الفصل السابع والعشرون

شنتمرية ابن رزين

جاء في الأنسيكلوبيدية الإسلامية أن شنتمرية الشرق، ويقال لها شنتمرية ابن رزين، هي مدينة على نهر «تُريه» Turia الذي يقول له العرب وادي الأبيار المنحدر من مقاطعة ترول في جنوبي أراغون. وقد ورد ذكر هذه البلدة في تاريخ ابن عذاري، عند كلامه على ذهاب أمير شنتمرية، الذي هو ابن رزين من البربر وذلك إلى قرطبة، لأجل حلف يمين الأمانة للخليفة عبد الرحمن الناصر. وقد سموا هذه البلدة شنتمرية ابن رزين، ومنها جاء اسم «البراسين» الذي هو اليوم اسم تلك المقاطعة Albarracin ويقال لها شنتمرية الشرق، تمييزًا لها عن شنتمرية الغرب، التي هي اليوم في البرتغال، ومركزها قريب من مرسى «فارو» Faro.
جاء في الأنسيكلوبيدية المذكورة أنه بعد سقوط بني أمية في قرطبة، ومجيء ملوك الطوائف، استقل بشنتمرية الشرق أبو محمد هذيل بن خلف بن لب بن رزين، ثم جاء بعده أخوه أبو مروان عبد الملك بن خلف، ثم خلفه ابنه أبو محمد هذيل الثاني الملقب بعز الدولة، وجاء بعده ابنه مروان عبد الله الثاني الملقب بحسام الدولة، وذلك سنة ٤٩٦ للهجرة، وفق ١١٠٢ للميلاد. وفي سنة ١٠٨٧ انضم ابن رزين إلى القسيذور الملقب بالسيد، وزحف معه لحصار بلنسية سنة ١٠٩٤ ثم إن شنتمرية ابن رزين انتهى أمرها باستيلاء الدون بتره رويز الصخرة Raiz de Azagra عليها، فخرجت من يد الإسلام، وفي سنة ١٢٣١ اندمجت في مملكة أراغون. انتهى.

وقد اطلعنا على ذيل لكتاب «البيان المغرب في أخبار ملوك الأندلس والمغرب» لأبي العباس بن عذارى المراكشي طبعه الأستاذ لاوي بروفنسال مع الجزء الثالث من كتاب ابن عذارى، وفيه نتف من أخبار ملوك الطوائف. ومن الجملة ذكر دولة بني رزين هؤلاء. قال الكاتب: ذكر دولة بني رزين ملوك شنتمرية الشرق، وهي مدينة عظيمة في شرقي الأندلس، ويعرفون ببني الأصلع، لما اشتعلت الفتنة بالأندلس في ثورة ابن عبد الجبار، وثار كل رئيس بموضع، ثار ابن الأصلع بشنتمرية ويقال لها السهلة، واسمه هذيل بن خلف بن لب بن رزين البربري، وكنيته أبو محمد بويع لها بها سنة ثلاث وأربعمائة، وكان من أكابر ناس الثغر، وكان بارع الجمال، حسن الخلق، جميل العشرة، ظاهر المروءة، لم ير في الأمراء أبهى منه منظرًا مع طلاقة لسانه، وإدراك حوائجه ببيانه، وكان أرفع الملوك همة في اكتساب الآلات، واقتناء القينات، اشترى جارية الطبيب أبي عبد الله الكناني بثلاثة آلاف دينار.

قال ابن حيان في تاريخه: لم ير في زمانها أخف منها روحًا، ولا أسرع حركة ولا ألين أعطافًا، ولا أطيب صوتا، ولا أحسن غناءً، ولا أجود كتابةً، ولا خطًّا، ولا أبدع أدبًا، ولا أحضر شاهدًا، مع السلامة من اللحن في كتابها وغنائها، لمعرفتها بالنحو واللغة والعروض، إلى المعرفة بالطب، وعلم الطبائع، ومعرفة بالتشريح، وغير ذلك مما يقصر عنه علماء الزمان. وكانت محسنة في صناعة الثقاف، والمجاولة بالتراس واللعب بالرماح والسيوف والخناجر المرهفة، لم يسمع لها في ذلك بنظير ولا مثل ولا عديل١

ثم إن الأمير هذيل اشترى كثيرًا من الجواري الحسنات المشهورات بالتجويد، طلبهن في كل جهة، فكانت ستارته أحسن ستائر ملوك الأندلس. وكان مع هذه الأوصاف كنفًا للقصاد، ومنهلًا عذبًا معينًا للورّاد، سهل المأخذ، لم يزل على أحسن حالاته إلى أن أدركته منيته، فمات بالسهلة، سنة ست وثلاثين وأربعمائة، فكانت دولته ثلاثًا وثلاثين سنة كاملة آمنة هادئة.

وولي بعده ابنه عبد الله بن هذيل بن خلف بن لب بن رزين، بويع له يوم موت أبيه سنة ست وثلاثين وأربعمائة، وكان في أيام أبيه يسمى حسام الدولة، وكان بالعكس من أبيه. قال ابن حيان: وكان سيئة الدهر، وعار العصر، جاهلًا لا متجاهلًا، وخاملًا لا متخاملًا، قليل النباهة، شديد الإعجاب بنفسه، بعيد الذهبة بأمره، زاريًا على أهل عصره، إن ذكرت الخيل فزيدها، أو الدهاة فسعدها وسميدها، أو الشمراء فجرولها وأسيدها، أو الأمراء فزيادها ويزيدها، أو الكتاب فبديع همذان، أو الخطابة فقس وسحبان، أو النقد فقدامة، والعلم ليس منه ولا كرامة، خلِي من المعارف، وشعره أهتف من كال هاتف، ومنه قوله الذي هو جسم بلا روح، وليل بلا صبوح:

أدرها مدامًا كالغزالة مزة
تَلين لرائيها وتأبى عن اللمس
وتبدو إلى الأبصار دون تجسم
على أنها أشفى على الذهن والحس

وقوله أيضا:

يا رب ليل أطال الهجر مدته
فأيأس العمر من إدراك منتصفه
ليل تطاول حتى ما تبين لي
عند التأمل أن الدهر من صدفه

وقوله:

أنا ملك تجمعت في خمس
هي للأنام محيي ومميت
هي ذهب وحكمة ومضاء
وكلام في وقته وسكوت

إلى غير هذا من سخفه. انتهى كلام ابن حيان. ومن لعمري لا يوافقه عليه؟

وذكره الفتح بن خاقان في كتابه «قلائد العقبان» فأثنى عليه بما ليس فيه من المحاسن، ووصفه بصفات ليس هو بأهل لها، ثم قال بعدها: إلا أنه كان يتشطط على ندامة، ولا يرتبط في مجلس مدامة، فربما عاد إنعامه بؤسًا، وانقلب ابتسامه عبوسًا، فلم تتم معه سلوة، ولا فقدت في ميدانه كبوة، وقليلًا ما كان يقبل، ولا يناجي المذنب عنده إلا الحسام الصقيل.

ففهم من هذا الوصف هوره وحماقته، وسرعته إلى القتل، ولم يزل على ذلك من أفعاله إلى أن مات بحصن السهلة، غدوة الاثنين التاسع من شعبان سنة ست وتسعين وأربعمائة، فكانت دولته ستين سنة. انتهى.

قلنا: فما كان أصبر رعيته على نار هذه المحنة، التي استمرت ستين سنة! ثم جاء في هذا الذيل ذكر ولده يحيى بن عبد الملك بن هذيل بن خلف بن لب بن رزين، بويع له يوم موت أبيه، بعهده ووصيته، وسلك في التخلف مسلك أبيه، مدمنًا للخمر، مكثرًا من الغثيان، ضعيف العقل، وممن ضعف عقله أن الفنش (يعني به الأذفونش السادس) لما أخذ الثغور وتملكها، أهدى إليه كل ملك من ملوك الطوائف الهدايا الجليلة، فلم يلتفت إلى أحد منهم، ولا كافأه على هديته. فأهدى إليه حسام الدولة يحيى هذا هدية جليلة، من الحلي والحلل، والخيل والبغال، وتحف الملوك، يعجز عنها الوصف، فأعجب الفنش هديته، فكافأه عليها بقرد. فكان من ضعف عقله يفخر بذلك القرد على ملوك الأندلس. فانظر إلى هذا السخف وهذا الخذلان! ولم يزل على سخفه وخذلانه إلى أن خلعه المرابطون بيوم الاثنين الثامن من رجب سنة سبع وتسعين وأربعمائة، فكانت دولته سنة واحدة. وانقرضت دولتهم. ا.ﻫ.

ولما كانت شنتمرية ابن رزين معمورة بالعرب، خرج منها عدد من أهل العلم لأنهم أينما حلوا كانوا يقيمون سوق المعارف على ساقها.

هوامش

(١) هذه المرأة هي ريحانة وقهرمانة معًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤