الفصل السابع

جلس سليم يفكر ويوازن بين هذه الأمور، فإذا بنفسه الأبية تنفر من هذه الصور البشعة والتمثيليات الرخيصة المضحكة، فيقرر الاعتزال عن هذا المجتمع المريض ويعمل للفن، كما عمل من سبقه من الفنانين المخلصين، ورأينا كيف بالنتيجة مات التجار وخلد المخلصون.

ولم يترك سليم الميدان انهزامًا، فهو قام بقسطه من العمل على أتم وجه، فخلف تلامذة ولوحات كثيرة في كل مكان، وأعلن عن ذلك في الصحف والمجلات، ينذر بها عن انهيار الفن لانحرافه عن طريقه السوي، ولم يترك وسيلة لإسماع صوته إلا قام بها فأرضى ضميره وسجل ما يجب أن يعلم أمام التاريخ.

figure

وبينما كان يسير ذات يوم غارقًا في أحلامه تائهًا في صحراء تمنياته وآماله، يعيش طورًا في الماضي وطورًا في الحاضر ثم يقفز به الخيال للمستقبل، يود بالنتيجة لو أنه يجعل الناس هنا يشعرون بالجمال ويحبون الفن ويشاركونه بلذائذهما، فإذا هم بعدها أشبه بالملائكة، فلا غل ولا حسد ولا خلاف ولا شغب ولا أنانية ولا رياء، وتصبح بالتالي أرض بلاده جنة النعيم والفردوس المقيم.

بينما كان سليم يسبح هكذا في دنيا أفكاره وآماله، إذ تفاجئه على منعطف الطريق سيارة بويك ضخمة تلمع تحت نور الشمس كأنها قطعة بلور، كادت تدوسه، لولا لطف الله، بعجلاتها فتقضي عليه وعلى مشاريعه وأفكاره وتنقله وإياها إلى العالم الآخر، ثم هو ينظر إلى راكب السيارة، فيرى فيها رجلًا ضخم المنكبين، منتفخ البطن، مفتول الشاربين، كأنه إمبراطور من أباطرة الشرق القدماء، فيتأمله فإذا براكب السيارة الغضنفر جاره معروف.

وتشاء الصدف أن تقع عينا معروف عليه، فابتسم له ابتسامة المتهكم الظافر، ثم أوقف سيارته مقابله، وأخذ كل منهما ينظر إلى الآخر دون أن ينبسا بكلمة.

ترى بماذا كان يفكر معروف في هذه اللحظة وهو يتأمل صاحبه؟ هل كان يفكر بدعوة جاره القديم إلى نزهة يروح بها عن نفسه ويسأله عن حاله؟ أم كان يسخر منه بعد أن صار حاله من الضعف والإهمال ما رأينا؟ وهل كان يحمل له في نفسه احترامًا وتقديرًا، أم ماذا؟

وسليم، هو الآخر، بماذا كان يفكر في هذه اللحظة؟ هل كان يفكر بمعروف وهو العليم تمامًا بحقيقته؟ ترى كان معجبًا مقدرًا له، بعد ما ناله من مال وجاه؟ أم كان يهزأ من عقلية بلاد لا ينجح فيها غير أمثال هذه الطبقة؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤