الفصل الأول

البداية

ربما كان الشيء بسيطًا إذا استطعتَ أن تصفه وصفًا كاملًا بطرق عديدة مختلفة، دون أن تعرف في التوِّ أنك تصف الشيء نفسه.

ريتشارد فاينمان

هل كان لأحد أن يخمِّن أن ريتشارد فاينمان الطفل سيصير على الأرجح أعظم علماء الفيزياء، وربما أقربهم للقلوب، طوال النصف الأخير من القرن العشرين؟ لم يكن هذا واضحًا، على الرغم من وجود العديد من العلامات الأولية الدالة عليه؛ فقد كان ذكيًّا على نحو لا يقبل الجدل، وحظي بوالد يمنحه الرعاية والاهتمام ويسلِّيه بالألغاز ويغرس فيه حب التعلم، مشجعًا فضوله الفطري ومغذيًا عقله متى أمكنه ذلك، وكانت لديه مجموعة أدوات الكيمياء، وأظهر افتتانًا بأجهزة الراديو.

لكن هذه الأشياء كانت مألوفة إلى حد ما لدى الأطفال اللامعين في ذلك الوقت. ففي الجوانب الأساسية لحياته، بدا ريتشارد فاينمان طفلًا يهوديًّا ذكيًّا عاديًّا من لونج أيلاند نشأ بعد نهاية الحرب العالمية الأولى. وربما كانت تلك الحقيقة البسيطة هي التي حددت موضعه المستقبلي في التاريخ، بنفس قدر أهمية أي شيء آخر. نعم، كان عقله غير عادي، لكنه ظل متصلًا بالواقع بقوة، حتى وهو مندفع لاستكشاف الجوانب الخفية الأكثر غموضًا من وجودنا. نبع ازدراؤه للتباهي من حياته المبكرة التي لم يتعرض فيها لأي قدر منه، ونبع ازدراؤه للسلطة ليس فقط من والد غذَّى لديه حس الاستقلال، ولكن أيضًا من حياة مبكرة نال فيها قدرًا كبيرًا من الحرية في أن يكون طفلًا، وفي أن يسعى وراء أهوائه، وفي أن يرتكب الأخطاء.

ربما كانت أول إشارة على ما كان قادمًا في حياة فاينمان هي قدرته التي لا تكل — بكل معنى الكلمة — على التركيز على المشكلة التي تواجهه لساعات طوال في كل مرة، حتى إن والديه بدآ يقلقان عليه. وعندما كان مراهقًا، حقق فاينمان استفادة عملية من افتتانه بأجهزة الراديو: إذ افتتح مشروعًا صغيرًا لإصلاحها. ولكن على عكس أعمال التصليح التقليدية، كان فاينمان يبتهج بحل مشكلات أجهزة الراديو ليس فقط من خلال الإصلاح، وإنما من خلال التفكير أيضًا!

كان فاينمان يجمع بين تلك القدرة المميزة على تركيز كل طاقته على المشكلة التي يواجهها وبين موهبته الفطرية في الاستعراض. فعلى سبيل المثال، حدث أثناء أشهر عمليات إصلاح أجهزة الراديو التي قام بها أنه ظل يقطع المكان جيئة وذهابًا وهو يفكر وجهاز الراديو المعطوب يطلق صوتًا عاليًا مزعجًا أمام صاحبه كلما حاول تشغيله. وفي النهاية نزع فاينمان الشاب صمامين من الجهاز وبدل موضعيهما، وحل المشكلة. وأشك في أنه ترك الموقف كله يستمر فترة أطول من اللازم بهدف إحداث الأثر الذي أراده.

وفي وقت لاحق من حياته تكررت القصة نفسها تقريبًا. لكن القصة الآتية حدثت عندما طُلب من فاينمان المتشكِّك أن يفحص صورة محيرة مأخوذة من غرفة للفقاعات؛ وهي جهاز تترك فيه الجسيمات الأولية مسارات مرئية. فبعد أن فكر لبرهة من الوقت، وضع قلمه الرصاص على بقعة محددة من الصورة، وقال إنه لا بد من وجود رتاج في ذلك الموضع، وهو موضع تعرض فيه أحد الجسيمات لتصادم غير متوقع، محدثًا نتائج أسيء تفسيرها. وغني عن القول أنه عندما عاد العلماء التجريبيون أصحاب الاكتشاف المزعوم إلى جهازهم وألقوا نظرة عليه، وجدوا الرتاج هناك!

ومع أن الأسلوب الاستعراضي يسهم في المعرفة بشخصية فاينمان، فإنه لم يكن مهمًّا في عمله. كذلك لم يكن مهمًّا افتتانه — الذي ظهر لاحقًا — بالنساء. وكان المهم بحق هو قدرته على التركيز، الممزوجة بطاقة تكاد تكون غير بشرية يمكنه توظيفها في حل المشكلات. غير أن السمة الأساسية الأخيرة التي زينت كل هذا — عند اجتماعها مع السمتين السابقتين — هي التي ضمنت له العظمة في نهاية المطاف؛ تلك السمة هي ببساطة موهبة فذة تكاد لا تبارى في الرياضيات.

بدأت عبقرية فاينمان في الرياضيات تعلن عن نفسها بوضوح حين كان طالبًا بالمدرسة الثانوية. فعندما كان في السنة الثانية علَّم نفسه حساب المثلثات، والجبر المتقدم، والمتسلسلات اللانهائية، والهندسة التحليلية، وحساب التفاضل والتكامل! وأثناء هذا التعلم الذاتي، بدأ في التجسد الجانب الآخر مما جعل فاينمان متفردًا؛ فقد كان يعيد صياغة جميع المعارف بطريقته الخاصة، مبتكرًا في كثير من الأحيان لغة جديدة أو صيغة جديدة تعكس فهمه الخاص. وفي بعض الأحيان، كانت الحاجة هي أم الاختراع. فأثناء كتابة كتيب عن الرياضيات المعقَّدة في عام ١٩٣٣، وهو بعد في سن الخامسة عشرة، ابتكر «رموز الآلة الكاتبة» لتعكس العمليات الرياضية المناسبة، وذلك لأن آلته الكاتبة لم تحتوِ على مفاتيح تمثِّلها، ووضع مجموعة رموز جديدة لجدول من المتمِّمات كان قد ابتكره من قبل.

التحق فاينمان بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا بهدف دراسة الرياضيات، ولكن كانت تلك فكرة غير صائبة؛ فعلى الرغم من أنه أحب الرياضيات، فقد ظل دائمًا يرغب في معرفة ما يمكنه «فعله» بواسطتها. وقد سأل رئيس قسم الرياضيات هذا السؤال وتلقى إجابتين مختلفتين: «حساب مبالغ التأمينات.» و«إذا كنت تحتاج لطرح هذا السؤال، فإنك لا تنتمي إلى عالم الرياضيات.» ولم تلق أي من الإجابتين قبولًا لدى فاينمان، الذي قرر أن الرياضيات لا تناسبه، فتحوَّل إلى دراسة الهندسة الكهربائية. وعلى نحو مثير بدا هذا التحول متطرفًا أكثر من اللازم. فإذا كانت الرياضيات بلا هدف عملي، فالهندسة عملية أكثر مما ينبغي. ولكن مثل الحساء المناسب في حكاية «جولديلوكس»، كانت الفيزياء «مناسبة تمامًا»، وبحلول نهاية سنته الأولى بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، تخصَّص فاينمان في الفيزياء.

كان اختياره بطبيعة الحال مُلهَمًا؛ فمواهبه الفطرية أتاحت له التفوق في الفيزياء. ولكن كانت لديه موهبة أخرى أكثر أهمية على الأرجح، ولست أدري إن كانت فطرية أم لا؛ تلك الموهبة هي الحدس.

إن الحدس الفيزيائي هو نوع من المهارات الوقتية المدهشة؛ إذ كيف يعرف المرء أي منهج سيكون أكثر فائدة في حل مشكلة فيزيائية ما؟ لا شك أن بعض جوانب الحدس السليم مكتسبة. فلهذا السبب نحتاج إلى المتخصصين في فروع الفيزياء المختلفة لحل العديد من المشكلات. فعن طريق التخصص يبدءون في معرفة الأساليب التي تفلح والتي لا تفلح، ويزيدون من حصيلة الأساليب التي يتقنونها مع مرور الوقت. ولكن من المؤكد أن أحد جوانب الحدس الفيزيائي لا يمكن اكتسابه بالتعلم، وهو جانب لا يظهر إلا في مكان وزمان معيَّنين. كان أينشتاين يمتلك هذا الجانب من جوانب الحدس، وقد أفاده كثيرًا طوال أكثر من عشرين عامًا، بداية من بحثه الفريد عن النسبية الخاصة وحتى الإنجاز الذي توج به أعماله، وهو النسبية العامة. غير أن حدسه بدأ يخذله عندما بدأ ينحرف ببطء بعيدًا عن تيار الاهتمام الرئيسي بميكانيكا الكم في القرن العشرين.

وكان حدس فاينمان فريدًا من زاوية مختلفة. ففي حين وضع أينشتاين نظريات جديدة كليًّا بشأن الطبيعة، فقد استكشف فاينمان الأفكار الموجودة بالفعل من منظور جديد تمامًا وأكثر فائدة في المعتاد. فقد كانت الطريقة الوحيدة التي يمكنه بها حقًّا فهم الأفكار الفيزيائية هي أن يستنتجها بطريقته الخاصة. ولكن لما كانت طريقته أيضًا في المعتاد من نواتج تعلمه الذاتي، فقد كانت النتائج النهائية تختلف اختلافًا جذريًّا أحيانًا عما كانت المعرفة «التقليدية» تنتجه. وكما سنرى لاحقًا، فإن فاينمان صنع معرفة خاصة به.

غير أن حدس فاينمان كان أيضًا مكتسبًا بالطريقة الصعبة، نتيجة لجهد دءوب. فأسلوبه المنهجي والشمولية التي كان يفحص بها المشكلات كانا واضحين بالفعل أثناء دراسته بالمدرسة الثانوية. وقد سجَّل تقدمه في دفاتر ملاحظات احتوت على حسابات لجيب الزاوية وجيب التمام أجراها بنفسه، وسجَّله فيما بعد في دفتر ملاحظات التفاضل والتكامل الشامل الذي حمل عنوان «حساب التفاضل والتكامل للشخص العملي»، والذي احتوى على جداول تكامل شاملة، مرة أخرى كان هو من وضعها بنفسه. وفي وقت لاحق من حياته، كان يبهر الناس باقتراح طريقة جديدة لحل مشكلة ما، أو بفهمه الفوري لجوهر مسألة معقدة. وفي كثير من الأحيان، كان هذا يرجع إلى أنه في وقت ما، ضمن آلاف صفحات الملاحظات التي دوَّنها أثناء عمله على فهم الطبيعة، قد فكَّر في تلك المشكلة نفسها ودرس عدة طرق مختلفة وليس طريقة واحدة لحلها. وكان هذا الاستعداد لفحص المشكلة من كل زاوية ممكنة، ولتنظيم أفكاره بعناية حتى استنفاد جميع الاحتمالات الممكنة هو ما ميزه عمَّن سواه، وهو نتاج لذكائه المتوقِّد وقدرته التي لا تكلُّ على التركيز.

ربما كلمة «استعداد» ليست هي الكلمة المناسبة هنا. وربما كانت كلمة «احتياج» خيارًا أفضل. فقد كان لدى فاينمان احتياج إلى فهم كل مشكلة يواجهها فهمًا كاملًا عن طريق البدء من البداية، وحل المشكلة بطريقته الخاصة، وكثيرًا ما كان يحلها بطرق عديدة مختلفة. وفيما بعد، حاول إضفاء هذا الخُلق على طلابه، الذين قال أحدهم لاحقًا: «شدد فاينمان على الإبداع؛ الذي كان يعني من وجهة نظره استنباط الأمور من البداية. لقد كان يحث كل واحد منا على خلق كون من الأفكار الخاصة به، بحيث تتسم نتائجنا — وإن كانت مجرد حلول لمشكلات مطلوب منا حلها في قاعة المحاضرات — بطابع أصيل يميِّزها؛ تمامًا كما كانت أعماله تحمل الطابع الفريد لشخصيته.»

لم تكن قدرة فاينمان على التركيز لفترات طويلة هي وحدها البارزة عندما كان صغيرًا، وإنما برزت أيضًا قدرته على التحكم في أفكاره وتنظيمها. أذكر أنني أيضًا كنت أمتلك مجموعة الكيمياء عندما كنت طفلًا، وأذكر أيضًا أنني كثيرًا ما كنت أخلط المواد بعضها ببعض على نحو عشوائي وأنتظر لأرى ما سيحدث. لكن فاينمان — كما أكد لاحقًا — لم يعبث بالمواد العلمية بعشوائية مطلقًا، وإنما كان دائمًا ما يقوم ﺑ «عبثه» العلمي على نحو خاضع للسيطرة، ودائمًا ما كان منتبهًا لما يحدث. ومرة أخرى، في وقت لاحق، بعد وفاته، أصبح واضحًا من خلال الملاحظات المكثفة التي دوَّنها أنه سجَّل بعناية كل استكشاف من استكشافاته. بل إنه في لحظة معينة فكَّر في تنظيم حياته المنزلية مع زوجته المستقبلية على أسس علمية، قبل أن يقنعه صديق بأن هذا أمر يفتقر للواقعية على نحو ميئوس منه. وفي نهاية الأمر، اختفت سذاجته في هذا الشأن، وبعد ذلك بوقت طويل نصح أحد طلابه قائلًا: «لا يمكن تطوير الشخصية بالفيزياء وحدها. يجب دمج باقي جوانب الحياة في عملية تطوير الشخصية.» وعلى أي حال، كان فاينمان يحب اللعب والمزاح، ولكن عندما كان الأمر يتعلق بالعلوم، فمنذ نعومة أظفاره وطوال باقي حياته كلها، يصبح جادًّا إلى أبعد الحدود.

ربما انتظر حتى نهاية سنته الدراسية الأولى بالجامعة قبل أن يعلن تخصصه في الفيزياء، ولكن الرؤية كانت قد اتضحت وهو بعدُ طالبٌ بالمدرسة الثانوية. وباستعادة الماضي، فإن اللحظة التي يمكن اعتبارها حاسمة جاءت عندما عرفه أستاذه بالمدرسة — السيد بادر — على أحد الأسرار الغامضة الأكثر خفية وروعة للعالم القابل للرصد، وهي حقيقة قائمة على اكتشاف توصل إليه قبل ثلاثمائة عام من مولده المحامي البارع المتنسِّك الذي تحول إلى عالم رياضيات، بيير دي فيرما.

كما هي حال فاينمان، حقق فيرما الشهرة ونال التقدير لدى العامة في وقت متأخر من حياته عن شيء لا علاقة له بأعظم إنجازاته. ففي عام ١٦٣٧، خطَّ فيرما ملحوظة موجزة على هامش نسخته من كتاب «الحساب» — تحفة عالم الرياضيات اليوناني الشهير ديوفانتوس — مشيرًا إلى أنه اكتشف برهانًا بسيطًا على حقيقة مهمة. فالمعادلة سن + صن = عن ليست لها حلول ذات أعداد صحيحة إذا كان ن أكبر من ٢ (لأنه إذا كان ن يساوي ٢، فتلك هي الحالة المعروفة باسم نظرية فيثاغورس حول أطوال أضلاع المثلث قائم الزاوية). ومن المشكوك فيه أن فيرما كان يمتلك حقًّا مثل هذا البرهان، الذي احتاج إثباته، بعد ٣٥٠ عامًا من عصره، إلى جميع تطورات القرن العشرين في الرياضيات وعدة مئات من الصفحات. ومع ذلك، فلو أن أحدًا يذكر فيرما اليوم في أوساط عامة الناس، فليس السبب في هذا هو إسهاماته الكبيرة العديدة في الهندسة، والتفاضل والتكامل، ونظرية الأعداد، وإنما هو ما كتبه في هامش ذلك الكتاب الذي سيظل يعرف إلى الأبد باسم «نظرية فيرما الأخيرة».

إلا أنه بعد مرور خمسة وعشرين عامًا على هذا الادِّعاء المشكوك في صحته، قدَّم فيرما برهانًا مكتملًا على شيء آخر مختلف تمامًا هو: مبدأ مميز، يكاد يكون من عالم الغيب، رسخ منهج التعامل مع الظواهر الفيزيائية واستخدمه فاينمان فيما بعد في تغيير طريقة تفكيرنا في الفيزياء في العالم المعاصر. كانت المسألة التي حول فيرما انتباهه إليها عام ١٦٦٢ تتعلق بظاهرة وصفها العالم الهولندي ويلبرورد سنيل قبل أربعين عامًا من ذلك التاريخ. اكتشف سنيل انتظامًا رياضيًّا في الطريقة التي ينحني بها الضوء، أو ينكسر، عندما يعبر بين وسطين مختلفين، مثل الهواء والماء. إننا نسمِّي هذه الظاهرة اليوم باسم «قانون سنيل»، وغالبًا ما تُدرس تلك الحقيقة في مقررات الفيزياء بالمدارس الثانوية كحقيقة أخرى مملة من تلك الحقائق التي ينبغي حفظها، على الرغم من أنها لعبت دورًا شديد الأهمية في تاريخ العلوم.

يتعلق قانون سنيل بالزوايا التي يصنعها شعاع الضوء عندما ينتقل عبر سطح يقع بين وسطين مختلفين. ولا يعنينا هنا الصيغة المحددة لهذا القانون، والمهم هو طابعه العام وأصله الفيزيائي. بعبارات بسيطة، ينص القانون على أنه عندما ينتقل الضوء من وسط أقل كثافة إلى وسط أعلى كثافة، ينحني مسار شعاع الضوء مقتربًا من الخط العمودي على السطح الفاصل بين الوسطين (انظر الشكل).

والآن، لماذا ينحني الضوء؟ حسنًا، إذا كان الضوء مكوَّنًا من تيار من الجسيمات، كما كان نيوتن وغيره يعتقدون، يمكن للمرء أن يفهم هذه العلاقة إذا كانت الجسيمات تزيد سرعتها عند انتقالها من وسط إلى آخر؛ فسوف تُسحب الجسيمات حرفيًّا إلى الأمام، لتتحرك بفعالية أكبر في اتجاه عمودي على السطح الذي عبرته للتو. غير أن هذا التفسير بدا مريبًا حتى في ذلك الوقت البعيد. فعلى أي حال، في وسط أعلى كثافة، من المفترض أن تواجه أي جسيمات كهذه مقاومة أكبر لحركتها، تمامًا كما تتحرك السيارات ببطء أكبر عندما تزيد كثافة حركة المرور.

إلا أنه كان هناك احتمال آخر، كما أوضح العالم الهولندي كريستيان هيجنز عام ١٦٩٠. فإذا كان الضوء يتألَّف من موجات وليس جسيمات، فتمامًا كما تنحني الموجات الصوتية نحو الداخل عندما تبطئ سرعتها، سيحدث الشيء نفسه للضوء إذا قلت سرعته أيضًا في الوسط الأعلى كثافة. وكما يعرف أي شخص لديه اطلاع على تاريخ الفيزياء، فإن سرعة الضوء تقل بالفعل في الأوساط الأعلى كثافة، وهكذا فإن قانون سنيل يمنحنا دليلًا مهمًّا على أن الضوء — في هذه الحالة — يسلك سلوكًا يشبه سلوك الموجة.

قبل قرابة ثلاثين عامًا من عمل هيجنز، استنتج فيرما أيضًا أن الضوء لا بد أن ينتقل في الأوساط الكثيفة بسرعة أبطأ من سرعة انتقاله في الأوساط الأقل كثافة. غير أنه بدلًا من أن يفكر من منظور كون الضوء موجات أو جسيمات، أوضح فيرما — عالم الرياضيات — أنه في هذه الحالة يمكن للمرء أن يفسر مسار الضوء في ضوء مبدأ رياضي عام، ندعوه الآن «مبدأ الزمن الأقل لفيرما». وكما بين، فإن الضوء سيتبع المسار المنحني نفسه الذي حدده سنيل بالضبط إذا «انتقل بين نقطتين معينتين تقعان على مسار أقصر زمن».

يمكن فهم هذا تجريبيًّا كما يأتي: إذا كان الضوء ينتقل بسرعة أكبر في الوسط الأقل كثافة، فإنه لكي يصل من النقطة «أ» إلى النقطة «ب» (انظر الشكل) في أقصر زمن ممكن، سيكون من المنطقي أن يقطع مسافة أطول في هذا الوسط، ويقطع مسافة أقصر في الوسط الآخر الذي ينتقل فيه ببطء أكبر. غير أنه لا يمكنه الانتقال في الوسط الأول لوقت أطول مما ينبغي، وإلا فإن المسافة الإضافية التي يقطعها ستفوق المكسب الذي يتحقق من خلال الانتقال بسرعة أكبر في الوسط الأقل كثافة. ومع ذلك فثمة مسار واحد هو المسار الأنسب، ويتبيَّن لنا أن هذا المسار هو المسار المنحني الذي يتطابق بالضبط مع المسار الذي رصده سنيل.
figure

يعد مبدأ الزمن الأقل لفيرما وسيلة بارعة رياضيًّا لتحديد المسار الذي يسلكه الضوء دون اللجوء إلى أي وصف ميكانيكي يعتمد على الموجات أو الجسيمات. والمشكلة الوحيدة هي أنه عندما يفكر المرء في الأساس الفيزيائي لهذه النتيجة، يبدو لنا أنها توحي بنوع من «التعمُّد»، بمعنى أن الضوء يدرس بطريقة ما جميع المسارات المحتملة قبل أن يبدأ رحلته — مثل مسافر على الطريق في ساعة الذروة الصباحية لأول أيام أسبوع العمل يستمع إلى التقرير المروري — ويختار في نهاية المطاف المسار الذي سيوصله إلى وجهته في أسرع وقت.

ولكن الشيء العجيب حقًّا هو أننا لسنا بحاجة إلى أن نعزو أي نوع من التعمد إلى انتقال الضوء. فمبدأ فيرما هو مثال رائع على خاصية فيزيائية أكثر روعة، وهي خاصية أساسية للحقيقة المدهشة وغير المتوقعة مسبقًا التي تقول إن الطبيعة يمكن فهمها من خلال الرياضيات. ولو أن هناك خاصية واحدة مثلت شعاع النور الذي اهتدى به ريتشارد فاينمان إلى منهجه في الفيزياء، وكانت جوهرية في جميع اكتشافاته تقريبًا، فهي تلك الخاصية، التي كان يعتقد أنها في غاية الأهمية حتى إنه أشار إليها مرتين على الأقل في خطاب تسلُّمه جائزة نوبل. في المرة الأولى، إذ قال أولًا:

دائمًا ما يبدو لي غريبًا أن قوانين الفيزياء الأساسية، عند اكتشافها، يمكن أن تأخذ أشكالًا عديدة مختلفة لا تبدو متطابقة على نحو واضح في البداية، ولكن مع القليل من العبث بالرياضيات يمكن إظهار العلاقة بينها … كان هذا شيئًا تعلمته بالتجربة. هناك دائمًا طريقة أخرى لتعبر عن نفس الشيء، وهي لا تشبه على الإطلاق الطريقة التي عبرت عنه من قبل … أعتقد أن هذا يمثل بطريقة ما تجسيدًا لبساطة الطبيعة. لست أدري ما يعنيه اختيار الطبيعة لتلك الأشكال الغريبة، ولكن ربما كانت تلك وسيلة لتعريف البساطة. ربما كان الشيء بسيطًا إذا استطعت أن تصفه على نحو كامل بطرق عديدة مختلفة، دون أن تعرف في التو أنك تصف الشيء نفسه.

ولاحقًا (وهو ما يحمل أهمية لما سيأتي مستقبلًا) أضاف فاينمان قائلًا:

قد تكون النظريات الموضوعة عما هو معروف لنا — التي يمكن وصفها بالاستعانة بأفكار فيزيائية مختلفة — متساوية في جميع تنبؤاتها، ومن ثم لا يمكن تمييز بعضها عن بعض. غير أنها ليست متطابقة من الناحية النفسية عند محاولة الانتقال من هذا الأساس نحو المجهول؛ لأن الصور المختلفة تقترح أنواعًا مختلفة من التعديلات الممكنة، ومن ثم لا تكون متساوية في الفرضيات التي يتوصل إليها المرء من خلالها أثناء محاولته فهم ما لم يفهم بعد.

مبدأ الزمن الأقل لفيرما يجسِّد بوضوح مثالًا صارخًا على تلك الوفرة الغريبة لقوانين الفيزياء التي أبهرت فاينمان أيما إبهار، وكذلك على «الفوائد النفسية» المتباينة للتفاسير المختلفة. إن التفكير في انحناء الضوء من منظور القوى الكهربائية والمغناطيسية عند السطح البيني الفاصل بين وسطين يكشف شيئًا ما عن خصائص الوسط. والتفكير في الأمر نفسه من منظور سرعة الضوء ذاتها يبوح بشيء عن الخاصية الجوهرية للضوء الشبيهة بالموجة. والتفكير فيه من منظور مبدأ فيرما قد لا يكشف شيئًا عن قوى محددة أو عن الطبيعة الموجية للضوء، ولكنه يسلط الضوء على شيء عميق حول طبيعة الحركة. ومن حسن الطالع أن جميع هذه الأوصاف البديلة تؤدي إلى تنبؤات متطابقة.

هكذا يمكننا أن نطمئن؛ فالضوء «لا يعرف» أنه يتخذ أقصر مسار ممكن. إنه يفعل هذا فحسب.

•••

مع ذلك، لم يكن مبدأ الزمن الأقل، وإنما فكرة أخرى أكثر دقة وروعة هي التي غيرت مجرى حياة فاينمان في ذلك اليوم الحاسم في المدرسة الثانوية. وكما قال فاينمان لاحقًا: «عندما كنت في المدرسة الثانوية، استدعاني مدرس الفيزياء — وكان اسمه السيد بادر — ذات يوم بعد حصة الفيزياء وقال لي: «يبدو عليك الملل، وأريد أن أخبرك بشيء مثير للاهتمام.» ثم أخبرني بشيء وجدته مبهرًا إلى أقصى حد، وقد ظل — منذ ذلك الحين — مبهرًا لي … إنه مبدأ الفعل الأقل.» قد يبدو مبدأ «الفعل الأقل» تعبيرًا أكثر ملاءمة لوصف سلوك موظف خدمة عملاء في شركة هاتف من ملاءمته لعلم الفيزياء، وهو علم يقوم — على كل حال — على وصف الأفعال. غير أن مبدأ الفعل الأقل مشابه تمامًا لمبدأ الزمن الأقل الذي وضعه فيرما.

يخبرنا مبدأ الزمن الأقل أن الضوء دائمًا ما يسلك مسار أقصر زمن. ولكن ماذا عن كرات البيسبول، وقذائف المدافع، والكواكب، وما إلى ذلك؟ إنها لا تتصرف بمثل هذه البساطة بالضرورة. هل ثمة شيء بخلاف الزمن يُقلَّل إلى أقصى حد ممكن حين تتبع هذه الأجسام المسارات التي تمليها القوى المؤثرة عليها؟

تأمل أي جسم يتحرك، مثل جسم ثقيل يسقط. هذا الجسم يقال إن له نوعين مختلفين من الطاقة؛ أحدهما هو «طاقة الحركة»، وهي طاقة ترتبط بحركة الأجسام (والكلمة في اللغة الإنجليزية kinetic مشتقة من كلمة يونانية تعني الحركة)، وكلما تحرك الجسم بسرعة أكبر زادت طاقته حركته. والشق الآخر من طاقة الجسم من الأصعب كثيرًا إثباته والتحقق منه، كما يتضح من اسمه وهو: «طاقة الوضع». وربما كان هذا النوع من الطاقة خفيًّا، ولكنه المسئول عن قدرة الجسم على إحداث أثر فيما بعد. فمثلًا، إذا سقط جسم ثقيل من أعلى مبنى شاهق فسيُحدث ضررًا أكبر (ومن ثم سيكون له أثر أكبر) في تحطيم سقف سيارة تقف أسفل المبنى عن الضرر الذي يحدثه نفس الجسم إذا سقط من ارتفاع عدة بوصات فوق السيارة. ومن ثم، من الواضح أنه كلما كان الجسم أعلى زادت قدرته على إحداث أثر، ومن ثم زادت طاقة وضعه.

إذن فما يخبرنا به مبدأ الفعل الأقل هو أن «الفارق» بين طاقة حركة الجسم في أي لحظة من الزمن وبين طاقة وضعه في اللحظة ذاتها، عند حسابه عند كل نقطة على طول المسار ثم جمع نواتج جميع النقاط على طول المسار، سيكون أصغر في حالة المسار الفعلي الذي يأخذه الجسم عن أي مسار محتمل آخر. فالجسم، بطريقة ما، يضبط حركته بحيث تكون طاقة الحركة وطاقة الوضع له متكافئتين — في المتوسط — إلى أقصى حد ممكن.

إذا بدا هذا غامضًا وغريبًا، فالسبب هو أنه غامض وغريب بالفعل. فأنَّى لأحد أن يبتكر مثل هذا المزيج في المقام الأول، ناهيك عن تطبيقه على حركة الأجسام العادية؟

إننا ندين بالشكر عن هذا لعالم الرياضيات والفيزيائي الفرنسي جوزيف لويس لاجرانج، الذي اشتهر بأبحاثه في الميكانيكا السماوية. فمثلًا، حدد لاجرانج النقاط الموجودة في المجموعة الشمسية التي عندها تؤدي قوة جذب الكواكب المختلفة إلى إلغاء قوة جذب الشمس. وتلك النقاط تسمى «نقاط لاجرانج». وترسل وكالة الفضاء الأمريكية «ناسا» الآن العديد من الأقمار الصناعية إلى هذه النقاط حتى تتمكن من البقاء في مدارات ثابتة ومن ثم تتمكن من دراسة الكون.

غير أن أعظم إسهامات لاجرانج في الفيزياء ربما تضمنت إعادة صياغته لقوانين الحركة. إن قوانين الحركة لنيوتن تعزو حركة الأجسام إلى صافي القوى المؤثرة عليها. إلا أن لاجرانج استطاع أن يبين أن قوانين الحركة يمكن إعادة استنباطها بالضبط إذا استخدم المرء «الفعل» — الذي هو حاصل جمع الفوارق بين طاقة الحركة وطاقة الوضع لجميع نقاط المسار — والذي يسمى الآن على نحو ملائم «اللاجرانجية»، ومن ثم حدد بالضبط أنواع الحركة التي من شأنها أن تنتج المسارات التي تقلل تلك الكمية إلى أدنى حد ممكن. وأنتجت عملية التقليل، التي تطلبت استخدام حساب التفاضل والتكامل (الذي ابتكره نيوتن أيضًا)، أوصافًا رياضية للحركة تختلف تمامًا عن قوانين نيوتن، ولكنها كانت — استحضارًا لروح فاينمان — متطابقة رياضيًّا، على اختلافها الشديد «نفسيًّا».

•••

كان هذا المبدأ الغريب للفعل الأقل — الذي كثيرًا ما يسمى «مبدأ لاجرانج» — هو ما شرحه السيد بادر لفاينمان في سن المراهقة. وما كان لمعظم المراهقين أن يجدوا هذا الأمر ساحرًا أو حتى مفهومًا، لكن فاينمان وجده كذلك، أو كان هذا على الأقل هو ما دوَّنه في مذكراته عندما صار أكبر سنًّا.

غير أنه لو كانت لدى فاينمان الشاب أي فكرة في ذلك الوقت عن أن هذا المبدأ سيصبغ حياته بالكامل فيما بعد، فمن المؤكد أن تصرفاته لم تكن توحي بهذا عندما بدأ يتعلم المزيد عن الفيزياء لدى التحاقه بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا. بل كان العكس تمامًا هو الصحيح. ففي وقت لاحق، قال عنه تيد ويلتون، الذي كان أفضل أصدقاء فاينمان أثناء الدراسة الجامعية في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، بل أثناء الدراسات العليا أيضًا: «كان يرفض رفضًا يثير الجنون الاعتراف بأن لاجرانج كان لديه شيء مفيد يضيفه إلى علم الفيزياء. كان باقي الطلاب جميعًا منبهرين — كما كان ينبغي لنا — بإحكام وأناقة وفائدة صياغة لاجرانج، ولكن ريتشارد أصر بعناد أن علم الفيزياء الحقيقي يكمن في تحديد جميع القوى المؤثرة وتحليلها على نحو صحيح إلى مكونات أولية.»

إن الطبيعة — مثلها في ذلك مثل الحياة — تأخذ جميع أنواع التقلبات والمنعطفات الغريبة، والأهم من كل شيء آخر أنها لا تبالي بما يحبه المرء وما يبغضه. وبقدر ما حاول فاينمان في بداياته المبكرة أن يركز على فهم الحركة بطريقة تنسجم مع حدسه البريء البسيط، فقد أخذت مسيرته نحو العظمة مسارًا مختلفًا تمامًا. لم تكن هناك يد خفية توجهه. وبدلًا من ذلك، أرغم هو حدسه على الانصياع لمتطلبات مشكلات عصره، وليس العكس. وكان التحدي من الصعوبة بحيث احتاج إلى ساعات وأيام وشهور لا حصر لها من العمل المضني على تدريب عقله على الالتفاف حول المشكلات التي لم تتمكن أعظم العقول في فيزياء القرن العشرين من حلها، حتى ذلك الوقت.

وكان فاينمان يجد نفسه يعود مرة أخرى إلى المبدأ نفسه الذي جعله يتحول إلى الفيزياء منذ البداية متى احتاج إليه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤