الفصل التاسع

فيما كان الأميرال وزوجته وابنته مسترسلين إلى الفرح باللقاء بعد طول الفراق، دخل خادم يُنبِئ بقدوم الآنسة دي موري قائلًا إنها في البهو، فصاحت لورانس وجعلت يدها على فؤادها الواجِف، وكاد يغيب رشدها لمَّا رأت ابنتها التي تركتها مريضة متألِّمة قد عادت إليها مُمَتَّعَة بالعافية بارزة في أبهى حُلَّة من الجمال، فتمتمت الكلام قائلة: بوليت، ولم تُزِد لأن الفتاة وثبت إلى أمها وتعانقتا، ودوى صوت القبلات والزفرات معًا، ولما أخذت الابنة تُحَدِّث أمها بما جرى بينها وبين أبيها، انقشعت سحابة عن ذهن لورانس وصاحت تقول: ذلك لأنه يحسبني مجرمة. فقال لها والداها: ما معنى هذا الكلام؟

فكادت تتكلَّم، إلا أنها تذكَّرَت قسوة أبيها، فنظرت إلى أمها وخفضت رأسها كأنها تُقِرُّ بذنبها.

وبعد هُنيهة، خلت لورانس ببوليت فقالت لها: لقد رُمِيتُ يا ابنتي بتهمٍ لم أشأ أن أدفعها عني، أما الآن فلا أرضى بأن ترتاب بي ابنتي أيضًا، فاصغِي إليَّ واذكري تربيتي إيَّاكِ على الفضائل السامية، أجابت: إني أذكر ذلك. قالت: فهل تصدِّقين أن أمكِ كانت زوجة خائنة؟

فصاحت: لو اتهمتِ نفسكِ لكذَّبتُكِ، فهل تريدين أن أوضِّحُ لكِ فكري تمامًا؟ إنكِ ولا شك كنتِ فدية لإخلاص شريف حتى أقرَرتِ بأنكِ مذنبة.

فاغرورقَت عينا لورانس بالدموع وقالت: لله در فؤادكِ الطاهر يا بنيَّة، وحسبي مكافأة على ما لقيت هذه الكلمة التي نطقتِ بها بعدما أملاها عليكِ قلبُكِ السليم. نعم، يوجد واجب سامٍ عظيم أكرهني على الكتمان، وكنتُ كاذبة حين اتَّهمتُ نفسِي. قالت: ولمَ ذلك الكذب؟ أجابت: كذبتُ منعًا لوقوع مصيبة هي أكبر من مصيبتي! قالت: وكيف تتحملين وحدكِ تبعة إثم أنتِ بريئةً منه؟! أجابت: لم أتحملها وحدي، ولكن تحمَّل تلك التبعة أيضًا شخصٌ آخر. قالت: فماذا حدث لذلك الشخص الآخر؟ أجابت: إنه جاد بروحه، أما أنا فجُدتُ بشرفي. فاصفرَّ وجه بوليت وقالت: ومن ذاك الذي قُتِل؟ أجابت: إن اسمه سرٌّ لا يطَّلِعُ عليه أحد، وأبوكِ نفسه يجهله، وهو الذي قتله! وكان الواجب يقضي عليَّ بأن أُطلِعَ الكونت على هذا السر، فلما عزمت على القيام بذلك الواجب ثار سخط زوجي، ولعنني والدي، وفقدتُ صبري وشجاعتي ورُشدي … نعم، كنتُ مجنونةً، ولم يذهب جنوني إلا حين لقيتكِ، أما الآن ففي طاقتي أن أُبرِّر نفسي؛ أي أنْ أحمل الكونت دي موري على التندُّم؛ لأنه قتل رجلًا بريئًا، وطردني من بيته ظلمًا، وأحلَّ غيري محلي، ولكن تلك زلَّات لا يمكن إصلاحها وتداركها … أما أنتِ يا ابنتي فلا بد لكِ من تناسي ما كاشفتُكِ به؛ إذ لا بد من أن أبقى الزوجة الخائنة الساقطة.

قالت: ومع ذلك فإنكِ … قالت: دعي عنكِ هذا ولا تدعيني أندم على بثِّ سرِّي لكِ، ولا تهدمي ما شيَّدتُهُ، بل اكتمي السر، فهل تعدينني بالكتمان؟ أجابت: سأكتُمُ سرَّكِ يا أماه دون أن أفهم ما تريدينه مني سوى أنكِ كنتِ «فدية الشرف».

ورأت لورانس اصفرار ابنتها، فحاولت تغيير الموضوع وابتسمت وقالت: لنتكلم عنكِ الآن: حدثيني بكل ما جرى لكِ منذ ما فارقتُكِ إلى حين لقيتكِ، فقد علمتُ بما أصاب العمة باسيليك رحمها الله، وقد كانت تحبكِ، وبكيتها كأنها لا تزال شقيقتي، ولكن كلميني عن تلك البلاد الجميلة التي كنا سُعداء فيها … كلميني عن الأحباب الذين تركناهم.

فعلا الاحمرار وجه الفتاة، وبدأت تُحدِّثُ والدتها عن هوى طاهر نشأ بينها وبين شاب كان يعطِف عليها في غياب أهلها، وهو جاستون دي فاليير، إلى أن قالت: اعلمي يا أماه أنني أموت ولا أتزوج غير ذلك الحبيب.

فضمتها لورانس إلى صدرها وقالت: ثقي يا بنيَّة أن جاستون دي فاليير سيغدو زوجكِ، ولستُ أعرف مثله كفؤًا لكِ، ويسرُّني أن يكون الوصي على هنائكِ، وبعد هُنيهة تفارقتا، فرجعت بوليت إلى بيت أبيها.

أما الكونت دي موري فلم يتلقَّ خطبة أنيبال لابنته إلا بعد جدال كما يذكر القرَّاء، وقد تمثَّلَ لذهنه قُبح هذا المشروع، إلا أن الإفلاس قضى عليه بقبوله؛ لأن شرفه وحياته كانا رهن ذلك القبول، ولو درى أن بوليت قد وهبت فؤادها لخطيب آخر لعدَّ عمله جريمة، وكان ارتباكه عظيمًا حين أتى أنيبال يذكِّره وعده، فأجابه: بحقِّكَ لا تكلمني عن هذا الأمر اليوم، بل أمهلني بضعة أيام أيضًا.

فأجابه الإيطالي بجفاء، قال: لما كان الغرض إنقاذك من العار والفضيحة لم أستمهلك أيامًا ولا ساعات؛ بل جئتك ويداي مفتوحتان، وقلتُ لك: أبشِر بالسلامة وإليك شَرْطي، فقبلته واتفقنا، إذن عليك أن تكلِّم الآنسة بوليت اليوم. أجاب الكونت وهو منكسر القلب: إني وعدتُكَ ولا أخلف وعدي.

واجتاز بهوًا إلى مخدع ابنته، وكانت قد عادت من زيارتها الأخيرة، فقال لها: هل رجعتِ مع وصيفتكِ الآن؟ أجابت: نعم. قال: ليست هذه الوصيفة بالرفيقة الصالحة لكِ، ولكن سوف تكون لكِ وصيفة أصلحُ منها … ولكنكِ لم تخبريني، هل لقيتِ جَدَّيكِ؟

أجابت: نعم، فهل تمنعني من أن أزور منزلهما؟ قال: لا، فاطمئني واذهبي إلى منزلهما حينما تشائين.

فطوَّقَت عنقه بساعديها شاكرة، فقال لها بعد أن نظر إليها مليًّا: وددتُ لو أراكِ على الدوام كما أنتِ الآن، وهذه أول مرة بعد قدومكِ من الهند أرى في وجهكِ أمارات الحب لي كما كنت أراها قبلًا، قالت: ولكن هذه أول مرة تلاقينا فيها على انفراد.

فتردَّد في إخبارها عن السبب الذي من أجله خلا بها، ثم قال في نفسه: لست أستطيع أن أكشِف لها الستر عن حقيقة حالي، وأبين لها الضرورة القاضية عليَّ بأن أُزوِّجها من لا تحب، ولكن يجدر بي أن أعهد بهذه المهمة إلى الأميرال وزوجته.

وفي اليوم التالي قصد إلى منزل الأميرال، إلا أنه لم يكن في البيت، فأشار عليه الخادم بأن ينتظره في البهو هنيهة ريثما يعود. فقال الكونت: لا بأس، أنتظر. قال الخادم: هل تأمرني بأن أنبئ سيدتي عن قدومك؟ أجاب: بلا شك.

وقد عنى الخادم بقوله «سيدتي» لورانسَ نفسها؛ لأنها أقامت في بيت والديها بعد أن نقلت إليه أمتعتها، غير أن الكونت لم يفهم مراد الخادم؛ بل ظنه يعني زوجة الأميرال، ولذلك كان اضطرابه عظيمًا حين رأى لورانس مقبلة عليه، فصاح: أنتِ في هذا البيت!

فجمدت لورانس؛ لأن لهجته حين تلفَّظ بهذه الجملة كانت تشفُّ عن سُخطٍ ووعيد واحتقار. فقالت له: إنك طردتني من بيتك، فهل أتيت لتُعنِّف والدي ووالدتي على كرامة أخلاقهما من نحوي؟ فأجابها: لا يحق لي النظر في أمركِ، ولكن لو عرفتُ أنكِ ها هنا لما بعثتُ ابنتي إلى هذا البيت، ولا أتيتُ إليه.

قالت: إن ابنتك هي ابنتي أيضًا، ولم يدُر في خلدي إبعادها عنك …

ثم انخفض صوتها وهي تقول: إن الحظ المشئوم قد جمعنا الآن، ولعلك تستخدم هذه المصادفة لتحرمني حق اجتماعي ببوليت مرة ثانية … وما دمت قد رضيت عن تعذيبي، ولم يبقَ لديك وسيلة لتزيد بها عذابي، فأنا أتركك وحدك.

قال: بل البثي هنيهة، وما دامت المصادفة جمعتنا فلننتهز هذه الفرصة للاتفاق على أمرٍ يهمنا نحن الاثنين؛ أريد أن أكلِّمكِ عن ابنتنا.

قالت: ما عسى أن تقول لي أكثر مما قلتُه لنفسي؟ فإن سُخطك قد تجاوز كل حد؛ لأنك تأبى عليَّ أن أرى ابنتي، فما عسى أن تروم مني بعد؟

أجاب: أروم أن تفهمي أن ما فعلتُهُ لم يكن من سُخط جنوني كما تظنين؛ فالحكم الصادر بقطع كل صلة بيننا يخوِّلني حق الوصاية الشرعية على بوليت والرعاية لها دونكِ، وإنما صدر هذا الحكم حمايةً لمستقبلها وشرفها. قالت: لم يخطر ذلك ببالي قط. فازداد حنق الكونت برغمه، فقال: ثم إن هذا الحكم يُراد به أن لا يضطر الزوج المخدوع إلى أن يلمس بشفتيه جبين ابنته فيجد عليهما أثر قبلات الزوجة الخائنة.

فارتعدت لورانس من هذه الوقاحة، وقالت: أيُّ رجل أنت؟ …

أجاب: أنتِ صيَّرتِنِي إلى ما ترين.

قالت: وكيف ذلك؟

أجاب: إن الغضب الذي أورثتني إياه خيانتكِ يعدل حبي السابق واحترامي لكِ، فلا تستعطفيني؛ لأنكِ تستعطفين غير راحم.

قالت بحدَّة: إذن لا تتكلم عن حب سابق؛ فالرجل الذي يتجنَّى عليَّ بهذه الشدائد لم يحبني قط، ولما سمع الكونت روجر هذه الكلمات نسى كل شيء إلا أمرًا واحدًا حقيقيًّا هو أن حبه السابق لا يوازيه حب آخر، فضحك كمدًا وقهرًا، وقال مخاطبًا نفسه: إنها تجسُرُ على اتهامي بأنني لم أحبها! رباه، إنها تجسر على ذلك!

ورفع يديه إلى السماء يستشهِد الله على كذب هذه التهمة، ثم قال: إنها تجسر على ذلك، وأنا الذي وهَبَ لها حياته، وناضل سريرته وفؤاده، حرصًا على هواها وكانت في أثناء ذلك تخونني دون أن يخطر في بالها أنني قد أموت يأسًا وغمًّا!

والظاهر أن هذه الكلمات لم تقنع لورانس؛ لأن الأعمال كانت مكذِّبة للأقوال، فابتسمت وقالت: أنت تموت يأسًا وغمًّا؟! لعمري إنك تعزَّيت سريعًا، وكانت سلواك موازية خطر الموت الذي تدَّعِي وجوده. فدنا منها وهو يصرف بأسنانه وقال لها: نعم، لقد أسرعتُ في الاقتران بامرأة أخرى، وهذا ما تقولينه الآن، ولكن من يدري أن تلك السرعة لم تكن ناجمة عن رغبتي في الانتقام منكِ؟

فخامر فؤادها فرحٌ لا يوصف، وقالت بصوتٍ خافِت: أحقًّا أنكَ تعذَّبت كثيرًا؟ فقبض على ساعدها بعنفٍ وقال: هل تظنين أنني تمكَّنتُ بسهولة من انتزاع هواكِ الواشجةُ عروقه في قلبي منذ ثمانية عشر عامًا؟

وكانت هذه الكلمات في أذن لورانس كرَنَّات المثالث والمثاني، وخُيِّلَ لها أنها ترى الماضي ينشط إلى الظهور في مظهر جديد من الهوى، ولذَّ لها أن تشهد عذاب زوجها في هواها، فغمغمت تقول: أحقًّا أنك بكيت كثيرًا؟ فتقهقر عنها، وأبرز لها وجهه حتى تتفرَّس فيه على نور النافذة، وقال لها بخشونة: انظري إليَّ، انظري إلى وجهي الشاحب، وعينيَّ الخامدتين، وشعري الأشيب، ولا تسأليني عما إذا كنتُ قد تعذَّبتُ، فما ترينه من أمارات الأسى كان من عمل يومٍ واحد، بل من عمل ساعات، إنكِ صيَّرتِنِي شيخًا في ساعاتٍ معدودة! لا جرم أن حبي إيَّاكِ كان عظيمًا حتى لقيتُ ذلك العذاب.

قالت: والآن؟ فصاح: والآن قد حلَّت البغضاء محل ذلك الحب الأعمى، أجل، أنا أبغضكِ بكل قوى شرفي المفقود وتذكراتي وآمالي الضائعة، فافهمي ما أقول، إنني أبغضكِ.

فتهلَّلَ وجهها وصاحت: أنت تبغضني! أنت تبغضني! أعِد على سمعِي هذا الكلام، فإنه يرنُّ في فؤادي ويطربني أكثر من بث الهوى، ويلذُّ لي سماعه في كل ساعة. لقد كنتُ أحسبُكَ غير مكترث فكدتُ أهلك شَجَنًا، أما الآن ففي طاقتي أن أحيا؛ لأن سخطك ووعيدك أنعشا قواي، وأعادا إليَّ بسالتي، فلو لم تكن تهواني لما أبغضتني.

فكاد يقع في مكانه ولم يقوَ على الاحتجاج، وقال: هل تبلغ به النذالة هذا الحد؟

فتمشَّت إليه وقالت: نعم، فإنك لا تزال مقيمًا على حبي! … بيني وبينك ذلك الهوى الذي تروم أن تقضِي عليه وهو لا يزداد إلا تمكُّنًا ورسوخًا، فافعل الآن ما تشاء، فكل ما يحلُّ بي منك عذبٌ لذيذ، حتى غضبك وجفاؤك وخشونتك.

قال لها: بحق السماء، اسكتي.

فرفعت رأسها وقالت: افعل ما شئت، وأنكِر هوايَ، إلا أنك أسيري، وكل شيء فيك يحتجُّ عليك. افعل ما شئت فلا أبالي، خذ ابنتك وحرِّمها لقائي، وأبقِها لنفسك وحدك، فإنك تنظر إليَّ حين يقع بصرك عليها … وإنك تشعر بقبلاتي حين تُقَبِّلُكَ، وتلثمني حين تعكف على لثمها.

فحاول الانصراف متوكِّئًا على المقاعد والجدران وهو يقول لها: بربِّكِ اسكتي. قالت: نعم أسكت بشرطٍ واحد، تجرَّأ وقُلْ إنك لا تحبني.

فحاول الكذب وقال: لا أحب … لكنه لم يُتِم جملته بل أقرَّ بالانخذال. جثا أمامها وقال لها: بل لا بد من الإقرار برغمي ورغم خيانتكِ وخجلي وثورة شرفي، أن ما أفعله نذالة، ولكنكِ أنتِ التي دفعتِنِي إليها، وما دمتِ تُكرِهِينني على ذلك الإقرار فاسمعي الكلمات التي انتزعتها من فؤادي بعدما سحقته سحقًا: برغمي، نعم، أنا لا أزال أهواكِ.

فكادت تصيح به قائلة: كن مقيمًا على هوايَ؛ لأني لم أخُنكَ قط، إلا أنها توقَّفَت لأن احتجاجها الآن لا يجدي نفعًا، وهي لا تريد أن يُمَسَّ شرف والدتها، فاكتفَت بأن قالت: يمكننا أن نعترِف ولا يرى أحدنا الآخر إذا وجب، وسوف أكتم في صميم فؤادي سر فؤادك، حريصة عليه حرصي على كنز، ومهما يَطُل افتراقنا فإن روحينا تتَّحِدان، فوداعًا يا روجر. أنت تحبني … وأما أنا فأعبُدُكَ عبادة!

وعجَّل افتراقهما وقع خُطى الأميرال وزوجته، وكان قد عاد منذ ربع ساعة، ودُهِشَ إذ علم بوجود الكونت دي موري في البهو، وزاد دهشة لما علِم أيضًا أن ابنته في البهو كذلك، فاتَّفق مع زوجته على أن لا يدخُلا عليهما، ولكن لما طال الوقت قلق وزوجته فعزما على إسعاف ابنتهما في موقفها أمام الرجل الذي طلَّقَها وطردها، وكان عندهما شخص آخر جاء إلى البيت وقتئذ، فتركاه وتمشَّيا إلى البهو، فدخل الأميرال في الأول، فأبصر لورانس وروجر واقفين والانفعال بادٍ عليهما، فحيَّا وقال: لقد رغبتَ في مقابلتنا أيها الكونت؟

فانثنى الكونت إلى لورانس وقال: لا أرى بُدًّا من أن تسمعي الحديث الذي أتيتُ لأجله، فإن الحوادث الأليمة التي فرَّقَت بيننا لم تقلِّل من احترامي لشخصك أيها الأميرال؛ ولذلك جئتُ أُطلِعُكَ وزوجتك الفاضلة على أمرٍ عقدتُ النية عليه، وهو يتعلق بابنتي.

قال الأميرال: ما هو؟ أجاب: لقد عزمتُ على تزويجها.

فصرخت لورانس: تزويج بوليت؟

قال: نعم، نشأ هذا العزم عندي منذ تفرَّقَت أسرتانا، فإن حالتها باتت حرجة بالنظر إلى ذلك التفريق، وكنتُ قد قرَّرتُ تزويج بوليت دون أن يقع الاختيار على الزوج، وأما الآن فقد وقعت حادثة مشئومة أكرهتني على اختيار الزوج الذي أكلِّمكم عنه، وسأُطلعكم على اسمه، فهو المسيو أنيبال بلميري.

ولما تلفَّظ بهذا الاسم خفض صوته كالخجول، فجعل كلٌّ يردد ذلك الاسم غضوبًا، وكأنما نزلت بهم جميعًا نازلة ألزمتهم الجمود. فلبثوا هُنيهة وكأن على رءوسهم الطير إلى أن تكلمت لورانس في الأول، فمدت يدها إلى جبينها تمسحه، ثم قالت: يوجد في هذه المسألة أمر خفي لم تتكلم عنه، ولا بد أن يكون ذلك الأمر قد أملى عليك هذه الكلمات التي سمعناها منك، فأوضِحهُ لنا، وإنما اعلم أنك لا تستطيع أن تقول لي إنك عازمٌ على تضحية ابنتي لشقيق المرأة التي اختلست مكاني دون أن تُنبِئني بما يدفعُكَ إلى هذا العمل، فتكلم، إني مصغية إليك.

وكأنما تغيَّرَت الحال؛ فإن الكونت دي موري طأطأ الرأس بعد أن كان يتكلم بلهجة السيد الآمِر، فقال الأميرال أيضًا: نعم، لا بد أن نعرف السبب …

فأجاب بكآبة: «لذلك وحده أتيت، ولعلكم ترأفون في الحكم عليَّ متى اطَّلعتُم على جلية أمري، فاعلموا إذن أنني بعدما أُصبت في حبي نزل بي مصاب آخر؛ خسرتُ في الأول شرف الزوج، ثم كدتُ أخسر شرف الرجل النبيل، وقعَت لي أمور يطول شرحها ولا فائدة منه فأضرَّت باسمي وشرفي، ولا أزال حتى الآن هدفًا للمحاكمة في محكمة الجُنح.»

فصاح الثلاثة وهم مرعوبون: أنت! أنت! فأجاب: نعم أنا، ولكنني لا أظنكم ترتابون بسلامة نيتي ولا تتهموني إلا بالغفلة، ومهما يكن من الأمر فلما ظهر لي الخطر أيقنتُ بالخسارة، ولم يبقَ أمامي إلا سجن الأثيم أو رصاصة الرجل النبيل الذي تطارده الحكومة لذنبٍ أتاهُ دون قصد، وفيما أنا كذلك جاء رجل فأخذ بناصري.

قالوا: فمن الرجل؟

أجاب: هو من ذكرت لكم اسمه؛ هو أنيبال بلميري، قد اقترح عليَّ إنقاذِي من تلك المصيبة، لكنه اشترط عليَّ أن أُزوِّجهُ ابنتي، وقبلتُ شرطه.

فانبرت لورانس كاللبوة التي تدافع عن أشبالها، وقالت: كلَّا، ذلك لا يكون أبدًا، إنك وعدته، ولكنك لم تعاهده إلا عن نفسك … وعندئذٍ انفتح الباب وظهرت بوليت، فأتمَّت جملة أمها قائلة: وبوليت تفي بوعد أبيها، فأنا مستعدة للاقتران بالمسيو بلميري يا أبي.

•••

قلنا إن الأميرال وزوجته تركا في البيت شخصًا آخر، وكان ذلك الشخص الفتاة بوليت، وقد أتت تزور جَدَّيها وأمها مصحوبة بوصيفتها، فصادفت الأميرال عند باب البيت، وعلِمَت بقدوم أبيها، ثم لما تركها الكل خطر لها أنهم سيتكلمون عنها؛ فأنصتت من وراء الباب فسمعت الحديث، فاستيقَنَت أنها ستفقِد هناءها بذلك الزواج، فأملى عليها الإخلاص تلك الجملة التي قالت فيها إني مستعدة للاقتران بالمسيو بلميري يا أبي.

ثم خذلتها قواها، ولو لم تمسكها والدتها لوقعت على الأرض، فصاحت لورانس: ابنتي، ابنتي، عودِي إلى هداكِ وتناسي هذه الكلمات التي تلفَّظتِ بها دون تدبُّر، فإنكِ تجودين بحياتكِ وهنائكِ. فأجابتها: بل أشتري شرف أبي.

ثم انثنَتْ إلى أبيها وقالت له: أصبت في عدم ارتيابك بإخلاصي، وأحسنت فيما فعلت.

وأسندت رأسها إلى كتف لورانس، وقالت لها بصوتٍ خافت: يلوحُ لي أن في فؤادي شيئًا قد انقطع … ولا أدرِي ما أُعانِي … ولا أتألَّم … آه يا أماهُ، أظنُّ أن أجلي قد دنا!

فتفرَّسَت لورانس في وجهها فإذا هي صفراء كميِّتة، ثم سمعتها تئنُّ أنينًا ضعيفًا وتقول: وداعًا يا أمَّاه!

وأفلتت من يدي لورانس فسقطت على الأرض. جرى ذلك في بضع ثوانٍ، فصرخت لورانس صرخة موجعة وقالت: وا مصيبتاه.

وارتمت على ابنتها وحملتها وهي تكاد تجن حزنًا، أما الكونت والأميرال فتسلَّط عليهما الرعب من يأس الأم وإغماء ابنتها، وبعد جهد تمكنا من أخذ بوليت فمدَّداها على مقعد، وفركت جَدتها صدغيها بالماء، ولورانس ترشُّ على شفتيها الحياة، فقالت: إنها تحركت، فهي لا تزال حية.

وبكت بالدمع الغزير، فالتفت الأميرال إلى الكونت مشيرًا إلى المرأتين وقال له: لئن كنت قد لقيت إساءة؛ فإن الانتقام كان أعظم، فخفض دي موري رأسه وبكى كذلك، فتركوا الأم وابنتها معًا، وظنَّت هذه أن التعب أثَّر في الفتاة فلا بد أن تنام، فلم تشأ أن تكلمها، إلا أن بوليت، وهي مغمضة العينين، ضغطت على يد أمها، وأخذت تتكلم خافضة صوتها، فقالت: لقد تفكَّرتُ مليًّا منذ بضع دقائق، فقد كان نصيبنا أنا وأنتِ العذاب دون أن نجني ذنبًا، فكأننا اقتسمنا الحب والأشجان معًا، ولا أرى أفضل من اقتراحنا لتبقى كل واحدة منا على شجاعتها.

فصاحت لورانس: ألم تجدِي غير الفراق وسيلة؟ أجابت: لا، وقد تذكرتُ زمن حداثتي الأولى؛ إذ كنتُ أقع فأتألم فأنهض وأعدو عندما لا يقع بصركِ عليَّ، إما إذا وقع بصركِ عليَّ فكنتُ أبكي لشعوري بحزنكِ عليَّ وألمي معًا، وهكذا يكون شأني الآن في هذه الورطة، ولعل اعتمادي على نفسي ينقذني من الآلام.

ثم نهضت وقالت: أودعكِ يا أماه. فأمسكت رأس ابنتها وضمتهُ إلى صدرها بلهفة، ثم إن الابنة خرجت مع أبيها إلى مركبة، وعادت إلى منزله.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤