سليمان الحكيم

المنظر الأول

(في صنعاء … شاطئ البحر … الصياد قد رمى شَبَكتَه في الماء وهو يجذبها.)

الصياد (رافعًا رأسه إلى السماء) : اللهم إنك لتعلم أني رميتُ شَبَكتي ثلاث مرات، فوجدتُ في الأولى حمارًا ميتًا، وفي الثانية زيرًا مملوءًا بالرَّمْل والطِّين، وفي الثالثة أحجارًا وقوارير … اللهم ارزقْنِي مِن فَضلِك هذه المرة يا خير الرازقين! … (يجذب الشبكة) ما هذا؟ … قمقم نحاسي؟! … لا بأس … شكرًا لك يا ربي على كل حال … هذا أبيعه في سوق النحاس؛ يُساوي عشرة دنانير ذهبًا … (يفحص القمقم) عجبًا! … إنه ثقيل … يجب أن أفتحه وأنظر ما فيه.

(يُخرِج سكينًا ويُعالج فَتْحَه … فلا يجد به شيئًا غير دخان أسود كثيف يخرج منه صاعدًا إلى السماء … ويتجمع الدخان ثم ينتفض فإذا هو عفريت.)

العفريت : لا إله إلا الله، سُليمان نبي الله!

(الصياد لا حراك به ولا نطق من الروع.)

العفريت : مَن أنت؟
الصياد : ؟
العفريت : تكلم يا هذا … أَجِب … مَن أنت؟
الصياد : ﺻ… ﺻ… صياد.
العفريت : أنت الذي خَلَّصْتَني من هذا القمقم؟
الصياد : نعم … أنا.
العفريت : أبشر إذن يا صياد!
الصياد (في أمل) : أَنْعِم وأَكرِم … بماذا تبشرني؟
العفريت : بِقتلك في هذه الساعة شر القتلات.
الصياد : لا حول ولا قوة إلا بالله!
العفريت : أَسمِعتَ ما أقول؟
الصياد : إنها بشارة لست لها بأهل!
العفريت : بل أنتَ أهل لأكثر منها.
الصياد : شكرًا يا سيدي … ما جريرتي؟ … وما ذنبي؟
العفريت : أتريد أن تعرف القصة؟
الصياد : أريد أن أعرف لأي شيء تَقتُلني وقد خَلَّصتُك من القمقم وأخرجتُك من أعماق البحر؟
العفريت : هذا ما يأتيك بيانه لو أَصْغَيت إلى قصتي.
الصياد : قُلْ إذن وأَوجِز في الكلام، فإن روحي وصَلَت إلى قدمي!
العفريت : أنا من الجن المارقين، واسمي «داهش بن الدمرياط».
الصياد : تشرفنا.
العفريت : وقد عصيتُ «سليمان بن داود» فلم أذهب مع من ذهب من الجن إلى مملكة حيرام لإحضار خشب الأَرز وخشب السرو لبناء بيت الرب … إني طموح. إني مُهيَّأ لأعمالٍ أرفع من حَمْل الأحجار ونَقْل الأخشاب. ولقد أمر بي سليمان وزيره «آصف بن برخيا» فقادني إليه ذليلًا، فلمَّا صِرتُ بين يديه، نصحني بطاعته والامتثال إليه فأبيتُ، فحبسني في هذا القمقم، وخَتَمه بالرصاص وطَبَعه باسمه العظيم، وأمر بي فَحملُوني وأَلقَوني في البحر، فأقمتُ ثلاثة أعوام، فقلتُ في نفسي مَن خلصني أَغنيتُه إلى أبد الآبدين، فلم يُخلِّصني أحد. ودخلتُ في ثلاثة أعوام أُخر … فقلتُ مَن خلَّصني فتحتُ له كنوز الأرض؛ فلم يُخلِّصني أحد … ومرَّت أربعة أعوام أخرى، فقلت مَن خلصني قضيتُ له حاجاته؛ فلم يُخلِّصني أحد … فقلتُ آخر الأمر مَن خلَّصني هذه الساعة قَتلتُه … فجئتَ أنتَ وخلَّصتَني.
الصياد : سبحان مُقسِّم الأرزاق!
العفريت : هذا حظُّك … ما شأني أنا فيه؟
الصياد : صدقتَ يا سيدي … الذنب ذنبي … أما أنتَ فقد أَدَّيتَ الواجب عليك.
العفريت : إني لآنس فيك خلقًا طيبًا وروحًا لطيفًا … لهذا أود أن أتكلف من أجلك صنيعًا.
الصياد (مستبشرًا) : جزاك الله خيرًا … أَنعِم عليَّ بصنيعك أيها الكريم.
العفريت : تمنَّ عليَّ.
الصياد : حقًّا؟ … وتفعل؟
العفريت : نعم … تَمنَّ عليَّ أية موتة تحبها وتتمناها.
الصياد : لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!
العفريت : ثِقْ أني لو لم أستظرفك ما كنتُ أتكلَّف من أَجْلِك شيئًا مثل هذا.
الصياد : من حُسْن حظي أنك استظرفتَني.
العفريت : نعم … أَخبِرني الآن عن القِتْلَة التي تَتذوَّقها.
الصياد : أتذوقها!
العفريت : تكلَّمْ وأسرِع، ولا تضيع من وقتي أكثر مما ضيَّعتَ.
الصياد : صبرًا عليَّ يا سيدي … أنت الذي ضاع من وقته في القمقم كل تلك الأعوام … أتضن عليَّ … وأنا مُخلِّصك ببضع لحظات؟!
العفريت : وما تصنع بها الآن هذه اللحظات؟ … لقد كانت في يدك حياة واسعة، ماذا صنعتَ بها أيها الخامل … غير أن حبستها كلها في هذه الشبكة؟
الصياد : حقًّا … لقد حَبَسنِي خمولي في هذه الشبكة … ولكن طموحك يا سيدي قد حبَسك في هذا القمقم!
العفريت : لأني أَسرفتُ وتَمرَّدتُ.
الصياد : وأنا أيضًا أسرفتُ وتَواكلتُ.
العفريت : نعم … كِلانا كان يستحق العقاب … ولقد عُوقبتُ أنا واستوفيتُ عقوبتي … بَقِي عليك أنتَ أن توفي بجزائك … والجزاء الحق لك هو أن تُؤخذ منك تلك الحياة التي لم تعرف كيف تصنع بها شيئًا مذكورًا.
الصياد : يا حول الله!
العفريت : أليس هذا هو العدل؟!
الصياد : هو العدل … ولا أملك حق الاعتراض … لكن يا سيدي جُعِلتُ فداك! … أَتُعاقَب أنت بالحبس، وأُعاقَب أنا بالإعدام؟
العفريت : وماذا كنتَ تريد لي إذن؟
الصياد : كل خير.
العفريت : إن أقصى عقوبة لي هي الحبس؛ لأني لا أُعْدَم ولا أموت.
الصياد : لا تموت؟!
العفريت : أَنسيتَ أني من مادة لا تعرف الموت؟ … إني لا أموت، ولكن أَتشكَّل.
الصياد : تتشكل؟
العفريت : في صور مختلفة … أنا الآن ظاهر لك في الصورة التي تستطيع أن تبصرها وتفهمها وتدركها.
الصياد : يا للعجب! … أوَتستطيع إذن أن تتخذ صورًا أخرى؟
العفريت : أستطيع أن أَبدُو لك إذا شئت في صورة حمار هائل، أو جمل هائج، أو قطة سوداء …
الصياد : ولماذا بربك لا تبدو لي في صورة سمكة كبيرة سمينة؟
العفريت : تبيعها في السوق بعشرة دنانير ذهبًا؟
الصياد : آه يا سيدي الكريم! … ماذا عليك بالله لو أنك فعلتَ ذلك؟ … هذا أمر لا يكلف جهدًا … أن تصير سمكة لبضع لحظات حتى أبيعك … ثم تنقلب عائدًا كما كنتَ، بعد أن أقبض الثمن.
العفريت : تقبض الثمن ذهبًا، والمشتري يقبض السمكة هواءً … كَلَّا يا سيدي … إني عفريت ذو شرف.
الصياد (يتنهد) : هذا أيضًا من سوء حظي!
العفريت : ماذا تقول؟!
الصياد : أقول هذا من حسن حظي أو من سوئه … لست أدري والله شيئًا مما أنا فيه الآن … عافاك الله يا سيدي … شرفك هذا الذي تحرص عليه في معاملات السوق والتجارة، أحاول عبثًا أن أظفر ببعضه وأنا منقذك من أعماق البحار.
العفريت : أستعود إلى سيرة الإنقاذ مرة أخرى أيها الأحمق؟! أَتحسبُ أنكَ أنقذتَنِي؟ … ألا فاعلم يا هذا أن الحياة الحقيقية لمثلي ليست في الانطلاق الهائم في الفضاء … إنما هي في التركز والتكريس لخدمة غرض نفيس.
الصياد (يلتفت إلى البحر) : انظر … انظر!
العفريت (في رعدة) : ويلاه!
الصياد : ما هذه السفن العظيمة؟
العفريت (في همس) : سليمان!
الصياد (في همس) : وا فرحتاه! … جاء الفرج.
العفريت : ماذا تقول يا صياد النحس؟ … لم يزل لديَّ الوقت الذي يكفي لقتلك أشنع القتل … استَعِد.
الصياد : وماذا تستفيد من قتلي؟ … اهرب يا سيدي بجلدك قبل أن يأتي الملك سليمان!
العفريت : أهرب أين أيها الأبله؟! … إن من حبسني يستطيع أن يأتي بي من أقاصي السحب وأغوار الأرض.
الصياد : وماذا أنت صانع إذن؟
العفريت : لست أدري!
الصياد : لهفي عليك يا سيدي العفريت!
العفريت : اسمع أيها الصياد … أنت في مقدورك إنقاذي.
الصياد : أنا؟!
العفريت : نعم أنت … ويجب أن تنقذني؛ لأنك بذلك تشتري حياتك.
الصياد : فلنتفق يا سيدي على الثمن أولًا؛ فقد سبق أن وقع بيننا خلاف بسيط على ثمن الإنقاذ السابق.
العفريت : قبل كل شيء أحب أن تكون ذكيًّا، وتفهم أخيرًا أنك لم تنقذني قط بإخراجك إياي من القمقم؛ فغضب النبي سليمان عليَّ لم يزل قائمًا … وخروجي من حبسه بغير إذنه سيزيد ولا ريب من نقمته وغضبته.
الصياد : وما العمل؟
العفريت : لستُ أرى غير حل واحد … أن أعود إلى القمقم وتَختمه عليَّ كما كان … ثم تجثو على أقدام سليمان فتشفع لي وتطلب العفو عني … فإذا نجح سعيك فإني أعطيك ما تشتهي نفسك … وإذا لم تنجح فَحسبُك أنك أدَّيْتَ واجبك.
الصياد : وإذا ختمتُ عليك القمقم، ثم رميتُ به وبك في البحر كما كنتَ وكان، وكَفَيتُ نفسي المئونة، ورجعتُ إلى شبكتي وحِرفَتي في أمان الله!
العفريت : لن تفعل ذلك … أنت رجل أحمق، ولكنك ذو شرف!
الصياد : غلبتني … ادخل قُمقمك وأمري إلى الله!

(يتحول العفريت إلى دخان، ويدخل القمقم النحاسي، ويختم عليه الصياد كما كان، ويحمله في يده.)

(فاصل موسيقي.)

(تُسْمَع أصوات دانية … فيختفي الصياد بقمقمه وشَبكَته، ويظهر الكاهن صادوق والوزير آصف بن برخيا.)

صادوق : ألم تَجِدْه خلف هذه الرمال؟
آصف : لم أَرَ له أثرًا!
صادوق : لعله فوق هذه الشجرة.
آصف : لقد ضعف بصرك يا صادوق … إنها شجرة جرداء لا تخفي شيئًا.
صادوق : ماذا جرى إذن لهذا الهدهد اللعين؟!
آصف : لستُ أدري!
صادوق : متى أَمرَك سليمان بإطلاقه؟
آصف : في الضُّحى وقد تراءى لنا الشاطئ.
صادوق : لعله ضَلَّ عن مَوضع الماء في هذه الفيافي الشاسعة!
آصف : إذا ضل عن موضع الماء فإنه لا يضل عن موضِعنا نحن … لماذا لم يَعُد إلينا حتى الساعة؟!
صادوق : أتدري لماذا؟ … لقد تَذكَّرْت الآن … ألم يَقُل لكَ هذا الراعي الذي استقبَلَنا عند المرسى … لقد أبصر الهدهد وهو آتٍ من جهة البحر … ورآه قد انحط إلى جوار هدهد آخر فوق هذه الشجرة … ثم طارَا معًا؟
آصف : أَمرُه إذن إلى الملك سليمان!
صادوق : أين هو الملك؟
آصف : صه! … إنه خلفك ولا تراه؟!

(يدخل سليمان وهو يضحك.)

(سليمان يضحك وهو ينظر إلى الأرض، كأنه يتبع شيئًا فوق رمالها.)

صادوق : أَتسخَر مِنَّي ومن ضعف بصري أيها النبي؟
سليمان : منكَ أنتَ أيها الكاهن صادوق؟ … بل مِنَّا جميعًا … من آصف رئيس جيشي … ومن جيشي … ومن نفسي … نحن جميعًا ضعاف البصر.

(يضحك ثم يضحك.)

آصف : لماذا أيها الملك؟
سليمان : أصغِ … أصغِ … أصغِ إلى هذه النملة! … إنها تصيح فيهم ألا تسمعون صياحها؟
صادوق : أتسمع شيئًا يا آصف؟
آصف : وأنت؟!
سليمان : اسمعوا … إنها تصيح بأعلى صوتها.
صادوق (يبحث حوله) : بأعلى صوتها؟!
سليمان : أليس كلامًا بليغًا؟
صادوق : يا نبي الله؟!
سليمان (يضحك) : لماذا لا تضحكون مثلي من قولها؟
آصف : اضحك يا صادوق!
صادوق : اضحك أنت أولًا.
سليمان (يرفع رأسه) : اذهب يا آصف إلى جنودك، وأخبرهم بما قالت.
آصف : أيها الملك!
صادوق : اذهب يا آصف كما أَمرَك، وأَخبِرْهم بما قالت.
آصف (كالمُخاطِب لنفسه) : قالت ماذا؟

(صادوق يضحك في كمه من آصف.)

سليمان (يرفع رأسه) : عفوًا وصفحًا … عفوًا وصفحًا يا أصحابي … نسيتُ أنكم ثقال السمع … آه لو أُعطينا القدرة على سماع كل ما في هذا الكون من أصوات! إنها تقول: يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ.
صادوق : إنك لتعرف لغة النمل والطير، وتحكم الجن والإنس.
سليمان : هذا من فضل ربي!
صادوق : لقد جعل في يدك القدرة، وفي رأسك الحكمة.
سليمان : الحكمة! … آه … أرجو أن تظل في رأسي طويلًا … إني لأخشي عليها من عدو لستُ أَتبَيَّنُه بعد!
صادوق : لا تخشَ يا سليمان شيئًا … فأنت نبي الله المُنزَّه عن الخطأ … المعصوم من الزلل.
سليمان : تخدع مَن بهذا الكلام أيها الكاهن؟
صادوق : لستُ من الحمق حتى أجرؤ على خداعك أنتَ.
سليمان : ولكنك تَجرُؤ على خداع الناس.
صادوق : إنهم لا يؤمنون إلا إذا خُدعوا.
سليمان : تلك حكمة كاهِن محترِف … إنك تعلم يا صادوق أن الحكمة عندي هي التي تُبنَى على الحقيقة، وتقوم على الصدق.
صادوق : أو ليس هناك الفرق بين كاهن ونبي؟
آصف (يعود) : أيها الملك! … أيها الملك!
سليمان : ماذا تريد يا آصف؟
آصف : الهدهد قد عاد.
سليمان : لأعذبنه عذابًا شديدًا … جئني به.

(آصف يشير فيأتي أحد أتباعه حاملًا الهدهد.)

سليمان (للهدهد) : أين كنت؟ … وأين موضع الماء الذي أرسلتُكَ تبحثُ عنه وتَدلُّنا عليه؟ … أجب ولا تخفض رأسك وذَنَبَك؟ … خَبِّرني ما حجتك وما عذرك؟ … (يشمه) آه … ما هذا العطر العجيب الذي ينبعث من ريشك؟ … أَخبِرْني بالصدق … ماذا تقول؟ … ذلك الهدهد الآخر حَططتَ إلى جواره … قادَك إلى أين؟ … يا للعجب! … يا للعجب!

(صادوق وآصف يتبعان الحديث في اهتمام.)

صادوق : أين قادَه أيها النبي؟
سليمان : صه … صه … لا تقطعوا حديثه … تَكلَّم أيها الهدهد؟ … امرأة جميلة تَحكمُهم، وأوتيت من كل شيء يزهو به الملوك، ولها عرش عظيم من ذهب وفضة مكلل بالجواهر.
آصف : أين هذه البلاد أيها الملك؟
سليمان : صه … دَعْه يخبرني، أَجِبْ … مَن هي؟ … ملكة سبأ؟
صادوق : سبأ؟!
آصف : لا علم لي بخبر هذه البلاد.
صادوق : بأي دين يَدينون؟
سليمان : أَجِب أيها الهدهد! … ماذا؟ … يُمَجِّدون الشمس؟!
صادوق : أوَلم يسمعوا بَعدُ هناك بدِين سليمان؟!
آصف : أهناك مُلْك وعَرْش لم يخضع لمجد سليمان الذي دانَت له ملوك الحيثيين، وملوك آرام، وخدمه ملك صور حيرام، وملك باشان، وملك الأموريين، وتَسلَّط على جميع الممالك من النهر إلى آخر أرض فلسطين؟! سليمان المُتعاظِم على كل ملوك الأرض في الغنى والحكمة.
صادوق : نعم … سليمان الذي التَمَستْ وجْهَه كل الأرض؛ لتسمع حكمته التي جعلها الله في قلبه.
سليمان (كأنه لا يصغي إليهما) : أيها الهدهد! … سَننظر أصدقتَ أم كذبت! … يا صادوق … اكتب كتابًا باسمي، واختمه بختمي … ادعُ فيه ملكة سبأ إلى المجيء إليَّ، وعرض أمرها عليَّ، واربط الكتاب بساق الهدهد، ثم أَطلِقه في الفضاء.
صادوق (يتناول الهدهد) : سأفعل يا نبي الله.

(يخرج.)

(يظهر الصياد مترددًا يَتعثَّر في مِشيته وفي يده القمقم.)

آصف (يلتفت ويصيح) : مَن أنت أيها الرجل؟
الصياد : أنا … صياد.
آصف : ليس لنا بك من حاجة.
الصياد : إني ألتمس المَلك سليمان.
آصف : ابتَعِد أيها الرجل.
سليمان : بل ادنُ … ما شَأْنُك؟
الصياد : أأنا … في حضرة الملك سليمان؟
سليمان : نعم … ما حاجتك؟
الصياد : أيها الملك … إني صياد فقير … وإني لأسمع عن عدلك وحكمتك … وأريد أن أعرض عليكم قضية، راجيًا أن تنصفني كما أنصفتَ تلك الأم التي نازعتْها في ولدها امرأة أخرى … ألستَ أنتَ الذي حكم ذلك الحكم العادل؛ فأمرتَ بأن يُشطَر الولدُ شطرَيْن، وأن يعطى شطر لواحدة وشطر للأخرى؟ … وبذلك ظهر الحق … إذ قالت الأم الزائفة اشطُرُوه فلا يكون لي ولا لغيري … وقالت الأم الصادقة، بل أعطوها الولد حيًّا، وليكن لها ولا تُمِيتوه! … أنا أيضًا أيها الملك الحكيم أسألك أن تقضي في أمري بمثل هذا الحكم.
سليمان : ومَن غريمك وخصمك؟
الصياد : أنت.
سليمان : أنا؟!
الصياد : نعم … أنت!
سليمان : ابْسُط قَضِيَّتك.
الصياد : إني رجل رزقه في شبكته … فإذا ألقيتُ بِشبَكَتي في البحر ووقع فيها شيء من الأشياء أيكون لي أم لا يكون؟
سليمان : أرني ماذا وقع لك؟
الصياد : هذا القمقم أيها الملك.
سليمان : أجل … أجل … أدركتُ ما تعني وما تريد.
الصياد : أليس هو ملكي؟
سليمان : ألا ترى عليه اسمي وخاتمي؟
الصياد : عليه اسمك وخاتمك أيها الملك … ولكنك ألقيتَ به في البحر، فخرج عن ملكك، ثم وقع في شبكتي فصار ملكي!
سليمان : إذا شئتَ فلك القمقم بنحاسه!
الصياد : وبما فيه!
سليمان : أتعلم ما فيه؟
الصياد : أعلم.
سليمان : أترى من حقك أن تملك الروح المحبوس داخل الإناء؟ … ألا ترى العدل أن تأخذ الإناء وتعطيني الروح؟
الصياد : إن الله لم يرزقني الإناء فارغًا.
سليمان (يطرق لحظة، ثم يرفع رأسه) : ربما كان الحق في جانبك أيها الصياد … إن الله إذ يمنحنا ذلك الإناء الكبير، وهو جسدنا، لا يمنحنا إياه خاليًا من الروح … لكن اسمع … هنالك شرط.
الصياد : ما هو الشرط أيها النبي؟
سليمان : إن الله لَيُحمِّل الجسد تَبِعات أعمال الروح … إذا أحسنتْ عاد على الجسد إحسانُها، وإذا أساءت عادَت عليه إساءتها … أَفهمتَ ما أعني؟
الصياد : أيها الملك؟!
سليمان : إليكَ حكمي أيها الصياد، وأرجو أن يكون عادلًا، هذا القمقم لك بما فيه … لك إذا شئتَ أن تُطلِقَ منه الجني المحبوس … ولكن … فَلتتحَمَّل أنتَ عواقب عمله إذا أحسن أو أساء!
الصياد : لكن … أيها النبي؟!
سليمان : لستُ أَقبلُ رجوعًا في هذا الشرط … إليك جني يحمل المواهب والعبقرية والقدرة، إذا أخذْتَه فاحمل آثار فعله … لن يكون أحد غيرك مسئولًا عن مَصيرِك … إذا أهلكَك أو أسعدَك فلا شأن لنا به ولا بك … إذا أفسد في الأرض فأنتَ المذْنِب، وإذا أصلح فأنتَ المثاب.
الصياد : يا مولاي، لم يقع في حسابي هذا كله! … إنما هو وَعْد بَدَر مِنِّي للعفريت أن أسألك خَلاصَه، وأعمل على إنقاذِه.
سليمان : أنت الذي يملك الآن إذا شئتَ أمْرَ إطلاقه أو حَبْسِه.
الصياد : ولكن … أيها النبي كيف أَتحمَّل عواقب أعماله ونتائج أفعاله؟ من ذا يضمن لي حُسْن تَصرُّفاته؟
سليمان : هذا ما لا دخل لي فيه … لقد خَيَّرتُك، وعليكَ أنت الاختيار.
الصياد : يا ربي … لقد أوقعتُ نفسي فيما لا قِبل لي به … لقد وعدْتُه ووثِق بي وبِشرَفي … كيف أحنث بوعدي الآن؟!
سليمان : أمامك الآن شَرفُك في كِفَّة، ومَصيرُك في كِفَّة … تَخيَّر وليس لي عليك اعتراض.
الصياد : أختار الشَّرَف وأمري إلى الله وإليك.
سليمان : أحسنتَ أيها الصياد.
الصياد : ولكنْ لي شَرطٌ عليك أنا أيضًا أيها الملك.
سليمان : أي شرط؟
الصياد : أن أكون أنا والجِنِّي في خدمتك … وأن أبقى في قصرك دائمًا تحتَ رعايتك … حتى لا يَفتِنَني العفريت بكنوزه، ويُغرِيَني بِغواياته، فأجنح عن شاطئ السلامة وأضل سواء السبيل … لا أريد أن أستخدم قُدْرَته السحرية إلا بوحيك أنت وإلهامِك، ومن أَجْلِك أنت وعِزِّك وسلطانك … أما أنا فلا أطلبُ لنفسي شيئًا إلا الحياة في كَنَفك، والعيش بالقُرْب منك.
سليمان : لك ذلك، ولكن … لن أخليك أبدًا من تَبِعة أعمال الجني، ولو استخدَمْتَه بإذني ومن أَجْلي؛ فإن إخفاقَه يقع على رأسكَ أنت، ونجاحه تُثاب عليه أنتَ.
الصياد : قَبِلتُ … ولْيهدِنَا ربنا أنا والعفريت.

(يطلقه من القمقم، ويتصاعد الدخان.)

الجني (يخرج صائحًا) : التوبة التوبة يا نبي الله!

المنظر الثاني

(في سبأ … قاعة العرش في قَصر الملكة … بلقيس على عرشها يَحف بها وزراؤها ورؤساء جيشها، ويجلس عند أقدامها الأمير الأسير منذر.)

بلقيس : لقد أفسحت لكم في الوقت لتفكروا مليًّا في أمر ذلك الكتاب الذي ألْقَاه الهدهد، وقد انقضَت أيام … وآن الأوان فيما أرى أن تقطعوا برأي.
رئيس الجيش : إني لم أَزلْ عند رأيي الأول يا مولاتي.
بلقيس : الحرب؟
الوزير الأول : نحن أولو بأس شديد أيتها الملكة، ولنا جيش قوي، فلماذا نذعن لسليمان؟
بلقيس : هذا رأي رجال الجيش دائمًا؛ فما رأيكم أنتم أيها الوزراء؟
الوزير الأول : الرأي موكول إليك أيتها الملكة.
بلقيس : لقد سبق أن ذَكرتُم لي ذلك مرَّات … فأنتم ترون من حسن السياسة أن توكلوا الرأي إليَّ دائمًا في الجسيم من الأمور … ولكن الواجب يقضي عليَّ في مثل هذا الموقف الخطير أن أتذكَّر على الأقل أن لكم رءوسًا فوق المناكب قد تستطيع أن تُفكِّر معي وتُدبِّر.
الوزير الأول : ولكنكِ تعرفين يا مولاتي أن لكِ نَفسًا تضيء الظلمات، وإحساسًا وذكاء طالما هدياكِ إلى ما ينبغي أن يُصْنَع في أحرج الأزمات … إن بلاد سبأ ما بلغَتْ هذا الشأو إلا بفضل «بلقيس» وقلبها وشعورها.
بلقيس : إنما أريد الآن أن أصغي إلى صوت عقولكم.
الوزير الأول : هنالك أحوال يا مولاتي يكون من العقل فيها أن تَصمُت عقولنا.
بلقيس : لقد قلتُ لكم أول مرة إن الحرب وبال، وإن سليمان ملك قوي الشوكة عظيم السلطان، فإذا ظفر بنا ودخل ديارنا، خربها ودمَّرَها، وجعل أَعِزَّة أهلها أَذِلَّة. ولكن رئيس جيشي كما سمعتم يُصِر على رأيه واثقًا من شدة بأسه، طامعًا في النصر على صاحب العدوان.
رئيس الجيش : أَجَل يا مولاتي … ما نَفْعُ الجيش إذن إذا لم يَهُب ليدفع عدوان المعتدِين؟
بلقيس : قوة الجيش لا تُبرِّر الإسراع إلى استعماله في كل حين … الصلح … السلام … لا شيء خير من السلام إذا جثمَت خَلْفَه قوة الجيش تحميه وترعاه.
الوزير الأول : إن لم يكن قولك هذا يا مولاتي هو صوت العقل، فكيف يكون صوته إذن؟!

(بلقيس تبتسم راضية، وتَلتفِت ناظرة إلى وجه الأمير الأسير منذر.)

(يدخل أحد الأتباع ويُسرُّ في أُذن بلقيس كلامًا.)

بلقيس : عادُوا بهذه السرعة؟! … أَدخِلهم … (تَلتفِت إلى رجالها) أصغوا إليَّ … لقد كتمتُ عنكم أمرًا إني يومَ تَلقَّيتُ كتاب سليمان، خَطَر لي من ساعتي أن أبعثَ رسلًا يحملون هدية مني إليه، حتى أَتبيَّن حقيقة غرضه … والآن قد عاد الرُّسل … فاستمِعوا إلى ما جاءوا به.

(يدخل الرسل ويتقدَّم كبيرهم إلى الملكة بالتحية ويُقدِّم الهدية.)

الرسول : أيها الملكة.
بلقيس : ما هذا؟
الرسول : الهدية يا مولاتي … قد ردَّها «الملك سليمان» قائلًا لنا لا حاجة بي إلى هديتكم، ولا وقع لها عندي … ارجعوا إلى «بلقيس» وقومها … ولنأتينكم بجنود لا قِبَل لكم بها إذا لم تأتِ هذه الملكة إليَّ وتعرض أَمرَها عليَّ.
بلقيس : وماذا رأيتم في بلاد سليمان؟
الرسول : الفضة والذهب في أورشليم مثل الحجارة، والأرز كالجميز الذي في السهل من الكثرة، ولسليمان ألف وأربعمائة مركبة، واثنا عشر ألف فارس، وأربعة آلاف مذود خيل.
بلقيس (لرجالها) : سمعتم.

(تشير إلى الرسل بالانصراف.)

رئيس الجيش : الجواب على هذا.
بلقيس : أعرف جوابَك أنت … أمن جديد لديكم يا أهل السياسة؟!
الوزير الأول : ماذا يريد الملك سليمان على وجه التحقيق؟
بلقيس : هذا هو السؤال الذي ألقيتُه على نفسي منذ اللحظة الأولى، ولعلكم لو فعلتم مثلي ما احتجتم إلى كل هذا الوقت للتأمُّل والتفكير.
رئيس الجيش : وما جدوى هذا السؤال؟ … الأمر ظاهر … ملك قوي يستضعف بلادًا طمع فيها.
بلقيس : ولماذا لا نفهم مُرادَه على وجه آخر؟ … ملك غني يستضيف ملكة طمع في صداقتها.
الوزير الأول : حقًّا يا مولاتي … حقًّا … ما السياسة إلا هذه: براعة تفسير المَقاصد، ومهارة فَهْم المرامي تبعًا لمقتضى الحال.
بلقيس : إذا أردتم رأيي … فإني أقول لكم: ما من بأس مُطلَقًا في أن نُلبِّي دعوته الكريمة، وأن أقبل زيارته شاكرة؛ فلا شيء أحب إليَّ من رؤية مملكة سليمان العظيم، ومُعاينة ما سمعتُ عنه من غرائب … إن سليمان لَيستحِقُّ الثناء إذ أتاح لي تحقيق أُمنِية كامنة ورغبة قديمة.

(تشير بيدها علامة فض المجلس.)

(الجميع يخرجون ما عدا الملكة والأمير الأسير.)

بلقيس (تلتفت إلى أسيرها) : أف! … أرأيتَ يا منذر؟

(تتقدم وَصيفتُها الأولى شهباء تَتبعُها الوصائف حاملات أدوات الزينة.)

شهباء (وهي تُنظِّم شَعر مَولاتها) : … مولاتي إنكِ تُجهِدين نفسكِ كثيرًا.
بلقيس : صدقتِ يا شهباء … ولكن … ماذا أصنع وهم يُوقِرُون كاهلي بالتَّبِعات؟! … وماذا تقول يا منذر فيما صنعتُ الآن؟
منذر : ولماذا تطلبين رأيِي في تصرفاتك؟
بلقيس : ألا يعجبك قليلًا بعض ما أفعل؟!
منذر : عجبي هو أنكِ تحاولين دائمًا أن تبهري عينيَّ …
بلقيس (كالهامسة) : أحاول.
منذر : لستُ في حاجة أن تُريني ذلك في كل لحظة … إني لم أنكر أنك ذكية، لبقة، ماهرة … إني مُعترِف أنك ملكة عظيمة.

(بلقيس تشير إلى الوصائف ما عدا شهباء، فَيخرُجْن، وتتناول المرآة بيدها وتنظر فيها.)

بلقيس (وهي تُرتِّب شَعْرها وتلمس نَحْرَها) : ملكة عظيمة! … أليس هناك شيء غير ذلك؟ … ماذا ترى يا منذر في هذا العقد على نحري … وفي هذه اللآلئ على شعري؟
منذر : ؟
بلقيس : وفي هذا الشَّذَا المُتضوِّع من عِطري … تُكلَّمْ … لماذا تسكتُ هكذا؟
منذر : تطلبين رأيي أيضًا في هذا؟!
بلقيس : ولم لا؟
منذر : أأستطيع أن أزعم لنفسي المعرفة والحكم في هذه الشئون؟!
بلقيس : حسبي منك أن تبصر، وأن تقول لي إنك تحبها أو لا تحبها.
منذر (ينهض) : أتأذنين لي أيتها الملكة؟!
بلقيس : لا … بل ابقَ … أنتَ تعلم أنه لا يسوءُني قط بقاؤك!
منذر : ألا تراكِ تُسرِفِين في إبقائي إلى جوارك دائمًا … أَحضُر قضاءك وحُكْمَك وسِياسَتَك و… وزينتك.
بلقيس : وما الضرر؟ … ألستَ كَلْبِي الأمين؟
منذر : ربما كان من حقك أن تجعلي مني كلبًا ولكن كيف عَلمْتِ أني أمين؟
بلقيس : لستُ أجد سببًا يدعوك إلى خيانتي.
منذر : ليست الأسباب هي التي تنقصني.
بلقيس (ترفع رأسها عن المرآة وتنظر إليه) : عجبًا. عجبًا … إنك لا تكلف نفسك حتى مئونة إخفاء كرهك لي!
منذر : إظهار ما في نفسي هي الحرية الوحيدة التي بَقيَت لي … أتستكثرينها عليَّ؟
بلقيس : حُرِّيتُك؟! … حُرِّيتُك؟ … ألن تَكفَّ يا منذر عن اعتبار نفسك أسيرًا … هل أنتَ مُلقًى في جُبٍّ؟ … هل أنت سجين في قلعة؟ … إنك معي دائمًا … تعيش في قصري، وتأكل على مائدتي، وتتنزه في حديقتي، وتشاهدني في عملي وراحتي، وتقضي أكثر وقتك في حضرتي، إنك لستَ رجلًا لطيفًا ولا ظريفًا؛ إذ تسمي سجنًا وجودك إلى جانب امرأة جميلة!
منذر : ليس جمالك هو الذي أسرني … ولكنه جيشك.
بلقيس : ما أتعس المرأة التي تسمع هذا الكلام من رجل! … ولكني ملكة عظيمة وأنت رجلٌ قليل الخطر … فقل ما شئتَ … كلامك لا يدمي شعوري ولا يؤلمني!
منذر : أتساءل لماذا تُبقِينَني دائمًا إلى جوارك تسمعين مني هذا الكلام؟!
بلقيس : أوَكنتَ تريد أن أُقصيَك عني، وأسلم أمرك إلى الحراس والسجَّانين وأنتَ أمير من أبناء الملوك؟ … كلَّا يا منذر … لقد فَتَك جيشي حقًّا بأهلك وبلادك … ذلك قانون الحرب … ولكنَّ لك قدرًا يجب أن يُحفظَ، ومنزلة يجب أن تُصانَ … وإني أُبقيكَ تحت ناظريَّ؛ لأطمئن على راحتك، وأُوقن بأنك تَحيَا كما أُحب لك أن تحيا.
منذر : أشكر لك هذا الكرَم وهذه العناية … وإنْ كنتُ أرى أنكِ تفعلين ذلك؛ لأنك تُسَرِّين بصحبتي، وتَسعَدين بِقُربِي.
بلقيس : من الذوق وحُسْن اللياقة أن أُوافقكَ؛ فأنا لا أسمح لنفسي أن أَقذِف في وجهك بقولي إن صُحبَتك غُل، وقُربك سجن!
منذر : إني آسف إذا كنتُ قد آذيتُ شعورك بكلمات جافية … أطلبُ عفوَك أيتها الملكة! … والآن أراني في حاجة إلى الهواء الطَّلق النَّقِي إذا أذنتِ لي في الخروج إلى الحديقة لحظة.

(يخرج قبل أن ينتظر إذنها له.)

بلقيس (تتنهد وتنظر إلى وصيفتها) : أرأيتِ يا شهباء؟!
شهباء : هذا ليس بآدمي حَي! … إنه مصنوع من حَجر!
بلقيس : كيف عَلم أني أُسَرُّ بِصحبته وأَسعدُ بقُرْبه؟ … إني ما ضعفتُ قط أمامه!
شهباء : حبَّذا لو ضَعفتِ أكثر من ذلك قليلًا يا مولاتي!
بلقيس : لا … لا ينبغي لي.
شهباء : حقًّا … يا مولاتي لا ينبغي ذلك للملكة المنتصِرَة … لكن.
بلقيس : لكن ينبغي ذلك للمرأة المنهزمة.
شهباء : لم أَقُل هذا.
بلقيس : بل قولي ذلك يا شهباء … أنتِ تَعلمينَ أنها الحقيقة … آه … لم يحدث لي ذلك قط قبل الآن!
شهباء : أعلم!
بلقيس : لو دَرَى ذلك الأسير ماذا يملكُ في قبضته لأدرك من فوره مَن المنتصر!
شهباء : ربما لو دَرَى لان فؤاده قليلًا.
بلقيس : أجننتِ يا شهباء؟!
شهباء : لا تَخافي يا مولاتي … لن يَعلَم مني شيئًا.
بلقيس : كيف أَخِرُّ وأنا حية على أقدام رجل مُوصَد الأُذن عن سماع خفَقات قلبي؟!
شهباء : ولكنَّكِ تتألمين!
بلقيس : أجل يا شهباء … كثيرًا.
شهباء : ينبغي أن نجد علاجًا.
بلقيس : لا أظن أن هنالك دواء لما أنا فيه.
شهباء : يجب أن نرجو.
بلقيس : لست أرجو شيئًا إلا الاحتفاظ بهذه اللحظات التي أقضيها إلى جواره … إنه يُسمِعُني ما لا أحب من الكلام … ولكن ذلك خير عندي من فراقه.
شهباء : وماذا أنتِ صانعة وقد أزمعتِ السفر إلى سليمان؟
بلقيس : آه … حقًّا … لقد كنتُ أفكر الساعة في هذا.
شهباء : أتصطحبين أسيرك معك؟
بلقيس : لا أَتصوَّر الرحيل بدونه.
شهباء : وماذا أنتِ قائلة لسليمان عنه؟
بلقيس : لستُ أدري بَعدُ … ربما قلتُ إنه تابعي.
شهباء : ليس من السهل خداع سليمان، وهو كما قيل يحكم الإنس والجن.
بلقيس : وما الضَّرر في أن يعلم حقيقة الأمر؟
شهباء : ألا تَخشَيْنَ أن يتآمَر أسيرك عليك مع ذلك الملك الهائل؟!
بلقيس : لستُ أخشى إلا أن يغيب أسيري عن عيني لحظة من اللحظات … أين هو الآن؟
شهباء : ألم يقل الساعة إنه ذاهب إلى الحديقة يستنشق الهواء؟
بلقيس : نعم … الهواء الطَّلق النقي … لأنه يختنق هنا بِشذاي.
شهباء : إني أتألَّم لكِ يا مولاتي، ولا أستطيع لك شيئًا.
بلقيس : أَشرفِي عليه من هذه النافذة واسأليه أن يأتي لأخبره بأمر السفر.

(شهباء تدنو من النافذة المطلة على الحديقة وتشير إليه بالحضور.)

شهباء : إنه آتٍ.
بلقيس : لقد ضَجر وتَبرَّم … أليس كذلك؟
شهباء : لا أستطيع بالطبع أن أرى ذلك من مكاني.
بلقيس : إني أعرف كل ما يدور في خَلَده وما يجري في رأسه دون أن أراه.
شهباء : ها هو ذا.

(منذر يدخل.)

منذر : نعم … ها أنا ذا.
بلقيس (لشهباء) : لا تَنْسَي يا شهباء أن تَتجهَّزِي أنت أيضًا للسفر.
شهباء : إني يا مولاتي أَتبَعُ لكِ مِن ظِلِّك.

(تخرج شهباء.)

منذر : ما هو الحدَث الجَلَل والأمر الخطير الذي نَادَيتِني من أَجْله؟
بلقيس : اجلس أولًا.
منذر : لقد تعبتُ من الجلوس.
بلقيس : هنا … هنا … كَلْبِي الأمين يجب أن يَخِر دائمًا عند أقدامي.
منذر (وهو يجلس عند قدميها) : ماذا تُريدين الآن؟
بلقيس : أن تَتبَعني في كل مكان.
منذر : وهل أستطيع غير ذلك.
بلقيس : ستذهب معي إلى الملك سليمان.
منذر : سلاسلي في يدك تستطيع أن تشدني أينما تذهبين.
بلقيس : ليس يرضيني أن أقول هناك عنكَ إنك أسيري.
منذر : وماذا يرضيك أن تقولي عني؟
بلقيس : أريد لك لقبًا رفيعًا.
منذر : أرفع من لقب «كلبك»؟
بلقيس : لا تَمزَح … لماذا لا أقول عنك إنك مستشاري الأمين؟
منذر : كلَّا … إني أفضل أن أكون لك كلبًا أمينًا، ولا أكون لك مستشارًا أمينًا؟
بلقيس : كن مستشارًا خائنًا إذا شئتَ.
منذر : لا أستطيع أن أخون مَن يجعلني موضع ثقته ومشورته.
بلقيس : ماذا تريد إذن أن يكون موقفك مني؟
منذر : لا شيء … موقِف المُشاهِد الصامت، والأسير المنتظِر.
بلقيس : تنتظر ماذا؟ … يوم الفكاك والهرب … لتعود إلى أهلك وبلادك فتثيرها لحربي، وتجمَعَها جيوشًا تأخذُ الثأر لكَ مِنِّي؟ … أهذا كل حلمك وأملك في هذه الدنيا؟!
منذر : أمل جدير بالحياة مِن أَجْلِه.
بلقيس : كلَّا يا منذر … هنالك آمال وأحلام أجمل من ذلك وأنبل … جديرة أن نعيش من أجلها!
منذر : ليس يدهشني أن يختلف نظرنا إلى الأشياء.
بلقيس : أُسائِل نفسي أحيانًا أهو مستحيل أن نَتَّفق يومًا؟!
منذر : أما أنا فَلم أُلقِ قطُّ على نفسي هذا السؤال.
بلقيس : أعرِف ذلك … وا أسفاه!
منذر : السؤال الذي يخامرني الآن هو لماذا تَأخذِين أَسيرَك في رِحلَتِك إلى سليمان؟!
بلقيس : لأني.
منذر : لأنَّك لا تطمئنين على راحته وهو بعيد عن بصرك؟!
بلقيس : هو ذاك يا منذر.
منذر : وإذا قلتُ لكِ إن راحتي هي في وضعي داخل قلعة مُغلَقة مع غيري من الأسرى … هل تُلبِّين هذا الطلب؟
بلقيس (في اضطراب تُحاوِل إخفاءه) : لماذا تطلب هذا يا منذر؟
منذر : إذا كان لي أن أسألك شيئًا فهذا هو طلبي!
بلقيس : أضعك في سجن مُغلَق؟
منذر : في وحدة مطلقة.

(بلقيس تطرق وتخفي عينيها بيدها حتى لا يرى عبرة تكاد تسقط.)

منذر : أهو طلب عَسير يحتاج منك إلى كل هذا التفكير؟
بلقيس (ترفع رأسها) : لقد ظننتُ أني بوضعك في قصري بدل السجن أُيَسِّر لك بعض وسائل الهرب.
منذر : أفكَّرتِ في ذلك حقًّا؟
بلقيس : نعم … لقد احتلتُ بهذه الحيلة من أجل ذلك … وتذرَّعتُ بالحجج التي تعلمها لإقناع وزرائي ورجال جيشي بِتركِك ها هنا … وربما كنتُ أريد أن أصطحبك في السفر حتى أتيح لك تَحيُّن الفرص.
منذر : يا لي من أحمق! كان يجب أن أفهم الأمر على هذا الوجه.
بلقيس : اكتم عنِّي ما قلتُ الآن … اجعلني شريكتك في السر، ولا تُعرِّضني لغضب شعبي.
منذر : أنتِ تساعدينني على الهرب لأجمع جيشًا وأقاتِلَك؟!
بلقيس : ما دمتَ تريد ذلك.
منذر : بلقيس؟!
بلقيس (مشدوهة في غير وعي وفي رِقَّة) : نعم يا منذر.
منذر : لماذا تَنظرينَ إليَّ هكذا؟
بلقيس (كالمُخاطِبة لنفسها) : إنها أول مرة تناديني فيها هكذا!
منذر : سأرحل معك إذن؟
بلقيس : نعم.
منذر : إني ذاهب أتجهز للسفر إذا أذنتِ.

(يخرج فرحًا.)

بلقيس : نعم.

(تضع رأسها في كفيها وتجهش بالبكاء.)

المنظر الثالث

(في أورشليم … قصر سليمان … بهو عظيم.)

صادوق : ما لك أيها النبي؟ … فيم تفكر؟
سليمان : دعني.
صادوق : لا أحسب قُدوم هذه الملكة هو الذي يشغل بال سليمان العظيم.
سليمان (يرفع رأسه) : ماذا تقول يا صادوق؟
صادوق : أينبغي لي أن أبقى في استقبالها؟
سليمان : نعم.
الصياد : وأنا أيضًا أبقى يا مولاي؟
سليمان : نعم.
صادوق : لستُ أرى الوزير آصف بن برخيا!
الصياد : لقد ذهبَ إليها بفرسانه عند باب أورشليم.
سليمان (كالمُخاطِب لنفسه) : لماذا أبطئوا؟ … فيم كل هذا الإبطاء؟
صادوق : ليس هناك إبطاء … إنهم ولا شك الآن في الطريق إلى القصر.
سليمان : لستُ أسمع بَعدُ صوت العَجَلات ولا صهيل الخيول.
صادوق (كالمخاطِب لنفسه) : لستُ أدري فِيمَ كل هذا الاهتمام؟!
سليمان (يلتفت إليه) : ماذا تقول يا صادوق؟
صادوق (في خُبْث وهو يسدل الستر على نافذة) : لا أقول شيئًا … إنما أسدل الأستار على هذه النافذة المُشرِفة على جنانك … تلك التي تسرح فيها طيورك الغريبة الكثيرة …
سليمان : نسائي؟!
صادوق : البالغات الألف عددًا … من موآنيات، وعمونيات، وأدوميات، وصيدنيات، وحيثيات … نماذج من الجمال، وأنماط من الحسن يتسع لها كلها قلبك الكبير … إنه قلب نبي!
سليمان : طيور غريبة كثيرة؟
صادوق : ولِمَ لا؟
سليمان : ومع ذلك.
صادوق : لا أعترض على فِعَالك.
سليمان : قلبي يحدثني.
صادوق : قلبك صادق.
سليمان (كالمُخاطِب نفسه) : في هذه المرة … نعم.
صادوق : في كل مرة … وفي كل أوان.
سليمان : صه! … كأني أسمع دَقَّ الطبول؟
صادوق : لستُ أسمع شيئًا.
سليمان : إني أراها آتية من بعيد.
صادوق : فَلنستَعِد إذن … ليحضر رؤساء أعوانك من الإنس والجن؛ لِيَحفُّوا بعرشك.

(يشير بيده فيمتلئ المكان بالأتباع قادِمِين على أنغام موسيقى.)

سليمان : وهي؟ … أين يكون مجلسها؟
صادوق : ذلك موكولٌ إلى رَغبَتِك.
سليمان : تَجولُ برأسي فكرة، لو حقَّقَها أحدكم أعطيته كل ما يتمنى.
الجميع : مُرنا نُطِع أيها الملك.
سليمان : أريد أن تجلس على عرشها.
الجميع : عرشها؟
سليمان : نعم … أيكم يأتيني الآن بعرشها قبل أن تأتي؟
الجميع : عرشها؟!
سليمان : نعم أيها الجن … أيكم يستطيع ذلك؟

(يتقدم العفريت صخر من بين صفوف الجن.)

صخر : أنا أستطيع.
سليمان : أنت يا صخر؟!
صخر : أنا آتِيكَ به أيها الملك.
سليمان : متى؟ … متى؟
صخر : قبل أن ينقضي النهار.
سليمان : ولكنها آتية بعد قليل.
صخر : إن المكان بعيد يا مولاي … إني سأحمله إليك من مملكة سبأ!
سليمان : ودِدتُ لو أنها جلستَ على عرشها الآن قبل قدومها.

(داهش الجني يشق الطريق مسرعًا إلى الصياد هامسًا.)

الجني (هامسًا) : أنا آتيه به قبل أن يَرتَدَّ إليه طَرْفُه.
الصياد (هامسًا) : اسكت.
سليمان : ماذا يقول عفريتُك أيها الصياد؟
الصياد : لا شيء يا مولاي!
سليمان : كأني به يتحدث عن عرش بلقيس.
الصياد : إنه يَمزح يا مولاي.
الجني : أهذا وقت مزاح أيها النبي؟!
سليمان : حقًّا هذا … ليس وقته … فيم كان حديثك إذن؟
الجني : عرشها … أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك.
سليمان : أأنت واثق من إمكان ذلك؟
الجني : ضعني موضع الامتحان.
سليمان : إذا أخفقت … أتعلم ما الجزاء؟!
الجني : حبسي في القمقم، وإعدام الصياد.
الصياد (كالمُخاطِب لنفسه) : لا حول ولا قوة إلا بالله!
سليمان : أسمعتَ أيها الصياد؟!
الصياد : سمعتُ.
سليمان : أنتَ كما تَذْكُر مسئول عن تَبِعات فِعاله.
الصياد : إذن فلا يذهب أبدًا.
الجني : بل دَعْنِي أيها الصياد أذهب.
الصياد : أيها الملكُ … لا تَدَعْه بربك يُضَيِّعني هذا الفاجر المغرور!
الجني : لا ترتعد خوفًا أيها الأحمق … إنها فرصة … فرصة طالما انتظرتها لإظهار عبقريتي.
الصياد : بل هي فرصة لإظهار مصائبك التي سَتحلُّ على رأسي!
الجني (يلكم الصياد) : تَفاءَل! … تَفاءَل!
الصياد : آه … ليتني لم أجد في شَبَكتي قُمقُمَك النحس وقنعْتُ بالحمار النافق والزير المكسور!
الجني : أيها الصياد الأحمق … لا تقف عثرة في سبيل طموحي.
الصياد : صه أيها الملعون! … مِن يوم عَرفتُك لم أعرف الراحة.
الجني : إذا نجحتُ أنا فإنك سَتعرِف المجد.
الصياد : أيها الملك … أحقًّا سأوخذ بفشله؟
سليمان : وتُثاب عن فَوزِه … أليس هكذا العهد والميثاق؟
الجني (يلكم الصياد) : غامِرْ.
الصياد : آه … إنها المُقامَرة بعينها.
الجني (يلكم الصياد) : خاطر!
الصياد : دعني أيها اللعين … لقد أشبَعتَ كتفي لَكْمًا! … اذهبْ عني وأفعل ما بدَا لك!
الجني (صائحًا) : ها … مرحى … مرحى.
الصياد : لقد وعدتُ أيها الملك أن أجعل هذا الجني في خدمتك … فليذهبْ إذن … فقد يُوفَّق إلى الظَّفَر ببُغْيَتِك … اذهب أيها الجني وأمري إلى الله!
الجني (صائحًا) : أغمض عينيك أيها النبي! … أغمضوا عيونكم أيها الملأ!

(الجميع يغمضون.)

الصياد (يغمض عينًا واحدة) : أغمَضْنَا عيوننا … اذهبْ أنتَ وأَسرِع.
الجني : عَينيك الاثنتين لا عينًا واحدة أيها الرعديد!
الصياد (وهو يغمض) : لعنة الله عليك! … قد لا أفتحهما بعد الآن!

(تنطفئ الأنوار فجأة، ويحل الظلام في المكان لحظة، ثم يعود النور، فإذا عرش بلقيس في صدر البهو.)

الجني : أيها الملك العظيم!
الصياد (مغمض العينين) : ألم تذهب بعد أيها العفريتُ اللكع! آه قد عُوقِبتُ وأُعْدِمتُ وانتهى الأمر.
سليمان (ينظر إلى العرش) : أيها الصياد!
الصياد (مُغمض العينين يَتقدَّم إلى الملك) : ها هو ذا رأسي أيها الملك!
سليمان : رأس جدير أن يُتوَّج بإكليل المجد!
الصياد (يفتح عينه دهشة) : ؟
سليمان (يشير إلى العرش) : انظر!
الصياد : إلهي! … إلهي!
الجني : أرأيتَ؟
الصياد (في عجب) : متى جاء بهذا؟!
سليمان : صدق صاحبك الجني … إنها العبقرية.
الصياد : حمدًا لك يا رب السموات!
سليمان : إنه حقًّا لَعمل عجيب!

(الصياد يفيق من ذهوله ويحس بالفخر.)

الصياد (مباهيًا) : هذا شيء بسيط يا مولاي … في مَقدورِنا أن نصنع أعجب من ذلك!
سليمان : ماذا تطلب الآن؟ … كل ما تتمنى فهو لك.
الصياد : أحقًّا أستطيع أن أنال ما أشاء؟!
سليمان : نعم … اطلب ما تشاء.
الجني (همسًا للصياد) : ذقتَ الآن لذة الظفر؟
الصياد : المال والجاه والسلطان.
الجني : اطلب … اطلب.
الصياد : نعم … نعم … إني أطلب أن يكون لي … وفي خدمتي وفي حوزتي … وتحت إمرتي.
سليمان : تَكلَّمْ.
الصياد : أطلب أن يكون لي.
سليمان : ماذا؟
الصياد : أن تعطيني أيها الملك.
سليمان : اطلب ما شئتَ ولا تخف.
الصياد : الحق يا مولاي … إني.
سليمان : تَكَلَّمْ! … تكلم!
الصياد : لستُ أجد شيئًا أطلبه.
الجني : أف! … لا دواء لحمق هذا الرجل!
الصياد : إذا نلتُ كل هذه الأشياء التي يطلبها الناس فما أصنع بها ها هنا؟ … إنك أعطيتني كل شيء يا مولاي يوم أَذنتَ لي أن أعيش إلى جِوارك … ما دمتُ موضع ثقتك … ما حاجتي إلى كنوز الأرض؟!
سليمان (ملتفتًا إلى الكاهن) : أسمعتَ يا صادوق؟! … هذا كلام يذكرني بكلامي الذي خاطبتُ به ربي يوم تراءى لي في الحلم ليلًا … وقال اسأل … ماذا أعطيك!
صادوق : لقد أجبتَ ربك يومئذ قائلًا: «أعط عبدك قلبًا فهيمًا؛ ليحكم شعبك، ويميز بين الخير والشر …»
سليمان : نعم … نعم … قلت ذلك، وحَسُن كلامي في عيني ربي فقال لي «من أِجْل أنكَ قد سألتَ هذا الأمر، ولم تسأل لنفسك أيامًا كثيرة، ولا سألتَ لنفسك غنًى، ولا سألتَ أَنُفَس أعدائك؛ بل سألتَ تمييزًا وحكمة … هو ذا أعطيتُك قلبًا حكيمًا.»
صادوق : وقد أعطاك أيضًا ما لم تسأل: غنًى وسلطانًا لا يُدانيك فيها ملك من الملوك.
سليمان (كالمُخاطِب لنفسه) : لقد أعطاني ذلك … لسر لستُ بَعدُ أُدرِكُه.
صادوق : ولقد أوصاك أن تسلك طريقه وتحفظ فرائضه كما سلك داود أبوك.
سليمان : أرجو أن أكون حافظًا للعهد.
صادوق : إنَّك لَمُنزَّه معصوم أيها النبي!
سليمان : أيها الصياد … أنتَ أيضًا ما دمتَ قد سألتني ثقتي وقربي، وجعلتهما كل كنزك … فإني أعطيك ما سألتَ. فَهُمَا لك. وإني أوصيك أن تحتفظ بهما.
الصياد : إلى آخر أيامي يا نبي الله!
سليمان : أما داهش بن الدمرياط الجني فإنه قد نال إعجابي ورضاي!
الجني : تستطيع أن تعتمد عليَّ أيها النبي … فإني خُلِقتُ لجِسام الأمور وعِظام الفِعَال.
الصياد : تَواضَع! … تَواضَع!
سليمان (باسمًا) : دعه! … من حقه أن يَتِيه الآن قليلًا.

(يسمع دق الطبول وصهيل الخيول.)

صادوق (قُرْب الشرفة) : إن المواكب قد أقبلَت.
سليمان (همسًا كالمخاطب نفسه) : نعم … قد أقبلَت.
صادوق (وهو يشاهد) : تعالَ وانظر أيها النبي!
سليمان (دون حراك) : لا حاجة بي إلى النظر.
صادوق : عجبًا! يا لهذا الجمال! لكأنها الشمس قد أشرقَت وأضاءَت الطريق!
سليمان : أرى ذلك.
صادوق (يلتفتُ إليه) : كيف ترى ذلك من مكانك هذا؟!
سليمان : لستُ أبصر بعيني وحدهما كما تبصر أنت!
صادوق (ينظر من الشُّرفة) : وهذا الوزير آصف بين يديها قد أَطرَق … لكأنه لا يجرؤ على النظر إلى وجهها!
سليمان : مَنِ التابِع الذي معها؟
صادوق : هذه جارية حسناء خلفها؛ لكأنها وصيفتها فيما أرى.
سليمان : مَن غيرُها؟
صادوق : لست أرى غيرها.
سليمان : أَنعِم النظر يا صادوق … فأنتَ أحيانًا كَليل البصر.
صادوق : حقًّا … حقًّا … هذا فتًى عن يسارها … لكأنه وزير من وزرائها!
سليمان (مطبق العينين كأنه يرى بخياله) : فتًى جميل … أستطيع أنا أن أصفه لك إذا شئتَ.
صادوق : إنهم الآن بباب القصر … إنهم يدخلون.
سليمان (يفتح عينيه ويَتهيَّأ للاستقبال) : إنها ستدهش إذ تبصر عرشها … ولكنها سَتكتُم أَمْرَها … يا لها من امرأة!

(يُنفَخ في الأبواق وتُفتَح الأبواب … وتظهر بلقيس بردائها الطويل وخَلفَها وصيفتها شهباء، والأسير منذر والوزير آصف بن برخيا … وأتباع لها وتابعات.)

بلقيس : ها أنا ذا أيها الملك العظيم.
سليمان : إنَّه لفضل منكِ أن تُلبِّي دعوتي أيتها الملكة الجميلة!
بلقيس : لطالما وددت أن أزور مملكتك وأشاهد بلادك.
سليمان : أرجو أن يطيب لكِ المقام بيننا.

(يقودها نحو عرشها.)

بلقيس (تقف قليلًا مأخوذة أمام عرشها) : إنكَ تُبالِغ في الترحاب بي!
سليمان : وَودِدتُ أن تُحِسِّي هنا أنكِ في قصركِ.
بلقيس : حقًّا … حقًّا.
سليمان : أليس هذا هو عرشك؟
بلقيس (في تُؤدَة وضبط نفس) : لكأني به.
سليمان : أرجو أن يكون هو.
بلقيس : إنه هو … شكرًا لك أيها الملك الكريم!

(تَجلِس على عرشها … ويجلس سليمان على عرشه.)

(موسيقى رائعة … وأكواب وشراب … وجوقة من الراقصات الجميلات يرقصن رقصات غريبة.)

سليمان (بعد انتهاء الرقص) : يا آصف … احتفلْ بضيوفك … هَيِّئ لأتباع الملكة المَجيدة كل راحة وعناية.

(يشير الملك بيده فينصرف الجميع ولا يبقى غيره مع بلقيس وحدهما.)

بلقيس : أرى أَنَّكَ تُسرِع في الانفراد بي!
سليمان (يرمقها طويلًا) : لطالما انتظرتُك!
بلقيس : إني مع ذلك لم أبطئ في المجيء.
سليمان : ليس أشق على الإنسان من أن ينتظر قَدَره الذي كُتِب عليه!
بلقيس : إنك لَتنظُر إليَّ كأنك تُطالِع كتابًا.
سليمان (وهو يتأملها) : وأيُّ كتاب؟!
بلقيس (باسمة) : أَتراني حقًّا أستحقُّ منك كلَّ هذا الالتفات؟!
سليمان : دعيني أطالع صفحة وجهك مليًّا … أنتِ يا من شَممتُ عِطرَك وبينَنا بِحار من رمال … ودَعوتك وبيننا آماد طوال!
بلقيس : ها أنا ذا بين يديك.
سليمان : آه لو استطعت؟!
بلقيس : ماذا؟
سليمان : أن أستَلَّ بيدي قَلبَك من بين جنبيك وألقي به طعامًا إلى الهدهد.
بلقيس : وما جريرة قلبي؟
سليمان : وما حِرصُكِ على قلب ليس لك؟!
بلقيس : ليس لي؟!
سليمان : أفي إمكانك أن تزعمي أنه في يدك؟
بلقيس : كيفَ عرفتَ هذا؟
سليمان : لا ترتاعي ولا تضطربي … إني أعرف عنك أشياء.
بلقيس : حقًّا … لكأنَّكَ تعرفني!
سليمان : لقد حدَّثَني قلبي عنكِ كثيرًا.
بلقيس : أرى من العبث أن يَخفَى عنك أَمْر أيها الملك سليمان.
سليمان : أَتُحبِّينه بهذا المقدار؟
بلقيس : أخبرِني قبل كل شيء، ما مكانُكَ مني؟ أأنتَ صديقي أما عدو؟ أأنتَ ملك يكرم ملكة … أم فاتح قاهِر يبيت الشر لبلد وأُمَّة؟ لستُ أرى بَعدُ أمِن حقي أن أَتَّخِذ منكَ خدينًا ناصحًا حتى أجيبكَ عن سؤالك هذا؟!
سليمان : ثِقي يا بلقيس أني لا أريد أن أظفر بغير مَودَّتك … هذا كل مَطمَعي.
بلقيس : هذا كل مَطمعك؟!
سليمان : إنه عندي ليس بالمَطمَع القليل!
بلقيس (تطيل إليه النظر) : أتراني؟
سليمان : لا ترتابي!
بلقيس : دَعْنِي أنا الأخرى أُطالِع صفحة نفسك مليًّا.
سليمان : من حقي أن تتخذي مني ذلك الخَدِين الناصح على الأقل!
بلقيس : شكرًا لك يا سليمان!
سليمان : ما أسعَدَني الآن بِذكرِك اسمي هكذا! … اكشفي لي عن قَلبِك يا بلقيس … وعن مشاعرك.
بلقيس : آه … نعم … أُحبه حبًّا يُشقِيني في اليوم مرات.
سليمان : هو من أبناء الملوك؟
بلقيس : لقد كان كذلك … وهو اليوم أسيري.
سليمان : أسيرك؟!
بلقيس : أليس هذا عجيبًا؟!
سليمان : أَفْهَم ما تُعانِينَ.
بلقيس : لست في حاجة أن أُسهِب لك أنتَ يا سليمان في القول … فأنتَ بدِقَّة حِسِّك تدرك ما يقال وما لم يقل!
سليمان : ما أَحسبُكِ تحتملين فِراقه يومًا؟
بلقيس : من أَجْل ذلك خاطرتُ وجئتُ به معي إلى هنا!
سليمان : إنه هنا في أمان.
بلقيس : أرجو ذلك.
سليمان : بل ثقي يا بلقيس.
بلقيس : ما كنتُ أحسبُ هذه الصداقة تنشأ بيننا بمثل هذه السرعة يا سليمان!
سليمان (ينهض) : … لا ينبغي أن أغالي في الأثرة والطمع فأستبقيك طويلًا وأنتِ مُتعبَة من مشقة السفر.
بلقيس (تنهض) : شكرًا أيها الصديق!
سليمان (يصفق للجواري فيحضرن) : نومًا هنيئًا أيتها السيدة!

(تخرج بلقيس بين الجواري، ويبقى سليمان وقد أَطرَق وجعل ينكث بعصاه الأرض.)

(يدخل الجني يقود الصياد.)

الصياد (همسًا للجني) : دعني … ارجع بنا! … لا يجوز لنا الدخول عليه بغير استئذان!
الجني (همسًا) : ألستَ موضع ثقته أيها الأحمق؟!
الصياد : لقد أسلمتُك قيادي وأنا مغمض العينين فافعل ما شئتَ!
الجني : انظر! … إن الملك مطرق مُفكِّر مهموم … إننا لم نره على هذه الحال قط … إنه في حاجة إلينا.
الصياد : صه! … لا تُدخِلْنا فيما لا يعنينا … ألسنا الآن بخير هادئين ناعمين في أمن وسلامة؟!
الجني : آه … الأمن والسلامة هُما نذير الركود والخمول والموت … كَلَّا … لستُ أرضى ذلك … إلى العمل … إلى العمل … إلى الحياة.
سليمان (يلتفتُ إليهما) : ماذا تَصنعان هنا؟
الصياد (في خوف) : لستُ أدري يا مولاي … ولكنه هذا المفتون هو الذي.
سليمان : أيها الصياد!
الصياد : لبيك أيها الملك!
سليمان : إني في حاجة إليك … أريد أن ألقي سؤالًا عليك.
الصياد : روحي فداك يا مولاي! … إني خادمك.
سليمان : هل أحببتَ يومًا؟
الصياد : أنا؟
سليمان : هل عرفتَ الحب؟
الصياد : الحب؟!
الجني (همسًا) : ما الذي أَلْجَم لسانك؟ … أهناك أبسط من هذه المسألة؟ … قل!
سليمان : دعه أيها الجني الآن … لا تلقنه شيئًا … اذهب حتى ندعوك.

(الجني يختفي وهو ينظر إلى الصياد في رثاء.)

سليمان (للصياد) : أنا أريد الجواب من أعماق قلبك الساذج، وضميرك البريء.
الصياد : الحب يا مولاي … لم أعرفه إلا مرة.
سليمان : كيف؟
الصياد : تلك قصة لو كُتِبَت بالإبر، على مآقي البصر، لكانت عبرة لمن اعتبر.
سليمان : حَدِّثْني! … حَدِّثْني! … إني مُصغٍ إليك.
الصياد : وقع لي ذلك منذ أعوام ثلاثة: كنت أصطاد ذات يوم، وقد أَلقيتُ شَبَكتي طول النهار، فما كنت أجد في الشبكة غير إناء مكسور، وطين، وأحجار، وفتات قوارير … حتى أقبل المساء ويئستُ من أمري؛ فألقيتُ بشبكتي للمرة الأخيرة وجذَبْتُها؛ فإذا بها سمكة عجيبة لم أرَ لها نظيرًا قط، فقد كان نصفها أشقر ونصفها أزرق … فقلتُ في نفسي تلك سمكة لم تُجعَل لمثلي؛ إنما جُعِلَت لتهدى إلى الملك … ولكن الجوع عضني بِنابه … فقلتُ لماذا أستكثرها على نفسي؟ … فلتكن لي عشاء … وذهبتُ بها إلى داري، وشققتُ صدرها؛ فإذا بي أجد فيه جوهرة! … فكدتُ أُجنُّ من الفرح … وذهبتُ بالجوهرة إلى السوق فبعتُها بخمسمائة دينار ذهبًا … ولم أكد أضع المال في جيبي حتى رأيت نخاسًا يبيع جارية شقراء الشعر زرقاء العينين، لم تقع عيني على أجمل منها … وقَع حُبُّها في قلبي؛ كأنه حكم من القَدَر، فأخرجتُ الدنانير ووضعتها في يد النخاس وأخذت الجارية … وما كدتُ أسير بها قليلًا حتى قالت لي: «إني لم أُجْعَل لك … فإذا كنتَ رجلًا شريفًا ذا ضمير فأعتِقْني … أما مالك فإني قد أردُّه إليك يومًا فإن لم أستطع فإنَّ لي في السماء ربًّا يتولَّى ذلك عني … فقلتُ لها يا سيدتي أنتِ حرة لساعتك فاذهبي حيثُ شئتِ … ولا تظني أنكِ ذاهبة بمالي … فذلك عرَض جاء وزال ولمَّا تمضِ ساعة … إنما أنتِ ذاهبة بقلبي … فوداعًا إلى الأبد أيتها الجميلة … ووداعًا إلى الأبد أيها الحب!»
سليمان : وما الذي جرى لها بعد ذلك؟
الصياد : لستُ أدري … لقد تركتُها في الطريق بعد تلك الكلمات وسِرتُ في سبيلي … ولم أرها بعد ذلك … ولا أعرف ما جرى لها … ولا في أي بلد من بلاد الله هي الآن.
سليمان : أوَما زلتَ تَذكُرها؟
الصياد : وهل في مَقدُوري أن أنساها؟
سليمان : تحبها دائمًا؟

(الصياد يطرق ولا يجيب.)

سليمان : أَجَل أيها الصَّدِيق … أَفْهَم ما تعاني.
الجني (يظهر فجأة) : أستطيع أنا أن أعرف مقرها وأعثر عليها.
سليمان : من أذن لك في المجيء؟
الجني : دعني أيها الملك أصنع شيئًا لهذا الأحمق.
سليمان : أفي إمكانك أن تأتي إليه بالحب؟!
الجني : إني مهيأ لأن أصنع العجب العجاب!
الصياد : أيها المفتون … مكانك … ليس من حقي أن أبحث عنها أو أفسد عليها حياتها … إنها لم تُجعَل لي … وإن قَلبَها لم يكن لي … فماذا أريد أو تريد أمام هذا؟!
سليمان (كالمُخاطِب نفسه) : آه … هذا هو الأمر الذي لا دواء له!
الجني : لكل شيء دواء أيها الملك … أصغوا إليَّ … أصغوا إليَّ … لكل شيء دواء إلا اليأس … اليأس وحده هو البلاء الذي لا يوجد له دواء.
الصياد : أهكذا خَلقَك ربك لِتخلُق التعب وتقلق الراحة!
الجني : العمل … العمل … النضال … النضال.
سليمان (يرفع رأسه) : أيها الجني.
الجني : لبيك مولاي!
سليمان : أَخبِرنِي بالصدق … وحَذارِ أن تخدعني أو تغرر بي!
الجني : حاشا يا مولاي … أوَبلَغ بي الجنون أن أقدم على التغرير بك؟!
سليمان : أوَيستطيع العمل والنضال حقًّا أن يَظفَرا بمفتاح القلب المغلق؟!
الجني : ولم لا؟
سليمان : أخشى أن يكون اعتدادُك بقدرتك قد جاوز الحد!
الجني : كلَّا يا مولاي … إنَّ فَتْح المُغلَق لمن أيسر الأمور.
سليمان : قد يسهل عليك فتح كنز من الكنوز، أو حصن من الحصون، أو طلسم من الطلاسم … لكن القلب … القلب؟!
الجني : ليس أعسر منالًا من غيره يا مولاي!
سليمان : ما سبيلك إلى ذلك؟
الجني : العمل والنضال لانتزاع مفتاحه ممن استحوذ عليه!
الصياد : أهذا جائز في شريعة القلب والحب؟!
الجني : اسكتْ أنتَ أيها الأحمق؟
الصياد : قل لي … إلى متى أتحمل منك هذه القحَة؟!
الجني : إلى أن تخلع عنك رداء الخمول، وتنشط معي إلى الجهاد والجلاد.
الصياد : وما شأنك أيضًا بقلبي وحبي؟
الجني : ومن غيري صاحب الشأن في ذلك؟!
الصياد : يا لها من صفاقة وجه!
الجني : اسمع أيها الصياد … القلب والحب ميدان ككل ميدان، لا فوز فيهما ليائس جالس … انهض أيها البليد وكافِح واكسبْ من غريمك المعركة.
الصياد : غريمي؟ … ومن غريمي؟!
سليمان (يرفع رأسه) : أيها الجني!
الجني : لبيك أيها الملك!
سليمان : من يدري؟ … قد يكون في كلامك شيء من الصواب.
الجني : اعتمِدْ عليَّ!
سليمان : أَخبِرْني … ماذا ينبغي أن يتبع في هذا النضال الذي تقول عنه؟!
الجني : قبل كل شيء أَبْهِر عين من تحب.
سليمان : ثم ماذا؟
الجني : ثم أَظهِر ضَعْفَ غريمك لمن تحب.
سليمان : ما أراك جئتَ بطريف ولا بجديد؟!
الجني : وهل الحب نفسه شيء جديد أو طريف؟!
الصياد : إنك أيها الجني لستَ بإنسي حتى تعرف حقيقة القلب الإنساني؟!
الجني : قلتُ لك اسكت أنتَ بجهلك وغبائك! القلب الإنساني حقيقته أبسط من أي حقيقة … ما القلب؟ … أهو شيء غير مكان ككل مكان … وصندوق ككل صندوق، وحجرة ككل حجرة؟! … إذا دخَلَها شخص وأغلقت عليه، اختَلَط في ظلامها كل شيء بكل شيء … فلم يَعُد من المُستطاع تمييز الحُسن من القُبح، ولا النُّبل من الخبث … ينبغي أن يدخل تلك الحجرة بصيص من النور حتى تَتبيَّن الصفات الحسنة من العيوب!
الصياد : ومن أين نأتي بالنور؟
الجني : ننسجه من أشعة أفكارنا الباهرة، وشموع أصابعنا البارعة … أليست لدينا المواهب؟!
سليمان : آه … ما أبرعك حقًّا في ملء نفوسنا بالأمل.
الجني : الجئوا إليَّ دائمًا؛ وأنا الكفيل بانتصاركم!
سليمان : سنرى أيها الجني مصداق زعمك!
الجني : سترى عملي أيها الملك!
سليمان : لكن … الويل لك إذا بؤت بالخيبة!
الصياد : الويل له وحده يا مولاي. فها أنا ذا منذ الآن أُسَخِّف رأيه على رءوس الأشهاد!
سليمان : لن يغنيك ذلك شيئًا أيها الصياد! … أنتما الاثنان كائن واحد عند منح جزاء أو توقيع عقاب!

(يتركهما ويتجه إلى الانصراف.)

الصياد (يلكم الجني لكمة شديدة) : أسمعتَ أيها اللعين؟ … أسمعت؟
الجني (يفرك موضع اللكمة في غيظ) : دعني! … دعني!
الصياد (يركع عند قدمي الجني) : طَمئِنِّي بربك على مُستقبَلي!
الجني (يدفعه عنه) : اطمَئِن … اطمَئِن.

المنظر الرابع

(في الصرح العجيب … أرض من زجاج أبيض يبدو كأنه لُجَّة ماء … وفي صدر المكان فراش ورياش.)

الجني (يشير إلى كل ما حوله) : ألستَ الآن مبتهجًا فخورًا؟ … هذا عملنا!
الصياد : نعم … نعم … هذا علمنا.
الجني : كل ما ترى حولك وليد تَصوُّري.
الصياد : نعم … تصورنا.
الجني : لقد سَلَّمني سليمان قياد الأمر، وجعل كما تعلم كل من عنده من جن وإنس في عوني وخدمتي … وها هو ذا يظفر في زمن قليل بصرح هو أعجوبة الأعاجيب.
الصياد : من ذا يجسر بعد الآن أن يشك في عبقريتنا؟
الجني : إن كان هنالك أحد يشك فهو دائمًا أنت!
الصياد : أنا؟ … متى كان ذلك يا صديقي العزيز؟!
الجني : صديقك العزيز؟! … ما علينا … تعالَ وانظر بعينيك إلى هذه الفُرُش، والمس بيديك هذه التُّحَف … وقل لي هل تستطيع بلقيس أن تكتم عجبها وإعجابها أمام كل هذا؟!

(الصياد يخطو على الأرض البلورية رافعًا أطراف ثوبه دون انتباه.)

الصياد : إنَّ عَملَنا ومَجْدَنا خليقان أن يُنطِقا الجماد تسبيحًا بحمدنا!
الجني : يا صاحب المجد والعبقرية … فِيم ترفع ثوبك وتكشف عن ساقك؟!
الصياد : آه … حقًّا … لقد كدتُ أظن أني سَأبتلُّ بالماء.

(يسدل ثوبه كما كان.)

الجني : إنه قوارير وزجاج كما تعلم … تنسى عاجلًا صنعك وعملك؟!
الصياد : حقًّا لقد أتقنَّا فَنَّنا إلى حدٍّ يوقعنا نحن أنفسنا في شِبَاكه.
الجني : تكلَّمْ عن نَفسِك أنت … أما أنا فلم أقع.
الصياد : لا يقع إلا «الشاطر»!
الجني : ليس عندي شك في أنك صياد شاطر … دائمًا تقع في شِبَاكك.
الصياد : تلك علامة المهارة!
الجني : لديكم أنتم معشر الإنسان!
الصياد : إن أبدع خدعة تنسجها عقولنا لا يقع فيها أول الأمر غيرنا.
الجني : إذن فلي أن آمل في نجاح خطتي.
الصياد : خطتك؟ … ما هي خطتك؟
الجني : سوف تعرفها في حينها.
الصياد : يدهشني منك أنكَ قليل الثقة بي … وكأنك تخشى أن تطلعني على نواياك، وما كان أحراك أن تفعل حتى نتدبر كل شيء معًا! … ألسنا شبه كائن واحد … يَتحمَّل أحدنا تَبِعات فِعْل الآخَر … وينتظرنا في نهاية الأمر عين المصير.
الجني : كلَّا … إنما نحن من عنصرين مختلفَين، ولا بد لأحدنا من أن يسيء بالآخر الظن، ولقد كنتَ أنتَ البادئ!
الصياد : أيها الصديق العزيز … ليس الوقت الآن مناسبًا للخلاف والخصام!
الجني : يا لك من إنسان! ساعة ظفري وانتصاري تدعوني صديقك العزيز … أما إذا اكفَهَرَّ أُفُق الأمل؟!
الصياد : أملي فيك لم يخب لحظة … ما الداعي الآن لأن تثير في جو صفائنا هذا الغبار؟! … أَخبِرْني الآن أين سليمان؟!
الجني : مع بلقيس.
الصياد : أين؟
الجني : في السماء!
سليمان : لقد أخبَرتَنِي بهذا منذ قليل … ولكن … أي سماء تعني؟
الجني : أترى عيناك سماء أخرى غير هذه؟!
الصياد : أي الأعين تعني؟!
الجني : الأعين التي فوق أنفك.
الصياد : حقًّا … إنهما لا تريان غير هذه السماء الزرقاء ذات السحب البيضاء … ولكن كيف يكون سليمان وبلقيس في مثل هذه السماء؟
الجني : إنهما جالسان فوق بساط.
الصياد : بساط في هذا الفضاء؟
الجني : ولم لا؟
الصياد : عجبًا! … كيف يحدث ذلك؟!
الجني : كما حدَث للطير … أتعجب للهدهد وهو في السماء يطير؟
الصياد : كلَّا.
الجني : إذن لماذا تَعجَب للبساط وهو يطير؟
الصياد : لا لزوم الآن لهذا المزاح أيها الجني.
الجني : أتعودتَ مني المزاح من قبل أيها الصياد؟
الصياد : حقًّا … لم يكن قط بيننا مزاح … ولكن.
الجني : ولكن ماذا؟ … إن الفضاء الذي يحمل طائرًا ليستطيع أن يحمل كل شيء … ما وجه الغرابة والدهش؟!
الصياد : وهذا البساط يسير بِهمَا؟!
الجني : كالسفينة تدفعها يد الريح.

(بساط الريح وعليه سليمان وبلقيس في سماء الشرفة.)

الصياد (يلتفت) : انظر … انظر … ها هو ذا … ها هما ذان على بساط الريح.
الجني : أَجَل!
الصياد : يا لقوتك العجيبة أيها الجني العزيز! … في إمكانك إذن أن تصنع كل شيء؟!
الجني : كل شيء.
الصياد : نعم … نعم … كل شيء … في إمكاننا كل شيء … كل شيء.
الجني : آمنتَ بي الآن؟
الصياد : كل الإيمان.
الجني : هَلُمَّ بنا نخرج … ولنترك لهما المكان … ولا تحسب أني نسيتُ الرغبة المدفونة في أعماق قلبك.
الصياد : أي رغبة؟
الجني : حُبك القديم … هَلُم نبحث لك عنها؟
الصياد : كلَّا … كلَّا … لا أريد.
الجني : لا تريدها؟!
الصياد : لقد وعدتها أن أتركها وشأنها لقدرها.
الجني : آمن بي أيها الأحمق … أسلم أمرك لي وكفى.

(يجذبه إلى الخارج.)

(سليمان وبلقيس يهبطان الشرفة ويدخلان.)

بلقيس (على العتبة) : ما هذا أيضًا يا سليمان؟
سليمان : صرح شَيَّدتُه لكِ.
بلقيس : لي أنا؟
سليمان : نعم … تَقدَّمي.
بلقيس (تكشف عن ساقها وكأنها تخاطب نفسها) : كيف أجتاز هذه اللُّجَّة؟
سليمان (ضاحكًا) : إذا أذنتِ لي فإني أحملك.
بلقيس : وأنت؟ ألا تخاف البلل؟
سليمان : في سبيلك لا أخاف شيئًا.
بلقيس : تريد حَمْلِي على ذراعك فوق هذا الماء؟
سليمان : أرجو ذلك.
بلقيس : كما حمَلْتَني على بساطك فوق هذا الهواء!
سليمان : إنها لَسعادة كبرى أن يكون لذراعي حظ بساطي.
بلقيس : نعم … نعم … أدركتُ الآن ما تريد … فلتكن مشيئتك.
سليمان (يحملها ويجتاز بها أرض المكان نحو الفُرُش) : يتحدثون بكنوز سليمان … ولكني أحمل الساعة.
بلقيس (مازحة) : حَذارِ الغرق … يا له من بحر عجاج متلاطم الأمواج!
سليمان : إني حقًّا أخشى الغرق … ولكن.
بلقيس : ولكن ليس بالطبع في هذه اللُّجَّة من الزجاج!
سليمان (وهو يضعها فوق الفرش) : عسى أن تغفري لي هذه الأكذوبة الصغيرة!
بلقيس : لست أملك غير ذلك وأنا في يدك.
سليمان : إنكِ لستِ الآن في يدي … ها أنا ذا قد أجلستُكِ حرة فوق فُرُشك.
بلقيس : أتظن هذا يكفي؟
سليمان : وأجلستُكِ من قبل حرة فوق عرشك.
بلقيس : هذا حق … ولكن!
سليمان : ولكن ماذا يا بلقيس؟
بلقيس : وا أسفاه! كنتُ أحسبك يا سليمان صديقًا!
سليمان : عجبًا! … ما الذي بدَا لك؟
بلقيس : أشياء كثيرة ما كنتُ أرجو أن تبدو لعيني.
سليمان : أفصحي قليلًا!
بلقيس : أيجوز لي أن أفصح لسليمان … ذلك الذي يعرف كل لغة؛ حتى لغة الطير!
سليمان : هنالك يا بلقيس نوع من الطير لا أعرف لغته.
بلقيس : لماذا تنظر إليَّ هكذا؟!
سليمان : أريد أن أقرأ في عينيك جريمتي عندك؟
بلقيس : لا يا سليمان … لم يبلغ الأمر بعد حدًّا يستحق هذا النَّعت … كل ما في الأمر أني.
سليمان : تَكلَّمِي يا بلقيس.
بلقيس : أَخبِرْني لماذا تحاول أن تبهر عيني بكل هذه الأعاجيب؟
سليمان : وهل استطعتُ حقًّا أن أبهر عينيك؟
بلقيس : أهذا ما ترمي إليه؟
سليمان : في نَبراتِك ونظراتِك ما يُشبه النذير … لستُ أجد بَعدُ ما يَجدُر بي أن أقول.
بلقيس : يَجدُر بك أن تقول الصدق … يَجْدُر بكَ وبي أن نقول الصدق.
سليمان : آه … إن الصدق مخيف أحيانًا.
بلقيس : أهنالك شيء يُخيفكَ أنت يا سليمان؟!
سليمان : لستُ أدري … ربما أخاف كلمة تخرج من شفتيك الآن!
بلقيس : لن أقولها … مثلك يا سليمان ليس في حاجة إلى هذه الكلمة ليفهم.
سليمان : حتى الفهم أخشاه.
بلقيس : إني أرثي لك.
سليمان : ترثين لي؟
بلقيس : لو استطعتُ لكَ شيئًا غير ذلك ما ترددتُ.
سليمان : لقد قلتِ كل شيء الآن يا بلقيس … شكرًا لكِ.

(ينهض للانصراف.)

بلقيس (تنظر إليه ولا تدري ما تجيب) : ؟
سليمان : ؟
بلقيس : أتنصرف هكذا؟
سليمان : لستُ أظن أن لديكِ بَعدُ ما تقولين لي؟
بلقيس : كان بِوُدِّي مع ذلكَ أن أَتلطَّف في القول.
سليمان : وماذا يجدي هذا الآن؟
بلقيس : لقد قَدَّمتُ إليكَ صداقتي يا سليمان، ولكنكَ تسألني ما لا أملك أن أعطيك … (يطرق ويكتم ما به) ثق أني.
سليمان : أهو يعلم أن قلبك في قبضته؟
بلقيس : لستُ أدري … أخافُ مع ذلكَ أن يكون قد شعر.
سليمان : شعر بلهبه يلسع أصابعه!
بلقيس (تطرق) : ؟
سليمان : ولماذا تخافين أن يعرف.
بلقيس : آه … لا تسألني بربكَ يا سليمان.
سليمان : أريد أن تخبريني.
بلقيس : لم يَعُدْ من السهل عليَّ الآن.
سليمان : نعم … أرى أنه لم يَعُدْ من السهل عليك الآن أن تفضي إليَّ … قد كان يَسرُّكِ ذلك بالأمس.
بلقيس : نعم.
سليمان : إني مصغٍ إليكِ دائمًا يا بلقيس.
بلقيس : بربكَ يا سليمان؛ لا تسألني هذا.
سليمان : أتجدِين اليوم كل هذا الحَرج في أن تكشفي لي عن ذات نفسك؟!
بلقيس : ألا تستطيع الكلام في شيء آخَر غير هذا يا سليمان؟
سليمان (كالمُخاطِب لنفسه) : آه … كل الأبواب قد أُوصِدَت في وجهي الآن!
بلقيس : أخبرني … أحقًّا يا سليمان أن لك من النساء ألف زوجة؟!
سليمان (شارد الفكر) : نعم.
بلقيس : جميلات كلهن؟!
سليمان : نعم.
بلقيس : من بين نساء كل بلد من بلاد الأرض جاءت إليك أجملهن: نَبِيَّات الجمال يفِدن إليك برسالة الحسن؟!
سليمان : نعم.
بلقيس : أحقًّا كانت «شولميت» الحسناء بذلك البهاء الذي وصفتَ؟
سليمان (يرفع رأسه) : أقرأتِ نشيد إنشادي؟!
بلقيس : أوَنسيتَ أن يد حِكمَتك قد حرصت على أن تَدسَّه بين وسائدي؟ … كيف لا أقرؤه؟ … إني لم أستطِع النوم البارحة حتى تَلوتُه مَرَّات ومَرَّات … آه … ما أعذبَ هذه الكلمات «اسقِنِي قُبلات فَمك؛ فحُبُّك أشهى من الخمر، وعِطرُك طيبُ الشذا، واسمك ملء الفضاء عطرًا … لقد بحثتُ في فراشي الليالي الطوال عمن يهواه قلبي، فما وجدت إليه السبيل.»
سليمان (ناظرًا إليها في رنو) : ما أجمَلَكِ يا حبيبتي … ما أجملَكِ أنتِ بين النساء … كالسوسنة بين الأشواك … أنتِ جميلة مثل أورشليم … أنتِ رهيبة مثل جحافل ذات أعلام … حَوِّلي عينيك عني؛ فَلَقد أَلْقَتا الاضطراب في قلبي … من بين سِتِّين ملكة وثمانين مَحظِيَّة … من بين عذارى لا يُحصِيهن عَدٌّ … من بين ألف زوجة من حِسان الأرض … أنتِ وحدكِ حمامتي … أنتِ وحدكِ الكاملة.
بلقيس (هامسة وكأنها تخاطب شخصًا بعيدًا) : أنا لحبيبي، وحبيبي لي … كنتُ نائمة ولكن قلبي يقظان. فسمعتُ صوت حبيبي يقرع أذني … لقد كنتُ خلعتُ قميصي؛ فنهضتُ أرتديه … لقد كنتُ غسلت قدمي؛ فقمتُ أطأ بهما التراب … نشطتُ لصوت حبيبي … ولكن حبيبي كان قد مضى … وغاب؛ فكادَت تذهب بذهابه نفسي … بحثتُ عنه في الظلام فما وجدتُ إليه السبيل … ناديته فما أجاب.
سليمان (يتأمل جسمها) : ما أجمل قدميك وساقيك! إنَّ حُبك أشهى من الخمر، وشذاكِ أطيبُ من كل عطر … شفتاك تُقطران العسل يا جميلتي … (يشم طويلًا) ثيابك يَتضوَّع منها أريج لبنان … أنتِ جنَّة مُغلَقة … أنتِ نافورة انبثق ماؤها على صورة فردوس غُرِس فيه الرمان، وتَدلَّت العناقيد، ورَقصَتِ الزهور والرياحين؛ مِن مُرٍّ، وعُود، وناردين، وكل شجر يجعل منه البخور … ما أجملك يا حبيبتي! … عيناك مثل بحيرات «حشبون» وثَدياك أيلان، بل توأَمان من بطن غزالة … وعُنقكِ بُرج من عاج … وشَعرُكِ كأنه الأرجوان، قد شدت خصلاته وثاق ملك! … أنتِ نخلة وثدياك العناقيد … فليكن ثدياك مثل عناقيد الكرم، وعطر أنفاسك مثل رائحة التفاح، وفمك مثل أطيب الخمر.
بلقيس (كأنها تمد شفتيها لشخص وهمي) : يسيل سائغًا من أجل حبيبي، ويقطر صافيًا بين شفتيه … أنا لحبيبي وحبيبي لي … يا من يهواه قلبي … اجعلني خاتمًا تطبع به فؤادك … واجعلني خاتمًا على ذراعك؛ فالحب قوي كالموت … آه … أستحلفكن يا بنات أورشليم إذا وَجدتُنَّ حبيبي أن تُخبِرنَه أني من الحب مريضة.
سليمان (ناظرًا إلى بلقيس) : بم يَفضُل حبيبك الناس أيتها الجميلة بين النساء؟! … بم يفضل حبيبُك غيره من الرجال؟!
بلقيس (كالحالمة وكأنها تصف شخصًا بعيدًا تعرفه) : حبيبي كالفضة الممزوجة بالذهب … إنه يُميَّز من بين عشرة آلاف، رأسه ذهب إبريز، وخصلاته طائرة حالكة كأنها غراب، وعيناه حمامتان على حافَّة جدول تغتسلان في اللبن، وخَدَّاه خَميلة من الطِّيب، وشفتاه سوسَن يَقطُر منه العسل، ويداه طَوقان من ذَهَب مُرصَّعان بالزَّبرجَد … إنه جميل مثل لبنان … إنه جليل مثل الأرز … فَمُه هو الحلاوة، وكل شيء فيه هو السحر. هذا هو حبيبي … هذا هو خليلي.
سليمان (في نبرة غيظ مكتوم) : هذا هو أسيرك … أهو كذلك حقًّا؟!
بلقيس (كالحالمة) : نعم.
سليمان : يا لكِ من امرأة! … كل ما في نشيدي من صفات، أسبغتِها أنتِ على حبيبك؟!
بلقيس (تفيق) : ماذا تقول؟!
سليمان : لو كنتُ أعلم أنك ستسهرين لَيلتَك تُناجِين بأشعاري مَن تُحبِّين، ما دسستُها قط بين وسائدك!
بلقيس : حقًّا يا سليمان … شكرًا لكَ … لقد كانت ليلة جميلة!
سليمان (كالمُخاطِب لنفسه) : ما أقسى المرأة! … المرأة التي تحب!
بلقيس (تنتبه) : أتراني أحدثتُ بك ألمًا يا سليمان؟!
سليمان : أنتِ ولا ريبَ لا تدركين ما تفعلين بي.
بلقيس : عفوًا … إني … حقًّا … لم أفطن إلى ما خرج الساعة من بين شَفتَيَّ.
سليمان : لأنك لا تَشعرينَ بوجودي قربك … إنك لا تبصرين غير شَبحِه هو … ولا تخاطبين غير طَيفِه دائمًا.
بلقيس (في حيرة) : لم أَعُد أعرف يا سليمان بماذا أُجيبك!
سليمان : إنكِ المرأة الوحيدة التي صَنعَت بي … صَنعَتْ بي ذلك.
بلقيس : الوحيدة؟
سليمان : لم تضعني قط امرأة مثل هذا الموضِع الذَّليل.
بلقيس : إني لآسف!
سليمان : ما من امرأة قبلك سمعَت ندائي ولم تُقبِل عليَّ مُلقية بفؤادها عند قدمي.
بلقيس (في شِبه تَهكُّم خفيف) : إن جرمي إذن لعظيم؟!
سليمان : أَتتهكَّمين؟
بلقيس : بل إني لجادة في القول … أنا الوحيدة بين ألف امرأة على الأقل، لم أُلْقِ بفؤادي عند قَدميك! … إني لأتساءلُ مع ذلك: ماذا يهمك قلب واحد ما دمتَ تطأ قلوب نساء يحصين بالألف عددًا؟!
سليمان : وماذا تَهمُّني قلوب نساء الأرض جميعًا ما دام هنالك قلب واحد لا يستطيع صوتي أن يبلغ أعتابه؟!
بلقيس : حقًّا … هذا امتهان لسلطان سليمان العظيم!
سليمان : تعرفين ذلك وتقولينه؟!
بلقيس : ومع ذلك لم أُلْقِ بقلبي عند أقدامك.
سليمان : إنكِ ألقيتِ بي في التراب عند موطئ أقدام أَسيرك.
بلقيس : نعم.
سليمان : أَسيرُكِ الذي لا يملك من أمره عندي ما تِملِك نملة من تلك النمال التي أسمع دبيبها عند نعليَّ.
بلقيس : نعم.
سليمان : لو أن لكِ عينين تُبصرِين بهما مكان حبيبك من مقام سليمان؟
بلقيس : إني أبصر … مقامك في السماء، ومكانه في الرغام … ومع ذلك فلو أن قلبي في يدي ما زال حرًّا لمنحتُه إياه مرة أخرى!
سليمان : ماذا تقولين أيتها المرأة؟!
بلقيس : إن حبي ما ارتفع قط في عيني، وما حَسُن معناه في نفسي مثل الآن!
سليمان : هنيئًا لكِ به … لكن اعلمي أني لو أردتُ حقًّا أن أظفر بقلبك ما امتنع عليَّ ذلك!
بلقيس : أوَتستطيع؟
سليمان : إن الذي استطاع أن يرتفع بك إلى قمم السحاب، وأن يُسخِّر الريح في حَمْلِك، لقدير أن يهبط إلى أعماق نفسك، وأن يُغيِّر ويبدل في صفحات قلبك!
بلقيس (في شبه سخرية) : إني لحريصة على رؤية هذه الأعجوبة!

(تنهض.)

سليمان : سترينها!
بلقيس : إلى اللقاء إذن!

(تنصرف.)

(سليمان لا يجيب … ويُطرِق في غضب كظيم.)

(الجني والصياد يطلان برأسيهما من خلف باب.)

سليمان (كالمُخاطِب لنفسه) : ماذا صنعتُ يا رباه! … ما الذي وخزني هكذا، فخرجْتُ عن طوري بهذه السرعة!
الصياد (يتقدَّم مُتعثِّرًا في تَردُّدِه) : لعلكَ بخير يا مولاي!
الجني : كيف الحال يا مولاي؟
سليمان (يرفع رأسه صائحًا) : تَقدَّمَا أيها اللعينان الخادعان!
الصياد (يدفع الجني) : تَقدَّم أيها اللعين الخادع!
الجني : ماذا حدَث أيها الملك؟
سليمان : القلب … القلب أَبعدُ منالًا مما تظنان أيها الأخرقان! آه … كيف أصغي إلى هراء مُخلوقَين مثلكما! … أي عقاب أُنزِلُه بكما الآن؟!
الصياد : يعجبك هذا أيها الجني؟!
الجني : مولاي! … امض في نضالك … ولا تَفقِد الأمل وشيكًا!
سليمان : عنادك أيها العفريت سوف يُكلِّفُك ما لا تطيق!
الجني : إني راضٍ بِتحمُّل التَّبِعة أيها الملك.
الصياد : مهلًا … مهلًا … إني غير راضٍ، ولا شأن لي بهذا العفريت الماجن!
الجني : صه أيها الرِّعديد الخامِل … دَعْنِي أعمل!
سليمان : أوَأُصغِي إليكَ بعد الآن وقد جعلتني سخرية هذه المرأة؟!
الجني : صبرًا أيها الملك! … إنه لمن السهل أن نظفر بمأربنا.
سليمان : إنه لمن السهل أن نملأ البصر انبهارًا. وأن نهز النفس إعجابًا، وأن نقنع العقل بِقوَّتِنا، وأن نُبرِز ضعف غريمنا … دون أن نظفر بعد ذلك بِسِرِّ الحب أو نهتدي إلى فتح مغاليق القلب.
الجني : باب القلب ككل الأبواب … إذا لم يفتح بالمفتاح، فإنه يفتح بغير مفتاح!
الصياد : وكيف يُفتَح بغير مفتاح؟
الجني : يُحطَّم!
الصياد : هذا العفريت يا مولاي سيأتي إلينا بمصيبة!
الجني : دَعُوني أعمل! … دَعُوني أعمل!
سليمان : إياكَ أن تَمسَّ هذه المرأة بسوء.
الجني : لن تُمسَّ بسوء … وسَتفوزُ بها! … عندي الوسيلة الناجعة … ولكن الذي ينقصني هي الثقة! … الثقة بي! … ثِقوا بي!
سليمان : أَخبِرْني … ما وسيلتك؟
الجني : هذا الغريم الذي يسكن قلبها ويُوصِد بابه في وجوهنا.
سليمان : حذار أن يلحقه أذًى!
الجني : لا تَخْشَ عليه!
سليمان : ماذا أنتَ فاعل به؟
الجني : سأسحره حجرًا.
الصياد : شيء لطيف … أرأيت يا مولاي؟
الجني : اسكتْ أنتَ ولا تُفسِد تفكيري وتدبيري!
سليمان : وبَعْد؟
الجني : وبَعدُ أيها الملك … فإني سأجعل حول هذا الحجر حوضًا من الرخام … فإذا جاءتك حبيبته شاكية، فأخبِرْها أنها لو شاءت أن تَدُبَّ الحرارة في ذلك الحجر، وأن يعود حبيبها حيًّا كما كان؛ فعليها أن تبكي الليل والنهار أمام الحوض الرُّخامي، إلى أن يمتلئ بدموعها، عندئذٍ يستيقظ هذا الحبيب ممتلئًا حبًّا لمن أذابَت بماء عينيها جُمودَه الحجري!
سليمان : وكيف يُظفِرُنا هذا بما نريد نحن؟
الجني : لن أجيب الآن … سوف ترى أنتَ يا مولاي بعينيك.
سليمان : كدتُ أعتقدُ أني صبرتُ عليك أكثر مما ينبغي!
الجني : ثق بي أيها الملك … ثق بي … أنا الذي جاءك بعرشها، ألا أستطيع أن أجيئك بقلبها؟!
سليمان : أراك تُنفِق في ذلك وقتًا طويلًا!
الصياد : إنه كان يجهل يا مولاي أن الطريق إلى قلب إنسان أطول أحيانًا من الطريق أحيانًا من الطريق إلى بلاد سبأ!
الجني : آه … الحرية … الحرية … امنحوني بربكم حرية العمل!
سليمان : إنك لتزين لي الأفق بأشياء تكاد تعمي بصري، فلا أميز ما ينبغي مما لا ينبغي! … أآمرك أن تمضي أم آمرك أن تكف؟ … لقد تَركتُك بالأمس تَقودَني، فماذا جنيت؟
الجني : لكل ثمرة أوان أيها الملك … ولم يَأْنِ بَعدُ الأوان لِجَنْي هذه الثمرة! … انتظر يا مولاي! … انتظر حتى أدعوك لتمد يدك للقطاف!
سليمان : متى؟ … متى؟ … أتراني أمد يدي إلى سراب؟ … وأنا أمشي خلف هرائك البراق؟!
الجني : الأمل يا مولاي … الأمل … ما ضرك لو وضعتَ فيَّ أملك، وتركتني أعمل حتى أكلَّ؟
سليمان : حقًّا … لست أملك من الأمر الآن غير ذلك … رضيت أم كرهت! … افعل بي ما شئت … سأنتظر … ولن أملَّ الانتظار … مفسحًا لك في الأجل … ممكنًا لك في العمل … مشاهدًا لما تستطيعه قدرتك، متربصًا بما تأتي به عبقريتك! … اذهب أيها الجني، واصنع ما أنت صانع … دعني أبصر إلى أي مدى يقف سلطانك مكتوف اليدين!

المنظر الخامس

(مَخدَع في الصرح … بلقيس جالسة مُطرِقة تبكي أمام حوض رخامي قد رقد فيه تمثال حبيبها منذر المسحور حجرًا … وعلى مقربة منها وصيفتها شهباء.)

شهباء : ألا تستريحين لحظة مما أنت فيه يا مولاتي؟!
بلقيس : ؟
شهباء : أصغي إليَّ قليلًا.
بلقيس (ترفع رأسها) : دعيني يا شهباء! … دعيني!
شهباء : تَرفَّقي يا مولاتي بأجفانك وأهدابك!
بلقيس : لن تَجفَّ لي عين حتى ينهض حيًّا!
شهباء : لقد سهرتِ الليالي الطوال تبكين!
بلقيس : ولن أَكفَّ عن البكاء حتى يمتلئ الحوض!

(لحظة صمت.)

شهباء : آه … لَكم أَتألَّم لكِ يا مولاتي!
بلقيس : ؟
شهباء : ألا أستطيع لك شيئًا؟
بلقيس (في شبه همس) : كلَّا يا شهباء.
شهباء : ألا أُعاونكِ فأبكي معك؟
بلقيس : لا … أريد أن أشتري حياتَه بدموعي وحدها!
شهباء (تنظر في الحوض) : لقد كاد الحوض يمتلئ بدموعك … ولكنكِ كدتِ تذوبين تعبًا … إنما هي روحك كلها تسيل فوق هذا الرخام!
بلقيس : وأي بأس في ذلك ما دام فيه رد روحه إليه؟!
شهباء : إن تضحيتك لهائلة يا مولاتي!
بلقيس : إني مسئولة عن حياته … ولقد فقدها بسببي؛ فلأردنها إليه مَهما يكن الثمن!
شهباء : لماذا صنع ذلك سليمان؟
بلقيس : لستُ أدري!
شهباء : ألم يَقل إنه فعل ذلك لخيرك؟!
بلقيس : لستُ أدري بعد إن كان هذا لخيري أو لشري؟!
شهباء : مثل هذا الملك لا يستطيع أن يُخلِف وَعْدَه!
بلقيس : هذا كل أملي.
شهباء : نعم … لا أحسبه يريد أن يهزأ بنا!
بلقيس : أمن حق نبي حكيم، وملك عظيم، أن يُذِلَّ قَلْب امرأة، ويَسخَر من جلال ملكة؟!
شهباء : هذا حقًّا أمر مُروِّع يا مولاتي!
بلقيس : لقد فَعلَه مع ذلك!
شهباء : أَجَل … ضحكاته كل مساء، وهو يشرف عليكِ من هذا الدهليز، ويقف ينظر إليكِ لحظة وأنت تبكين، ثم ينفجر ضاحكًا ذلك الضحك الراعد القاصف، ثم يمضي إلى حال سبيله تاركًا صدَى تلك الضحكات يهز أركان المكان.
بلقيس : وأركان قلبي أيضًا!
شهباء : لماذا تَحدَّيتِ قُوَّته يا مولاتي؟
بلقيس : ما كنتُ أحسبه يُقدِم على مثل هذا؟
شهباء : إن الذي في يده القدرة يُقدِم على كل شيء، وينسى كل شيء!
بلقيس : نعم … نعم.
شهباء : ليس في يدنا نحن على أي حال غير الانتظار!
بلقيس (كالمخاطبة لنفسها) : ويا له من انتظار!
شهباء : لن تطول آلامك يا مولاتي! … إن دموعك كادت تغمر قلب حبيبك المسحور!
بلقيس : أحقًّا يا شهباء؟ … انظري جيدًا … فإن عيني قد كَلَّتا … إذا غَمرتِ الدموع قلبه فإن الحوض يمتلئ؛ وعندئذٍ.
شهباء : وعندئذٍ يَتفتَّت الحجر، وتَدب فيه الحياة، وينهض «منذر»؛ ليلقي بنفسه في أحضان الجالسة إلى جواره تبكيه وتفديه.
بلقيس : أترين في الإمكان أن يتم ذلك في القريب؟
شهباء : يُخيَّل إليَّ أنه أقرب مما نظن!
بلقيس : وا فرحتاه!
شهباء (تنظر في الحوض) : أمامك فيما أرى قطرة أخرى أو قطرتان.
بلقيس : إذا كنتِ واثقة مما تقولين، فلتكن إذن دمعة الفرح … وإني لقديرة أن أذرف منها قطرات وقطرات!

(سليمان يظهر في الدهليز.)

شهباء (تلتفت في صيحة خافتة) : يا للهول!
بلقيس : ماذا؟

(سليمان ينظر إلى بلقيس ويضحك طويلًا.)

بلقيس (دون أن تلتفت إليه) : هذا أنت؟
سليمان : أوَليس هذا وقت مجيئي؟
بلقيس : نعم … جئتَ على عادتك … تُمتِّع عينيك بمرأى دموعي!
سليمان : آه … لو علمتِ كم يلذ لي مرآها! … إنها تثلج قلبي … لكأنه يغتسل فيها، ولكأنه يُغْمَر في ليلة من ليالي الصيف في حوض من المثلوج الزلال.
بلقيس : إنما أذرف دمعًا سخينًا أيها الملك!
سليمان : إن قلبي ليحسه رطبًا باردًا أيتها الملكة!
بلقيس : ليس يعنيني غير قلبه هو … قلبه الحجري أيها الملك … أيها النبي! … لقد وعدتَ أن ترده إليَّ نابضًا!
سليمان : سأفعل أكثر من ذلك!
بلقيس : ماذا؟
سليمان : لقد وعدتُك بأعجوبة؛ سترينها ولا ريب من أمتع الأعاجيب!
بلقيس : متى ذلك؟
سليمان : الآن إذا شئتِ … تعالي معي لحظة أحدثك عنها في ضوء هذا القمر الساطع!
بلقيس : لا … لا أستطيع الآن مغادرة هذا المكان … لم يَبقَ على بعث منذر سوى قطرات …
سليمان : إنما أردت أن أحدثك عنه، وعمَّا سترينه منه عند بعثه الآن.
بلقيس : ماذا سأرى منه؟
سليمان : تعالي أخبرك … انهضي … لن أشغلك عنه طويلًا.
بلقيس (وهي تنهض) : لا أسمح لك بغير لحظة قصيرة.
سليمان : وأنا لا أريد غيرها.

(تذهب بلقيس مع سليمان ويخرجان، وتبقى شهباء مُطرِقة في أحد الأركان … يدخل الجني والصياد في ذيله.)

الجني : لا تمسك بتلابيبي الآن … اذهب إليها ودعني الساعة أمامي عمل هائل!
الصياد : لا أريد ذلك … لا أريد أن أذهب … لا ترغمني على ذلك أبدًا!
الجني : قلتُ لك اذهب إليها أيها الأحمق! … إنها تنتظرك في الحديقة.
الصياد : لم أعد أحبها! … ليس لي بها شأن اليوم.
الجني : ارتعادك يَنمُّ عن حبك … اذهب!
الصياد : إنها لم تُخلَق لي … إنها لم تُجعَل لمثلي … إنها زوجة سليمان … كيف أرفع البصر إلى زوجة من زوجات سليمان؟!
الجني : لسليمان ألف زوجة، ولن يضيره أن ينزل لك عن واحدة إذا علم أنها هي صاحِبتُك القديمة التي اشتريتَها بثمن لؤلؤتك!
الصياد : لا أيها الجني … لا تجعلني أفعل هذا!
الجني : آه أيها الأحمق! … في يدك القدرة على أن تنال ما تريد … ولكنه الخمول! … الخمول!
الصياد : لا أيها الجني … إنما هو … هو شيء في نفسي؛ لستُ أدري ما هو، يَهتِف بي أن هذا الأمر لا يحسن بي أن آتيه.
الجني : لا يوجد شيء يهتف بك غير الخوف والفَرَق والقعود عن المغامَرة، والرغبة عن الكد والجهد والمخاطرة!
الصياد : أتوسل إليك … أن … ألَّا تغريني بما لا يجوز!
الجني : أفي كل خطوة تَتردَّد وتَتعثَّر وتُجادل؟ … أهذه أول مرة أقودك فيها إلى مصيرك السعيد؟ … أَصغِ إلى نصحي! … اعمل بما قلتُ لك!
الصياد : ماذا قلت لي؟
الجني : لا شيء بغير عمل، اطلبْ تَنل!
الصياد : أطلب ماذا؟
الجني : حبك.
الصياد : أين أطلبه؟
الجني : عندها هي أولًا … ثم عند سليمان … اذهب إليها وحادِثْها وفاتِحْها … ثم اذهبْ إليه وحادِثْه وفاتِحْه!
الصياد : أمن الحكمة أن أصنع ذلك؟
الجني : يا لهذا المُغَفَّل الذي يتكلم عن الحكمة، وفي يده مفاتيح النجاح!
الصياد : قد يكون في يدي حقًّا مفتاح النجاح … ولكن.
الجني : ولكن ماذا؟ … ماذا؟ … أريد أن أفهم ما الذي يَحُول بينك وبين غرضك؟
الصياد : يحول دون ذلك.
الجني : أف … لكأن يدًا أخرى خفية تجذبك إليها كلما أردتُ أنا أن أجذبك إليَّ.
الصياد : ما أراكَ صدقتَ في شيء مثل هذا أيها الجني … الحق أني أكاد أُمزَّق بين هذا الجذب وذاك … تَرفَّقْ بي … دَعنِي أتنفَّس … إني في حاجة إلى الراحة!
الجني : اذهب وتنفَّس في الحديقة … إنها خير مكان لذلك!
الصياد : سأذهب … ولكني لن أحادثها.
الجني : ستحادثك هي … وعندئذٍ تَشجَّعْ … وتذكَّرْ نصائحي وتكلم!
الصياد : اللهم عونك!

(ينصرف.)

الجني (يتجه إلى ناحية شهباء المُطرِقة) : ماذا بكِ أيتها الوصيفة الرشيقة؟!
شهباء (ترفع رأسها وكأنها تخاطب نفسها) : مولاتي.
الجني : لقد أقصاها سليمان قليلًا عن هذا المكان! … وذلك عمل صائب!
شهباء : أفي تلك اللحظة ولم يبق أمامها سوى قطرتين.
الجني : لقد كُتِبَ لهما أن تسيلا من عينين غير عينيها!
شهباء : ويلاه!
الجني (في ابتسامة) : ولماذا تفزعين أيتها الوصيفة الأمينة!
شهباء : عينان غير عينيها؟! … أبعد أن بكت تلك الليالي الطوال كل هذا البكاء؟!
الجني : وماذا يعنيكِ أنتِ من هذا الأمر؟
شهباء : كيف تقولُ لي ذلك يا هذا؟
الجني : هنالك امرأة أخرى كذلك كانت تبكي في صمت داخل قلبها، دون أن تسمح لدمعها أن يسيل.
شهباء : لا … لا.
الجني : لقد كانتْ تدفنُ حُبَّها في أعماق نفسها، وتطويه في أكفان من الكتمان، راجية أن يموت مختنقًا، قبل أن يظهر له شبح على مرآة عينيها الجامدتين!
شهباء (في ارتياع) : صه! … صه!
الجني : إنها كانتْ تُحبُّه هي أيضًا! … ولكنه حُبٌّ فظيع … ذلك الذي لا يجرؤ صاحبه أن يهمس به حتى في حنايا الصدر المغلق!
شهباء (مرتاعة) : بربك اسكت يا هذا … اسكت … اسكت!
الجني : لو استطاعتْ هذه المرأة أن تطلق من صدرها زفرة، وترسل من عينها دمعة، لَعدَّتْ نفسها أسعد المخلوقات، ولما سألتْ في الحياة بعد ذلك شيئًا.
شهباء : لا … لا … لا أريد … لا أريد!
الجني : بل يجب أن تريدي!
شهباء : اذهب عني يا هذا … أَتوسَّل إليكَ أن تذهب … لا ينبغي أن أصغي إليك!
الجني : بل يجب أن تصغي إليَّ … لأن كلماتي تَصبُّ في نفسك تلك القوة التي تبعث فيك الحياة … يجب أن تريدي … اطلبي تنالي.
شهباء : لا … لست أطلب شيئًا … هذا فظيع.
الجني : عجبًا لكم! … ما هو هذا الشيء الفظيع! … ما دام ذلك في الإمكان؟ … ما دمتُ أعطيك القدرة على أن تظفري … ليس أمامك إلا أن تطرحي يأسك واستسلامك … وتأملي وتعملي …
شهباء : لستُ أريد … لستُ أريد ذلك الحب!
الجني : لن تكوني خائنة لمولاتك.
شهباء : صه! … صه!
الجني : ثقي أنها ليست خيانة منك لمولاتك … ولكنها … ولكنها خيانة كبرى لحبيبك … نعم … من يدريك أن مولاتك عائدة إلى هذا المكان؟!
شهباء : أو لن تعود لتحيي الفارس المسحور؟!
الجني : من يدرينا؟!
شهباء : لا تَقُل إنك لا تدري؟! … هذا مخيف … إذا لم تَعُد فإنه سيبقي هكذا حجرًا.
الجني : إلى الأبد … أرأيتِ واجبك الآن؟ … أرأيتِ فظاعة ما تصنعين؟ … إنك تتركين حبيبك حجرًا … وفي إمكانك أن تَردِّي إليه الحياة بِعَبرة من عبراتك المكتومة.
شهباء : آه … رباه! … رباه!
الجني : أَقدِمي ولا تَردَّدي!
شهباء : بربك لا تجعلني أُقدِم على ما لا ينبغي أن أقدم عليه.
الجني : إذا كان لا ينبغي لك أن تُقدِمي على إنقاذ هذا الرجل المنحوس … فلا تفعلي!
شهباء : آه يا إلهي! … أريد إنقاذه … ولكن.
الجني : ولكن ماذا؟ … في يدك الآن مفتاح حياته.
شهباء : لو علمتُ كم أُعطِي في سبيل ردِّ هذه الحياة إليه.
الجني : لا يكلفك ذلك أكثر من دمعتين.
شهباء : لا تَقُل هذا … لا تَقُل هذا … رُوحِي كلها غير جديرة أن تُقدَّم إليه!

(تبكي … فيأخذ الجني يدها ويقودها إلى الحوض وهي لا تشعر … فتتساقط فيه دموعها.)

الجني (فرحًا) : مرحى! … مرحى! … ها أنت ذي قد بكيتِ … يا لها من عَبَرات! … لكأنها صاعدة من نَبْع سحيق!

(يُسمع صوت راعد ويُرى برق لامع.)

شهباء : ربَّاه! … ربَّاه!
الجني : تَحرَّك الحجر!
شهباء (في صيحة فرح) : منذر! … منذر!
منذر (ينهض قائمًا) : حبيبتي … مُنقِذَتي.
الجني (كالمُخاطِب لنفسه) : الآن وقد تَمَّت مهمتي فلأدعكما هانِئَين ناعمين … ولأنصرف إلى عمل آخر!

(يذهب.)

منذر : أنتِ يا شهباء فعلتِ هذا من أجلي؟!

(شهباء تغطي وجهها بكفيها.)

منذر : لماذا تُخْفين وجهكِ في كفيك؟!
شهباء (دون أن ترفع يديها عن وجهها) : منذر!
منذر (يجذب يديها) : دعيني أتأمل عينيك!
شهباء : لا … لا … إني.
منذر : ماذا بك؟ لماذا تَضطَرِبين؟ … ما الذي يخيفك؟
شهباء : أرجو منك أن … أن تتركني وشأني.
منذر : عجبًا … أهكذا تخاطبين مَن أعطاكِ قلبه.
شهباء : إنه ليس لي … إنه ليس لي.
منذر : بل هو لك يا شهباء!
شهباء : لا! … لا! … إني لستُ به جديرة!
منذر : إنه مِلكُك … لقد اشتريتِه بدموعك!
شهباء : آه … ربَّاه … ماذا أقول لك؟
منذر : لا تقولي شيئًا! … حسبي ما أعرف.
شهباء : لا … لا أستطيع أن آخُذَ هذا القلب.
منذر : شهباء.
شهباء : إنه ليس لي … إنه ليس لي … دموعي ليستْ وحدها الثمن.
منذر : وإذا رَأيتِني أَخرُّ هكذا عند قدميك مُقدِّمًا قلبي إليكِ أتجرئين على المُضِيِّ في قَسوتِك، فَتأبَين قبوله من يدي؟

(يجثو عند قدميها … ويَظهر عندئذٍ سليمان باسمًا يقود بلقيس … فتقف بلقيس مذهولة أمام هذا المنظر.)

شهباء (تحاول إنهاضه بيديها) : منذر! … إني … لستُ وحدي التي بَكَتْك!
منذر (دون أن ينهض) : بكاؤك وحده هو الذي هز نفسي.
شهباء : إن الحوض لم يمتلئ بعبراتي … إني لم أذرف غير قطرتين!
منذر : هاتان القطرتان هما اللتان بَلغَتا قلبي.
شهباء : آه لو كنتُ أرى حبي خليقًا بك؟ … ولكني لستُ وحدي التي تُمنحُك حبها!
منذر : حبك وحده هو الذي يعنيني!

(ينهض ويُطوِّقها بذراعيه ويُقبِّلها.)

(بلقيس شاحبة بلا حراك كالميتة!)

سليمان (ضاحكًا) : أرأيتِ يا بلقيس؟! … تلك أعجوبتي!

(بلقيس تنهار، فيسندها سليمان وقد انقطع ضحكُه فجأة وتَغيَّر وجهه.)

المنظر السادس

(البهو الكبير في قصر سليمان … سليمان مُطرِق حزين، وأمامه الكاهن صادوق.)

صادوق : لا تحزن أيها النبي ولا تُلْقِ بالًا إلى ما حدث.
سليمان : صادوق؟!
صادوق : لقد اتَّخذَ شَعرُك لون الرماد! … إنك لَتتهدَّم بين يوم وليلة! … لا تُفكِّر أيها النبي في هذا الأمر بعد الآن!
سليمان : كيف لا أفكر فيه … كيف استطعتُ أن أصنع هذا؟
صادوق : إنك لم ترتكب خطيئة … ثق أيها النبي بحقيقة نُبوَّتك المُنزَّهة عن الخطايا …
سليمان : أيها الكاهن! … أيها الكاهن! … إني أمنعك من أن تذكر بعد اليوم أني معصوم!
صادوق : إني لا أرى سوءًا فيما صنعتَ.
سليمان : لقد صنعتُ أمرًا لا ينبغي أن يصنعه نبي!
صادوق : أَلأنك أحببتَ امرأة؟
سليمان : بل لأني استخدمتُ وسائل فظيعة لقهرها وتعذيب قلبها … لقد أردتُ التَّشفِّي مِن صَدِّها برؤية دماء نفسها تشخب، وجراح فؤادها تسيل … حتى انهدَّت بين يَدَي، وانهارَتْ وأنا أرسل في وجهها الشاحب الضحكات!
صادوق : إن ربك قد وضع في يدك القدرة، وقد استخدمتها!
سليمان : إنه أيضًا قد وضع في رأسي الحكمة؛ فكان يجب أن أرى بها!
صادوق : إنك قد رأيتَ بها وترى في كل حين … وليس من حقك يا سليمان الحكيم أن تعلن أنك أَتيتَ أمرًا غير حكيم!
سليمان : أيها الكاهن … لماذا تحاول دائمًا أن تبرر أخطائي؟!
صادوق : هذا عملي!
سليمان : مرحى! … مرحى لنبي تحتاج فِعالُه إلى دفاع.
صادوق : عجبًا؟! أوَلَا تريد دفاعًا وتبريرًا لأعمال النبي؟
سليمان : كنتُ أحسب النبي في غير حاجة إلى ذلك!
صادوق : وما تكون إذن صناعة الكهنة ورجال الدين؟
سليمان : لا شأن لي بصناعتهم … ولكني كنتُ أَودُّ لو أَصيح في الناس: أيها الناس لقد ارتكبتُ معصية، قد لا يأتي مثلها شركم روحًا وأخبثكم نفسًا!
صادوق (يلتفت حوله فزعًا) : صه … صه … اخفض من صوتك يا سليمان، لئلا يسمع الناس قولك هذا!
سليمان : ومم تخشى؟
صادوق : عجبًا! … أوَتريد أن يعلم الناس أنك تخطئ مثلهم؟!
سليمان : بل أريد أن يعلموا أني أخطئ أحيانًا أكثر منهم! … وأني لم أُمنَح نفسًا من جوهر غير جوهر نفوسهم … وأني لست خيرًا منهم في شيء … إلا في ذلك الألم الذي يشقيني كلما تذكرت خطيئتي … وفي ذلك الندم الذي يهز كياني، وفي التماس التوبة الصادقة، والتوجه إلى ربي طالبًا المغفرة.
صادوق : إن قولك هذا خطير أيها النبي!
سليمان : إنه الصدق! … الصدق … لا شيء أجدر بنبي غير الصدق.
صادوق : إنما النبي هو الصورة المثلى التي لا يجب أن ترى فيها الأعين عوجًا، ولا تقع منها الأبصار إلا على جمال وكمال.
سليمان : آه لكم أيها الكهنة … بل أيها الفنانون المَثَّالون المُصوِّرون … إلى متى تَعتبرون النبي تُحفة فنية، خارجة من بين أياديكم وخيالكم وأصباغكم؛ لتعرض زاهية بَرَّاقة على جدران المعابد؟!
صادوق : ما دمتَ تريد الصدق يا سليمان … فلأقل لك إنك قد صدقتَ … إن الدِّين فَنٌّ … فَنٌّ علوي سماوي … من أَجْل هذا وجب أن نرعى فيه أصول الفن: الجمال والكمال!
سليمان : كلَّا يا صادوق! … في نظركم أنتم فقط أيها الكهان هو كذلك … لأنكم أصحاب صناعة وبراعة … أما في نظر الحق فهو ليس فنًّا … لأنه أصدق من أن يدخل في تركيبه البهرج والحذق والتمويه والتزويق … إن الدين هو حقيقة القلب الإنساني؛ بما فطر عليه من خير وشر … إنه الإحساس المُجرَّد بقصورنا نحن الآدميين عن بلوغ الكمال؛ وسعينا المُتَّصل نحو الخير، مُتعثِّرين أحيانًا في أذيال غرائزنا الشريرة … الدين أمل وعزاء! … نعم إنه الأمل والعزاء الصاعدان من أعماق تلك الدعوة الصادقة أيها السموات! … إني أريد الخير ولكني أخطئ … فأعِنِّي أيها الرب على تَحمُّل وَقْر ضَعفي، وتَبِعات زِلَّاتي وبَصِّرني بالطريق كلما أوشكت على العثار … وحبب إلى نفسي الفضائل، واجعلني قادرًا على أن أسمو على نفسي بعض السُّمُو؛ لأكون جديرًا ببركاتك التي كَلَّلت بها هامة الإنسان، يوم خلقته من طين بيديك النُّورانِيَّتين!
صادوق : إنك تُبالِغ أيها النبي في تقدير ما صنعتَ بهذه المرأة!
سليمان : اذهب عني … إنك تحجب عني بتُرَّهاتك ضوء السماء!
صادوق : إني تاركك يا سليمان حتى يهدأ بالك وتعود إلى سابق حالك.

(يخرج.)

(سليمان يطرق … موسيقى … يدخل آصف.)

آصف : قد فعلتُ أيها الملك ما أمرتني به.
سليمان (يرفع رأسه) : حبستَ الجني؟
آصف : نعم … حبسته في القمقم النحاسي … أألقي به في البحر؟
سليمان : تَمهَّل قليلًا … أين الصياد؟
آصف : الصياد؟ … لم تأمرني بعد بما أصنع به.
سليمان : لا تصنع به شيئًا … أحضِرْه.

(يظهر الصياد في الحال.)

الصياد : ها أنا ذا أيها الملك … إني ببابك … أرقب كلمتك وانتظر حكمك.

(سليمان يشير إلى آصف بالانصراف.)

سليمان (للصياد) : تنتظر حكمي فيك؟
الصياد : نعم يا مولاي.
سليمان : إني لستُ قاضيك!
الصياد : ماذا تقول؟ … بل أنت يا سليمان … لأنك أعدل مَن حكم فوق هذه الأرض!
سليمان : لستُ الآن خليقًا بالفصل في أمرك.
الصياد : لا تقل ذلك أيها النبي الحكيم!
سليمان : لقد اقترفتُ أنا أعظم مما اقترفتَ أنت من خطيئة.
الصياد : ماذا أسمع؟!
سليمان : تلك هي الحقيقة!
الصياد : وما مصيري إذن؟ … ويلاه! … إذا لم تحاكمني أنت يا سليمان، فقد يتولى ذلك قاض آخر أخشى قسوته.
سليمان : من هو؟
الصياد : نفسي!
سليمان : نعم … نعم … ويل لمثلك من نفسه إذا كانت هي قاضية! … أنا أيضًا أخشى ذلك القاضي ولا أجد من ينقذني منه.
الصياد : أنت يا مولاي؟
سليمان : كنت أظن الكاهن صادوق يستطيع ذلك … وا أسفاه!
الصياد : هَوِّن عليك يا مولاي! … لكأني بك قد شِخْت دفعة واحدة في شِبْه ليلة … آه لو كنت أستطيع لك شيئًا!
سليمان (ينظر إليه مليًّا) : بل أنت الذي يستطيع أيها الصياد.
الصياد : أنا؟!
سليمان : أنت الخليق أن يكون لي قاضيًا ينقذني من حكم نفسي.
الصياد : أنا الصياد الحقير!
سليمان : أنت وحدك الذي يملك محاكمة سليمان العظيم!
الصياد : لماذا أيها النبي؟ … لماذا ترفعني إلى هذه المرتبة؟
سليمان : لأنك تحمل قلبًا نقيًّا.
الصياد : لم يعد لي القلب النقي … لقد أغراني الجني يا مولاي كما تعلم بالذهاب إلى الحديقة!
سليمان : ولكنك لم تجرؤ على الدُّنُو منها … ولا على مخاطَبَتها.
الصياد : لقد نظرتُ إليها من بين الأشجار، وذَكرْتُ أنها زوجتك، فجمدت في مكاني.
سليمان : ما جريمتك إذن؟
الصياد : الإصغاء إلى إغراء العفريت … أليس هذا ذنبًا كبيرًا؟!
سليمان : ولكنَّك عُدتَ فأصغيتَ إلى صوت حكمتك وضميرك، قبل أن تسير خطوة نحو الخطيئة … ولكني أنا … أنا الذي سار في طريقها خطوات!
الصياد : إنك يا مولاي قد عُدتَ فندمتَ … وبهذا مَحوتَ ما صنَعَته يد الجني.
سليمان : وهل يمحو الندم أمطار الذنوب؟
الصياد : إذا صدر عن قلب صادق … نعم.
سليمان : أحقًّا تراني مستحقًّا للرحمة؟!
الصياد : بقدر استحقاقي أنا للنقمة … أيها الملك حاكمني … ليس يكفي حبسك الجني في القمقم؛ فأنا شريكه … المسئول كما تعلم عن فعاله … أنسيت يا مولاي أننا في نظرك كائن واحد؟ … أنسيت أن على كاهلي تقع أثقال أعماله؟ … أيها الملك … أيها النبي … أنزل بي عقابك العادل!
سليمان : أوَلست أيها الصياد مثلي ضحيته! … ولئن كنتُ أنا قد انخدعتُ بألفاظه، واغتررتُ بأوهامه، فكيف يجوز لي أن ألومك أنت؟!
الصياد : أحقًّا تراني يا مولاي لا أستحق عقابًا؟
سليمان : ما دمتَ قد ندمتَ هذا الندم الصادر عن قلبك الصادق.

(يدخل آصف.)

آصف : أيها الملك … الملكة بلقيس قادمة لوداعك!

(آصف يفسح الطريق للملكة بلقيس وهي قادمة بالثوب الذي جاءت به إلى أورشليم … موسيقى.)

سليمان (ينهض لاستقبالها) : بلقيس!

(ينصرف الجميع تاركين سليمان وبلقيس وحدهما.)

بلقيس : جاءت ساعة رحيلي … وإني لأشكرك على حسن ضيافتك.
سليمان : لو كنتُ أستطيع أن أُنزل بنفسي العقاب أمام عينيك قبل ذهابك؟!
بلقيس : انسَ ما حدَث يا سليمان.
سليمان : كيف أنسى ذلك؟!
بلقيس : لقد نسيتُ أنا كل شيء بزوال تلك اللحظة المُروِّعة، كما يُنْسَى الحلم المزعج بمجرد استيقاظنا!
سليمان : ما كان ينبغي لي أنا أن أُحدِث لك حلمًا مزعجًا!
بلقيس : لقد محوت ما صنعت، وأعدت كل شيء إلى ما كان.
سليمان : نعم … وأي فضل لي في ذلك؟
بلقيس : إنها كانت أعجوبة على كل حال من بين أعاجيبك … لقد غمرتني حقًّا في عالم من الأحلام الغريبة … منها المفرح ومنها المحزن … منها المدهش ومنها المؤلم … وإني لأستيقظ من كل هذا الآن.
سليمان : تستيقظين وأنتِ كما أنتِ … وقلبك هو قلبك … وما صنعنا شيئًا أكثر من أولئك المشعوذين الذين يبهرون الأبصار بما لديهم من خدع وخيالات!
بلقيس : لا تقل ذلك يا سليمان … أنت حقًّا صاحب قدرة هائلة.
سليمان : ما قيمتها؟ … ماذا بلغتُ بها؟!
بلقيس : لن أنسى أنك رفعتني على بساط الريح إلى السماء.
سليمان : وما نفع هذه السماء؟! … وماذا قدَّم ذلك عندكِ أو أخَّر؟ … كلمة جميلة من بين شفتي مَن تُحبِّين هي وحدها القديرة على رفعك إلى السماء … إلى تلك السماء الحقيقية التي تقصر عنها إرادة الإنسان!
بلقيس (تتنهد) : صدقت يا سليمان!
سليمان : إني عجزتُ عن نفعك ونفع نفسي! … في يدي القدرة الهائلة … في يدي الأعاجيب والعبقرية والمواهب … في يدي الكنوز … أنا الملك العظيم، والنبي الحكيم … أنا المسيطر على الجن والإنس، والرجال والأموال … مع ذلك … هل أَجْدَى كل هذا شيئًا أمام قلبك؟!
بلقيس : حقًّا يا سليمان … إن قلب الإنسان لهو الأعجوبة العظمى!
سليمان : أَجَل يا بلقيس.
بلقيس : أُعجوبة مُوصَدة أمام القدرة.
سليمان : وأمام الحكمة.
بلقيس : نعم.
سليمان : بماذا تفتح إذن مَغاليقها؟
بلقيس : لستُ أدري.
سليمان : نعم … هنالك شيء مفتاحه في يد الرب وحده.
بلقيس : يدهشني أنكَ كنتَ تجهل ذلك يا سليمان!
سليمان : هي القوة يا بلقيس … تُعمي بصائرنا أحيانًا عن رؤية عجزنا الآدمي، وتُنسِينا ما مُنِحنا من حكمة … وتُزيِّن لنا المُضِيَّ في كفاح لا أمل فيه … فنسير بغرورنا تحت نظرات الرب الساخرة … آه يا بلقيس! … ما ظنك بي بعد اليوم … وما لون ابتسامتك إذا ذُكِرَت أمامك بعد الآن حكمة سليمان؟!
بلقيس : لا تَخشَ شيئًا … إني أَفهمُك وأُدرِك ما أنتَ فيه!
سليمان : آه يا بلقيس! … ليس يخشى على الحكمة من شيء غير القدرة!
بلقيس : هذا صحيح يا سليمان.
سليمان : الآن أدركتُ لماذا أعطاني ربي ما لم أسأل … وهو السلطان والغنى والقدرة، إلى جانب ما سألت؛ وهو التمييز والحكمة … ها هنا الامتحان العسير! … ها هنا الامتحان العسير!
بلقيس : حقًّا … ما أعسر الملاءمة بين هؤلاء جميعًا!
سليمان : ربما كانت الحكمة الحقيقية هي في أن يعرف الإنسان كيف يحكم قدرته! … وهأنذا قد فشلت في ذلك … وإذا بصيرتي تطفأ لحظة تحت رياح قدرتي العاتية.
بلقيس : هَوِّن عليكَ ولا تأخذ نفسك بهفوة واحدة!
سليمان : إن الأمر لأعظم من هفوة … إنها غلطة كبرى … إنها أخطاء.
بلقيس : مِن هذه الأخطاء تَبرُز أحيانًا بصائرنا متفتحة كما تتفتح الأزهار النابتة في الأوحال.
سليمان : بلقيس! … أأنا جدير بهذا التسامح الكريم منك؟ … أمن فَمِك أنتِ أسمع هذا العزاء الجميل؟!
بلقيس : نعم أيها الصديق … من ذلك الفم الذي لم يستطع أن يُسمِعك ما أحببتَ.
سليمان : آه … لو كنا ندري؟! … إن الحب لَقَدر … قَدَر صارم … يضرب ضربته حيث يريد هو.
بلقيس : لا حيث نريد نحن … أصبتَ يا سليمان.
سليمان : لا ينبغي مع ذلك أن نَكرَه هذا كثيرًا! … يجب أن تكون فينا زهرة لم تُرْوَ، وجوع لم يشبع، ورغبة لم تُنَل، وصيحة لم تُسْمَع … بهذا نستطيع أن نكون جَديرِين حقًّا بالحكمة والتمييز، خَلِيقِين بفهم القلب الإنساني ومخاطبته … قَديرِين على أن نحمل إليه العزاء، ورسالات السماء.
بلقيس : إني لفخورة يا سليمان أنكَ أحببتني يومًا … وخَجِلة أني لم أمنحك.
سليمان : إني راضٍ الآن بصداقتك … وهي شيء أعظم مما أستحق.
بلقيس : هي شيء عظيم حقًّا … ولكنكَ خليق بها … آه يا سليمان … هو أيضًا قد وَهبَني صداقته بعد أن علم بأمر دموعي.
سليمان : لا تُذكِّرِيني بدموعك!
بلقيس : إنها مع ذلكَ لم تذهب هباء.
سليمان : لو كان في استطاعتي أن أمنحكِ قلب منذر.
بلقيس : قلبه كان ملكًا لشهباء منذ أَمَد بعيد دون أن أعلم.
سليمان : منذ أمد بعيد؟!
بلقيس : نعم منذ أن وقع في الأسر وجاء قصري وأَبصَرَها.
سليمان : أتحاولين أن تُخفِّفي من وَقْر ذنبي؟!
بلقيس : لا … بل هي الحقيقة التي كانت خافية عني … إن وفاء شهباء قد استطاع أن يكتم طويلًا ذلك الحبَّ بينهما … إن هذه المرأة الأمينة قد فَعلَت المستحيل لتدفع عن نفسها شَبَح ذلك الحب، إرضاء لي وخشية عليَّ.
سليمان : ولكنكِ تألَّمتِ.
بلقيس : نعم … أول الأمر … ولكني الآن أفهم وأبصر كما ينبغي أن أفعل … إذا أذنتَ فإني أمنح شهباء ومنذرًا بعض ما أهديتَ لي اليوم من نفائس، هدية مني لعرسهما؛ قبل رحيلهما إلى بلاد منذر.
سليمان : ألا تخشين إطلاق أسيرك؟
بلقيس : الآن لا.
سليمان : أَجَل … إن الصداقة شيء عظيم … إنها الوجه الآخر غير البَرَّاق للحب … ولكنه الوجه الذي لا يصدأ أبدًا.
بلقيس : وداعًا أيها الصديق!
سليمان : وداعًا أيتها الصديقة.

(تعزف موسيقى، ويدخل الوزير آصف والرؤساء ليشيعوا الملكة بلقيس مع سليمان وهما خارِجان.)

المنظر السابع

(في الصرح … سليمان نائم على كرسيه متكئ على عصاه … الكاهن صادوق وآصف بن برخيا، والصَيَّاد يتهامسون.)

الكاهن : لا يمكن أن يكون نائمًا طول هذا الوقت!
آصف : ما مِن مرة سألتُ عنه إلا وجدتُه على هذه الحال.
الصياد : صه … اخْفِضا صوتكما … لئلا توقظاه.
الكاهن : لسنا نطلب غير هذا … إنا لم نره قط مستيقظًا منذ شهور.
آصف : حقًّا … بعد سَفر بلقيس أخذَتْ أموره تَتغيَّر وبدَت عليه علامات لا تنبئ بخير.
الكاهن : يُخيل إليَّ أنه مرض … ولكنه كان يَكتُم مرضه.
آصف : نعم … إن أمْرَه مكتنف بالغموض إلى حد يثير القلق.
الكاهن : ما من أحد يعرف سره غير هذا الرجل

(يشير إلى الصياد.)

آصف : حقًّا … هذا الصياد هو وحده الذي كان مُقرَّبًا إليه في العهد الأخير … ولطالما ألفيتُهما معًا مُنفردَين يتسارَّان.
الكاهن : تكلم أيها الصياد!
الصياد : صه! … صه!
آصف : ألا تريد أن تتكلم؟!
الصياد : عَمَّ أتكلم؟ … لستُ أعرف أكثر مما تعرفان!
آصف : أَخبِرْنا ماذا به؟!
الصياد : ما به شيء … إنه نائم على عصاه كما تريان!
الكاهن : منذ متى؟
الصياد : لستُ أدري!
الكاهن : متى رأيتَه مستيقظًا؟ … متى تَحادثتُما آخر مرة؟
الصياد : لستُ أذكر!
آصف : إنكَ إذن تتعمد أن تخفي عنا.
الصياد : أخفي ماذا؟
آصف : أَمْرَه.
الكاهن : إذا لم تخبرنا فإني أذهب إليه وأعالج إيقاظه.
الصياد (يسد الطريق) : لن يدنو منه أحد وأنا هنا!
آصف : عجبًا! … عجبًا.
الكاهن : مَن مَنحَك كل هذا الحق؟!
الصياد : هو … أَمَرني أن أسهر على راحته … ولا أدَع أحدًا يزعج نومه!
الكاهن : أَطلِعْنا على جلية الأمر … أهو حقًّا نائم؟
الصياد : وماذا يكون إذن؟
الكاهن : في الحق إنه أمر مُحَيِّر!
آصف : لماذا لا تلتمس له الطب؟
الصياد : مَن قال إنه يشتكي؟
آصف : هذا النوم الطويل.
الصياد : هذا ليس مرضًا … قلتُ لكما إنها راحة هو في حاجة إليها.
الكاهن (يلتفت جهة سليمان) : عجبي لهذا الجثمان الجامِد فوق كرسيه؟! … لا حركة، ولا هزة، ولا إشارة، ولا خلجة!
آصف (يلتفت أيضًا) : حقًّا … يا له من جثمان ليس به حراك!
الكاهن : أيمكن أن يكون في هذا الشيء الجامد حياة؟!
الصياد : ما هذا الهراء الذي تقولان؟!
الكاهن : إذا مات سليمان يومًا … فإنه لا يموت كبقية الناس … ذلك أن صدى موته قدير أن يزلزل أركان مملكة الجن ومملكة الإنس في طرفة عين!
آصف : لا شك أنه عرف ذلك وتَدبَّره.
الصياد : لماذا تتحدثان عن الموت الساعة؟!
الكاهن : إنه مجرد خاطر عابر.
آصف : ما السر في أنه مقيم ها هنا في صرح بلقيس الذي شيده لها؟! … لقد جاءه، بعد رحيلها … وما غادره قط.
الكاهن : سر ذلك عند الصياد.
الصياد : ألن تَدعَا الصياد وشأنه! … لطالما حدَّثَتْنِي نفسي أن آخذ شَبَكتي وأعود إلى حرفتي.
الكاهن : وما الذي يمنعك؟
الصياد : يمنعني.
آصف : تَكلَّم!
الصياد (يلتفت جهة سليمان) : صه! … سمعتُ حركة.
الكاهن : أين؟
آصف : انظروا … انظروا.

(عصا سليمان تَتفتَّت … وينهار جثمانه على الأرض.)

الكاهن : جثمان!
آصف : خَرَّ على الأرض! … خَرَّ على الأرض!

(يهرعان نحو الجثمان صَائِحَين، فيعترضهما الصياد.)

الصياد : اخفضا من صوتكما.
الكاهن : ومم تخشى الآن؟
الصياد : حذارِ أن تسمع الجن بأمر موته!
الكاهن : صدَق حدسي … لقد كان ميتًا منذ زمن طويل.
آصف (يفحص الجثة) : نعم … نعم … كان متكئًا على عصاه جثة هامدة، منذ أمد بعيد … ولكَنَّها الأَرَضَة؟
الكاهن : أيُّ أَرَضَة؟
آصف (يشير بأصبعه) : انظر إلى هذه الجيوش الجرَّارة من دابة الأرض حول عصاه … إنها كانت تقرضها كل هذا الزمن حتى نَخرَتها … فانكسرَت تحت ثقل جثمانه.
الصياد : والآن … ماذا أنتما صانعان؟
الكاهن : فلنضع الجثة أولًا فوق هذا الفراش، ونسدل عليها الأستار.

(يَحملونَها ثلاثتهم إلى الفراش ويُسدِلون عليها الستر.)

آصف : وبعدُ؟
الكاهن : وبعدُ … فلا بد من أن يعلن الأمر إلى الشعب.
الصياد : لا مَفرَّ من ذلك إذن؟!
الكاهن : وهل في ذلك ريب؟!
الصياد : لقد كانت كلمته الأخيرة لي: (فليعلم الجميع أني نائم؛ فلا يلمسني أحد!).
الكاهن : عجبًا! … أو كان يريد أن يحكم رعيته من الجن والإنس وهو مَيِّت كما حكمهم وهو حي؟!
الصياد : ربما كان يحسب ذلك في الإمكان … ولعله كان يخشى انفلات أمر الجن، ووقوع الفوضى بين مملكة الإنس، فظن من الحكمة لخير رعيته، أن يصنع ما صنع … لقد نفذت مشيئته على كل حال كما رأيتما … فكتمت خبره ما استطعت حتى عنكما … ولكن مشيئة الله أرادت — فيما أرى — أن تسخر مما نسميه حكمتنا … وها هي ذي أرضة ضعيفة عمياء قد أفسدت حساب سليمان الحكيم العظيم!
الكاهن : إن مشيئة الرب قد أرادت كذلك أن يقوم الكهنة ورجال الدين بِعمَلِهم … هَلمُّوا بنا نشرع في طقوسنا.
الصياد : لم يَبقَ لي الآن مقام ها هنا.
الكاهن : تعال مَعَنا … لم لا تكون منا.
الصياد : بل إني عائد إلى حرفتي الأولي.

(ضجة في الخارج … وأصوات غريبة.)

الكاهن : ما هذا الضجيج؟
آصف : هم ولا شك الجن … علموا بموت سليمان … هلم بنا سريعًا نتدبر الأمر.

(يخرج آصف والكاهن صادوق.)

(الصياد يحمل شبكته ليخرج … وإذا الجني داهش بن الدمرياط يدخل ضاحكًا ضحكات طويلة.)

الصياد : عجبًا … من الذي أطلقك من القمقم؟!
الجني : هذه المرة لستَ أنتَ بالطبع.
الصياد : أعرف … هذا ما توقَّعَه سليمان … لقد ثُرتُم وانطلقتم يُخرِج بعضكم بعضًا من القماقم … أليس الأمر كذلك؟ … آه … ماذا أنتم صانعون في الأرض؟!
الجني (يضحك) : الآن … نحن أحرار فوق هذه الأرض؛ فأبشر أيها الصياد.
الصياد : بماذا تبشرني؟
الجني : بِقتلِك شَرَّ القتلات … أنسيتَ أن بيننا حسابًا قديمًا؟!
الصياد : لقد صفيناه … وقَتلتَنِي وانتهى الأمر!
الجني : متى ذلك؟
الصياد : منذ وضعتُ روحي الوادعة وحياتي الساذجة بين يديك، فصنعتَ بهما ما أردت.
الجني : ولكنَّكَ عدْتَ فانفلتَّ من يدي، ووافقتَ على حبسي.
الصياد : لأن الحكمة عادت إلى نفسي.
الجني : دع الحمق وأصغ إليَّ … أنا الآن حر … حر من كل القيود … لا سيد لي ولا عمل … فما تقول لو جعلتُك ملكًا على هذا الشعب، وزوَّجتُك من حبيبتك اليوم، وهي أرملة من أرامل سليمان … وفتحتُ لك الكنوز، وأتيتُ لك بالمجد والسلطان؟!
الصياد : ؟
الجني : لماذا تنظر إليَّ هكذا؟!
الصياد : آه لو استطعتُ أن أحبسك في شبكتي هذه.
الجني : أيها الأبله … هذه جعلت لتحبس فيها نفسك الصغيرة … اذهب.
الصياد (يتحرك) : إني ذاهب.
الجني : اذهب بخيبتك.
الصياد (يقف) : أتستطيع أن تخبرني أيها الجني، ما نفع كل هذه الأشياء التي تغريني بها؟ … لقد كان سليمان يملكها كلها … ألم تكن له كنوز الأرض؟ … ألم يكن له السلطان والمجد؟ … ألم يتزوج نساء فوق الحصر والعدد؟! ومع ذلك خَرَّ كل هذا؛ كأن لم يكن، أمام كلمة صغيرة هي لا … ارتسمَتْ على شفتي امرأة واحدة! … لا تُحاوِل بعد اليوم أن تغريني بقدرة آدمي! … كلما أسرفنا في الانخداع بملكاتنا، جعلتنا السماء موضعًا للهزء والسخرية … هو ذا الآن سليمان … قد قَلَبتْ كل جلاله وعَبَثتْ بكل جبروته أَرَضة تسعى على الأرض، فَهَوى بِصولَجَانه المنخور … أيها الجني … ما عاد شيء يبهرني أو يغريني … حتى ولا الحكمة نفسها! … إن اليوم الذي يمتلئ فيه الحكيم شعورًا بحكمته، هو أقرب الأيام إلى ساعة انكشاف الرداء عن حمقه المضحك! … إنك تتحدث عن خيبتي … ولكني ما شعرت يومًا بالخيبة الحقيقية إلا يوم عرفتك … فعلى قدر الطموح تكون مرارة الفشل … وكلما عَظُمَت القدرة ضَخُمَ ذُلُّ الخيبة.
الجني : أعترف بأني لستُ أفهمك … فأنا لم أعتد التفكير إلا في الظفر والانتصار … ما ألذ نشوة الفوز! … إنها تُنسِي كل شيء غيرها … وتساوي كل ما يُبذَل في سبيلها.
الصياد : إنها النشوة على كل حال … أي سكر وغيبوبة وخدعة.
الجني : لا تَسخَر من كلماتي … ولا تُحاوِل أنت أيضًا أن تغريني بحكمتك الخاملة … لن تثبط عزيمتي بمثل هذا الهراء.
الصياد : كما تغريني أغريك. وكما تخدعني أخدعك … وكما تنازلني أنازلك.
الجني : عجبًا … كنت أحسب أني أجابه سليمان وحده … وقد مات سليمان.
الصياد : مات … ولكن بذرة الحكمة في سليمان لم تمت … ها أنا ذا أمامك أُجابِهُك … استَعدَّ إذن … فالحرب بيننا سجال.
الجني : إلى متى أيها الصياد؟
الصياد (باسمًا) : إلى نهاية الدهور والأجيال.
الجني : إلى اللقاء إذن.
الصياد : إذا أردت لقائي … فأنت تعرف مكاني … وأرجو أن لا أراك بعد اليوم في شبكتي داخل قمقم!
الجني (باسمًا) : ستجدني داخل لؤلؤة في بطن سمكة … أنا لا أيئس منك أبدًا.

(يسمع دق طبل حزين … ويدخل موكب رائع يتقدمه الكاهن صادوق والكهنة وآصف بن برخيا، وأتباع … كلهم مطرقون … ويكشف الستار عن جثمان سليمان … ويحمل على الأعناق … ويخرج الموكب على دقات الطبول في سكون رهيب.)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤