الفصل الثامن

الفلسفة والمكاري بطرس

قصة أمين

وبينما كان كلدن وزوجته صاعدَيْن مع حاشيتهما إلى الحدث كان سليم وكليم يتأهبان للسفر منها إلى الأرز؛ لأن أصدقاءهما في أهدن سافروا إلى الأرز وبعثوا يستعجلونهما، فقال لرفيقه: سنتعرف بالمستر كلدن بالأرز، فهلمَّ بنا نسافر؛ لأن الإقامة هناك تحت ظل الأرز العظيم أفضل من الإقامة هنا.

ولما دخل سليم وكليم لتوديع صديقهما أمين ظهر الحزن في وجهه، وكان قد ازداد ضعفًا وهزالًا، فودعهما وهو يقول: أظن هذا الوداع هو الوداع الأخير. فقال كليم متأثرًا: لم نعهد قلبك ضعيفًا أيها الصديق، فعلامَ الخوف وأنت متقدم إلى الصحة إن شاء الله؟! فهز أمين رأسه وقال: هل تظن أنني أخاف الموت؟ كلا، فإن الموت راحة لمن كان مثلي، وإنما أتأسف لأمر واحد. قال ذلك وانحدرت الدموع من عينيه، فترقرق الدمع في عينيْ سليم وكليم، وقال كليم: ما هو هذا الشيء؟ فقال أمين: هو أن أخرُج من هذه الحياة قبل أن أنتقم من الظالمين.

ففهم كليم مراد أمين في الحال وأجابه: كن على ثقة أيها الصديق أنك ستشفى وتنتقم لنفسك، فإن الله أعدل من أن يسحق المظلومين ويرفع الظالمين، وإذا افترضنا المحال وقَوِيَتْ عليك علتُك لعدم مداراتك نفسك، فاعلم أن الظالم سيسقط من نفسه؛ لأن كل ما يُبنى على الظلم فهو مهدوم، والبغي مصرعه وخيم.

فهز أمين رأسه وقال: وا أسفاه! إنني لا أرى هذا الأمر واضحًا كل الوضوح في الحوادث البشرية. ثم انطرح على فراشه يفكر والدموع ملء عينيه، وكان منظره حينئذ كمنظر جندي سقط قتيلًا في ساحة العراك في آخر النهار.

أما سليم وكليم فإنهما ركبا بغلين قويين وانحدرا من الحدث قاصدين وادي حصرون، وكانا هذه المرة ساكتين يفكران بكلام الصديق أمين، فسأل سليم رفيقه: هل من مانع يمنعك عن إطْلاعي على مراد أمين بكلامه الأخير؟ فقال كليم: كلا، ولكن ليست هذه القصة جديدة في الأرض، فإنها قصة كل المغلوبين والمقهورين والمظلومين فيها، إنها قصة العراك الأبدي الذي بين الناس، وهو ما يسمونه (تنازع البقاء)، فإن أمين كان من موظفي الحكومة، وكان محبوبًا مسموع الكلمة لذكائه وعقله، وكان على وشك الاقتران بفتاة يحبها وهي ذات دوطة طائلة، وكان أحد تجاركم في بيروت يطمع في دوطتها، ليصلح بها أحوال محله التجاري المتضعضع، فوشى لدى الحكومة سرًّا بأن أمين يعاون حزب تركيا الفتاة ويراسله، فعُزل وسُجن وأُهين، ولم يطلق سراحه حتى ظهر مرضه، أما الواشي فلم يتمكن من الاقتران بخطيبته؛ لأنها تركت الاثنين معًا.

فقال سليم: ومن هو ذلك الواشي؟ فقال كليم: هو (الخواجه لوقا طمعون). فقال سليم: هذا تاجر أصله من صيدا لا من بيروت، وقد سمعت الناس يذمُّونه كثيرًا لسوء أخلاقه.

وكان مع الرفيقين في هذه المرة مكار من الحدث، وهو شاب قوي البنية ربعة الجسم يُدعى (بطرس)، فسأل رفيقه: هل تمرون على الديمان في طريقكم يا خواجات؟ فسأله كليم: هل اليوم غبطة البطريرك في مصيفه هذا؟ فأجاب بطرس: كلا، بل هو غائب. فقال كليم: فلنمضِ إذن في سبيلنا.

وكانت يومئذ الدار البطريركية في الديمان دارًا يدل ظاهرها على البساطة والقدم، أما اليوم فقد أقيم هنالك قصر فخيم على الطراز الحديث للسلطة البطريركية.

وكأن سليم وكليم راما طرد الأفكار السوداء التي كانت تتردد على ذهنيهما من كلام أمين ووداعه، فقال الثاني للأول: لقد سلَّانا المكاري جرجس قليلًا من قلحات إلى الحدث، فبماذا يسلينا بطرس؟ فقال سليم: اسمع. ثم التفت إلى بطرس وقال له: يا بطرس، لماذا تنادينا خواجات؟ فأجاب بطرس بوجل: إذا كنتم بكوات يا معلمي فأرجو السماح. فقال سليم: ولا بكوات، بل نحن بشر مثلك، فإذا كنا خواجات فأنت خواجه أيضًا؛ لأن كل البشر إخوان. فتنهد بطرس وقال: هذا في القول يا معلمي فقط، وما أبعد القول من الفعل! ألا ترى أنكم راكبون وأنني ماشٍ؟! وهذا أول فرق بيننا. فضحك سليم وكليم، وقال سليم لرفيقه: حقًّا إن مكارينا نبيه. ثم التفت إليه وقال: ما عنيتُ هذا بقولي، وإنما عنيتُ أننا وإياك متساوون لدى الحكومة ولدى الله، وإنْ كان البشر يعطون بعضنا امتيازات دون بعض، فأنت لست بمديون لي بشيء سوى ما تقبض أجرته مني، وأنا كذلك، فالآن أنا راكب وأنت ماشٍ باختيارك وطوعك حسب الاتفاق الذي عقدناه على أنْ أُعطيك أجرة تعبك، فلستُ إذن أمتاز عنك بشيء سوى أنني تعبت وحصَّلت مالًا أقدر به على أن أريح نفسي من المشي، وبئست هذه الراحة؛ لأنني أفضِّل أن أتعب مثلك وأكون بصحة كصحتك.

وكان سليم يتكلم وبطرس يُظهر الدهشة والاستغراب، ثم أجاب: حقًّا قلتَ الصواب يا معلمي. فصاح سليم: رجعنا إلى (معلمي)! أما أنا بشر مثلك، بل أنت الآن معلمي؛ لأنك أقوى مني ونفعتَني ببغلك أكثر مما نفعتُك. فضحك بطرس وقال: حقًّا قلتَ الصواب فيما يختص بالأجرة والركوب، ولكن قولك يا معلمي إننا كلنا متساوون لدى الحكومة والله فيه نظر، فإنني أصدق كل شيء إلا هذا، أما المساواة عند الله فلندعها جانبًا؛ لأننا متى وصلنا إلى هناك نبقى نتكلم عنها، وأما المساواة لدى الحكومة فأحب أن تدخل على سعادة القائمقام حين يصيف في الحدث١ وترى الناس كيف يجلسون في حضرته، وبعد ذلك تبقى تتكلم عن المساواة لدى الحكومة.

فقال سليم: هذا ليس ببرهان؛ لأن الناس كثيرًا ما يسيئون في تنفيذ الشرائع، فلا تلصق الإساءة بالشرائع نفسها بل بمنفذيها.

فقال كليم لرفيقه: لا بأس بهذا الحديث إذا كان لا يحدث منه ضرر، ولكني كنت أتمنى أن لا تكون هذه التجربة فينا؛ لئلا نكون أول من يَجْنِي ثمارها.

ثم استمر الرِّفاق الثلاثة سائرين، فقطعوا الديمان وهبطوا في وادي حصرون، وكان بطرس في أثناء ذلك يفتكر في كلام سليم وهو يقول في نفسه: حقًّا ما أجهلنا نحن سكان القرى! صحيح! ما الفرق بيننا وبين الخواجات والبكاوات والحكام؟! نحن نأكل وهم يأكلون، ونشرب كما يشربون، ونمشي كما يمشون، ونفتكر كما يفتكرون، وندفع ما علينا للحكومة كما يدفعون؛ فلماذا يكون كل الإكرام لهم وعلينا الخدمة والطاعة والذل؟! والله لمَّا أعود إلى القرية ويقول لي البك اعمل هذا أو لا تعمل هذا، فكل جوابي يكون أنني أدير له ظهري، وأهز رأسي، وأمشي في سبيلي.

وفي هذا الحين كان الرفاق الثلاثة قد قطعوا حصرون، ووصلوا إلى نبع ماء على الطريق، ماؤه كالفضة الجارية صفاءً والثلج الذائب برودةً، فصاح سليم: يا بطرس، ناولنا ماءً لنشرب. وكان بطرس يُفَكِّر كما تقدَّم في عبارته الأخيرة، فكان جوابه لسليم أن هزَّ رأسه وأدار ظهره وسار في سبيله.

فقهقه كليم حتى كاد يقع عن ظهر البغل، وقال لسليم: تفضل يا صاحبنا وانظر نتيجة مبادئك.

أما سليم، فإنه غضب وصاح ببطرس: قلت لك ناولني ماءً لأشرب. فأجاب بطرس: ولماذا لا تشرب أنت؟ فقال: لأن كأس الماء بعيدة ولا أستطيع الدنو من النبع وأنا راكب. فقال بطرس: هذا أمر سهل، فانزل واشرب. فقال سليم: أنا لا أمزح، وأسالك للمرة الأخيرة أتناولني الماء أم لا؟ فقال بطرس: وأنا لا أمزح؛ لأن مناولتك الماء لم تدخل في الاتفاق الذي ذكرته، فإذا شئت الشرب فانزل واشرب.

وكان كليم في أثناء ذلك لا يزال يضحك، فرغبة في إنهاء هذه المسألة قال لبطرس: طيب هذا الأمر لم يدخل في الاتفاق كما ذكرت، فناولنا الماء ونحن في مقابلة ذلك نسقيك (خمسينية) من عرق بشري.

فضحك بطرس حينئذٍ وقال: الآن تم الاتفاق. ثم دنا وناولهما الماء.

وبعد الشرب قال كليم لرفيقه وهما سائران: أرأيت نتيجة الحرية والاستقلال والمساواة والإخاء إذا بذرت بذورها قبل أوانها بين طبقات لم تستعدَّ لها؟!

فأجاب سليم: ولكن مع غضبي من صنعه أفضِّل هذه الحرية التي هي في غير محلها على العبودية والذل والموت المعنوي، ولولا أنني كنت شديد الظمأ، وغلبني غضبي لما لُمته، بل كنت أقول له: برافو يا خواجه بطرس، فإن أمثولتنا أثمرت فيك في ساعة واحدة.

فقال كليم: ولكنْ هنا مذهبان: واحد معك وواحد عليك.

فقال سليم: ولكن مذهبي هو المذهب الصحيح الأبدي الذي انتصر مع الثورة الفرنسوية، هو مذهب الحياة والنور والحرية للطبقات الضعيفة التي تئنُّ تحت نير الطبقات القوية.

هوامش

(١) كان قائمقام البترون يصيف في الحدث مع دوائر الحكومة حين تكون القائمقامية في غير يد المرحوم أسعد بك كرم الذي كان يصيف في وطنه أهدن.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤