الفصل التاسع والثلاثون

طرّكونة

وأما مدينة طرَّكونة فهي مدينة بحرية سكانها لا يزيدون اليوم على ٢٥ ألفًا بعد أن كان فيها مليون نسمة في أيام الرومان وهي مركز أسقفية. ويقال لأسقفها بريماط أسبانية، كما يقال لأسقف طليطلة. وفي أعلا نقطة من البلدة إلى جهة الشرق، حيث القلعة القديمة، مركز الأسقفية وبجانبه الكنيسة الكبرى. والبلدة قسمان: قديم وحديث، فالقديم هو القسم العالي، وفيه بقايا كثيرة، وكتابات من زمن الرومان وأما القسم الحديث، ذو الشوارع المستقيمة، فهو الذي يلي البحر.

وأسوار طركونة ماثلة من الجهات الثلاث، وإنما قد تهدم منها الجانب الغربي ويرجع بناء طركونة إلى زمن الايبيريين، ويقال إن أول من سكن فيها قبيلة من هؤلاء اسمها السيسيتان Cessetains وقد بقيت لهم مسكوكات، وهم الذين بنوا أسوار المدينة سنة ٢٦٧ قبل المسيح. ولما وقعت الحرب بين القرطاجنيين جاء القواد الرومانيون سيبيون ورفاقه، فاستولوا على طركونة، وبنوا فيها مرسي بحريًّا، وأسوارًا منيعة، وصارت من أعظم مستعمرات الرومان في أسبانية، وكان ذلك من بعد سنة ٢١٨ قبل المسيح، ثم إنه في سنة ٢٦ جاء أغسطس قيصر وسكن بطركونة، وبنى فيها هيكلًا عظيمًا، ومباني فخمة،١ وتتابع ولاة الرومان عليها، وتنافسوا في الاعتناء بها ولا تزال آثارهم تشهد بعظمتها لذلك العهد، وكان استيلاء القوط عليها سنة ٤٧٥ للمسيح، وكان استيلاء العرب سنة ٧١٣. ولما استرجع النصارى هذه البلدة أعادوا إليها مركز الأسقفية، وذلك سنة ١١١٨، إلا أن أهميتها التجارية لم ترجع إليها، بل تحولت التجارة إلى برشلونة من جهة الشمال، وإلى بلنسية العربية من جهة الجنوب.
fig28
شكل ٦٣-١: ساحة أغسطس في طركونة.
fig29
شكل ٦٣-٢: القناة المعلقة في طركونة.
fig30
شكل ٦٣-٣: طركونة.

وأما مرسى طركونة في زمن العرب فليس هو مرساها الحالي، بل كان في أسفل حارة البحر من طركونة الحديثة. ثم إن الكتلان بنوا ميناء آخر في أواخر القرن الخامس عشر، وكان بناؤهم لهذا المرفأ من حجارة الملهى الروماني. وأشهر شوارع طركونة هما رملة سان جوان، ورملة سان كارلوس.

fig31
شكل ٦٣-٤: برج سيبيون في طركونة.
fig32
شكل ٦٣-٥: باب كنيسة طركونة.
fig33
شكل ٦٣-٦: كنيسة طركونة.

وأما الكنيسة الكبرى فقد بنيت على أنقاض الهيكل الروماني، وأنقاض المسجد الجامع، الذي كان في زمان العرب. فما أخرجوا العرب من هناك سنة ١١١٨ حتى حولوا المسجد إلى كنيسة، وطول هذه البيعة مائة وأربعة أمتار، ولها برج علوه ٦٥ مترًا، وفيها تصاوير لأشهر المصورين، وتماثيل لأشهر النحاتين، وفيها قبر جاك الأول الأراغوني، الملقب عندهم بالفاتح، المتوفي سنة ١٢٧٦ وفي طركونة متحف للآثار القديمة، فيه كثير من النواريس والتماثيل، وقطع الفسيفساء، من أيام الرومان وغيرهم وفيه أيضًا أسلحة، ومسكوكات إيبيرية وفينيقية ورومانية.

ومن جملة مباني طركونة المشهورة القناة الرومانية المعلقة، أتوا فيها بالماء من وادي غَيّه Gaya وهذه القناة طبقتان أدناها ذو ١١ قوسًا وأعلاها ذو ٢٥ قوسًا. وطول الطبقة الأولى ٧٣ مترًا، وطول الطبقة الثانية ٢١٧ مترًا، ومجرُّ المياه من رأس نبعها طوله ٣٥ كيلومترًا.
وكان يقال لطركونة في أيام العرب مدينة اليهود، لأنهم كانوا كثيرين فيها، كما كانوا في غرناطة، وجاء في الانسيكلوبيدية الإسلامية أن العرب إنما اجتاحوا طركونة سنة ٧٢٤، واستولوا عليها، وبقيت في أيديهم إلى آخر الدولة الأموية، فبعد سقوط الخلافة في قرطبة، وانقسام العرب إلى ملوك الطوائف، زحف إليها لويس صاحب أكيطانية، فاستولى عليها، فزحف العرب واستردوها منه. ثم أغار عليها رامون بيرانجة Ramon Beranger واستولى عليها، فجاء العرب واستردوها منه أيضًا ولم تسقط السقوط النهائي في أيدي المسيحيين إلا سنة ١١٢٠. وقد جاء في الانسيكلوبيدية المذكورة ذكر الكوة الرخامية المكتوب عليها اسم عبد الرحمن الثالث، وهي التي في رواق الكنيسة الكبرى، فإنه في هذا الرواق نافذة صغيرة في حائط عليها تاريخ بالخط الكوفي، فيه اسم الخليفة الناصر، والتاريخ هو في سنة ٣٤٧. وفي الانسيكلوبيدية الإسلامية يقول إنه في سنة ٣٤٩.
fig34
شكل ٦٣-٧: مرسى طركونة.

وجاء في معجم البلدان لياقوت: طركونة، بفتح أوله وثانيه وتشديده، وضم الكاف، وبعد الواو الساكنة نون، بلدة بالأندلس متصلة بأعمال طرطوشة، وهي مدينة قديمة على شاطئ البحر، منها علّان، يصب مشرفًا إلى نهر أبرُه، وهو نهر طرطوشة، وهي بين طرطوشة وبرشلونة، بينها وبين كل واحدة منها خمسة عشر فرسخًا. ا.ﻫ.

وحول طركونة سهل أفيح خصيب فيه كروم عنب وزياتين، وكثير من الجوز واللوز، يخترقه الخط الحديدي مارًّا بقرى وقصاب كثيرة، من جملتها «رويس» Reus و«سلبه» Selva و«مونت بلانش» Mont Blanch على وادي «فرنكولي»، وفيها أسوار وأبراج قديمة، ومن هناك يذهب الناس لمشاهدة آثار دير يقال له دير «سان بوبله» St. Poblei، نسبة إلى رجل كان يسمى بوبله، كان العرب ألقوا إليه مقاليد الناحية المسماة هارديتا Herdeta، وكان في ذلك الدير مقبرة لملوك أراغون. وقد تهدم هذا الدير بالفتن التي وقعت بين سنتي ١٨٢٨ و١٨٣٥ وتهدمت القبور أيضًا، ولكن الآثار لا تزال ماثلة.
fig35
شكل ٦٣-٨: قوس بارا في طركونة.
fig36
شكل ٦٣-٩: الباب البيزنطي في طركونة.
fig37
شكل ٦٣-١٠: كنيسة طركونة أيضًا.
والخط الحديدي الممتد من طركونة إلى لاردة يمشي أولًا مع النهر، ثم يبتعد عنه، فيخترق شارات برادس، ولا يزال يصعد من شرقيها إلى أن يبلغ ارتفاعًا يزيد على ألف متر، ثم يعود فينحدر، فيمر ببلاد منها فينكسا Vinaixa، وفلورستا Floresta، وبورجاس Borjas وجُنادة Gineda، إلى أن يبلغ لاردة، وبين المدينتين أزيد عن مائة كيلومتر، وأما الخط الحديدي من طركونة إلى طرطوشة، فإنه يشرف على بسيط طركونة من جهة اليمين، وعلى البحر من جهة الشمال، ويشاهد منه رأس سالو Salou. وعند رأس سالو مرفأ يخدم مدينة رويس، وهذا المرفأ يبعد عن طركونة ١٣ كيلومترًا، ثم إن الخط يتقدم صوب طرطوشة، في ناحية يكثر فيها الخروب واللوز والنخل، وعلى مسافة ١٩ كيلومترًا من طركونة بلدة يقال لها كامبريلس Camberlis، وعلى مسافة ٣٣ كيلومترًا بلدة هوسبيتالة Hospitalei وكان فيها قديمًا منزل للمسافرين. وتلك الناحية كلسية الأرض، فلا ينبت فيها إلا أشجار نادرة، وترى الجبال جرداء، وهي مشرفة على البحر، وفي بلدة تسمى أميتلَّه Ametlle أهلها صيادو سمك، وعلى ساحل البحر توجد بعض نواعير لسقي الأرض. وعلى مسافة ٧١ كيلومترًا بلدة يقال لها أمبولة Ampolla مشرفة على خليج يقال له خليج سان جورج، وهذه البلدة ذات موقع بديع، ومنها ينظر الإنسان إلى وادي أبرُه، وما تفرع منه من الأقنية الكثيرة، وإلى الشرق من تلك القرية منارة بحرية يقال لها منارة فنغال Fangal وإلى الجنوب الشرقي منارة أخرى على رأس طرطوشة، تقرب من بلدة صغيرة اسمها أمبوسطة Amposta. وإلى الجنوب من أمبوسطة توجد قناة إلى مرسى يقال له سان كارلوس الرابطة، وهناك مصب نهر أبرُه الكبير، وهو شطران، يفصل بينهما جزيرة تسمى بودا Buda وعلى ٨٤ كيلومترًا من طركونة، على ضفة نهر أبرُه، بلدة طرطوشة، التي سيأتي الكلام عليها.
وأما بين مدينة رويس وبرشلونة، فالمسافة تزيد على مائة كيلومتر ومدينة روس سكانها ٢٦ ألف نسمة، وهي بلدة صناعية واقعة في سفح جبل، وكان فيها حصون قديمة تهدمت وصار مكانها الآن حارة جديدة، وفيها كنيسة سان بدرو، لها برج ارتفاعه ٦٦ مترًا، وفي هذه البلدة أنشأ بعض تجار الإنكليز، في أوائل القرن الماضي، معامل للقطن، فيها خمسة آلاف نول، وازدادت الصناعة في هذه المدينة فأُحدثت فيها معامل للحرير، وللجلد، وللصابون، وللخمر والمسكرات بأنواعها، فصارت رويس ثاني مدينة صناعية في كتلونية. وعلى الخط الحديدي بين رويس وبرشلونة توجد بلدة صناعية أخرى اسمها فالس Valls سكانها ١٣ ألفًا، وهي ذات أسوار وأبراج قديمة، وعلى مقربة من فالس في وادي غاية Gaya يوجد دير بناه رامون بيرانجه الرابع سنة ١١٥٧ كان يضارع دير بوبلة المتقدم الذكر في حسن الصنعة الكتلانية، إلا أن هذا الدير تهدم في فتنة سنة ١٨٣٥ وفيه قبور ملوك كثيرين منهم بترُه الثالث، ملك أراغون، المتوفي سنة ١٢٨٥، وجيمس الثاني المتوفي سنة ١٣٢٧ وامرأته الملكة بلانش دانجو Blanche d’Anjou وكذلك هناك قبر روجيرلوريا Lauria الذي كان أمير الأسطول لعهد بترُه الثالث. وهو الذي كسر الأسطول الفرنسي في واقعة نابولي. وقبور رامون وغيارمومونكادا Moncada اللذين قتلا في واقعة استيلاء الإسبانيول على ميورقة سنة ١٢٢٩. عندما طردوا منها العرب.
ومن البلاد الواقعة على الخط الحديدي بين رويس وبرشلونة: سان فتسلت كالدَرْس Calders. وفيها ملتقى فرعي السكة الحديدية: الذاهب إلى طركونة، والذاهب إلى برشلونة. وهناك روماني عظيم يقال له برطال باره Portal de Bara وقرية يقال لها روضة باره Roda de Bara وكذلك على هذا الخط قصبة اسمها فيلاَّ نوفا كلتري Villa Nieva Geltri وهي بلدة سكانها ١٢ ألفًا، وفيها تجارة ذات بال ولها متحف يشتمل على آثار قديمة، مصرية ورومانية، وعلى هذا الخط عندما يحاذي البحر قرية يقال لها سيتغس Sitges وهي قرية لطيفة، سكانها يزيدون على ثلاثة آلاف نسمة، ولها مرفأ على البحر، وفيها متحف يسمى بمتحف روز ينبول، توجد فيه تحف نفيسة مصنوعة على المعدن.

هوامش

(١) إن جميع مدن أسبانية لم تحفظ من أبينتها القديمة ما حفظته طركونة والناس يقولون إنه لا يقدر على بناء هذه الأبنية المتناهية في الضخامة سوى الجن، فقد يبلغ ثخن الجدار خمسة أو ستة أمتار، وإن كثيرا من الحجارة يبلغ من الطول أربعة أمتار في عرض مترين، ففي طركونة يتذكر الإنسان قلعة بعلبك وأهرام الجيزة.
وقد اعتنى الرومان بتمكين أبنية طركونة إلى هذا الحد ليجعلوها حصنًا في غاية المنعة أمام القرطاجنيين، وقد استكمل أغسطس قيصر في طركونة جميع ما يلزم من المباني والمعاهد اللازمة لعاصمة كبيرة، فكان فيها القصور والهياكل والحمامات وملاعب الخيل وملاهي التمثيل والأندية الاجتماعية، وأما في عهد النصرانية فليس فيها شيء يذكر سوى الكنيسة الجامعة التي فيها قبر جاك الأول الأراغواني الذي فتح بلنسية، وهذا القبر قد تقدم كونة نُسف في فتنة ١٨٣٥ كما أنه تهدم أبنية كثيرة في طركونة عندما حاصرها الفرنسيس سنة ١٨١١.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤