حديديٍّ، وإليك الجمالَ والحَميرَ والولد الذي يسوق الضأن بعصاه حَمْلًا لها على دَوْس الحبِّ في الأرض على حين يجتذب صبيٌّ آخر الضائنَ من الرأس مع البُرِّ. وماذا يصنعون هنالك؟ إنهم يربطون الحبَّ الجيد بالمِدَقِّ لكي يكون المحصول حسنًا في العام القادم، ويُعطَى الكاهن بواكيرَ الثمراتِ كما في الزمن الحاضر، ويُضَحُّون بثورٍ تكريمًا لبناء جديد كما نصنع تكريمًا لمضخَّةٍ بخارية. والمعبد هو المعبد الذي نَنزِع الحجارةَ منه عندما لا يرانا الحارس.

ويقرص الفلاح المرِحُ ولدَه إثارةً لانتباهه، وتُبصِر من الناحية الأخرى — وفي الصورة الجدارية نفسها — الأمَّ وهي تَحبُك سَلَّةً من خُوصِ النخل كما يُحْبَك على الصُّفَّة عندنا، ويُبصِر أمشاطَها الخشبيةَ وبُرقُعَها، والمرأةُ هنالك تُخَطِّط حاجبيْها، والمزيِّن هنالك — أو أحمد نفسه هنالك — هو الذي يَحْلِق الرأسَ، وتَنُوح النساء لموت أزواجهن مع حلِّ شعورٍ وشَقِّ ثيابٍ وحَرْق لُبَان، ويُبْصِر من الناحية الأخرى — وفي الصورة الجدارية نفسها — فرعونَ الحزينَ يودِّع ابنَه الميت، ويُبصِر قرينة هذا الابن، ويحرِّك ذلك المنظرُ ساكنَ الفلاح فيَضُمُّ ابنَه إلى صدره من فَوْرِه، ثم يَضْحَك الفلاحُ عندما يرى كاتبًا يَسِمُ الثيرانَ كما تُوسَم في الوقت الحاضر، وذلك بجانب كاتبٍ آخر يسجِّل عددَ أكياس القمح التي يسلِّمها إلى الزُّرَّاع، وذلك بجانب أناسٍ يَصُبُّون الحَبَّ من علٍ في هُرْيٍ مخروطيٍّ كهُرْيِ القرية في الزمن الحاليِّ.

ويا لَكَثْرَةَ ما كان يَملِك صاحبُ الضريح الغنيُّ! ويَشْرَح الدليلُ الكتابةَ للسُّيَّاح، ويترجمها إلى العربية بسرعةٍ كي يَعْلَم الفلاح ذلك، وفي الكتابة:

لَدَيْكَ ٨٣٥ رأسًا من البقر ذي قرون طويلة، و٢٢٠ رأسًا من البقر بلا قرون، و٧٦٠ حمارًا، و٩٧٤ شاةً و٢٢٣٤ عنزة.

ويَتَحَسَّر الفلاح صاخبًا؛ وذلك لأنه يَتَمَثَّل كلَّ عناء وكلَّ عَرَق يسيل على ظهور آبائه في سبيل تربية هذه الحيوانات وتغذيتها، ويتبيَّن من الصورة الجدارية الثالثة سببَ هُزَال البقار الذي يُرعي ثلاثَ بقراتٍ على حين تُسَمَّن بقراتٌ أُخَرُ بالعجين.
ويُعْجَب الفلاحُ بطول سنابل القمح على صورةٍ جدارية أخرى، ويُبْدِي الفلاحُ ارتياحَه من قَطْعِها بالمِنْجَل على ارتفاع الركبة، ولكن موسيقيًّا كان يُطْرِب الحُصَّاد على أنغام المِزْمار، ثم تُؤْخَذ جُرْزَةٌ٢ من الطرفين وتُربَط من الوَسَط، بَيْدَ أن الحمير لم تُرِدْ أن تُحَمَّل أكثرَ مما في الوقت الحاضر.

ويضحك الصبيُّ، فذلك مما يقع كلَّ يوم في القرية، ويجرُّ رَجلٌ الحمار من أذنه وآخرُ من قائمته، ولا تختلف الأكياس والسِّلال التي توضع على ظهره عما يشاهَد في أيامنا. والآن يُضرَب الحمار ويُدفَع على حين يَحُول فلاحٌ ثالثٌ دون سقوط شيءٍ من ذلك على الأرض، وها هو ذات الكاتبُ يَزِن ويَكِيل كلَّ شيءٍ، وهو في ذلك ككاتب باشا القاهرة في القرية.

وكان أولئك القدماء طيبين تِجَاه الحيوانات، ويجب أن يُعتَرف بذلك؛ وذلك لأنك ترى بين المواشي المسمَّنة إوَزًّا يكاد يأكل، ولأنك ترى في زاويةٍ كُرْكيًّا يكاد يشرب، ولكن أيُّ الحيوانات كان يصطاد سيِّد ذلك البلد؟ كان يصطاد الأسدَ والنَّعَام والزَّرَافة وبقَرَ الماء. أفلا ترى من المناظر العصرية أن يَنزِل الأكابر النيلَ ويستلقوا على جلود الحيوانات في زوارقهم الشراعية المجهَّزة بمخادعَ ورِيَاشٍ، وأن يَعزِف فَتَيَاتٌ ويرقصنَ هنالك؟

وأي الحيوانات الغريبة يتسلَّق أشجارَ التين هنالك؟ يَضْحَك الصبي؛ لأنه أدرك ذلك بأسرعَ مما أدرك أبوه، فتلك الحيواناتُ هي قِرَدَة أليفة تَصعَدُ في فروعِ أشجار التين التي يتعذَّر الارتقاء إليها لتَرمِيَ بثمراتها، ويا ليت ما في الصورة حقيقةٌ!

والآن ينتهي الحُلُم، فيَصْعَد الزائرون في السُّلَّم المُنْحَنِي نحوَ السماء الزرقاء، نحوَ الشمس المُعْشِية، ويعتري الفلَّاحَ دُوَارٌ لِمَا أبصر من مناظرَ لا تكاد تُصدَّق، لِمَا أبصرَ من مصيرٍ يَرجِع إلى ألوف السنين. ويسأل الفلاح في نفسه: هل أبصر ضريحَ فرعون أو ضريحَ أحد تجار الدِّلْتا، ويَفُكُّ الفلاحُ حمارَه الذي يَشخِر ويودُّ أن يعود إلى منزله، ويَحمِل الحمارُ صاحبَه المُمْسِكَ ابنَه أمامه ويَعدُو على طرف الطريق من خِلال الصحراء ويشدُّ صاحبُه العِنَانَ حملًا له على التمهُّل وحفظًا للصبيِّ من السقوط، ويفكِّر الفلاحُ في كلِّ ما رأى، وفي أولئك الأغنياء الذين ما فَتِئُوا يستخدمون الفلاحين ويَنزِلون النيلَ في زوارقهم المزخرفة جيدًا.

وإذا ما ذهب الفلاحُ إلى قبور الأقصر أبصر من قصب السكَّر تمثالين عظيمين يدعوهما الشيخُ بعموديْ مَمْنُون وإن كان يسمِّيهما عادةً بالبقرة والثور، وذانك التمثالان المضحكان هما لأحد الفراعنة الذي كان يجلس على العرش أمام معبده مع حِسَانٍ بين قدميه، مع نسائه وأمه على ما يحتمل، كما هو شأنُ رمسيسَ على حدود النوبة، ويَعرِف الفلاحُ ويُبصِر من لون التمثال أن فرعونَ كان — لا ريب — يقعُد في النيل حتى البطنِ وقتَ الفيضان.

ومما قُصَّ على الفلاح — أيضًا — أن تلك التماثيلَ كانت ذاتَ رنين. ومما يَبْدُو أن الفلاح يَشُكُّ مع استرَابُون٣ الذي كان يَرَى أن ذلك الرنين يَصدُر عن أناسٍ يحيطون بالتمثال. ومما لا يصعب إدراكه — كما يقول الفلاح في نفسه حينما ينظر إلى الساقية التي تكاد تَدُورُ بجانبِ شجرةِ السَّنْط الكبيرة — ألَّا يكونَ الطنين آتيًا من أمِنُوفِيس الذي نُسِيَ خلودُه واسمُه، أو من شِبه الإله الذي قَتَله أشيل٤ فَيَئِنُّ عند ظهور إِيُوس،٥ فأنين تمثال مَمْنُون الكبير يجيء من الساقية القديمة التي تدور وراءه كما تدور وراءَ جميع تماثيل الفراعنة وجميع معابدهم.
١  متح الماء: نزعه.
٢  الجرزة: الحزمة.
٣  استرابون: من علماء الجغرافية لدى اليونان.
٤  أشيل: أشهر الأبطال الذين ذكروا في الإلياذة.
٥  إيوس: إلَهَةُ الغَجَر كما جاء في أساطير اليونان.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤