تقديم

مع حلول القرن العشرين ظهرت نظريتان علميتان مهمتان هما نظرية النسبية ونظرية الكم، شكَّلتا حدًّا فاصلًا بين قسمين كبيرين من علم الفيزياء؛ أحدهما يُسمَّى «الفيزياء الكلاسيكية»، والآخَر يُعرَف باسم «الفيزياء الحديثة». كانت قوانين الفيزياء الكلاسيكية قد نجحت في تفسير الظواهر الخاصة بعالم الأجسام الكبيرة (الماكروكوزم)، حيث الجسيمات والموجات كيانات مختلفة تمامًا لا صلة بينها، ويمكن للكميات الفيزيائية التي تصف هذه الكيانات (مثل الطاقة وكمية التحرك) أن تأخذ أي قيمة، كما يمكن للتجارب العملية التي تحقق القوانين الكلاسيكية أن تؤدي إلى نفس النتائج إذا ما أُجرِيَتْ تحت نفس الظروف.

أما الفيزياء الحديثة والمعاصرة التي تدرس الجسيمات — أو الدقائق — المتناهية في الصغر على مستوى الجزيئات والذرات (الميكروكوزم)، فإنها تعتبر الجسيم الدقيق المتحرك كأنه مصاحب لموجة تحت شروط معينة، والعكس صحيح، وهو ما يُطلَق عليه اسم «الطبيعة المزدوجة»، أو ثنائية الجسيم-الموجة. كما تأخذ الكميات الفيزيائية الديناميكية في حالة الجسيمات ذات الحجوم الذرية ودون الذرية قِيَمًا محدَّدة مسموحًا بها، فالطاقة التي تبعثها (أو تشعُّهَا) الأجسام لا تكون قِيَمها متصلة، وإنما تكون على شكل وحدات أو كميات منفصلة ومتتابعة، كل منها تُسمَّى «كمَّة» أو «كمّ» أو «كوانتم»، وتُجمَع على «كمَّات» أو «كوانتات». ويتوقف مقدار كل «كمّ» من الطاقة على طول الموجة التي يشعها الجسم، وله مقدار ثابت يُرمز له بالرمز h، ويُسمَّى «ثابت بلانك»، وهو من السمات الأساسية للفيزياء الحديثة ومؤسسها الفيزيائي الألماني ماكس بلانك (١٨٥٨–١٩٤٧) الحائز على جائزة نوبل عام ١٩١٨.

توالى بعد ذلك ظهور عدد من الاكتشافات العلمية الثورية التي أدَّتْ إلى تطور نظريتي النسبية والكم بسرعة هائلة خلال القرن العشرين على أيدي كوكبة من العلماء الأفذاذ، وكان الفيزيائي ريتشارد فاينمان (١٩١٨–١٩٨٨م) واحدًا من ألمع نجوم هذه الكوكبة. هذا العالِم يعرفه جيدًا دارسو الفيزياء على مستوى العالم من خلال مجموعته التعليمية الرائعة التي أنجزها بعنوان «محاضرات فاينمان في الفيزياء»، ونشرها في عدة مجلدات في الفترة بين عامي ١٩٦٣ و١٩٦٥، وتُرجِمت إلى معظم لغات العالم، بما فيها اللغة العربية.

ومن أهم إنجازات فاينمان أنه وضع نظرية الديناميكا الكهربائية الكمية، وقد نال عليها ميدالية ألبرت أينشتاين للعلوم في عام ١٩٤٥م. كما أنه ابتكر في عام ١٩٥٨ مخطَّطًا بسيطًا عُرِف باسمه وسُمِّيَ «مخطَّط فاينمان»، فأسهم بذلك إسهامًا فعَّالًا في تبسيط حل مسائل التآثرات الحادثة بين الجسيمات الأولية. إن أية نظرية تفصيلية شاملة تُوضَع لتفسير الظواهر الكونية المختلفة ينبغي ألَّا تقتصر على تعيين الجسيمات الأساسية والأولية لبنية الكون، بل تحدِّد أيضًا القوى التي تحكم سلوك هذه الجسيمات وتآثراتها مع بعضها البعض، أو مع تآثرات أخرى معينة، لتنشأ منها تفاعلات أكثر تعقيدًا.

ومن جميل الذكر في هذا السياق أن جهود فاينمان ومخططاته في حل مسائل التآثرات تُعتبَر أساسًا لدراسة قضية التوحيد بين القوى الأساسية الأربع التي تعمل في الكون، وهي: قوة الجاذبية التي يُعزَى إليها سقوط الأجسام تلقائيًّا نحو الأرض، والقوة الكهرومغناطيسية التي تعمل على شكل تجاذب أو تنافر بين الجسيمات المشحونة كهربيًّا، وتعمل بشكل مماثل بين الشحنات المغناطيسية، والقوة النووية الشديدة التي يُعزَى إليها حفظ تماسك نواة الذرة، والقوة النووية الضعيفة التي يُعزَى إليها بشكل خاص أحد أشكال التحلُّل الإشعاعي للنواة بانبعاث أشعة بيتا. وقد اشترك فاينمان نفسه مع مواري جيلمان — الحائز على جائزة نوبل في الفيزياء عام ١٩٦٩ — في وضع نظرية لتفسير الظواهر المصاحبة للتآثرات الضعيفة التي تحدث للجسيمات الأولية، وشارك في إعداد النظرية الحالية عن الكواركات، وقام بعمل نموذج أوضح فيه كيف يتحلل النيوترون إلى بروتون مع إصدار إلكترون ونيوترينو مضاد. وقد نجح العلماء الثلاثة: عبد السلام-واينبرج-جلاشو في توحيد القوتين، الكهرومغناطيسية والنووية الضعيفة، في قوة واحدة تنبَّئُوا بها في نظرية الكهرضعيفة، ثم أكدتها التجارب العلمية التي تمت عند طاقات عالية جدًّا في المعمل الأوروبي لفيزياء الجسيمات الأولية بجنيف، والمعروف باسم سيرن، واستحقوا عليها جائزة نوبل في الفيزياء عام ١٩٧٩.

من ناحية أخرى، هناك مَن يؤرِّخ لمولد تقنية النانو بمحاضرة شهيرة ألقاها ريتشارد فاينمان في أواخر عام ١٩٥٩م حول آفاق تصميم آلاتٍ ذات حجوم صغيرة، وجعل عنوانها: «هناك مساحة فسيحة في القاع»، وذلك خلال المؤتمر السنوي للجمعية الفيزيائية الأمريكية. طرح فاينمان في تلك المحاضرة سؤالًا بسيطًا في تحدٍّ وهو: إلى أي مدى يمكن أن نجعل الآلات أصغر حجمًا؟

وقد شرح توقعاته حول شكل أصغر الآلات التي يمكن تصميمها بحيث تتلاءم مع قوانين الفيزياء المعروفة، حيث أدرك أنه من الممكن أن تصل تقنية التصغير تدريجيًّا إلى أبعاد ذرِّية، ويمكن بعد ذلك استخدام الذرات والتحكم فيها لصُنْع آلاتٍ وأدواتٍ أخرى، واستنتج أن مِثْل هذه الآلات والأدوات الذرية — شأنها شأن البكرات والعتلات والروافع والعجلات — تعمل كلها ضمن قوانين الفيزياء، على الرغم من الصعوبة الشديدة في تصنيعها.

كانت فكرة فاينمان عن التحكم في الأشياء عند مستوى متناهي الصغر هي التي قامت عليها فيما بعد تقنية النانو، عن طريق بناء المواد وتشكيلها باستخدام الذرات أو الجزيئات المفردة للحصول في كل مرة على مخرجات جديدة غير متوقَّعَة، مشيرًا بذلك إلى الإمكانات الهائلة في عالم الذرات والجزيئات، والفرصة الكبيرة التي يتيحها هذا العالم لإجراء أبحاث جديدة.

وتحققت توقعات فاينمان لأدوات تقنية النانو بعد حوالي عقدين باختراع مجهر المسح النفقي، استنادًا إلى إحدى الظواهر الغريبة في فيزياء الكم والمعروفة باسم «تأثير النفق». وقد ساعد هذا المجهر على تصميم وصناعة كائنات نانوية، فتمكَّنَ اليابانيون من صناعة سيارة طولها ٤٫٧٨ مليمتر، وعرضها وارتفاعها ١٫٧ مليمتر، كما تمت صناعة جيتار لم يزد عرض أوتاره على خمسين نانومترًا. وتواصلت تلك الاهتمامات وتشعبت مجالاتها.

وفي عام ١٩٨٦ تمكَّنَ علماء جامعة ستانفورد من صنع مجهر القوة الذرية الذي استُمِدَّتْ فكرته من مجهر المسح النفقي. وقد حقَّقَ العلماء بهذا المجهر نجاحًا يتمثَّل في تصوير الجزيئات المفردة للأحماض الأمينية والبروتونات، وأمكن تطويره حاليًّا، ليس فقط للاستفادة منه في مراقبة ومتابعة المواد على المستوى الذري ورصد التفاعلات البيوكيميائية أثناء حدوثها، ولكن أيضًا لتحريك الذرات والتحكم في تشكيلاتها.

وهكذا يتضح أن الكشوف والأفكار التي قدَّمَها ريتشارد فاينمان، أحد عباقرة القرن العشرين، كانت بمقاييس فيلسوف العلم المعاصر توماس كون من أهم مقومات العلم غير العادي، أو العلم الثوري الذي أحدث طفرة هائلة نقلتنا إلى نموذج قياسي جديد بدأ ينمو ويترعرع مع بدايات القرن الواحد والعشرين. وأهم ما يميِّز هذا النموذج أنه يستخدم مفاهيم جديدة ومتطورة، وإنْ كان يصعب تصوُّرها في بعض الأحيان لأنها لا تتفق مع ما اعتدنا عليه من تصورات تقليدية، إلى درجة أن قال فاينمان نفسه عبارته المشهورة: «نظرية الكم هي النظرية التي يستخدمها الجميع ولا يفهمها أحد على الإطلاق!» … فنحن في حقيقة الأمر نعيش في «عالَمٍ كمِّيٍّ» غريب، يتحدى بطبيعته المخالِفة للبداهة كلَّ تفسير منطقيٍّ مريح عهدناه وألفنا مفاهيمه في العالم الكلاسيكي.

وقد حصل فاينمان على جائزة نوبل في الفيزياء عام ١٩٦٥ بالاشتراك مع الفيزيائي الأمريكي جوليان شفينجر والفيزيائي الياباني توموناجا، وذلك تقديرًا لبحوثهم الرائدة في تطوير نظرية المجال الكمية، وعلم الديناميكا الكهربائية الكمية الذي يدرس التفاعل بين الإلكترونات والإشعاع، اعتمادًا على معادلات ماكسويل للمجال الكهرومغناطيسي للإشعاع ونظرية ديراك (١٩٠٢–١٩٨٤) الكمية النسبية للإلكترونات.

ونال فاينمان عضوية الجمعية الفيزيائية الأمريكية وغيرها، كما أنه عمل ضمن الفريق الذي صنع القنبلة الذرية خلال مشروع مانهاتن. وبعد إلقاء القنبلة على هيروشيما حزن على ما حدث من تدمير بسبب القنبلة، وكان في الوقت نفسه سعيدًا بسبب الإنجاز العلمي الذي حقَّقه مع زملائه، لكنه بعد إلقاء القنبلة الثانية على ناجازاكي ازداد حزنه وأصبح متشائمًا جدًّا.

وأخيرًا، لعل في هذه الإضاءة الموجزة عن حياة فاينمان وأهم إنجازاته العلمية ما يجعلنا ندرك قيمة الكتاب الذي بين أيدينا، من تأليف الكاتب العلمي المتميز لورنس كراوس. ولا شك أن ترجمته العربية سوف تُثري معلومات القراء على اختلاف تخصصاتهم ومستوياتهم العلمية والثقافية.

هذا والله من وراء القصد.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

أ. د. أحمد فؤاد باشا
أستاذ الفيزياء والعميد الأسبق بكلية العلوم جامعة القاهرة
والنائب الأسبق لرئيس جامعة القاهرة
عضو المجمع العلمي ومجمع اللغة العربية بالقاهرة
www.afbasha.com

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤