الفصل السابع عشر

وأقلُّ من ذلك ما تركه التركُ — الذين جاءوا بعدئذ — من آثار، وسار الترك على غِرار الرومان فلم يعيشوا بمصرَ، وإنما ابتلعوها جاعلين منها إحدى ولايات دولتهم مع عدم إدخالٍ لنظامِ الرومان، ولم يَبْقَ من هذا العهد الذي دام نحوَ ثلاثة قرون (١٥١٧–١٧٩٨) غيرُ ذكرياتٍ أقلَّ مما بَقِيَ من الأمم الستِّ الفاتحة التي أتت قبلهم، ويقال — مع ذلك — إن الخلفاء أذاعوا صِيتَ مصر على شواطئ البحر المتوسط الأخرى بنقلهم أعمدةً رائعة من كلِّ دور إلى ضِفاف البُسْفُور، وذلك ليدعموا سَقْفَ السَّرَاي، وذلك مع صَبْغِ نسائهم أظافرَهن بمسحوقٍ غيرِ معروف بآسية، وكانت العقاقير والعُطُور التي تُرْسَل إلى دائرة الحريم تُؤَلِّف جزءًا من الضرائب العَيْنِيَّة التي يَجِبُ على الولايات البعيدة أن تُعِدَّها لأمير المؤمنين.

وإذا نُظِرَ إلى الترك من الناحية التاريخية وُجِدُوا وارثين لأواخر العباسيين؛ وذلك لأن المماليك الذين كانوا قابضين على زمام الأمور من الأمير إلى السلطان منذ زمنٍ طويل هم من الموالي الترك، وينطلق شعبُ التركِ المقاتلُ من الأناضول فيُقِيمُ دولةً عظيمة كدولة الرومان، ويَقُومُ جنود الترك بجَوْلات عنيفة فيَخْضَع للترك أمراءُ البلقان وملوكُ الجزائر وتونسَ وخاناتُ القرم وأمراء المَوْصِل والبصرة، ويصبح ما بين الخليج الفارسيِّ والبحر الأسود حتى مُلْدَافْية مُلْكًا لهم، وتنهار تلك الإمبراطوريةُ في الحرب العالمية الكبرى فلم يَتْرُكْ التركُ أيَّ تُرَاثٍ ثَقَافَيٍّ، حتى إن نفوذ الخلافة الذي نَزَعَه فاتحُ مصرَ من صاحبه الشرعيِّ الأخير لم يكن من القوة ما تُجْمَع البلادُ المفتوحة به حولَ مَثَلٍ عالٍ مُبْدِعٍ لحضارة.

ويَدْخل السلطانُ المسجدَ الكبير في سنة ١٥١٧؛ أي بعد استيلاء السلطان على مصرَ، ويُعَلِّق راهبٌ غامضُ الأمر على باب كنيسةٍ بإحدى القرى الألمانية شَهْرَ حربٍ رُوحية على البابا برومة، وفيما كان السلطان يَفْرض بالسيف نظامًا استبداديًّا يَشْمَل بلادًا بأسرها عِدَّةَ قرونٍ كان الآخر يؤسِّس بخياله وإيمانه جمعيةً ذهنية جديدةً، وماذا بَقِيَ من عَمَل السلطان سليم إذا ما قيس بعمل لُوثر؟ فالراهبُ — لا السلطان — هو الذي يَبْدُو بالغَ الأثر في حياةِ الأمم منذ خمسة قرون، ولم يكن لُوثِرُ مُفكرًا، ويُعَدُّ لُوثر مقاتلًا عظيمًا في كلِّ زمن، ومع ذلك يقول لوثر: «أَجَلْ، إن الروح والسيف هما اللذان يسيطران على العالم، ولكن النصر يكون حليفَ الروح في نهاية الأمر.»

ولا شيءَ يَرْبِط أولئك الفاتحين بالبلاد المقهورة، وكلُّ ما يَكترث له أولئك الفاتحون هو أن ينالوا منها أقصى ما يمكن نَيْلُه من المال، شأن أرباب المال الذين يَمْلِكون أسهمَ مصانعَ لم يَرَوْهَا قَطُّ، ولم يأتِ خلفاءُ السلطان إلى مصرَ حتى لزيارتها، ولم يَسِر الوُلَاةُ الذين كانوا يُرْسِلُونهم إليها نحو مجرى النيل الفوقانيِّ، وكان هؤلاء الولاةُ يجهلون الفلاحين كما يجهلون المعابدَ التي تجتذب مئاتِ السياحِ منذ هذا الدور، وكان باشوات القرن السادسَ عشرَ والقرن السابعَ عشرَ من القوة ما يَفْرِضون معه مشيئةَ مولاهم البعيدِ، وكان المماليكُ أنصارًا للحكومة كما في الماضي، فينتظرون بعد قتلِ باشاهم إرسالَ باشا آخرَ محترِمين مثل هذه الفواصل في الحكم، وكان بَلاطُ القلعة مملوءًا بأروع الخيول وأبهى العبيد، وكان البكواتُ والأمراء يتنافسون في حيازة أثمن الثياب وأحسن السُّرُوج وفي الألماس والبنادق والسِّيَاط الساطعة فيَبْدُون أجملَ من عَرَفَتْهم تلك القلعة، فكأن الله لم يأذن في نسيانِ المئاتِ ممن سبقوهم في ذلك البَلاط وخَنْقِها، والحقُّ أنهم مصدرُ الجمال والهَوْلِ في تلك العاصمة.

ويَقِف الذهب عن الجريان في الوقت نفسه، ويجتمع الخيالُ والذكاء قبل استيلاء الترك على مصرَ ببضع سنين. وبعد عهد أقوى المماليك بعامين، فيَكْسِران قَيْدَ بَلَدَيِ العالَم القديم القوييْن بلا قتال، فقد نشأ عن مجاوزة فاسْكُو دُوغَامَا رأسَ الرجاء الصالح وإلقائِه مَرَاسِيَ سفنه البرتغالية الثلاث على ساحل الهند الجَنوبيِّ خرابُ البندقيةِ ومصرَ. وقد أوجب ذلك مرورَ منسوجاتِ الصين الحريرية ومنسوجاتِ الهند القطنية والفُلْفُلِ والسكر وجَوْزِ الطِّيبِ وعُودِ الندِّ واللآلئ والحجارة الكريمة من الطريق الجديدة لمدة ثلاثمائة سنة، وذلك بعد أن دام مرورُ هذه الأشياء من دلتا النيل إلى الغرب مدةَ ألفِ سنة، وقد أوجب ذلك تحويلَ الهولنديين والإنكليز سُوقَ العالَم إلى أمستردامَ ولندن.

وهكذا يُصِيبُ الضُّرُّ مماليكَ مصرَ فيَنْهَبُون الفلاحَ الذي يَتَلَقَّى الصدمةَ دَوْمًا، سواءٌ أَوَقَف النيلُ عن الزيادة والفيضان أم اكْتَشَف بعضُ الأجانب طريقًا بحريةً جديدة على بُعْدِ ألف ميل، وإليك ما ورد في تقريرٍ وَضَعَه قناصلُ فرنسيون:

لا يَقِفُ جَشَعُ المماليك عند حَدٍّ ما لم يَعْجِز الفلاحون عن الدَّفْع، ولا يَعْرِف هؤلاء البائسون سبيلًا إلى الخلاص غيرَ الفِرار، والفلاحُ — إذا ما غدا غيرَ قادرٍ على تسكين شَرَه سادته — غَادَرَ حقولَه ومنزلَه، وبَحَثَ مع زوجه وأولاده عن أراضٍ يَزْرَعُها في قريةٍ أخرى وعن سادةٍ أقلَّ طمعًا من أولئك، ويعامَل الفلاحون، ويُعَدُّون من الفَدَّادِين، كأحقرِ مَنْ يُقيمون بتلك السلطنة، لا كَحَفدةِ شعبٍ فاتح مصري، وهم، لِمَا ليس عندهم من شجاعةٍ وبأسٍ، تَجِدُ ما يساور روحَهم من وَجَلٍ وخمولٍ يَحُولُ دون اشتراكهم في أصغر الفِتَن التي تُحَرِّكُ مصرَ في الغالب، ويَنْظُر سادتهم إليهم كما ينظرون إلى حيوانات الزراعة فلا يَرْأَفون بهم، ولا يَشْمَلُونهم بأية رعاية تقتضيها الإنسانية، ويتصرف سادتُهم في أموالهم وحياتهم من غير أن تكافِح الحكومةُ هذا الطغيانَ، وتُحَرِّضُ الحكومةُ — بسلوكها — على ذلك الجَوْر بدلًا من معالجته، وما أكثرَ ما أباحت انتهابَ قُرًى بأَسْرِها واستئصالَ أهلِها متذرعةً بشَكَاوَى غيرِ صحيحة …

ويُذْبَح الإنسانُ في القاهرة كما يُذْبَح الحيوان، ويقوم الضباط الذين يَطُوفُون ليلَ نهارَ بشئون القضاء على قارعة الطريق فيَحْكُمُون ويَشْنُقون الناسَ حالًا، ومن يُشْتَبَه فيه بأنه يَحُوز مالًا وَفْقَ وِشَايَةِ عدوٍّ يُدْعَى ليَمْثُلَ بين يَدَي البك، فإذا رَفَضَ الدعوةَ أو أنكر وجودَ مالٍ لديه طُرِح على الأرض وجُلِد بالسَّوْط مائتي جلدةٍ أو قُتِلَ من فَوْره.

ويَقِلُّ سلطانُ باشواتِ القاهرة في القرن الثامنَ عشرَ مقدارًا فمقدارًا، فتصبح السلطةُ قبضةَ جماعاتٍ مؤلفةٍ كلُّ واحدةٍ منها من أعيانٍ يترجح عددُهم بين الأربعة والعشرين. ومما كان يَحْدُث أحيانًا أن تتقاتل حكوماتٌ ثُلَاثِيَّةٌ، ومما كان يَحْدُث أحيانًا أن يوفَّقَ طاغيةٌ للحكم عشرَ سنين من غير أن يُقْتَل، ويرتعش الباشوات على وسائدهم الحريرية ويحاولون إنقاذَ حياتهم على حين كان الجَبَّار إبراهيم يُرْهِب القاهرة، ويقاتل المماليكُ بكواتِهم، ويقاتل البكواتُ فريقَ الكاشفية، ويكافحُ الشيوخُ والعلماء فريقَ الأمراء، ويغتني حَفَدَةُ العبيد هؤلاءِ بسرعةٍ فيَمْلِكون بيوتًا جميلةً ونساءً ذواتِ ثيابٍ ثمينة ويؤلَّف حَرَسُهم من انكِشاريةٍ يَدْفَعُون رواتبهم من مالهم الخاصِّ إغاظةً لخصومهم وبَهْرًا لعيون الناس. وأما الجواري البيضُ اللائي يَجْمَعُونهنَّ فَلَسْنَ من الجمال ما يَعْدِلُ حُسْنَ بنات العرب فيما مضى، فيُكْتَفَى بكونهنَّ من السِّمان «مع وجهٍ كالقمر وأوراكٍ كالوسائد».

وكان لدى الأقباط عبيدٌ أيضًا، وكان الغَنِيُّ منهم يَحُوزُ ثمانينَ جاريةً من البِيض والسُّود والحَبَشِيَّات معًا على أَلَّا يَرِثَهُ أولادُه النُّغَلَاء، وإذا مات القبطيُّ أعلنت السلطاتُ إفلاسَه وصادرت أموالَه؛ ولذَا كان القبطيُّ في أثناء حياته يُظْهِر اعتدالَه ويُخْفِي غِنَاه، وكان محظورًا على النصرانيِّ في القرن الثامنَ عشرَ أن يَسِيرَ راكبًا فرسًا في شوارع القاهرة التي هي من أكثر المُدُن سكانًا في ذلك الزمن. وإذا ما كان النصراني راكبًا حمارَه وَجَبَ عليه أن يترجَّل عند مرور أحد البكوات أو مرورِ شائبٍ من خِصْيَان السَّرَاي راكبًا جوادًا أصيلًا. وهكذا ترى القبطيَّ يأسَفُ على أنه لا يستطيع أن يقتنيَ حِصانًا مُطَهَّمًا، وهكذا ترى الخَصِيَّ يأسف على أنه لا يستطيع أن يقتنيَ نساءً حسانًا.

وإذا كان القبطي المُزْدَرَى كثيرًا قد صار لا بُدَّ منه في المعاملات والإدارة كاليهوديِّ فإن نفوذَ الترجمان أَخَذَ يَعْظُم شيئًا فشيئًا، فكان الترجمانُ واسطة لازمة في جميع الخصومات بين الترك والأوروبيين، ولا يزال الترجمانُ يُثِيرُ في الذِّهن صورةَ طبيبِ أُسْرَةٍ يَعْرِف أسرارَ زواجٍ فيحاول شفاءَ أمراضه مثيرًا حَذَرَ الزوجيْن مع اكتساب ثِقَةِ كلٍّ منهما.

ولم يكن للإنكليز قناصلُ مقيمون بالقاهرة حتى في القرن السابعَ عشرَ، والإنكليز قد نالوا أهمَّ النتائج الجوهرية بفضل غريبٍ منهم هنالك، فلما عاد بروسُ في سنة ١٧٧٣ إلى القاهرة مكتشفًا النيلَ الأزرق بعد مغامراتٍ كثيرة كان من رُثُوثَةِ الثياب ما أرسل الوالي التركيُّ إليه بَدْرَةَ١ ذَهَبٍ في سَلَّةِ برتقال، ويرفض بروس البَدْرَة، فيسأله الوالي عما يستطيع أن يَصْنَعَ له فيُجِيبُه بروس قائلًا: «امنحوا أبناءَ وطني حقَّ جَلْبِ سِلَعهم الهندية بالسفن إلى السويس بدلًا من إكراههم على إنزالها إلى جدَّة.» ويُعْطَى لهم هذا الامتيازُ، ولم تَلبَثْ أهميته أن بَدَت وأن أدركها التاجر القدير في الشرق الأدنى — بلدوين — الذي عَرَض مشاريعه على الحكومة الإنكليزية في تقاريرَ كثيرةٍ جاء فيها: «وهكذا نَجْمَع بين الغَنْج والنيل والتايمس فنشرب على ذُرْوَة الهَرَم نَخْبَ إنكلترة.» وكان لا بدَّ من انقضاء عشر سنين حتى تُدْرِك تلك الحكومةُ فائدةَ السويس كمرفأِ مرورٍ ودرجةَ اختصار الطريق البرية حتى موانئ الدلتا الشرقية.

وذلك هو الزمنُ الذي بدأ فيه تنافس فرنسة وإنكلترة على ضفاف النيل، وكان الفرنسيون أكثرَ حُظْوَةً، ويَنزِل قنصلٌ جديدٌ مع النيل من بولاقَ إلى رشيدٍ بأُبَّهةٍ عظيمة، وذلك في ذَهَبية منارةٍ كانت كليوباترة تَغَارُ من روعتها لو رأتْها، ويدنو عهد آل البوربون من نهايته، ويُعنَى كلُّ موظَّف بتزيين نفسه بالزَّنْبَق قبل فَوَاتِ الأوان. ولما غَيَّرَت الثورة الفرنسية حياةَ عظماء العالَم انتفع بها بكواتُ الترك أنفسهم في القاهرة، وقد ساروا على طريق أغنياء أوروبة في الزمن الراهن فصرَّحوا بأن حقوقَ الإنسان التي أُعْلِنَتْ حديثًا جعلتهم مُعْسِرِين فامتنعوا عن دفع الخراج إلى الخليفة.

وسوف يَرَوْنَ نزولَ الثورة الفرنسية إلى مَصَبِّ النيل على شكلٍ غيرِ منتظر عما قليل.

١  البدرة: الكيس الموضوعة فيه النقود.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤