مقدمة

أعتقد أن الفيزياء مجال رائع. إننا نعرف الكثير جدًّا لكننا نصنف معارفنا في معادلات قليلة للغاية، على نحو يجعلنا نقول إننا لا نعرف إلا القليل.

ريتشارد فاينمان، ١٩٤٧

غالبًا ما يكون الفصل بين الحقيقة والخيال أمرًا عسيرًا عندما يتعلق الأمر بذكريات الطفولة، لكنني أملك ذكرى واضحة عن المرة الأولى التي فكرت فيها أنه قد يكون من المثير حقًّا أن أصبح عالم فيزياء. كنت مفتونًا بالعلوم عندما كنت طفلًا، ولكن العلوم التي درستها كانت دائمًا ما يفصلني عنها نصف قرن من الزمان على الأقل، ومن ثم كانت أقرب ما تكون إلى التاريخ. ولم يكن ترسَّخ في ذهني بعدُ أن ألغاز الطبيعة جميعها لم تكن قد حُلَّت.

جاء «عيد الغطاس» وأنا أواظب على حضور برنامج صيفي في مادة العلوم بإحدى المدارس الثانوية. لست أدري هل كان يبدو عليَّ الضجر أم ماذا عندما أعطاني معلمي — بعد أحد الدروس المحددة بانتظام — كتابًا بعنوان «طبيعة قوانين الفيزياء» لريتشارد فاينمان، وطلب مني قراءة الفصل الذي يتناول التمييز بين الماضي والمستقبل. كان هذا أول لقاء لي بمفهوم الإنتروبيا والاضطراب، ومثل كثير ممن سبقوني — ومنهم الفيزيائيان العظيمان لودفيج بولتزمان وبول إرنفست، اللذان انتحرا بعد تكريس قدر كبير من حياتيهما المهنية لتطوير هذا الموضوع — خلَّف ذلك بداخلي حيرة وإحباطًا. فالكيفية التي يتغير بها العالم ريثما ينتقل المرء من دراسة مشكلات بسيطة تخص جسمين — كالأرض والقمر — إلى دراسة نظام يضم جسيمات عديدة — كجزيئات الغاز بالغرفة التي أكتب فيها هذه الكلمات — غامضة وشاملة في الآن ذاته، بل إنها من الغموض والشمولية بمكان عجزت معه عن تقديرها حق قدرها في ذلك الوقت.

لكن بعد ذلك، في اليوم التالي، سألني معلمي: هل سمعت من قبل عن شيء يسمى المادة المضادة؟ وتابع حديثه ليخبرني بأن الرجل نفسه الذي ألَّف الكتاب الذي أعطاني إياه كان قد فاز حديثًا بجائزة نوبل في الفيزياء؛ لأنه أوضح كيف أن الجسيم المضاد يمكن اعتباره جسيمًا يسير في عكس اتجاه الزمن. في ذلك الوقت أبهرتني الفكرة حقًّا، على الرغم من أنني لم أفهم أي شيء من تفاصيلها، (وأدرك الآن إذ أتأمل الماضي أن معلمي لم يفهم تلك التفاصيل أيضًا). لكن فكرة حدوث هذه الأنواع من الاكتشافات خلال فترة حياتي دفعتني إلى الاعتقاد في وجود اكتشافات أخرى كثيرة تنتظر مَن يتوصل إليها. (والواقع أنه على الرغم من أن استنتاجي كان صحيحًا، فإن المعلومات التي ساقتني إليه لم تكن كذلك. فقد نشر فاينمان بحثه الفائز بجائزة نوبل حول الديناميكا الكهربائية الكمية قبل نحو عقد من مولدي، ولم تكن الفكرة الثانوية — القائلة إن الجسيمات المضادة يمكن اعتبارها جسيمات تسير عكس اتجاه الزمن — فكرتَه من الأساس. فمع الأسف، حينما تصل الأفكار إلى المعلِّمين والكتب المدرسية بالمدارس الثانوية، عادة ما يكون عمر الأفكار الفيزيائية نحو خمسة وعشرين إلى ثلاثين عامًا، وأحيانًا لا تكون تامة الصحة.)

وبينما مضيت قدمًا في دراسة الفيزياء، صار فاينمان في نظري — كما كان في نظر جيل كامل — بطلًا وأسطورة. ابتعتُ مجموعة كتب «محاضرات فاينمان في الفيزياء» عندما التحقت بالجامعة، كما فعل أغلب الفيزيائيين الشُّبَّان الطموحين الآخرين، وذلك على الرغم من أنني لم أدرس قطُّ مقررًا دراسيًّا واحدًا دُرست فيه تلك الكتب. لكنني أيضًا — كأغلب زملائي — واظبت على الاستعانة بتلك المجموعة حتى بعد مضي وقت طويل من انتهائي من دراسة ما يسمى بالمقرر التمهيدي في الفيزياء الذي تقوم عليه كتبه. وكان أثناء قراءتي لتلك الكتب أن اكتشفتُ كيف كانت تجربتي الصيفية مشابهة على نحو غريب لتجربة فريدة خاضها فاينمان عندما كان في المدرسة الثانوية، وسأذكر المزيد عن تلك المسألة لاحقًا. وأكتفي الآن بالقول إنني أتمنى فقط لو أن نتائج تجربتي كانت على القدر نفسه من الأهمية.

الأرجح أنني لم أفهم تبعات ما كان أستاذ العلوم يحاول إخباري به فهمًا كاملًا حتى التحقت بكلية الدراسات العليا، غير أن افتتاني بعالم الجسيمات الأولية، وبعالم ذلك الرجل المدهش فاينمان، الذي كتب عن تلك الجسيمات، بدأ صباح ذلك اليوم من أيام الصيف في المدرسة الثانوية، وإلى حد بعيد لم يتوقف قط. ولقد تذكرت للتوِّ — أثناء كتابة هذه الكلمات — أنني اخترت كتابة أطروحتي الأكاديمية عن مكملات المسارات، وهو الفرع الدراسي الذي كان فاينمان من رواده.

أسعدني الحظ — عن طريق حدث غَيَّرَ مصيري — بأن قابلت ريتشارد فاينمان، وقضيت معه بعض الوقت وأنا لا أزال طالبًا بالجامعة. في ذلك الوقت، كنت عضوًا في منظمة تدعى «الاتحاد الكندي لطلاب الفيزياء الجامعيين»، وكانت الغاية الوحيدة لتلك المنظمة هي تنظيم مؤتمر وطني يحاضر فيه علماء الفيزياء البارزون، ويعرض فيه الطلاب نتائج مشاريعهم البحثية الصيفية. وفي عام ١٩٧٤ — كما أظن — أمكن إقناع فاينمان (أو إغراؤه؛ لست أدري بالضبط، ولا يحق لي أن أفترض) بواسطة رئيسة المنظمة شديدة الجاذبية بأن يكون هو المتحدث الرئيسي في مؤتمر ذلك العام المنعقد في فانكوفر. وفي المؤتمر، كان لديَّ ما يكفي من الجرأة لأطرح عليه سؤالًا بعد انتهاء محاضرته، والتقط مصور لإحدى المجلات القومية صورة لتلك اللحظة واستغلَّها، ولكن الأكثر أهمية أنني كنت قد أحضرت معي خليلتي، وتتابعت الأحداث، وقضى فاينمان وقتًا طويلًا من العطلة الأسبوعية يتسكَّع مع كلينا في بعض الحانات المحلِّيَّة بالمدينة.

وفي وقت لاحق، أثناء وجودي بكلية الدراسات العليا في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، جاء فاينمان ليحاضر هناك مرات عديدة. وبعد سنوات أخرى، وبعد أن نلت درجة الدكتوراه وانتقلت إلى هارفارد، كنت أعقد ندوة دراسية في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا (كالتِك)، وكان فاينمان بين الجمهور، وكان هذا أمرًا باعثًا على القلق إلى حد ما. طرح عليَّ سؤالًا أو اثنين بكل تهذيب، ثم صعد إلى المنصة بعدها ليكمل المناقشة. أظن أنه لم يتذكَّر لقاءنا في فانكوفر، وسأظل نادمًا أبد الدهر على أنني ما عرفت قطُّ هل يتذكرني أم لا؛ لأنه أثناء انتظاره في صبر ليتحدث معي، احتكر أستاذ مساعد شاب لحوح مثير للضيق إلى حدٍّ ما المناقشة معي إلى أن انصرف فاينمان في نهاية الأمر. لم أره بعد ذلك قط؛ إذ مات بعد بضع سنوات.

•••

كان ريتشارد فاينمان أسطورة في نظر جيل كامل من الفيزيائيين قبل أن يعرفه أي فرد من العامة بوقت طويل. ربما وضعه الفوز بجائزة نوبل على الصفحات الأولى للصحف في جميع أنحاء العالم في يوم من الأيام، ولكن في اليوم التالي كانت عناوين جديدة تتصدَّر تلك الصفحات، وعادة لا تدوم أي معرفة لاسم مشهور فترة تزيد على فترة تداول الصحيفة نفسها. وهكذا فإن شهرة فاينمان بين عامة الناس لم تنبع من اكتشافاته العلمية، وإنما بدأت من خلال سلسلة من الكتب التي تحكي ذكرياته الشخصية. وقد كان فاينمان القاصُّ مبدعًا ومبهرًا تمامًا بقدر ما كان فاينمان العالم الفيزيائي. فكان أي شخص تعامل معه شخصيًّا لا بد أن يتأثَّر على الفور بما يملكه من جاذبية طاغية؛ إذ اجتمعت له عينان ثاقبتان وابتسامة عابثة ولهجة أهل نيويورك المميزة لتنتج لنا صورة مناقضة تمامًا للصورة النمطية للعالم الباحث، كما أن افتتانه الشخصي بأشياء مثل طبول البونجو وحانات التعري لم يزد شخصيته إلا غموضًا.

غير أن العامل الحقيقي الذي جعل من فاينمان شخصية شهيرة لدى العامة، كما يحدث في أغلب الأحيان، جاء بطريق الصدفة، وهي في هذه الحالة صدفة مأساوية: انفجار مكوك الفضاء «تشالنجر» بعد إقلاعه مباشرة، وعلى متنه أول «مدني»، وهو مدرس بإحدى المدارس الحكومية كان مقررًا أن يلقي بعض الدروس من الفضاء. فخلال التحقيقات التي تلت الحادث، طُلب من فاينمان الانضمام لهيئة التحقيق بوكالة الفضاء الأمريكية، ناسا، وعلى عكس المتوقع (إذ كان يبذل قصارى جهده لتجنب اللجان وكل ما شابهها من أشياء قد تعوقه عن عمله)، وافق فاينمان.

عمل فاينمان في تلك المهمة منفردًا، وهو أسلوب غير تقليدي ليس من سماته أيضًا. وبدلًا من دراسة التقارير والتركيز على المقترحات البيروقراطية من أجل المستقبل، تحدَّث فاينمان مباشرة مع المهندسين والعلماء في ناسا، وفي لحظة شهيرة خلال جلسات الاستماع المذاعة على شاشات التليفزيون، أجرى فاينمان تجربة؛ إذ وضع حلقة دائرية مطَّاطية صغيرة داخل كوب به ماء مثلَّج، واستطاع بهذه التجربة أن يبرهن على أن الحلقات الدائرية المطاطية المستخدمة في إحكام إغلاق فتحات الصاروخ يمكن أن تتلف في درجات الحرارة شديدة الانخفاض كتلك التي كانت في يوم الإطلاق المشئوم للمكوك.

ومنذ ذلك اليوم، ظهرت الكتب التي تؤرِّخ لذكرياته، والكتب التي تجمع خطاباته، والأشرطة الصوتية التي تحمل «محاضراته المفقودة»، وما إلى ذلك، وبعد موته استمرَّت أسطورة فاينمان في الازدياد. كذلك نُشرت ترجمات شهيرة لفاينمان، وكان أبرزها ترجمة جيم جليك البارعة التي حملت عنوان «العبقري».

سيظل فاينمان الإنسان مدهشًا على الدوام، لكن عندما طُلب إليَّ تأليف كتاب قصير وسهل يعكس صورة فاينمان الإنسان من خلال إسهاماته العلمية، لم أستطع المقاومة. حفزتني هذه المهمة لأنني سأتمكن من مراجعة جميع أبحاث فاينمان الأصلية (قد لا يدرك أغلب الناس أنه من النادر أن يرجع العلماء إلى الأدبيات الأصلية في مجال بحثهم، خاصة إذا كان عمر الكتب أكثر من جيل. إن الأفكار العلمية تتعرَّض لعملية تركيز وتنقيح مستمرة، وأغلب الأبحاث العلمية الحديثة في المجال الفيزيائي ذاته لا تشبه الصياغات الأولى إلا بقدر ضئيل للغاية). ولكن الأكثر أهمية أنني أدركت أن فيزياء فاينمان تقدِّم لنا رؤية — مصغَّرة — للتطورات الأساسية التي حدثت في علم الفيزياء على مدار النصف الثاني من القرن العشرين، وأن العديد من الألغاز التي تركها بلا حلول لا تزال باقية بلا حلول حتى يومنا هذا.

حاولت — فيما يلي من فصول الكتاب — إنصاف كل من المعنى الحرفي والمضمون الحقيقي لأعمال فاينمان إنصافًا لعله كان سيرضى عنه ويوافق عليه. وربما لهذا السبب يركِّز هذا الكتاب في المقام الأول على تأثير فاينمان في فهمنا الحالي للطبيعة، كما يعكسه سياق تلك الترجمة العلمية الشخصية لحياته. وسأخصِّص مساحة قليلة للشدائد وللملفات الغامضة والمتعددة التي تصرف انتباه حتى أكثر العلماء نجاحًا — دون استثناء فاينمان من ذلك — وهم يشقون طريقهم إلى الفهم العلمي. فمن الصعب على غير الخبراء أن يدركوا فهمًا معقولًا لما عرفه الفيزيائيون عن العالم الطبيعي، وذلك حتى دون الحاجة للخوض في تلك البدايات الخاطئة. ومهما بدت بعض تلك البدايات بارعة أو جذابة، فالمهم في نهاية الأمر هو تلك الأفكار التي صمدت على مر الزمن من خلال اجتياز اختبار التجربة.

لذا فإن هدفي المتواضع هو التركيز على التراث العلمي لفاينمان؛ لأنه أثَّر في الاكتشافات الثورية لفيزيائيي القرن العشرين، ولأنه قد يكون له تأثير في أي حل لألغاز القرن الحادي والعشرين. والفكرة التي أريد حقًّا كشفها لغير الفيزيائيين — إن استطعتُ هذا — هي توضيح الأسباب التي جعلت فاينمان يصل إلى مكانة البطل الأسطوري في نظر معظم علماء الفيزياء الذين يَحيون الآن على سطح الأرض. فإذا استطعت فعل هذا، فسأكون بذلك قد ساعدت القُرَّاء على فهم أحد الأشياء الرئيسية بشأن الفيزياء الحديثة ودور فاينمان في تغيير تصورنا للعالم. وتلك — من وجهة نظري — هي أفضل شهادة يمكنني الإدلاء بها للتدليل على عبقرية ريتشارد فاينمان.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤