الفصل الثاني

لا يَعرِف التاريخُ من ألوف السنين الأربعةَ عشرَ التي نستطيع بها أن نَتَتَبع تحوُّلَ الدلتا غيرَ ثلاثة آلاف، وليس لدينا سوى عِلْمٍ افتراضيٍّ عما حدث في عهد الدولة القديمة، ولو لم تكن الأهرام هنالك لكانت أعمال الحفر في مَنْفِيسَ القديمة أقلَّ إثارةً بمراحلَ حَوْلَ ذلك الماضي مما تُثِيرُه أعمال الحَفْرِ عن الدولة الطيبية في مجرى النهر الفوقاني. أجل، إن الأُسَرَ المالكة التي ظهرت بعد ذلك أقامت بمنفيسَ مجدَّدًا حواليْ ألف سنة قبل الميلاد، غير أن هذه الأُسَرَ لم تَظَلَّ باقية إلا إلى سنة ٣٠٠ قبل الميلاد.

وَهَلَكَت طيبةُ بعد أن ظَلَّت عاصمةَ العالَم نحوَ ألفِ عام، وذهبت طيبةُ ضحيةَ تبديل السادة باستمرار، ويبدأ تماسُّ الأمم، وتَكثُر صِلَاتُ بعضِها ببعض، ويَصِل الآسيويون من الشرق، ويصل الأفريقيون من الجنوب، ويأتي أحدُ الفريقين بالسِّلَع ويأتي الفريق الآخر بعربات الحرب، وتتتابع أُسَرٌ مالكة مصرية في سبعة قرون، ويتصل قتالها الأمراءَ المحليين على حين كانت أسلحةُ الأجانب الفاتحين الغريبي الأطوار من بِيضٍ وسُودٍ تَلْمَع، وعلى حين كان هؤلاء يغتسلون في النيل أمام معابده اللامعة، وتختلط أنواعُ الثياب والعادات واللغات والدِّيَانات في تلك الواحة الضيقة، وتختلط بأكثرَ من ذلك في الدلتا الواسعة التي لم تُعَتِّم أن اشتركت في يَقَظَة البحر المتوسط.

وكانت الأمم تَسِير على طول النيل في ستمائة سنة إلى أن وقع الغَزْوُ الفارسي. ومما يَقِفُ نظرَنا أمام النقوش البارزة الفرعونية اختلافُ أسماءِ هذه الأمم الأسطورية أو التَّوْرَائِيَّة وأسلحتِها وأزيائها الغريبة. ومن هذه الأمم نَذْكُر الفلسطينيين ذوي الدُّرُوع النُّحاسية والسيوف الطويلة والتروس المدوَّرة والخُوَذ المُرَيَّشَة، ونذكر الآكِيين والسردينيين الذين أبصروا مِينُوتُور في أَقْرِيطِش، والسَّكَالَ وغيرَهم من القرصان الذين يَتَعَذَّر النطق بأسمائهم، والذين يُعَدُّون نورمانَ القرون القديمة لِمَا كان من نزولهم إلى الدِّلتا، ويَجُوب الملكُ سليمان الصحراءَ ليصالح فرعونَ الذي غَزَا أرضَ كنعانَ وليتزوج ابنتَه، وليستردَّ المُدُنَ التي أُخِذَتْ منه كجهازٍ للعروس، ولم يَسْطِع سليمانُ البالغُ الحكمة والراغبُ في الملاذِّ أن يَضْمَنَ السلطانَ لذريته، فقد سَلَبَ أحدُ ملوك ليبية الهمج خزائنَه وخزائنَ رَبِّه الذي لا تُدْرِكه الأبصار.

ويَبْدُو الملك الزِّنجي بيانكي أقوى منه، ويمشي هذا الملك بخيله الرائعةِ آتيًا من بلاد النوبة، ويمثِّل الإلهَ أمونَ في نباتة ويَوَدُّ أن يبجِّل إلهه في وطنه طيبة، ويَسخَط فرعون من ذلك، ويَحْلُم بالمستعمرات النوبية كأجدادِه قبلَ ألف سنة، ويحاصره الإثيوبيُّ ويقتل من رجاله عددًا كثيرًا، ويُذْعَر المصريُّ من الطاعون ورائحة الجثث ويَعلو السُّورُ ويقدِّم إلى الغالب حصانًا جميلًا كدليل على الصلح، وتمتدُّ مصر إلى إثيوبية من جديدٍ بمَرْأًى من الزنجيِّ الظافر، وتُقْلَب الأوضاعُ بتبادل المستعمرة وأمِّ الوكن مقاميْهما، فالجَنُوب هو الذي يَملِك الشمال.

ثم يأتي الآشوريون من الشرق غُزَاةً ويفتحون البلاد، ويَفِرُّ الإثيوبيُّ أمامَهم، ويَزْحَفُ الغالب حتى طيبة، ويخرِّب عاصمةَ العالم هذه سنة ٦٦١ قبل الميلاد. ولم يكن الغالب همجيًّا في المطالبة بما يَهْوَى من الخيل، وكان الغالب عارفًا بعضَ المعرفة بالأدوات الذهبية على الخصوص، فكان أولَ من عَلَّم فاتحي المستقبل كنابليون والإنكليز كيف يأخذون خمسةً وخمسين تمثالًا ومِسَلةً فكانت سبيكتُها الفِضية والذهبية وحدَها تَعْدِل ٢٥٠٠ وزنة.

وفيما كانت تتنازع أمرَ مصرَ قارَّتان إذ ظَهَرَ للمرة الأخيرة سَيِّدٌ من الأمراء المحليين المتقاتلين، وكان بِسامِتِيك قد نُفِيَ من سايس إلى شاطئ الدِّلتا عن وَحْيٍ من الآلهة، ويَنْزِل من البحر إلى هنالك قرصانٌ مسلحون من اليونان والكارِيِّين، ويَغدُون مرتزقةً عنده، ويُهْزَم الأمراء المصريون من قِبَل هؤلاء المحاربين الرَّعَّابين١ المدَّرِعين،٢ ويَترُك أولئك الأمراءُ تاجَ الفراعنة لبسامتيك، ولدينا تمثالٌ لهذا، ومنه نَعلَم أنه كان متقبِّض الوجه أَذْلَفَ٣ الأنفِ كبيرَ الأذنين قبيحَ الفَمِ، ويُقْطِع مرتزقتَه أطيانًا في الدِّلتا فاصلًا بينها بشُعَب النيل لكيلا يتذابحوا، ويستخدمهم في حمايته من رَعِيَّتِه، وهكذا يَفتَح أبوابَ مصرَ للأغارقة الذين يَمخَرُون فيما بين جُزُرِ الأرخبيل فيُعِدُّ فتحَ بلدِه من قِبَل الهِلَّاد.٤

ويخلِّد التاريخُ أحدَ الفراعنة، نِيخاو، لِمَا كان يساوره من روح التمدِين قبل المسيح بستمائة سنة. وقد حاول أن يحفر قناةَ السويس التي لم يَتِمَّ أمرُها إلا في زماننا.

بيد أنه لم يُضَفْ إلى العبقرية الإنشائية وإلى الذهب، وإلى عَرَق العبيد الذي رَوَّض الفراعنة نهرَ النيل بفضله، رغبةُ الخروجِ من الواحة وربطِ النيل بالبحر؛ أي ربطِ عنصر حياتهم بعنصر جيرانهم من الأمم البحرية. فالأدمغةُ والأيدي التي أقامت الأهرام والمسلاتِ والمعابدَ والأحواضَ والتُّرَع تستطيع أن تحفر تلك القناة أيضًا لو بَدَتْ لها رؤيا اتحاد الصحراء والبحر.

وكان لا بُدَّ من ظهور ذلك الملك بعد حين، وكان لا بد من ظهور نِخَاو الذي أبصر فاتحي الأجانب يَغزُون بلاد آبائه، والذي وسَّع نِطاق الدفاع حتى سورية، لتُدْرَك روحُ البحر وروحُ التجارة، ويَبنِي أسطولًا، ويَبلُغ من كثرة الدعاية له ما لَبِسَت سيداتُ البَلَاط معه دبابيسَ صَدْر على شكلِ سُفُنٍ صغيرة، ويُعْثَرُ على هذه الحُلِيِّ بعد مرور ٢٥٠٠ سنة ويَضَعُ في الوقت نفسه مشروعَ قناةٍ تكون من العرض ما يمكن سفينتيْن أن تلتقيا فيها.

وكانت القناة التي يُمِدُّها النيل بمائه تَقْطَع بُقْعةً خصيبةً حتى أيامنا فتَدَعُ السُّفُنَ الذاهبةَ من الشعبة الشرقية في الدلتا بالقرب من بُوبَسْتِيس٥ تصل في أربعة أيام إلى المكان القائمة عليه الإسماعيلية في الوقت الحاضر. وكان على تلك القناة أن تنحرف بعد ذلك إلى الجنوب فتبلُغَ البحرَ الأحمر. أجل، لم يُحْفَر البرزخ، غير أنه كان يُمْكِن الدلتا أن تَصِلَ البحر المتوسط بالبحر الأحمر. وهكذا كان النيل في آخر مجراه واسطةً صالحة بين مراكز حضارة ذلك الزمن، وهكذا كان الفينقيون والأغارقة يَجلِبُون — رأسًا — حريرَ الصين وحجارةَ الهند الكريمة إلى منفيس وإلى أقريطش، وهكذا لم يكن على صاحب السفينة أن يَنقُل من مركبٍ إلى آخر رجالَه وجِمَالَه.
figure
حفر قناة.

ويحبط المشروعُ مرةً أخرى مع ذلك، ووحيُ الآلهة — لا تراكم الرمال، ولا موت ١٢٠٠٠٠ عبدٍ قيل إنهم هلكوا في أثناء الإنشاء — هو الذي يَقِفُ مشروعَ فرعونَ. وكانت القناة قد تَمَّ نصفُها عندما أنبأه الكهنة بأنه يقوم بذلك العمل في سبيل بربريٍّ، وتَحُول عوامل سياسيةٌ خالصة يَنْطِق بها الكهنة على لسان الآلهة دون إكمال ذلك العمل، وذلك كما وقع في الوقت الحاضر في أمر النَّفَق الذي يَصِلُ بين كالِيه ودُوفر فوُقِف عن تخوُّف كلٍّ من الجارين الخفيِّ من أن يُستخدم لمقاصد الآخر البربرية.

ويمضي قرنٌ فيظهر البربري، فيفتح دارا الفارسيُّ مصرَ، ويداوم على عمل القناة ويُكْمِلها على ما يحتمل ويُمكِن الكتابةَ التي رُسِمَت بخمس لغاتٍ على عمودٍ كَسِيرٍ تمجيدًا لآثاره أن تُفسَّر على وجوهٍ مختلفة. وعند ديودورسَ أن دارا كان يفكِّر في حفر البرزخ أيضًا، وأنه لم يُقْلِع عن هذا المشروع إلا خوفًا من إغراق مصرَ الواقعة على طبقة مائلة إلى الأسفل كما كان يُعْتَقَد ومن تحويلها إلى مستنقع.

ومما رُئِيَ في قَرنَي الفاتحين من الأجانب أو قرونشهم الثلاثة وجودُ فوائدَ حربيةٍ وتجاريةٍ في قناةٍ للسويس، وهم لم يُقْعِدْهُم عن عمل ذلك غيرُ خوفهم من أن ينتفع به بربريٌّ من الضِّفة الأخرى كمُزَاحمٍ وفاتح. غير أن كلَّ واحد منهم كان يودُّ أن تُساعِدَ القناة على إعلاء جاهه فكانت تُسَمَّى «نهر بطليموس، ونهر تراجان، ونهر أمير المؤمنين»، وما كان من هذا التنافس أدَّى إلى تغيير اتجاهها على ما يحتمل. ويزعم حاجٌّ إيرلنديٌّ في القرن الثامن أنه سافر على سفينةٍ من النيل إلى خليج السويس من غير أن ينتقل من مركبٍ إلى آخر.

ومهما يكن الأمر فإن السياسة العليا حالت ذاتَ مرةٍ دون تقارب الجاريْن الطبيعي، فقد أدَّت فتنةٌ اشتعلت في مكةَ إلى أمر الخليفة بسدِّ القناة تجويعًا للقَتَلَة، ثم يَتَصَدَّى الدينُ للأمر، فقد امتنع هارون الرشيد عن إعادة القناة خشيةَ اتخاذها ممرًّا لقرصانٍ من النصارى يختطفون حُجَّاجَ المسلمين في البحر الأحمر.

واليومَ؛ أي بعد أحدَ عشرَ قرنًا من ظهور ذلك الخليفة الذي ترانا مَدِينين للياليه بأروعِ القِصص، لا تزال تلك السياسةُ عمياء، فهي تَهدِف إلى سَدِّ قناة السويس بعد إكمالها بسبعين عامًا، وذلك مَنْعًا للدول الاستعمارية من أن يُهَدِّدَ بعضُها بعضًا، فكأنَّ القلبَ يتوعد الرأس بقطع الشريان.

١  الرعاب: الذي يخيف الناس.
٢  المدَّرِع: لابس الدرع.
٣  أذلف الأنف: ذو الأنف الصغير الذي استوت أرنبته.
٤  الهِلَّاد: اليونانيون.
٥  بوبستيس: موضعها تل بسطة بجوار مدينة الزقازيق من الجهة الشرقية القبلية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤