الفصل الثلاثون

سرقسطة أو الثغر الأعلى وبنبلونة

قد تقدم لنا ذكر منبع وادي أبره، وقول الناس إن أصله راشح من وادي «هيجار» حتى قالوا إنه إذا جرت سيول بسبب الزوابع اضطرب لها وتعكر ماء هيجار بتعكر أيضًا ماء أبره. وعلى كل حال فأبره يمده وادي «هيجار» ومنبع «رينوزة» وهو حياة مملكة أراغون، وقسم من كتلونية. وكلما تقدم إلى الشرق تنضم إليه أنهر من الشمال ومن اليمين، ولا سيما الأنهر التي تأتيه من الشمال، فهي ذات بال، وينحدر إلى أراغون من البيرانس مياه لا تحصى أنهارها.

ومن المدن المعدودة في تلك الناحية مدينة بنبلونة،١ يقال إن الرومانيين أحدثوها، ثم استولى عليها القوط، ثم العرب سنة ٧٣٨، ولكن العرب لم تطل مدة استيلائهم عليها، قيل إنهم لم يلبثوا فيها إلا بضعة عشرة سنة، وإن النباريين استرجعوها، ثم استغاثوا بشارلمان الذي جاء من فرنسة، وحاصر سرقسطة، فرده العرب عنها، ففي أثناء رجوعه، كان النباريون والبشكونس قد رأوا من جيشه ما أثار حفائظهم، فمكنوا له في الجبال وأوقعوا به.
ولا تزال بنبلونة٢ حافظة حصونها وآثارها القديمة، وهي أهم مدينة في تلك الجبال. وموقعها من نره آرغه Arag وتأتي بعدها مدينة جاقة، وفيها أيضًا قلاع وحصون وأبراج. ومن تلك الجبال يخرج نهرَا جلق Gallego الذي يمر بأراضي سرقسطة، ويتصل بأبره. فأما سرقسطة فهي على الضفة اليمنى من أبره، ولها ربض على الضفة اليسرى منه. ويقال لهذا الربض الطاباس Altavas، وبين البلدة والربض جسر حجر.
وسرقسطة بلدة كبيرة سكانها يناهزون ١٢٠ ألف نسمة، وفيها مدرسة جامعة، ودار أسقفية، وهي مركز قيادة جيش أراغون، وضواحيها تشرب من القناة التي يقال لها القناة السلطانية التي شقها رجل يقال لها بينياتلي Pignatelli، وله بسرقسطة تمثال. وكل من نهر هورفه Huerva وأبره وجلق يمر بأرض سرقسطة. ومن سرقسطة يسرح النظر في بسائط أراغون.
وسرقسطة مدينة جيدة الهواء، معتدلة لا يشتد الحر فيها ولا البرد. ومنها قسم جدي، وقسم لا يزال على قدمه. وكان العرب يبالغون بمحاسنها، وقد مر بنا قولهم إلى الحيات لا تعيش فيها، وإنه إذا جيء إليها بأفعى لا تلبث أن تموت حالًا. وقالوا إن الفواكه فيها تبقى مدة طويلة لا تتعفن، ولكننا لم نجد لها هذه الأوصاف في كتب الإفرنج. وفيها من الكنائس الشيء الكثير، وأعظمها كنيسة سيو Seo وقد بنيت على أنقاض المسجد الأعظم الذي كان للمسلمين، ويقال إن باني هذا المسجد هو التابعي حنش بن عبد الله الصنعاني رضي الله عنه، وإنه توفي سنة ١٠٠ للهجرة، ودفن مع أحد أصحابه بإزاء المحراب. ثم إن هذا المسجد ضاق عن جماعة المسلمين، فوسعوه سنة ٣٤٢، في أيام الأمير محمد بن عبد الرحمن الأموي. ولما استرجع النصارى سرقسطة هدموا المسجد، ولم يبقوا من بنائه إلا القليل، وبنوا الكنيسة العظمى سيو على مقتضى الفن القوطي، وأتقنوا بناءها إلى النهاية. ومن الغريب أن فيها رواقًا من النحاس الأصفر، هو أبدع شيء فيها، قد رأيته عندما زرت سرقسطة، وشاهدت هذه الكنيسة. والبناء الذي بنى هذا الرواق هو مهندس عربي اسمه الرامي Alrami، صنعه سنة ١٤٩٨ على ما في دليل بديكر.
وفي هذه الكنيسة قبر فرنندو حفيد الملك فرديناند الكاثوليكي. والكنيسة وإن كانت على طرز البناء القوطي، ففيها كثير من الزليج والصنعة العربية، وذلك أن سرقسطة لا تزال حافظة مسحة عربية قوية، بقي كثير من صناع العرب ساكنين في المدينة لأجل أسباب معيشتهم، وكانت لهم علاقات وطيدة مع المسيحيين من أهل سرقسطة. وكذلك بقي فيها اليهود الذين كانت ثقافتهم عربية، فلم يبرحوا المدينة. ثم استولى فرديناند وإيزابلا على غرناطة، وضيّقوا على مسلمي الجنوب ذلك التضييق الفاحش، لم يجدوا لزومًا لمثل هذا التضييق في الجهات الشمالية، حيث المسلمون مبعثرون في مدن متعددة، ولم تكن لهم أدنى قوة سياسية هناك، فمن أجل هذا بقي مسلمون كثيرون، ويهود كثيرون، في سرقسطة وبرشلونة. وكان منهم صناع كثيرون متمسكون بتقاليدهم الشرقية. وكانت لهم آثار كثيرة لا تزال محفوظة إلى الآن. ومن أهم هذه الآثار هو حائط القرميد الذي في كنيسة السيو، وكذلك برج الساعة الذي بني في زمن الملك فرديناند، وثبت نحو من أربعمائة سنة، ثم تداعى إلى الخراب، فهدموه خوفًا من خطر سقوطه٣ وهناك برج آخر لكنيسة سان ميشال المعروفة بسان ميشال النباريين، فهو أيضًا مصنوع بالقرميد والزليج. وقبة الجرس في كنيسة المجدلية أصلًا منارة جامع، وهي مزينة بالزليج والفسيفساء.

ومن مباني العرب المشهورة في سرقسطة، المحفوظ منها جانب إلى اليوم، قصر الجعفرية، شرقي البلدة، على ضفة أبره. وهو الآن ثكنة عسكرية. قرأت في دليل بديكر أن بانيه هو أبو جعفر أحمد، بناه في القرن الحادي عشر للمسيح، ولم أطلع على ترجمة لأبي جعفر أحمد هذا، ويغلب على ظني أن باني هذا القصر هو المقتدر بالله بن هود، ملك سرقسطة، وقد كان يكنى بأبي جعفر فقيل لقصره الجعفرية، نسبة إليه. وكذلك كان يقال للمستعين الثاني ابن هود «أبو جعفر».

وقد زرت هذا القصر في شهر يونيو سنة ١٩٣٠، فلم أجد فيه من آثار العرب المحفوظة سوى جامع صغير ومقصورة. وفي هذا القصر الغرفة التي ولدت فيها سنة ١٢٧٠ القديسة اليصابات ملكة البرتغال. وبالاختصار فمن جهة الصنعة تتلاقى في سرقسطة أوربة وآسية. وفي قصر الجعفرية مثال بارز لهذا الأمر. وقد كان ملوك أراغون بعد أن استولوا على سرقسطة، جعلوا إقامتهم في هذا القصر، ثم صار مركزًا لديوان التفتيش. وسنة ١٨٠٩ في أثناء الحرب بين الفرنسيس والإسبانيول، تهدم الجانب الأعظم من الجعفرية، ثم رمموه، وجعلوه ثكنة للعساكر.

ومن المباني المشهورة في سرقسطة كنيسة سيدة بيلار Pilar وهي الكنيسة الثانية بعد كنيسة السيو في تلك البلدة، وقبابها مزخرفة بالزليج العربي، وفيها العمود الذي يزعمون أنه تجلت عليه السيدة العذراء للحواري يعقوب، عندما كان ذاهبًا إلى شنت ياقب، وفي هذه الكنيسة من الصنعة والزخرف، وفي خزانتها من الكنوز ما يعجز القلم عن وصفه. وهناك كنيسة ثالثة شهيرة يقال لها سان بابلو، ولها برج مبني على الطراز العربي، وفيه كثير من الزليج الأخضر والأبيض.

وفي سرقسطة حارات جديدة بشوارع واسعة، على الطراز الحديث، ولكن لا يزال فيها أيضًا حارات قديمة، ذات شوارع ضيقة، وأما القناة الإمبراطورية المشتقة من أبره فإنما سميت بذلك نسبة للإمبراطور شارلكان، وكان الابتداء بشقها سنة ١٥٢٨، وهي تتبع الضفة اليمنى من أبره، وطولها ٨٨ كيلومترًا.

وبساتين سرقسطة غاية في البداعة، فيها التين والزيتون واللوز والكرم وأصناف الفواكه، وأما نهر جلق فأصل اسمه عند الأسبان غالبقو Gallego ولكن العرب قالوا له جلق لأنه كاسم دمشق التي يقال لها جلق. وجاء في نفح الطيب أن موسى بن نصير لما وصل إلى سرقسطة وشرب من مائها، استعذبه جدًّا، وقال إنه لم يشرب بالأندلس أعذب منه، وسأل عن اسم النهر الذي منه هذا الماء، فذكروا له اسمه، فقال: إذن هذا نهر جلق، وهذه غوطة دمشق، لأن البساتين التي تحدق بسرقسطة تشبه غوطة الشام.

وجاء في معجم البلدان لياقوت الحموي عن سرقسطة ما يلي:

سرقسطة، بفتح أوله وثانيه، ثم قاف مضمومة، وسين مهملة ساكنة، وطاء مهملة: بلدة مشهورة بالأندلس، تتصل أعمالها بأعمال تطيلة، ذات فواكه عذبة لها فضل على سائر فواكه الأندلس، مبنية على نهر كبير، وهو نهر منبعث من جبال القلاع، وقد انفردت بصنعة السمور، ولطف تدبيره، يقوم في طرزها بكمالها، منفردًا بالنسج في منوالها، وهي الثياب الرقيقة المعروفة بالسرقسطية. هذه خصوصية لأهل هذا الصقع. هذا السمور المذكور هنا لا أتحقق ما هو، ولا أي شيء يعني به: إن كان نباتًا عندهم، أو وبر الدابة المعروفة؟ فإن كانت الدابة المعروفة فيقال لها الجندبادستر أيضًا، وهي دابة تكون في البحر، وتخرج إلى البر وعندها قوة ميز. وقال الأطباء: الجندبادستر حيوان يكون في بحر الروم، ولا يحتاج منه إلا إلى خصاه، فيخرج ذلك الحيوان من البحر، ويسرح في البر، فيؤخذ ويقطع منه خصاه، ويطلق، فربما عرض له الصيادون مرة أخرى، فإذا علم أنهم ماسكوه استلقى على ظهره، وفرج بين فخذيه، ليريهم موضع خصيته خاليًا، فيتركونه حينئذ.

وفي سرقسطة معدن الملح الذراني، وهو أبيض صافي اللون، أملس خالص، ولا يكون في غيرها من بلاد الأندلس.

قال: ولها مدن ومعاقل، وهي الآن بيد الإفرنج، صارت بأيديهم منذ سنة ٥١٢ انتهى.

ثم ذكر من ينسب إلى سرقسطة من العلماء، وسنأتي على هذا البحث. وقد تقدم فيما نقلناه عن نفح الطيب ما ذكره العرب بين مزايا هذه المدينة، وقالوا إنها هي أم تلك الكورة التي يقال لها الثغر الأعلى، وكانت تسمى بالبيضاء. ونقلوا عن الحجاري في كتابه «المسهب» أن السمور الذي يعمل من وبره الفراء الرفيعة، يوجد في البحر المحيط بالأندلس، من جهة جزيرة برطانية، ويجلب إلى سرقسطة، ويصنع بها. جاء في نفح الطيب: ولما ذكر ابن غالب وبر السمور الذي يصنع بقرطبة قال: هذا السمور المذكور هنا لم أتحقق ما هو، ولا ما عني به إن كان هو نباتًا عندهم، أو وبر الدابة المعروفة، فإن كانت الدابة المعروفة، فهي دابة تكون في البحر، وتخرج إلى البر، وعندها قوة ميز. وقال حامد بن سمحون الطبيب، صاحب كتاب «الأدوية المفردة»: هو حيوان يكون في بحر الروم، ولا يحتاج منه إلا إلى خصاه، فيخرج الحيوان من البحر في البر، فيؤخذ، وتقطع خصاه ويطلق، فربما عرض للقناصين مرة أخرى، فإذا أحس بهم، وخشي أن لا يفوتهم، استلقى على ظهره، وفرّج بين فخذيه، ليرى موضع خصيته خاليًا، فإذا رآه القناصون كذلك تركوه. قال ابن غالب: ويسمى هذا الحيوان أيضًا الجند باستر، والدواء الذي يصنع من خصيته هو من الأدوية الرفيعة، ومنافعه كثيرة. إلخ.

قلنا: أنت ترى أن هذه العبارات هي عبارات ابن غالب في وصف هذا الحيوان، وهو الذي قال: وهذا السمور المذكور هنا لا أتحقق ما هو، ولا أي شيء يعنى به. والحال أن ياقوت الحموي يذكر هذه العبارة بدون أن يرويها عن ابن غالب، بل يسوقها كأنها منه، وإنما تصرف في بعض جملها، وزاد ونقص. وبدلًا من قول ابن سعيد: قال حامد بن سمحون الطبيب، جعل: قال الأطباء. فأخل ياقوت هنا بأمانة النقل.

وأما أن سرقسطة لا تدخلها عقرب ولا حية، وإذا جيء إليها بشيء من ذلك مات لحينه، وأن القمح لا يتعفن ولو بقي مائة سنة، وأن العنب يؤكل فيها ولو تعلق ستة أعوام، وأنه لا يسوس فيها الخشب، ولا يدخل العث على أثوابها، صوفًا كان أو حريرًا أو كتانًا، إلى غير ذلك مما جاء في كتب العرب، فلم أجد شيئا من هذه الأوصاف في كتاب الأوربيين عن سرقسطة. وسألت عن ذلك بعض أدباء الإسبانيول فلم يجيبوني بأجوبة شافية.

وجاء في الأنسيكلوبيدية الإسلامية ما ملخصه: سرقسطة مدينة من أسبانية هي مركز مقاطعة سرقسطة اليوم، وقاعدة مملكة أراغون في القديم، واقعة على يمين نهر أبره، ارتفاعها عن البحر ١٨٤ مترًا، وهي في وسط بقعة خضراء بديعة، واسمها سرقسطة هو الاسم الذي أعطاه إياها أغسطس الروماني، مشتق من سيزارية أوغسطة Caesarea Ongusla فالعرب قالوا لها سرقسطة، والنسبة إليها عندهم سرقسطي، ومنذ فتحها العرب إلى أن استرجعها المسيحيون كانت تعد من قواعد المملكة الإسلامية الكبرى، وبسببب موقعها الجغرافي كانت مركز الثغر الأعلى. وفي أيام الإدريسي، أي القرن الثاني عشر، كانت معمورة جدًّا، وكان يقال لها المدينة البيضاء، نظرًا لبياض أسوارها، وكانت فواكهها معدودة من أحسن فواكه الأندلس، وكان فرو السمور الذي يصنع بها مشهورًا في كل العالم الإسلامي.
وقد استولى العرب على سرقسطة سنة ٩٤ للهجرة، وفق ٧١٢، بعد أخذهم طليطلة بقليل. زحف إليها موسى بن نصير ففتحها، وفتح القصاب، والحصون التي حولها. وروى ايزيدور الباجي٤ أن العرب عاثوا فيها، وعاملوا أهلها بأقصى الشدة. وفي أيام يوسف بن عبد الرحمن الفهري أمير الأندلس كانت من القواعد الكبار، وتولى عليها الصميل بن حاتم، وكان ذلك سنة ١٣٢. ولما جاء شارلمان يحاول فتحها سنة ٧٧٨ مسيحية، كان فيها واليًا الحسين بن يحيى الخزرجي، فحاصرها شارلمان، فامتنعت عليه، وإذ ذاك جاء الخبر إلى شارلمان من بلاد الرين بخطب أوجب انصرافه إلى بلاده، فقفل بعساكره، ولما صار إلى مضيق رونسفو Rancevaux٥ كمن له هناك البشكنس وأوقعوا بجيشه، وكانت وقيعة شنيعة تخلد ذكرها بأنشودة رولان.
وفي سنة ١٦٤ زحف إليها عبد الرحمن الداخل ففتحها، ولكنها عادت فخرجت من أيدي الأمويين، فسرح إليها هشام سنة ١٧٥ جيشًا عقد لواءه لعبيد الله بن عثمان، فاستولى عليها، ثم عادت فانتقضت سنة ١٨١، وكان خلائف قرطبة يسرحون إليها الزحف بعد الزحف، فتارة ينجحون وتارة يفشلون، وفي أواخر القرن الثامن عظم أمر عائلة يقال لها بنو قصيّ، فاستولت على أراغون، وهي عائلة إسبانيولية دانت بالإسلام، وأحد رؤساء هذه العائلة موسى بن فورتونيو Fortinio٦ صهر إينيقوار يستة Inigo Arista، أول ملك على بنبلونة، انحاز إلى الأمير هشام الأموي، وساعده على استرجاع سرقسطة. ثم إن موسى الثاني من أفراد هذه العائلة كان واليًا على تطيلة وقائدًا لجيوش عبد الرحمن الثاني التي كانت تغير على حدود الإفرنجة، وقد كان لموسى هذا مواقف جهاد في رد عادية النورمانديين الذين كانوا نزلوا في البرتغال.

وسنة ٨٥٢ لما تولى الأمير محمد الأموي كان موسى بن قصيّ عاملًا له على سرقسطة وتطيلة ووشقة، وكان أشبه بأمير مستقل، وطالما تبادل الهدايا مع ملوك النصارى، مثل شارل الأصلع، ملك فرنسة، إلا أنه في سنة ٨٦٠ تغلب أوردونة الأول ملك ليون على موسى، ولم يلبث أن قُتل بعد ذلك بسنتين، وبعد موته انتقض بنو قصي على خلائف قرطبة. فعول الأمير محمد الأموي على التجيبيين لإدخال بني قصيّ في الطاعة، وولى عبد الرحمن التجيبي على الثغر الأعلى.

والتجيبيون عائلة عربية استقرت في سرقسطة من أول الفتح (وكان أهالي سرقسطة ونواحيها عربًا صراحًا كما هو معلوم في التاريخ). وفي سنة ٨٨٨ بلغ الأمير عبد الله الأموي خبر مكيدة تدبّر عليه في سرقسطة، فولى محمد بن عبد الرحمن التجيبي الملقب بالأنقر، وأمره بالفتك بعامل سرقسطة، فأنفذ الأمر، ولكنه استبد بالإمارة، وقتل محمد بن لب زعيم بني قصيّ، وتوارث الإمارة عقبه إلى زمن عبد الرحمن الناصر، الذي أحسن إلى التجيبيين، ولكن أحدهم محمد بن هاشم خلع الطاعة سنة ٩٣٤، وانضم إلى روميروه الثاني ملك ليون، وإلى ملك نبارة، وأثار جميع أهالي الثغر الأعلى على الخليفة، فزحف الخليفة بنفسه، وأخذ قلعة أيوب عنوة، وحاصر سرقسطة وضيق عليها، إلى أن لاذ محمد بن هاشم بطلب العفو، فعفا الناصر عنه، وأقره على إمارته، وخلفه ابنه يحيى التجيبي، الذي صار من قواد الناصر، وابنه الحكم المستنصر. وتولى سرقسطة سنة ٩٧٥.

وفي أيام حجابة المنصور بن أبي عامر أراد عامل سرقسطة عبد الرحمن بن مطرف بن محمد بن هاشم التجيبي أن يشق عصا الطاعة. فتغلب عليه المنصور وقتله سنة ٩٨٩. ولما سقطت الخلافة في قرطبة كان الوالي على سرقسطة أحد أحفاد يحيى المذكور، وخلفه ولده المنذر، الذي اتفق مع الصقالبة على البربر، وأعلن نفسه ملكًا على سرقسطة، وتعاهد مع ملوك قشتالة وبرشلونة، وفي أيامه استتبت الراحة في سرقسطة وازداد عمران البلدة، وبلغت أوج مجدها.

وكان للمنذر التجيبي هذا أبهة ملك، ونعمة عيش، تغنت بهما الشعراء. ومن جملتهم ابن درّاج القسطلي. واستمر حكم المنذر إلى سنة ١٠٢٣ مسيحية، فخلفه ابنه المظفر، ولم تطل مدته، فخلفه ابنه المنذر الثاني، معز الدولة، فاستمرت إمارته عشر سنوات. ثم خرج عن طاعة الخليفة هشام الثاني، فقتله، فقتله ابن عمه عبد الله بن الحكم، وكاد يستولى على الإمارة، فثار به الأهالي، واشتعلت الفتنة بينهم، حتى جاء عامل لاردة، أبو أيوب سلمان بن محمد بن هود، فدخل البلدة، ومهد الأمور، واستأثر بالإمارة لنفسه، ثم اتخذ لقب المستعين، وهو مبدأ دولة بني هود، التي كان مركزها سرقسطة، وكان يتبعها لاردة وطليطلة، وقلعة أيوب، وكانت وفاة المستعين هذا سنة ٤٣٨، وفق ١٠٤٦، وخلفه أحمد المقتدر سيف الدولة إلى سنة ٤٧٤، ثم يوسف المؤتمن إلى سنة ٤٧٨، ثم أحمد المستعين الثاني. وقتل في معركة بينه وبين النصارى اسمها معركة فلتيرة Valtierra، وخلفه ابنه عبد الملك عماد الدولة، وفي أيامه انتزع النصارى سرقسطة من أيدي المسلمين في ٤ رمضان سنة ٥١٢.
fig12
شكل ٤٥-١: سرقسطة.
fig13
شكل ٤٥-٢: ملعب الثيران في سرقسطة.

قال لاوي بروفنسال: إنه لا يوجد عندنا معلومات كافية عن أيام دولة بني هود، وإن أرقام التواريخ المتعلقة بهم يناقض بعضها بعضًا. وقد ثبت أنه قبل استيلاء النصارى على سرقسطة بتسع سنوات كان جيش المرابطين قد احتلها، وأدخلها تحت حكم علي بن يوسف بن تاشفين، وذلك في أول ذي القعدة سنة ٥٠٣.

ولم يبق من آثار المسلمين في سرقسطة شيء كثير، لأنها بمرور الأعصر تهدمت مرارًا، وبنيت مرارًا، بكثرة ما وقع عليها من المحاصرات الشديدة، أما كنيسة السيو المبنية مكان الجامع الأعظم ففي الشمال الشرقي منها حائط مزين بالزليج، يظهر أنه من أيام العرب.٧ وروى بعض المؤرخين والجغرافيين أن باني المسجد الأعظم الذي في محله بنيت كنيسة السيو هو التابعي حنش بن عبد الله الصنعاني٨ المتوفى سنة مائة للهجرة. والآن لا يوجد بناء عربي جدير بالذكر في سرقسطة سوى الجعفرية نسبة إلى جعفر أو ابن جعفر، ولا نعلم من هو (قلت: يظهر لي أنها من بناء المقتدر أو المستعين الثاني ابن المؤتمن بن هود وكان يقال لكل منهما أبو جعفر. والله أعلم). فهذا البناء حصلت فيه تغييرات كثيرة، وتهدم جانب منه سنة ١٨٠٩، ولم يبق منه سوى مسجد صغير: ٢٢ مترًا مربعًا، فوقه قبة بديعة علوها ١٤ مترًا قائمة على أعمدة من المرمر، لها قواعد بديعة، وله محراب بحفر وتنزيل. ويغلب على الظن أن الجعفرية هي من جملة أبنية بني هود التي لم تحفظ منها إلا اسم قصر السرور.
fig14
شكل ٤٥-٣: نهر أبرة في سرقسطة.
fig15
شكل ٤٥-٤: كنيسة السيو في سرقسطة.

وممن ينتسبون إلى سرقسطة من العلماء المحدّث الكبير أبو علي الحسين بن محمد بن قيرة بن حبون الصدفي، المعروف بابن سكرة، ولد سنة ٤٥٢، وقتل شهيدًا في واقعة كتندة سنة ٥١٤، ولأجل تراجم تلاميذه جمع ابن الأبار المعجم الذي نشره قديرة في المجلد الرابع من المكتبة العربية الأسبانية. ا.ﻫ.

قلنا: وكان لبني هود في سرقسطة قصور متعددة لم يبق لها أثر، منها دار السرور ومنها قصر الذهب، اللذان يقول فيها ابن هود:

قصر السرور ومجلس الذهب
بكما بلغت نهاية الطرب

وجاء في صبح الأعشى ذكر سرقسطة قال: قال في تقويم البلدان: سرقسطة بفتح السين والراء المهملتين، وضم القاف، وسكون السين الثانية، وفتح الطاء المهملة، وهاء في الآخر: مدينة من شرقي الأندلس، موقعها في أواخر الإقليم الخامس من الأقاليم السبعة، قال ابن سعيد: حيث الطول إحدى وعشرون درجة وثلاثون دقيقة، والعرض اثنتان وأربعون درجة وثلاثون دقيقة، قال في تقويم البلدان: وهي قاعدة الثغر الأعلى، وهي مدينة أزلية بيضاء في أرض طيبة، قد أحدقت بها من بساتينها زمردة خضراء، والتف عليها أربعة أنهار، فأضحت بها مرصعة مجزعة، ولها متنزهات، منها قصر السرور، ومجلس الذهب.

ثم قال في محل آخر: وأما سرقسطة والثغر فاستولى عليهما بقية بني هود، إذ كان منذر بن يحيى بن مطرق بن عبد الرحمن بن محمد بن هاشم التجيبي، صاحب الثغر الأعلى بالأندلس، وكانت دار إمارته سرقسطة. ولما وقعت فتنة البربر آخر أيام بني أمية، استقل منذر هذا بسرقسطة والثغر، وتلقب بالمنصور، ومات سنة أربع عشرة وأربعمائة، وولي مكانه ابنه يحيى. وتلقب بالمظفر، وكان أبو أيوب سليمان مستقلًّا بمدينة تطيلة ومدينة لاردة، من أول الفتنة، وجدهم هود هو الداخل إلى الأندلس، فتغلب سليمان المذكور على المظفر يحيى بن المنذر، وقتله سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة، وملك سرقسطة والثغر من أيديهم، وتحول إليها، وتلقب بالمستعين واستفحل ملكه. ثم ملك بلنسية ودانية، وولى على لاردة ابنه أحمد المقتدر، ومات سنة ثمان وثلاثين وأربعمائة، فولي ابنه أحمد الملقب بالمقتدر سرقسطة وسائر الثغر الأعلى، وولي ابنه يوسف الملقب بالمظفر لاردة، ومات أحمد المقتدر سنة أربع وسبعين لتسع وثلاثين سنة من ملكه. فولي بعده ابنه يوسف المؤتمن، وكان له اليد الطولى في العلوم الرياضية، وألّف فيها التآليف الفائقة، مثل «المناظر» و«الاستكمال» وغيرهما، ومات سنة ثمان وسبعين وأربعمائة. وولي بعده ابنه أحمد الملقب بالمستعين، ولم يزل أميرًا بسرقسطة إلى أن مات شهيدًا سنة ثلاث وخمسمائة، في زحف ملك الفرنج إليها. وولي بعد ابنه عبد الملك، وتلقب عماد الدولة، وزحف إليه الطاغية أذفنش ملك الفرنج، فملك منه سرقسطة، وأخرجه منها واستولى عليها سنة ثنتي عشرة وخمسمائة، ومات سنة ثلاث عشرة. وولي ابنه أحمد، وتلقب سيف الدولة والمستنصر، وبالغ في النكاية في الطاغية ملك الفرنج، ومات سنة ست وثلاثين وخمسمائة. وكان من ممالك بني هود هؤلاء طرطوشة، وقد كان ملكها مقاتل أحد الموالي العامريين سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة، ومات سنة خمس وأربعين. وملكها بعده يعلى العامري، ولم تطل مدته، وملكها بعده نبيل أحدهم، إلى أن نزل عنها لعماد الدولة أحمد بن المستعين بن هود سنة ثنتين وخمسين وأربعمائة، فلم تزل في يده ويد بنيه بعده إلى أن غلب عليها العدو المخذول فيما غلب عليه من شرق الأندلس. انتهى

fig16
شكل ٤٥-٥: صورة بنبلونة.
fig17
شكل ٤٥-٦: صورة بنبلونة (منظر عمومي).
وجاء في كتاب «أخبار مجموعة» أقدم كتاب في تاريخ الأندلس — كتب فيما يظهر لعهد المستنصر بن الناصر الأموي — كلام عن مدينة سرقسطة وما جرى بها من الحوادث، لأول الفتح الأموي، قال: ثار سليمان الأعرابي بسرقسطة، وثار معه حسين بن يحيى الأنصاري، من ولد سعد بن عبادة، فبعث إليه الأمير (عبد الرحمن الداخل) ثعلبة بن عبد، في جيش، فنازل أهل المدينة وقاتلهم أيامًا. ثم إن الأعرابي طلب الفرصة من العسكر، فلما وضع الناس عن أنفسهم الحرب، وقالوا قد أمسك عن الحرب، وأغلق أبواب المدينة، لم يشعر الناس حتى هجم على ثعلبة فأخذه في المظلة، فصار عنده أسيرًا، وانهزم الجيش، فبعث به الأعرابي إلى قارلة٩ فلما صار عنده، طمع قارلة في مدينة سرقسطة من أجل ذلك، فخرج حتى حل بها، فقاتله أهلها ودافعوه أشد الدفع، فرجع إلى بلده. وخرج الأمير غازيًا إلى سرقسطة، فقبل أن يبلغ الأمير سرقسطة عدا حسين بن يحيى الأنصاري على الأعرابي يوم جمعة، فقتله في المسجد الجامع، وصار الأمر لحسين وحده فنزل به الأمير، وكان عيسون بن سليمان الأعرابي قد هرب إلى أربونة. فلما بلغه نزول الأمير بسرقسطة أقبل فنزل خلف النهر، فنظر يومًا إلى قاتل أبيه قد خرج عن المدينة، وصار على جرف الوادي، فأقحم عيسون فرسًا له كان يسميه الناهد، وقتله، ثم رجع إلى أصحابه، فسمى ذلك الموضع إلى اليوم مخاضة عيسون، ثم استدعاه الأمير حتى صار في عسكره، وحارب سرقسطة معه، فلما ضاق أهل المدينة من الحصار طلب حسين الصلح، وأعطى ابنه رهينة، فقبل ذلك الأمير منه، ورجع عنه. وكان اسم ابنه ذلك سعيدًا، وكان نجدًا، فلم يقم في عسكر الأمير إلا يومًا، حتى أعمل الحيلة فهرب إلى أطيان له بأرض بليارش، ومضى الأمير فدوّخ بنبلونة، وقلنيرة، وكر على البشكنس، ثم على بلاد الشرطانيس، فحل بابن بلاسكوط، فأخذ ولده رهينة، وصالحه على الجزية. (إلى أن يقول): إن حسين بن يحيى الأنصاري متولي سرقسطة، عاد إلى نفاقه، قال: فخرج إليه الأمير غازيًا، ونصب على سرقسطة المجانيق، فيقال إنه حفها بستة وثلاثين منجنيقًا، وضيق على أهلها أشد الضيق. فترامى القوم إليه، وأسلموا إليه حسينًا، فلم يقتل من أهل المدينة غيره، وغير رجل من أهلها يقال له رزق من البرانس. انتهى
fig18
شكل ٤٥-٧: ملاقاة سليمان الأعرابي مع شارلمان.
fig19
شكل ٤٥-٨: صورة نهر أرقا في بنبلونة.
وقد اشتهرت سرقسطة من قديم الدهر بشدة المقاومة لمن يحاصرها، فقبل الفتح العربي كان قد غزاها سنة ٥٣٣ شيلد برت Childeberte، ملك الإفرنج، وكذلك كلوتار الثاني Clotaire، وقاومتهما مقاومة خارقة للعادة. ولما جاءها شارلمان بنفسه عجز عنها، وكثيرًا ما زحف إليها بنو أمية بجيوشهم فلم ينالوا منها وطرًا. ولما استرجعها أذفنش الأول ملك أراغون من أيدي العرب، واستمرت الحرب عليها خمس سنوات، وما دخل الإسبانيول سرقسطة إلا بعد حصار شديد اتصل تسعة أشهر.
ومن أشد مدافعاتها المشهورة الدفاع الذي دافعت به الفرنسيس سنة ١٨٠٨ و١٨٠٩، وذلك في حرب الاستقلال، فقد زحف إليها الفرنسيس بجيش جرار، يقوده أربعة قواد، كل منهم برتبة مارشال، وكان الذين تولوا كبر المقاومة: شابًّا من أهلها اسمه بلافوكس Plafox وقسيسًا اسمه سنت ياغوساس وجلًا كان يقال له العم واسمه جورج إيبور Ibort، وانضم إليهم اثنان من الفلاحين، أحدهما ماريانو سيريزو Cerezo، والآخر مارين، فهؤلاء أثاروا حمية الأهالي، ووقفت البلدة كلها وقفة الرجل الواحد في وجه الفرنسيس، وبعد حصار شهرين اضطر المارشال لففر Lefepvre أن يرفع الحصار. ثم عاد إليها الفرنسيس بجيش عدده ثلاثون ألفًا، وكان السرقسطيون قد زادوا تأهبهم للدفاع، ولكن لم يكن سور بلدتهم يعلو أكثر من ثلاثة إلى أربعة أمتار، فترك السرقسطيون الدفاع عن دير يسوع، على ضفة أبره من اليمين، وتركوا أيضًا الدفاع عن دير «طوريروه» وجمعوا أنفسهم إلى داخل المدينة، وبدأ القتال بشدة لم يسبق لها مثيل، فوضع الفرنسيس خمسين مدفعًا تقذف بالنار الدائمة، إلى أن خرقوا السور من ثلاث جهات. وفي ٢٢ يناير سنة ١٨٠٩ دخل المارشال «لان» إلى البلدة من جهة دير سنتا الغراسيه. ولكن الأهالي استمروا يقاومون عن بيت بيت، ويقاتلون في شارع شارع، فقتل وجرع من الفريقين أربعة وخمسون ألف نسمة في مدة ستين يومًا. ولم تعول البلدة على الاستسلام إلا بعد أن فتكت بأهلها المجاعة والأمراض. وقد لقبت سرقسطة من أجل ذلك الدفاع بالخالدة Inmorial وكذلك كان لها موقف شديد في الحرب الكارولسية ضد الكارلوسيين.
fig20
شكل ٤٥-٩: صورة بنبلونة.
أما تاريخها القديم قبل العرب فالمعلوم منه أن السويفيين Sueves استولوا عليها سنة ٤٥٢، وأن القوط دخلوها سنة ٤٧٦، وأنها كانت في زمن الأبيريين يقال لها «سالدوبه» Salduba، وأن أغسطس قيصر رومة اعتنى بها، ومن اسمه اشتق اسمها.١٠

هوامش

(١) مما ورد في نفح الطيب عن الوقائع التي جرت في بنبلونة قوله عن الأمير عبد الرحمن الثاني الأموي ابن الحكم: إنه سنة تسع وعشرين ومائتين بعث ابنه محمدًا بالعساكر فتقدم إلى بنبلونة فأوقع بالمشركين عندها وقتل غرسية صاحبها وهو من أكبر ملوك النصارى (ثم جاء في النفح عن بنبلونة): وفي سنة سبع وأربعين ومائتين أغزى محمد إلى نواحي بنبلونة وصاحبها حينئذ غرسية بن «وبقه» وكان يظاهر أردن بن أذفنش فعاث في نواحي بنبلونة ورجع وقد دوخها وفتح كثيرًا من حصونها وأسر فرتون بن صاحبها فبقي أسيرًا بقرطبة عشرين سنة. ثم بعث سنة إحدى وخمسين أخاه المنذر بالعساكر إلى نواحي والقلاع (قلنا ألبة هي ألبة Alava من بلاد البشكنس وأما القلاع فكان العرب يسمون بالقلاع أعالي بلاد أراغون ونبارة. انظر إلى كلام ياقوت عن منبع أبره) فعاثوا فيها، وجمع لذريق للقائهم فلقيهم وانهزم، وأثخن المسلمون في المشركين بالقتل والأسر، فكان فتحًا لا كفاء له. وفي سنة ثلاث وستين أغزى الأمير محمد بن المنذر إلى دار الحرب، وفي السنة التي بعدها إلى بلاد بنبلونة فدوخها ورجع (ثم ذكر أيام عبد الرحمن الناصر، فمن جملة كلامه عنه): ووصل إلى سدته الملوك من أهل جزيرة الأندلس المتاخمين لبلاد المسلمين بجهات قشتالة وبنبلونة وما ينسب إليها من الثغور الجوفية فقبلوا يده والتمسوا رضاه واحتقبوا جوائزه (ثم قال): غزا سنة ثمان وثلاثمائة إلى جليقية وملكها أردون بن أذفنش بالبشكنس والإفرنجة وظاهره شانجة ابن فرويله صاحب بنبلونة أمير البشكنس فهزمهم ووطئ بلادهم ودوخ أرضهم وفتح معاقلهم وخرب حصونهم. ثم غزا بنبلونة سنة اثنتي عشرة ودخل دار الحرب ودوخ البسائط وفتح المعاقب وجال فيها وتوغل في قاصيتها والعدو يحاذيه في الجبال والأوعار ولم يظفر منه بشيء. ثم بعد مدة بلغه انتقاض طوطة ملكة البشكنس فغزاها في بنبلونة ودوخ أرضها واستباحها. ثم انتقضت على الناصر سنة خمس وعشرين فغزا الناصر بلادها وخرب نواحي بنبلونة وردد عليها الغزوات، وكان سنة اثنتين وعشرين غزا إلى بنبلونة لجاءته طوطة بطاعتها لابنها غرسية على بنبلونة. ثم عدل إلى ألبة وبسائطها فدوخها وخرب حصونها ا.ﻫ.
(٢) قد ذار هذه البلدة الأستاذ أحمد زكي باشا المصري العلامة المشهور رحمه الله، وذلك سنة أوفدته الحكومة المصرية إلى المؤتمر العلمي الشرقي سنة ١٨٩٢ فبعد أن قام بسياحة في أوربة فكر بأن يزور بلاد الأندلس لرؤية آثار المسلمين فيها فجاءها من طريق أيرون إلى فونترابيه إلى سالسيباستيان إلى بنبلونة إلى سرقسطة إلخ. وذكر بنبلونة في الصفحة ٣٨٢ من الطبعة الثانية من كتابه «السفر إلى المؤتمر» فقال: بنبلونة وتسمى في قليل من كتابات العرب بنقلونه، وقد حكمها المسلمون اثنتي عشرة سنة فقط، وهي أنظف مدينة رأيتها، وجميع شوارعها وحاراتها وأزقتها تضاء بالنور الكهربائي.
وجاء ذكر بنبلونة في صبح الأعشى هكذا: قال في تقويم البلدان بفتح الياء المثناة من تحت وسكون النون وضم الباء الموحدة واللام ثم واو ساكنة ونون مفتوحة وهاء في الآخر، وموقعها في أوائل الإقليم السادس من الأقاليم السبعة. قال ابن سعيد: حيث الطول اثنتان وعشرون درجة وخمس عشرة دقيقة والعرض أربع وأربعون درجة.
قال في تقويم البلدان: وهي مدينة في غرب الأندلس خلف جبل الشارة. قال: وهي قاعدة النبري أحد ملوك الفرنج وتعرف هذه المملكة بمملكة نبرة بفتح النون وتشديد الباء الموحدة المفتوحة وفتح الراء المهملة وهاء في الآخر، وهي مملكة فاصلة بين مملكتي قشتالة وبرشلونة وهي مما يلي قشتالة من جهة الشرق. انتهى.
قلنا: إن هذه المملكة هي نبارة Navarra وكونها فاصلة بين مملكتي قشتالة وبرشلونة هو صحيح، ولكن قوله إنها في غرب الأندلس فليس بصحيح لأنها في شمالي الأندلس أو في جوفيها على قول الأندلسيين، ثم إن البلدة بنبلونة يبدأ اسمها بالباء وهو هكذا عند الإفرنج، وفي تقويم البلدان يبدأ الاسم بالياء وهو خلاف الصحيح، وقد كان يمكن الظن بأن الباء انقلبت ياء بخطأ في النسخ ولكنه يصرح بقوله «الياء المثناة».
(٣) قال أحمد زكي باشا في كتابه «السفر إلى المؤتمر»: وقد زرت جميع آثار سرقسطة العربية وغير العربية، وصعدت إلى قمة البرج المائل، وهو من صنع العرب المرتدين، وقد شرع القوم في تقويض دعائمه خوفًا من سقوطه ا.ﻫ. قلنا: إن هذا البرج هو من بناء العرب المدجنين، وكان يقال له البرج الجديد، ويظهر أنه دخل عليه وهن من أساسه، فصار مائلًا، وخافوا من سقوطه فهدموه. وليس العرب المدجنون في الحقيقة من المرتدين، وإنما أكرهوا على عدم إظهار شعائر الإسلام. وكان يقال لهم المدجنون وهي لفظة تفيد الإقامة والاستئناس في المكان، ومنه الحيوانات الداجنة، أي التي تألف البيوت، ووجه المناسبة أنهم أقاموا تحت حكم النصارى ودجنوا. وقد حرف الإسبانيول لفظة مدجن إلى مدجر Mudjar وصار يقال عندهم لفن البناء العربي ولكل شيء عربي، «مدجر» ولما كانوا يقلبون الجيم خاء صارت فيما بعد «مدخر» فكنا في «المدجن» وانتهينا إلى «المدخر».
(٤) Isidore de Beja يقال إنه من قرطبة، ترك باللاتينية تأليفًا تاريخه ٧٥٤ مسيحية، وذكره دوزي فقال: إنه كان قسيسًا. ولكن كتابته لا تدل على سخط شديد على العرب، وهو يروي مثلا أن امرأة الملك لذريق تزوجت بعبد العزيز بن موسى بن نصير ولا يجد في ذلك إثمًا كما كان يفعل غيره من القسيسين لو قص هذه الحادثة. قال دوزي إن كراهية ايزيدور الباجي للعرب هي بسبب كونهم شعبًا غريبًا عن شعبه لا من أجل عملهم.
(٥) ويقال Roncevalles والعرب يسمون هذا المضيق باب الشزري.
(٦) قال دوزي: إن عائلة بني قصيّ هذه أصلها من القوط وقد دانت بالإسلام في القرن التاسع وصارت لها سيادة عظيمة في الثغر الأعلى وكان موسى الثاني من بني قصيّ لعهد الأمير محمد الأموي مستوليًا على سرقسطة وتطيلة ووشقة وعاهدته طليطلة، وكان شجاعًا مقدامًا تارة يناجز كونت برشلونة وطورًا كونت قشتالة وملك فرنسة. وكان هذا يصانعه ويرسل إليه بالهدايا وكان موسى لقب نفسه «بملك أسبانية الثالث» ومازال كذلك إلى أن مات، فاسترجع الأمير الأموي سرقسطة وتطيلة، لكن ظفره لم يطل لأن أولاد موسى بن قصيّ حالفوا أذفنش الثالث ملك ليون وقاتلوا عساكر السلطان وهزموها.
(٧) الأرجح أن باني الرواق العربي المذكور في كنيسة السيو هو من العرب المدجنين الذين كان منهم عدد غير قليل في سرقسطة إلى ما قبل هذا التاريخ بثلاثمائة سنة وقرأنا في دليل بديكر أن اسم هذا البناء المذكور هو الرامي، كما تقدم عند ذكر تلك الكنيسة.
(٨) جاء في نفح الطيب: ومن التابعين الداخلين إلى الأندلس حنش الصنعاني، وفي كتاب ابن بشكوال قال ابن وضاح: حنش لقب له واسمه حسين بن عبد الله، وكنيته أبو علي، قال ابن بشكوال: وهو من صنعاء الشام. وذكر أبو سعيد بن يونس في تاريخ أهل مصر وأفريقية والأندلس فقال: إنه كان مع علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، وغزا المغرب مع رفيقه رويفع بن ثابت، وغزا الأندلس مع موسى بن نصير وكان فيمن ثار مع ابن الزبير على عبد الملك بن مروان، فأتي به إلى عبد الملك في وثاق. فعفا عنه. وكان أول من ولي عشور أفريقية في الإسلام، وتوفي بأفريقية سنة مائة (سيأتيك خلاف هذه الرواية) قال ابن حبيب: دخل الأندلس مع التابعين حنش بن عبد الملك الصنعاني، وهو الذي أشرف على قرطبة من الفج المسمى بفج المائدة، وأذن في غير وقت الأذان فقال له أصحابه في ذلك، فقال: إن هذه لدعوة لا تنقطع من هذه البقعة إلا أن تقوم الساعة، هكذا ذكره غير واحد. قال المقري: وقد كشف الغيب خلاف ذلك، فلعل الرواية موضوعة، أو مؤولة، والله تعالى أعلم.
ثم قال: إن ابن عساكر في تاريخه طول ترجمته، وقال إن صنعاء المنسوب إليها قرية من قرى الشام، وليست صنعاء اليمن. وفي تاريخ ابن الفرضي أن حنشًا كان بسرقسطة وأنه الذي أسس جامعها. وبها مات. وقبره معروف عند باب اليهود بغربي المدينة.
قلنا: قد روى ابن عساكر عن الحميدي صاحب تاريخ الأندلس أن حنشًا كان مع موسى بن نصير، ويقال إنه هو الذي اختط جامع سرقسطة.
(٩) كان في برشلونة عامل يقال له سليمان الأعرابي حدثته نفسه بالاستقلال، فانتقض على الأمير عبد الرحمن الداخل، واستولى على سرقسطة، وعقد محالفة مع شارلمان الذي يقول له العرب قارلة. وقد استوفينا هذا الخبر في كتابنا «غزوات العرب في أوربة» في صفحة ١١٦ و١١٧ وخلاصته أن سليمان الأعرابي أسر ثعلبة المرسل من قبل عبد الرحمن الداخل، وأرسله إلى شارلمان حليفه. ويقال إن سليمان الأعرابي قصد هو وأمير آخر إلى فستفالية وتواجها مع شارلمان، فازداد طمع شارلمان في الزحف إلى الأندلس، وكان يظن أن المسيحيين في الأندلس سيثورون بأجمعهم وينضمون إليه فزحف سنة ٧٧٨ فلم يصب حسبانه من جهة المسيحيين، لأن أهل تلك الجبال أبوا أن يخضعوا لأجنبي أيا كان؛ فاضطر شارلمان أن يقاتلهم وأن يحاصر بنبلونة، ولم يفتحها إلا بعد قتال شديد. ولما وصل إلى سرقسطة قاومه العرب أشد المقاومة، مع أنه كان يظن أن سليمان الأعرابي وغيره من الخارجين عن طاعة قرطبة سينضمون إليه. أما رفعه الحصار عن سرقسطة فمرؤخو العرب يقولون إن شارلمان عجز عن أخذها، فانصرف عنها بينما مؤرخو الإفرنج يقولون إنه بينما كان شارلمان يحاصر سرقسطة جاء الصريخ بأن أمة الكسون قد أبت أن تترك ديانتها الوثنية وزحفت للقتال، فاضطر إلى الرجوع، وفي أثناء رجوعه عندما وصل إلى وادي «رونزفو» انقض عليه المسيحيون الجبليون فأوقعوا بساقة جيشه واستأصلوها، وهلك ذلك اليوم كثير من أبطال الفرنسيس، بينهم رولان الفارس الشهير.
(١٠) قد ذكر جغرافيو العرب من أعمال سرقسطة شلونة، قال ياقوت: حصن بقرب سرقسطة، ينسب إليه علي بن إسماعيل بن سعيد بن أحمد بن لب بن حزم الخزرجي، قرأ على ابن عطية الغرناطي الحديث، وعلى ابن طراوة المالقي النحو، وأبوه أيضًا مقرئ نحوي، لقبهما وكتب عنهما. ا.ﻫ. وذكروا قتندة، أو كتندة، وهي التي وقعت فيها الواقعة الشهيرة بين المسلمين والإسبانيول، ومحض فيها المسلمون، واستشهد فيها إمام المحدثين القاضي أبو علي الحسين بن محمد بن فيره بن حبون بن سكره الصدفي السرقسطي، في ربيع الأول سنة ٥١٤ عن ستين سنة. وكان أمير المسلمين علي بن يوسف بن تاشفين ألزمه أن يقلده القضاء بمرسية في شرقي الأندلس، فتقلده على كره منه سنة ٥٠٥، ثم استعفى فلم يعفه، فاختفى مدة حتى أعفاه، ولكنه غضب عليه مدة، ثم رضي عنه وحضه على نشر العلم، وكان لهذا الرجل فضائل كثيرة، ورحلة إلى الشرق، لقي فيها جلة من العلماء، وقد ألف الحافظ ابن الأبار القضاعي البلنسي كتابًا اسمه المعجم في أصحاب الإمام أبي علي الصدفي، ذكر فيه أسماء من أخذوا عنه، وهو مما طبعه قديرة في مجريط.
وذكروا «القناطر» بقرب «روطه» من عمل سرقسطة، ينسب إليها أحمد بن سعيد بن علي الأنصاري القناطري، يكنى أبا عمر، سمع بقرطبة، ورحل إلى المشرق، وتوفي بأشبيلية سنة ٤٢٨.
وذكروا «أشبرة» من قرى سرقسطة، ينسب إليها أناس من أهل العلم، منهم خلف بن موسى بن فتوح الأشبري.
وذكروا «إشكرب» بكسر أوله وراء ساكنة، وباء موحدة، ينسب إليها أبو العباس يوسف بن محمد بن فاره الإشكربي، نشأ بحيان، وسافر إلى الشرق، ومات ببلخ سنة ٥٤٨.
وذكروا «بيطرة» وقال ياقوت: إنها من حصون سرقسطة.
وذكروا «منيونش» وقالوا إنها من نواحي بربشتر من عمل سرقسطة.
وقد تعذر علينا المطابقة بين أسماء هذه الأماكن بالعربي، وأسمائها بالإسبانيولي ولم نشأ التخمين.
وأما نهر شلون Jalon فهو جار في عمل سرقسطة، وله ناحية اسمها شلون ينسب إليها إبراهيم بن خلف بن معاوية من أصحاب أبي عمرو المقرئ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤