الفصل العاشر

نظرة عابسة من وراء زجاج

لقد جاءت ماكيناتي من مكان بعيد بعيد.

ريتشارد فاينمان،
مخاطبًا سيلفان شويبر، ١٩٨٤

ربما يبدو رد فعل فاينمان المتردد تجاه ما توصل إليه من نتائج مثيرًا للدهشة، غير أنه ليس كذلك، ولا هو فريد من نوعه. فالحلول الصحيحة في العلم لا تكون في جميع الأحوال بديهية وقت ظهورها. وعند العمل بأسلوب تجريبي، عند حافة المعرفة، ومع كثير من الانحرافات الخاطئة، والحارات المعتمة، والطرق المسدودة، من السهل عندئذ أن يتشكك المرء عندما يبدو أن الطبيعة تستجيب للعمليات الرياضية التي تخيلها وهو جالس على مكتبه. ومن ثم، فإن هذه ليست نهاية هذا الجزء من قصة فاينمان، على الأقل إذا أردنا أن نفهم تراثه العلمي الحقيقي. وإنما نحن في حاجة لبحث بعض الأحداث والشخصيات وتصاريف القدر التي تحكم التاريخ حقًّا؛ تلك النوعية من الأشياء التي كثيرًا ما يتجنبها المرء عند محاولته تقديم شرح منطقي للمفاهيم العلمية بعد أن تظهر الحقيقة فعلًا.

هناك شخصيتان هيمنتا على المناخ المحيط بفاينمان مباشرةً وهو المناخ الذي طور فيه اكتشافاته وفهمها، وهما: جوليان شفينجر وفريمان دايسون. وقد التقينا من قبل بالفعل بجوليان شفينجر، الفتى المعجزة. مثل فاينمان، كان شفينجر مشدودًا للسؤال الأساسي الأهم في الفيزياء النظرية في ذلك الحين: كيف نحول الديناميكا الكهربائية الكمية إلى نظرية متماسكة متسقة عن الطبيعة. ومثل فاينمان، كان شفينجر ممن أسهموا في المجهود الحربي، وكان لعمله وقتها تأثير بالغ أيضًا على منهجه. فشفينجر، الذي عمل في معمل الإشعاع التابع لمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، بدأ يتبع منهجًا هندسيًّا معتمدًا على الديناميكا الكهربائية التقليدية، مركزًا اهتمامه على المصادر وردود الأفعال. ومثل فاينمان، كان مدفوعًا بقوة بمنافسة بينه وبين نفسه في المقام الأول، ومع ما اعتقد أنه ينبغي أن يكون قادرًا على فعله.

غير أن أوجه الشبه تتوقف عند هذا الحد. فمع أن شفينجر ينحدر أيضًا من نيويورك، فإنه ترعرع في مانهاتن، وهو عالَم آخر بعيد كل البعد عن لونج أيلاند، ولعله ليس باستطاعة أي فيزيائي أن يأتي من خلفية أكثر اختلافًا من تلك. عيَّنه رابي وهو في سن السابعة عشرة في جامعة كولومبيا لعبقريته وتألقه بعد أن ساعد في حل جدال نشب بين رابي وأحد زملائه في أحد أروقة الجامعة حول نقطة دقيقة في ميكانيكا الكم. وفي سن الحادية والعشرين، نال درجة الدكتوراه، وبعدها بثمانية أعوام صار أصغر أستاذ دائم في تاريخ جامعة هارفارد. كان يشع ثقة بالنفس وحسن تنظيم فائقين. ومع أن شفينجر كان يلقي محاضراته دائمًا بدون مذكرات، فإن كل شيء كان يبدو مرتبًا في ذهنه، من الموضع الذي سيضع عنده الطباشير لأول مرة وحتى الموضع الذي سيترك فيه الطباشير السبورة، أو بالأحرى الموضعين؛ لأنه كان يكتب أحيانًا بيديه الاثنتين. ربما كان تدفق أفكاره يبدو معقدًا، وربما يقول كثيرون إنه كان أكثر تعقيدًا مما ينبغي، لكنه كان مع ذلك دقيقًا ومنطقيًّا وأنيقًا إلى أقصى حد.

أما عبقرية فاينمان فقد أعلنت عن نفسها بنوع من نفاد الصبر الذهني. فعندما كان يهتم بحل مسألة ما كان يندفع إلى الأمام ليصل إلى الحل ثم يعمل في اتجاه عكسي كي يفهم ويحدد الخطوات التي تركها. وفي بعض الأحيان، كان يضيق ذرعًا بأولئك الذين لا يستطيعون متابعة أفكاره، وقليل من كانوا يستطيعون. وعلى حد قوله، في رده على عرض وظيفي قدم إليه لاحقًا من معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا (كالتك): «لا أحب طرح مشكلة ما ثم اقتراح وسيلة لحلها، وأشعر بالمسئولية بعد أن يعجز الطالب عن التعامل مع المسألة باستخدام الطريقة المقترحة في الوقت الذي توشك فيه زوجته على الولادة فلا يحصل على وظيفة. وما يحدث هو أنني لا أقترح ما لا أعلم إن كان سينجح أم لا، والسبيل الوحيد الذي أعلم به ما سينجح هو أن أجربه بالمنزل مسبقًا، لذا فإنني أعتبر أن المقولة القديمة: «رسالة الدكتوراه هي بحث أجراه أستاذ في ظروف شديدة المشقة» حقيقة لا مراء فيها.»

ربما لهذا السبب لم يكن لدى فاينمان سوى عدد قليل للغاية من الطلبة الناجحين في الفيزياء. أما شفينجر، على الجانب الآخر، فقد أشرف على ما يزيد عن ١٥٠ طالب دكتوراه خلال حياته المهنية، نال ثلاثة منهم جائزة نوبل، اثنان في الفيزياء وواحد في الأحياء. لهذا لا يدهشنا أن مجتمع الفيزياء كان يهرع في أسراب وحشود للاستماع إلى شفينجر، وبصفة خاصة حين كان يحاول حل أكثر الألغاز وضوحًا في طليعة الفيزياء الأساسية.

بعد المؤتمر الذي عقد في شيلتر أيلاند، أخذ شفينجر على عاتقه أيضًا مهمة التوصل إلى عملية حسابية متفقة مع النسبية في الديناميكا الكهربائية الكمية لواحدة من الكميات التي اختلفت عن تنبؤات المرتبة الأدنى لنظرية ديراك؛ العزم المغناطيسي الغريب للإلكترون. وباستخدام مجموعة من الأدوات التي ابتكرها للتعامل مع مشكلات الديناميكا الكهربائية الكمية، وأفكار إعادة التطبيع التي كان هو وفيكتور فايسكوبف وإتش إيه كريمرز يروِّجون لها، كان أول من توصَّل إلى حل في أواخر عام ١٩٤٧.

بدأت الأنباء تنتشر على الفور تقريبًا في أوساط مجتمع الفيزياء حول إنجاز شفينجر. وفي اجتماع يناير ١٩٤٨ للجمعية الفيزيائية الأمريكية — وهو الملتقى الكبير للفيزياء خلال العام — دُعي شفينجر لإلقاء محاضرة، وبالفعل ألقى محاضرة بعنوان «التطورات الأخيرة في الديناميكا الكهربائية الكمية». وكان الاهتمام بها عظيمًا إلى حد أنه طلب منه إعادة المحاضرة في وقت لاحق من نفس اليوم، وبعدها مرة أخرى أمام جمهور أكبر لتلبية الطلب على الاستماع إلى النتائج التي توصل إليها.

في هذه الأثناء، نهض فاينمان بعد الحديث وذكر أنه حسب أيضًا نفس الكميات التي حسبها شفينجر، بل إنه زعم توصله لقدر أكبر بعض الشيء من الشمولية في حساب العزم المغناطيسي الغريب للإلكترون. لكنه لم يشرح الأساليب التي استخدمها بعد، لذا كان إعلانه أقل تأثيرًا بكثير.

حظيت أفكار فاينمان بقدر أقل من الاهتمام في الأوساط العلمية في ذلك الحين، ليس لأنه لم يمتلك نفس المنبر في ذلك الاجتماع، وإنما لأن منهجه بالكامل في التعامل مع المشكلات التي حلها في نهاية الأمر كان غريبًا. لقد تجاهل طويلًا شبكة الأمان الممثلة في نظرية مجال الكم التقليدية، ومع أن مخططاته أتاحت له حساب نتائج استثنائية، فإنها ربما بدت للآخرين أشبه بطلاسم نقشت بخط رديء في محاولة لتخمين الحل لمشكلات ذلك الوقت.

ذلك التحفظ الذي أبداه مجتمع علماء الفيزياء تجاه فهم أبحاثه تجلى في أوضح صوره خلال الفرصة الأولى التي لاحت لفاينمان لإلقاء محاضرة حول فكرته، بعد بضعة أشهر، في ورشة عمل أخرى أقيمت تحت رعاية الأكاديمية الوطنية للعلوم، أو ما يعرف باسم «مؤتمر بوكونو». جاءت محاضرته، وعنوانها «صياغة بديلة للديناميكا الكهربائية الكمية» بعد كلمة شفينجر، التي استمرت قرابة يوم كامل! ومع أن شفينجر كان يتصف بالهدوء والاتزان، فقد أصابه الاضطراب والارتباك بين الحين والآخر، حيث كان بور وديراك وغيرهما من كبار العلماء الحاضرين يقاطعونه على نحو مستمر.

لاحظ هانز بيته أن شفينجر يواجه مقاطعة أقل متى اتسم حديثه بطابع رسمي أكثر، لذا اقترح على فاينمان أن يقدم محاضرته بصورة تتسم بأنها رسمية ورياضية أيضًا. وكان هذا الطلب أشبه بأن تطلب من بونو عزف مقطوعة لباخ على بيانو قيثاري. كان فاينمان قد استعد لتقديم مادته بنفس الطريقة تقريبًا التي أجرى بحثه بها، مؤكدًا على العمليات الحسابية الناجحة والنتائج التي سوف تعود به بعد ذلك للوراء كي تحفز أفكاره. غير أنه، مذعنًا لاقتراح بيته، ركز على الرياضيات المرتبطة بأسلوبه الذي يجمع بين المكان والزمان بدلًا من الفيزياء. وكانت النتيجة على حد تعبير فاينمان نفسه «محاضرة ميئوسًا منها».

ظل ديراك يقاطعه سائلًا عما إذا كانت نظريته «وحدوية» — وهو أسلوب رياضي لصياغة حقيقة ما، كما شرحت آنفًا، مفاده أن المجموع المحسوب لاحتمالات جميع النتائج الفيزيائية الممكنة في أي موقف يجب أن يساوي واحدًا صحيحًا (بمعنى أن هناك احتمالًا بنسبة ١٠٠٪ أن يحدث شيء ما) — غير أن فاينمان في الحقيقة لم يكن قد فكَّر في هذا الأمر، ولما كانت جسيماته تتحرك للأمام وللخلف في الزمن، فقد أجاب بأنه ببساطة لا يعلم.

بعدها، عندما قدم فاينمان فكرة سلوك البوزيترونات وكأنها إلكترونات تتحرك عكسيًّا في الزمن، سأله أحد المشاركين إن كان هذا يعني ضمنيًّا أنه في بعض مسارات الزمكان التي أدخلها في حساباته، قد تبدو عدة إلكترونات وكأنها تحتل نفس الحالة، وهو خرق واضح لمبدأ الاستبعاد لباولي. فأجابه فاينمان بالإيجاب لأنه في هذه الحالة لم تكن الإلكترونات المختلفة في حقيقة الأمر جسيمات مختلفة، وإنما هي نفس الجسيمات تتحرك جيئة وذهابًا في الزمن! يذكر فاينمان لاحقًا أن الفوضى عمت المكان بعدها.

في نهاية المطاف أدى هذا إلى أن شكك بور في الأساس الفيزيائي لمفهوم الزمكان لفاينمان ذاته. وزعم أن صورة مسارات الزمكان تخرق مبادئ ميكانيكا الكم، التي تقول إن الجسيمات لا تتحرك في مسارات فردية معينة على الإطلاق! وعند هذه النقطة تخلى فاينمان عن محاولة إقناع الحاضرين بصحة مخططه.

كان بور مخطئًا بالطبع. لقد أوضح أسلوب حاصل جمع المسارات لفاينمان بما لا يدع مجالًا للشك أنه لا بد من دراسة العديد من المسارات المختلفة في آن واحد عند حساب النتائج الفيزيائية، والحقيقة أن نجل بور جاء فيما بعد وقدَّم اعتذاره قائلًا إن أباه أساء فهم فاينمان. غير أن نمط التساؤل الاستجوابي عكس ما كان من الواضح أنه شك عميق وريبة متنامية في أن فاينمان توصَّل إلى صورة متسقة تمام الاتساق. لقد كان يطلب ما لا يُستطاع من جمهور الحاضرين، الذي لا يمكن أن يتوقع منه — على الرغم من وجود بعض ألمع العقول في علم الفيزياء في القرن العشرين وسطه — التأقلم في محاضرة واحدة مع هذا الأسلوب الجديد كليًّا الذي لم يكتمل بعد في التفكير في عمليات فيزيائية أساسية. فعلى أي حال، فإن فاينمان نفسه استغرق منه الأمر سنوات وآلافًا من الصفحات التي أجرى فيها عملياته الحسابية حتى توصل إليه.

ربما يظن المرء أن فاينمان كان حتمًا يغار من شفينجر، لا سيما في ضوء تباين استقبال الناس المبكر لأبحاث كل منهما. ما من شك في أنهما كانا ميالين للمنافسة. لكنهما، حسبما يقول فاينمان على الأقل، كانا أقرب لشريكين في مؤامرة. لم يكن أي منهما يفهم تمام الفهم ما يفعله الآخر، غير أن كليهما كان يعرف قدرات الآخر ويثق بها، وكليهما كان يشعر بأنهما يسبقان غيرهما. ربما كانت ذاكرة فاينمان متحيزة لمصلحته، إذ إنه بالتأكيد لم يكن راضيًا وقتها عن عدم فهم الآخرين له. وقد قرر، وهو يشعر بالحزن والكآبة بعد مؤتمر بوكونو، أن يقدم أفكاره مطبوعة حتى يتمكن من شرح ما كان يفعله بصورة ملائمة. وبالنسبة لفاينمان، الذي كان يكره كتابة أعماله للنشر، كان الدافع هنا واضحًا.

تذكر أن منهج فاينمان في حل المسائل الفيزيائية كان من الممكن صياغته في إطار «الغايات تبرر الوسائل». وأعني بهذا أن المرء قد يخرج بفكرة أو طريقة جديدة شبه ناضجة، غير أن صحتها تكمن فيما تحققه من نتائج. فإذا اتفقت النتائج المحسوبة مع الطبيعة، من خلال التجارب، فالأرجح إذن أن الطريقة على المسار الصحيح وأنها تستحق المزيد من البحث والاستكشاف.

شعر فاينمان أن أسلوب حاصل جمع المسارات الذي ابتكره صحيح. كان بحلول ذلك الوقت قد حسب كل الكميات التي يمكن للمرء حسابها في الديناميكا الكهربائية الكمية تقريبًا واتفقت نتائجه مع الطرق الأخرى عندما كانت متاحة. لقد ابتكر أساليبه أثناء تقدمه في مسيرته بغرض التعامل مع المسائل المحددة التي يواجهها. ولكن كيف يمكنه تقديم هذا مكتوبًا لجمهور من الفيزيائيين غير المعتادين على العمل في اتجاه عكسي، وإنما يعملون في اتجاه أمامي لفهم النظريات؟

عندما يتعلق الأمر بفاينمان، كان الوصول إلى فهم واضح لأفكاره بقدر يسمح بعرضها على الآخرين يعني إجراء المزيد من الحسابات لنفسه. لذا، عكف طوال صيف عام ١٩٤٨ على تنقيح طرقه الحسابية وتعميمها، وتوصَّل أيضًا لطرق أكثر فعالية. وعن طريق جعل طرقه الحسابية أكثر اختصارًا وإفادة وعمومية، من المرجح أنه شعر حينها أنه يستطيع توصيل نتائجه إلى مجتمع الفيزيائيين بسهولة أكبر. وأخيرًا، بحلول ربيع عام ١٩٤٩ كان فاينمان قد ناضل بما فيه الكفاية حتى تمكَّن من إتمام بحثيه الملحميين: «نظرية البوزيترونات» و«نهجٌ زمكاني لفهم الديناميكا الكهربائية الكمية»، اللذين وضعا الأساس بصورة جوهرية لجميع أفكاره وحساباته الناجحة التي أجراها على مدار العامين السابقين.

هناك عاملان رئيسيان آخران أسهما في توطيد عزم فاينمان وتراثه؛ الأول: يتعلق بعالِم رياضيات شاب مميز تحول إلى فيزيائي سبق أن التقينا به، وهو فريمان دايسون، الذي وصل إلى الولايات المتحدة عام ١٩٤٧ قادمًا من جامعة كامبريدج طالبًا للعمل مع بيته، والذي شرح أعمال فاينمان في نهاية المطاف لباقي العالم.

بعد أن اشتهر بالفعل في المملكة المتحدة لإنجازاته في الرياضيات، قرَّرَ فريمان دايسون وهو في سن الثالثة والعشرين أن المسائل الذهنية المثيرة بحق في ذلك الحين تكمن في الفيزياء النظرية، وبالتحديد في محاولة فهم النظرية الكمية للكهرومغناطيسية. لهذا، بينما كان زميل كلية ترينيتي بجامعة كامبريدج، اتصل بالعديد من الفيزيائيين وسألهم إلى أين يتوجه ليلحق بالتطورات الحديثة الأكثر إثارة، وأشار عليه الجميع بالالتحاق بمجموعة بيته في كورنيل.

في غضون عام، كان دايسون قد أتمَّ بحثًا يحسب فيه التصويبات الكمية لتحول لامب في نظرية صغيرة تتفق مع النسبية مستخدمًا جسيمات ليس لها لف مغزلي. ومثل فاينمان، كان متأثرًا بشدة باحترامه البالغ وإعجابه الشديد ببيته، وكان انبهاره بالرجل مماثلًا بقدر واضح لانبهار فاينمان. كتب دايسون يقول: «تمثلت رؤيته في ضرورة فهم أي شيء يمكن حسابه عدديًّا. كان هذا بالنسبة له يمثل جوهر ممارسة الفيزياء.»

بحلول ربيع عام ١٩٤٨، كان تركيز دايسون منصبًّا بعمق على المشكلات المفاهيمية للديناميكا الكهربائية الكمية، وقرأ مع بقية أعضاء مجتمع الفيزياء، بعد أن نبَّهَهُم روبرت أوبنهايمر، العدد الأول من الدورية اليابانية الجديدة «بروجرس إن ثيوريتيكال فيزيكس». وذهل عندما اكتشف أن علماء الفيزياء النظرية اليابانيين، مع عزلتهم التامة، أحرزوا تقدمًا كبيرًا أثناء الحرب. ابتكر سين-إتيرو توموناجا تحديدًا، بصورة مستقلة إلى حد بعيد، أسلوبًا لحل مشكلات الديناميكا الكهربائية الكمية مستخدمًا تقنيات مشابهة لتلك التي ابتكرها شفينجر. كان الفارق يكمن في أن أسلوب توموناجا بدا أبسط كثيرًا في رأي دايسون، الذي كتب يقول: «لقد عبَّر توموناجا عن أسلوبه بلغة بسيطة واضحة يمكن لأي شخص أن يفهمها، في حين لم يفعل شفينجر ذلك.»

خلال كل تلك الفترة، كان دايسون يتفاعل مع فاينمان، متعلمًا منه على السبورة ما أنجزه بالضبط. وأعطاه هذا فرصة فريدة من نوعها تقريبًا لفهم أسلوب فاينمان في وقت لم يكن فاينمان قد نشر فيه بحثه بعد، ولا حتى قدَّم حلقة دراسية متماسكة حول الموضوع.

ولو كان هناك شخص أصبح دايسون يكنُّ له الإعجاب مثلما كان يكنُّه لبيته أو ربما أكثر، فإن هذا الشخص هو فاينمان، الذي كانت عبقريته الممزوجة بالحماس والجاذبية والجرأة تأسر لُبَّ العالِم الشاب. وسرعان ما أدرك دايسون أن الأمر لم يكن يقتصر على قوة النهج الزمكاني الذي ابتكره فاينمان وحسب، وإنما أنه لو كان صحيحًا، فلا بد أن يكون ممكنًا الكشف عن علاقة بين هذا النهج وبين الأساليب التي ابتكرها شفينجر وتوموناجا.

في الوقت نفسه، كان دايسون قد حقَّقَ قدرًا من الإبهار للمشرف على أبحاثه إلى حد جعل بيته يقترح عليه أن يمضي العام الثاني من دراسة زمالة خريجي الكومنولث بمعهد الدراسة المتقدمة، مع أوبنهايمر. وخلال الصيف، وقبل انتقاله إلى نيو جيرسي، صاحب دايسون فاينمان في تلك الرحلة المصيرية عبر البلاد بالسيارة إلى لوس ألاموس، ثم التحق بمدرسة صيفية في ميشيجن، ثم قام برحلة أخرى عبر البلاد، هذه المرة بحافلة «جراي هاوند»، إلى بيركلي ثم العودة. وخلال رحلة العودة من كاليفورنيا، وبعد سفر بالحافلة دام ثمانيًا وأربعين ساعة على نحو يعتبره كثيرون مجهِدًا للغاية للعقل، ركَّز دايسون تفكيره بكثافة على الفيزياء، وتمكَّن من الانتهاء ذهنيًّا من السمات الأساسية لبرهانه على أن أسلوب فاينمان وأسلوب شفينجر في الديناميكا الكهربائية الكمية متكافئان في حقيقة الأمر. وتمكَّن أيضًا من صهرهما معًا «في شكل جديد لنظرية شفينجر يجمع بين مزايا كليهما»، على حد قوله في أحد خطاباته.

بحلول شهر أكتوبر من عام ١٩٤٨، وقبل أن يتم فاينمان بحثه الطويل في الديناميكا الكهربائية الكمية، تقدَّم دايسون ببحثه الشهير بعنوان «نظريات الإشعاع لتوموناجا وشفينجر وفاينمان»، مبرهنًا على تكافئها. وكان التأثير النفسي لهذا البحث بالغًا. لقد كان الفيزيائيون يثقون في شفينجر، غير أن أساليبه كانت معقدة إلى حد يفزعهم ويثبط هممهم. وعندما أثبت دايسون أن أسلوب فاينمان على نفس القدر من الجدارة والاستحقاق والاتساق وأنه يقدم منهجًا منظمًا أكثر سهولة بكثير لحساب تصويبات الكم الأعلى رتبة، كشف بذلك لبقية أعضاء مجتمع الفيزياء عن أداة جديدة وفعالة يمكن للجميع البدء في استخدامها.

أتبع دايسون بحثه عن «الإشعاع» ببحث إبداعي أصيل آخر في أوائل عام ١٩٤٩. فبعد أن ابتكر الوسائل التي تتيح تكييف صياغة معادلات شفينجر مع أساليب فاينمان بحيث يمكن حساب الإسهامات ذات الرتبة الأعلى شديدة التعقيد في النظرية، أخذ دايسون على عاتقه مهمة إثبات أن المسألة برمتها منطقية، على نحو دقيق، أو على الأقل دقيق بقدر كاف لإرضاء الفيزيائيين! وأوضح أنه بمجرد حل مشكلات قيم ما لانهاية في أبسط حسابات الطاقة الذاتية واستقطاب الفراغ، فعندئذٍ لن تكون هناك قيم لانهائية أخرى تؤدي إلى كافة حسابات الرتبة الأعلى. أتم هذا العمل برهانًا على ما صار الآن يعرف ﺑ «قابلية إعادة التطبيع» للنظرية، وفيها يمكن دمج جميع قيم ما لانهاية — ما إن تتحقق السيطرة عليها أولًا بواسطة حيل رياضية من النوع الذي أتاحه أسلوب فاينمان بكل سهولة — ضمن «الكتلة المجردة» و«الشحنة» غير القابلتين للقياس في النظرية. وعندما يُعبر عن كل شيء في صورة كتل وشحنات مقاسة فيزيائيًّا أُعيد تطبيعها، تصبح كل التنبؤات ذات قيم محددة ومعقولة.

مع اكتمال بحثي دايسون، أمكن بحق ترويض الديناميكا الكهربائية الكمية. وأصبح بإمكانها الآن أن ترتقي إلى مرتبة «النظرية» وفق أفضل مفهوم علمي بمعنى كونها صياغة متسقة منطقيًّا حققت تنبؤات فريدة يمكن مقارنتها — وتمت بالفعل مقارنتها — بنجاح بالنتائج التجريبية.

ومن المثير أن بحث دايسون الأصلي الذي يبرهن على تكافؤ صور شفينجر وصور فاينمان لم يحتوِ إلا على مخطط زمكاني واحد فقط. غير أنه لما كانت بحوث فاينمان الأصلية الأولى حول النتائج التي توصل إليها لم تكن قد ظهرت بعد، فإن أول «مخطط لفاينمان» ظهر مطبوعًا كان في الحقيقة من عمل دايسون!

من العسير أن نوفي بحث دايسون حقه من حيث الأهمية والتأثير. لقد أصبح دايسون على الفور أحد مشاهير مجتمع الفيزياء، ولكن الأهم من ذلك أن بحثه جعل آخرين، ممن لم يتمكَّنوا من فهم أسلوب فاينمان البياني أو كانوا مرتابين فيه، يتعلمون الصيغة ويبدءون في تبنِّيها. وفي حين أن عرض فاينمان الخاص لأعماله كان سيظهر فيما بعد في بحثين مبدعين أصليين كتبهما عامي ١٩٤٩ و١٩٥٠، فإن بحثي دايسون هما اللذان فتحا النافذة التي من خلالها تمكنت أفكار فاينمان من تغيير الطريقة التي كان علماء الفيزياء يفكرون بها في الفيزياء الأساسية.

عمل دايسون جاهدًا، وربما أكثر من فاينمان نفسه، لإقناع بقية العالم بجدوى أفكار فاينمان. والحق أن كثيرًا من استخدام علماء الفيزياء اللاحق لمخططات فاينمان خلال العقد التالي لظهور أعماله يمكن أن نعزوه في الأساس إلى تأثير دايسون، الذي صار، من خلال اتصاله الشخصي بفاينمان، حواريَّه الأول.

عكست أبحاث دايسون في الأساس رؤيته الخاصة التي مفادها أنه على الرغم من أن أساليب فاينمان وشفينجر وتوموناجا كانت متكافئة، فإن أسلوب فاينمان كان أكثر تنويرًا ونفعًا لأولئك الذين يرغبون في استخدام الديناميكا الكهربائية الكمية في حل مسائل الفيزياء.

ومع بدء تحول تيار الاهتمام بعيدًا عن شفينجر، لم يكن هذا الأخير غافلًا عن ذلك، وقد علَّق فيما بعد بقوله: «كانت هناك رؤى حرة، تَذِيع وتنتشر بأسلوب قريب إلى حد ما من أسلوب الحواريين، الذي استخدم المنطق الإغريقي في تقديم إله اليهود إلى عبدة الأوثان.» ثم أصدر شفينجر بعدها إطراءً آخر، ربما كان أكثر تعبيرًا عن رؤيته أن التنوير لا يتحقق إلا لأولئك المستعدين لتحمل أشق المعاناة: «مثل رقاقة السليكون التي ظهرت في سنوات أقرب، كان مخطط فاينمان يعمل على إتاحة العمليات الحسابية للعامة.»

درس المؤرخ ديفيد كايزر «انتشار» أسلوب فاينمان المعتمد على المخططات في أوساط مجتمع علماء الفيزياء خلال السنوات التي سبقت، وتلت، مباشرةً تاريخ نشر أبحاثه. وحسبما أوضح كايزر، كان هذا الانتشار يزداد بصورة أسيَّة، ويتضاعف كل عامين تقريبًا، وبحلول عام ١٩٥٥، احتوى حوالي ١٥٠ بحثًا على مخططات فاينمان. وما بدأ في صورة فضول لم يفهمه سوى فاينمان وحده وبعض من زملائه في كورنيل، ثم دايسون وآخرين في معهد الدراسة المتقدمة وبعض الأماكن الأخرى، استمر ليصبح أسلوبًا ظل يظهر منذ ذلك الحين في كل عدد يصدر من أعداد دورية فيزيكال ريفيوز؛ وهي الدورية المرجعية القياسية للمتخصِّصين في ذلك المجال. وما بدأ في صورة جهد يهدف للتعامل مع الديناميكا الكهربائية الكمية صار الآن يستخدم في جميع مجالات علم الفيزياء تقريبًا.

كان فاينمان ودايسون مختلفين أشدَّ الاختلاف في فهم مخططات فاينمان في واقع الأمر. ففاينمان — متأثرًا بصور الزمكان التي رسمها هو نفسه، وبأسلوب حاصل جمع المسارات الذي ابتكره، وبإصراره على التفكير في الجسيمات وهي تتحرك لا في مجالات الكم — اعتبر تلك المخططات صورًا حقيقية لعمليات فيزيائية تتقافز فيها الإلكترونات من مكان إلى مكان ومن زمان إلى زمان (للأمام وللخلف). وبناءً على تلك الصور دوَّن صيغه، واستطاع بعد ذلك أن يفحص ويتحقَّق ليرى إن كانت تلك الصيغ ستنتج حلولًا صحيحة أم لا. لقد كان ذلك بحق جهدًا ذاتيًّا غير معتمد على أساس جوهري راسخ بخلاف حدسه المميز المثير للإعجاب.

وجاءت أعمال دايسون لتغير كل هذا. فقد أوضح كيف يمكن أن تنتج المخططات عن مجموعات أساسية من المعادلات المبنية على نظرية مجال الكم. من وجهة نظر دايسون، كان كل جزء من كل مخطط يمثل حدًّا واضح المعالم في سلسلة من المعادلات. كانت المخططات بمنزلة عكاز يساعد على شرح المعادلات، ولم تكن «قواعد فاينمان» الموضوعة لترجمة المخططات إلى معادلات مخصصة لهذا الغرض تحديدًا، كما وضعها فاينمان، وإنما كان يمكن تبرير وجودها ودعمه بواسطة معالجات محددة للمعادلات المرتبطة بميكانيكا الكم والنسبية الخاصة. وربما لهذا السبب، جاء تبني مخططات فاينمان بسرعة أكبر من تبني نهج الزمكان وتكامل المسار الذي ابتكره في الفيزياء، وهو الأسلوب الذي سيستغرق بضعة عقود أخرى ليغير كليًّا علم الفيزياء، كما سنرى لاحقًا.

أدرك دايسون على الفور كيف يمكن لطرق فاينمان مساعدة البشر على إجراء الحسابات شديدة التعقيد لنظرية مجال الكم بأسلوب منهجي. وعلى حد وصفه لاحقًا في مذكراته: «العملية الحسابية التي أجريتها لهانز بيته مستخدمًا النظرية التقليدية استغرقت عدة شهور من العمل وعدة مئات من الأوراق. وكان في استطاعة ديك فاينمان التوصل لنفس النتيجة، بإجراء العملية الحسابية على سبورة، خلال نصف ساعة.»

جاء شعور فاينمان بأنه قد ولد من جديد، لعلمه أنه حقًّا اكتشف شيئًا مميزًا، أثناء اجتماع الجمعية الفيزيائية الأمريكية في يناير ١٩٤٩ في نيويورك، وهو ذات الاجتماع الذي احتفى فيه روبرت أوبنهايمر وآخرون بأعمال دايسون، أثناء كلمة الرئيس التي ألقاها أوبنهايمر. في ذلك الحين، عندما كان من الممكن جمع كافة العلماء النشطين في أبحاث الفيزياء في البلاد في فندق واحد كبير، ربما صار مؤتمر يناير أهم اجتماع يعقد في مجال الفيزياء في العالم أجمع. في عام ١٩٤٩، كان المزاج احتفاليًّا إلى حد بعيد، حيث بدأ الفيزيائيون أخيرًا يتبيَّنون المشهد من خلال ضباب قيم ما لانهاية ليفهموا الديناميكا الكهربائية باعتبارها نظرية كم صالحة للعمل. علاوة على ذلك، مع ابتكار أول معجل جسيمات ذي قيمة، وهو السيكلوترون (المسرِّع الدوراني) قياس ١٨٤ بوصة في بيركلي، تم تخليق عدد لا يعد ولا يحصى من الجسيمات الأولية الجديدة التي يتفاعل بعضها مع بعض في ظل القوة النووية الشديدة الغريبة «في ظروف خاضعة للسيطرة وبأعداد هائلة»، على حد وصف فاينمان لاحقًا في مقال نقدي كتبه عام ١٩٤٨ لدورية جديدة اسمها «فيزيكس توداي». كان شعوره بالإثارة تجاه هذا العالم الجديد الغريب من الظواهر، والأمل في أن تتمكن الوسائل الجديدة التي ابتكرت من التعامل مع الديناميكا الكهربائية الكمية، واضحًا محسوسًا. ولم يأت العامل المحفز لشعور فاينمان بالحماس من المناقشات التي دارت حول الديناميكا الكهربائية الكمية ذاتها، وإنما من الجدل الذي دار حول التفاعلات بين الجسيمات التي خُلقت حديثًا والمسماة «ميزونات».

كان فيزيائي شاب، اسمه موراي سلوتنيك، قد استخدم طرق الحساب السابقة على أساليب فاينمان في نظرية مجال الكم ليحدد، بجهد هائل، تأثيرات تلك الأنواع الجديدة من الجسيمات إذا جرى تبادلها في صورة جسيمات حقيقية بين نيوترونات النواة والإلكترونات التي تدور حولها. وقد اكتشف أن نمطًا واحدًا فقط من التفاعل المحتمل من شأنه إحداث نتائج ذات قيم محددة، قام بحسابها لاحقًا. وقدم سلوتنيك بحثه في إحدى جلسات الاجتماع.

بعد الانتهاء من محاضرته، نهض أوبنهايمر وبطريقته المعتادة دحض بسرعة وبقسوة نتائج سلوتنيك. وزعم أوبنهايمر أن أحد الباحثين الحاصلين على الدكتوراه من المعهد قد أثبت نظرية عامة تقول إن جميع التفاعلات المختلفة الممكنة الحدوث للميزون ستكون لها نفس التأثيرات على التفاعلات بين النيوترون والإلكترون، وهي نتيجة تتعارض بوضوح مع زعم سلوتنيك.

من الواضح أن فاينمان لم يصل إلا بعد انتهاء تلك الجلسة، لكنه أُبلِغ بالجدل الجديد الدائر، فطلب التعليق وإبداء رأيه الشخصي حول من هو على صواب. حتى هذه اللحظة لم يكن فاينمان قد أجرى أي حسابات نظرية تتعلق بالميزونات، غير أنه في ذلك المساء، بعد أن شرح له أحدهم ما تقوله النظريات، ترجم أساليبه في الديناميكا الكهربائية الكمية إلى هذا السياق الجديد، وأمضى عدة ساعات في حساب مختلف النظريات العديدة المحتملة عن الميزون. وفي الصباح قارن نتائجه بتلك التي توصَّل إليها سلوتنيك، الذي أجرى حسابه فقط في إطار حد خاص من حدود النظرية. كان فاينمان قد أجرى حساباته بتعميم كامل، لكنه عندما ألزم نفسه بالحد الذي استخدمه سلوتنيك، اتفقت نتائجهما.

اطمئن قلب سلوتنيك دون شك بالنتيجة التي توصَّل إليها فاينمان، وأصابه الذهول أيضًا. فقد قضى ما يقرب من عامين في صياغة وإتمام عملية حسابية أجراها فاينمان في أمسية واحدة! ومن ناحية فاينمان، كان هذا الإدراك سببًا في شعوره بنشوة هائلة؛ فحينئذ، وحينئذ فقط، أدرك القدرة الحقيقية لأساليبه الجديدة. وقد قال عن ذلك لاحقًا: «عندئذ علمت حقًّا أن لديَّ شيئًا ما. لم أكن أعلم حقيقةً أنني أمتلك شيئًا بتلك الروعة إلا عندما حدث هذا. كانت تلك هي اللحظة التي أدركت فيها فعلًا أنه ينبغي عليَّ نشر عملي، وأنني سبقت العالم … كانت اللحظة التي نلت فيها جائزة نوبل عندما أخبرني سلوتنيك أنه ظل يعمل على تلك المسألة طيلة عامين. أما عندما تسلَّمت الجائزة فعلًا فلم يكن ذلك بالأمر الجلل، لأنني كنت أعلم مسبقًا أنني نجحت. لقد كانت تلك لحظة مثيرة.»

علاوة على ذلك، عندما قدم زميل أوبنهايمر الحاصل على الدكتوراه بحثه في اليوم التالي، لم يستطع فاينمان مقاومة رغبته في إهانة أوبنهايمر. وبعد أن قدم الباحث، واسمه كيس، محاضرته، نهض فاينمان ليعلن على نحو ارتجالي أنه لا بد أن يكون مخطئًا، إذ صار قادرًا على القول عن بحث سلوتنيك «إن عملية حسابية بسيطة تبين أنه صحيح».

هذه الواقعة لم تضرم النار الضرورية لإقناع فاينمان بأن عليه أن ينشر ما توصل إليه من نتائج فحسب، وإنما أرغمته كذلك على ابتكار الأدوات التي تتيح له تقديم أبحاثه بأسلوب يستطيع بواسطته باقي أعضاء مجتمع الفيزياء فهمها. في المقام الأول، شعر فاينمان بضرورة فهم ما أخطأ فيه كيس. لكن لكي يفعل ذلك، كان عليه أولًا أن يفهم بالضبط ما قام به كيس، وكان هذا عسيرًا عليه إذ إن كيس استخدم الأساليب التقليدية لنظرية مجال الكم، التي كان فاينمان يتجاهلها حتى تلك اللحظة. وأثناء تعلم فاينمان تلك الأساليب، من أحد طلبة الدراسات العليا في كورنيل، لم يتمكن فحسب من اكتشاف الخطأ الذي وقع فيه كيس، وإنما حقق أيضًا مكسبًا إضافيًّا من استثماره لذلك الوقت؛ لقد استطاع أخيرًا فهم عمليات الفراغ بطريقة لم تتيسر له من قبل. ولعب فهمه الجديد دورًا حيويًّا في عرضه لأول أبحاثه الملحمية في الديناميكا الكهربائية الكمية، «نظرية البوزيترونات».

بعدها، ومع معرفته المكتسبة حديثًا بنظريات الميزون، التي كانت في غاية الشهرة حينها، تمكَّن فاينمان من صياغة قواعده البيانية لتلك النظريات وإعادة التوصل بسرعة لكل النتائج التي توصل إليها فيزيائيون آخرون على مر السنين. وقد أوجز تلك النتائج في بحثه الكلاسيكي التالي: «نهجٌ زمكاني لفهم الديناميكا الكهربائية الكمية»، فأثارت الاهتمام دون شك في أوساط مجموعة كبيرة من الفيزيائيين الذين كانوا يناضلون من أجل فهم تلك الجسيمات الجديدة المتفاعلة بعضها مع بعض بقوة.

ولما تعرَّض للاستفزاز في مؤتمر بوكونو، حيث أفسد الأمور تمامًا في المحاضرة التي ألقاها، قرَّر أن يبدأ أولًا بنشر أساليبه الحسابية البيانية بأسلوب متماسك، ثم يعرض الأسس الرياضية الرسمية فيما بعد. ولما كان يدرك أن النهج الزمكاني «جاء من مكان بعيد بعيد»، كتب في مقدمة بحثه يقول: «أسلوب لاجرانج … عُدِّل بما يتفق مع متطلبات معادلة ديراك وظاهرة نشوء الأزواج. وقد صار هذا الأمر أسهل عن طريق إعادة تفسير نظرية الفجوات. وأخيرًا من أجل الحسابات العملية ابتُكِرت التعبيرات في سلسلة أُسية … كان من الواضح أن كل حد في السلسلة له تفسير فيزيائي بسيط. ولما كان فهم النتيجة أيسر من فهم الاشتقاق، فقد ظننت أن أفضل ما أفعله هو نشر النتائج أولًا في هذا البحث.»

وعلى الرغم من أن فاينمان قلل إلى أدنى حد الدوافع النظرية والرياضية في عرضه المبدئي هذا، والذي أدرك أنه لا يمكن بحال أن «يحمل اليقين الراسخ بالحقيقة الذي يأتي مصاحبًا لعملية الاشتقاق»، فقد أوضح مع ذلك للقارئ الميزة الواضحة لأساليبه. فعند مقارنة النهج الزمكاني الذي ابتكره بالنهج التقليدي؛ النهج «الهاميلتوني»، للتعامل مع نظرية ديراك النسبية في مقابل نظرية شرودينجر غير النسبية، كتب يقول: «وكنقطة إضافية أقول إن الثبات النسبي سيكون بديهيًّا واضحًا بذاته. إن الشكل الهاميلتوني للمعادلات يطور المستقبل من الحاضر الآني. غير أنه من منظور راصدين مختلفين في حالة حركة نسبية، يكون الحاضر الآني مختلفًا، ومتفقًا مع قطع مختلف ثلاثي الأبعاد من الزمكان … وعن طريق نبذ النهج الهاميلتوني، يمكن التوفيق بين النسبية وميكانيكا الكم على نحو طبيعي إلى أقصى حد.»

على امتداد العام التالي، أتم فاينمان البحثين المتبقيين الضروريين لتقديم اشتقاق شامل وأكثر دقة ورسمية لنتائجه، مستخدمًا نوعًا جديدًا من الأساليب الحسابية ابتكره، وليوضح رسميًّا تكافؤ أساليبه مع أساليب نظرية مجال الكم التقليدية. وبنشر أبحاث فاينمان الأربعة، اكتملت بذلك قصة الديناميكا الكهربائية الكمية على نحو جوهري. وما بدأ في صورة رغبة راودته عندما كان لا يزال طالبًا بالدراسات العليا في إعادة صياغة الديناميكا الكهربائية الكمية كنظرية بدون أي قيم لانهائية، تطور ليصبح منهجًا دقيقًا يتسم بكفاءة مذهلة للتغلب على قيم ما لانهاية للحصول على نتائج يمكن مقارنتها بالتجارب.

لم يفقد فاينمان تمييزه للفارق بين الأمل والواقع. وفي جميع أجزاء أبحاثه الأربعة — مع تأكيده على الإنجاز الذي جسدته — عبَّر فاينمان عن شعور واضح بالإحباط. فعند مقارنة أساليبه الحسابية بأساليب شفينجر على سبيل المثال، كتب يقول عن الزمكان: «على الرغم من أن المنهجين يتفقان معًا، فإن أيًّا منهما لا يبدو مُرضيًا تمامًا من الناحية النظرية. غير أنه يبدو واضحًا أن لدينا الآن طريقة مكتملة ومحددة لحساب العمليات الفيزيائية من أي مرتبة في الديناميكا الكهربائية الكمية.»

على مدار السنوات العديدة السابقة على عام ١٩٦٥، وحتى خلال ذلك العام الذي فاز فيه بجائزة نوبل عن أعماله، ظل فاينمان يشعر بأن أساليبه مفيدة فحسب، لكنها ليست بالغة التأثير. فهو لم يُمِطِ اللثام عن خصائص أساسية جديدة للطبيعة من شأنها أن تخلص النظرية من قيم ما لانهاية، وإنما عثر فحسب على طريقة تتيح تجاهل تلك القيم بأمان. كان يشعر أن الأمل الحقيقي — في أن يؤدي تكامل المسارات إلى الكشف عن أشياء جديدة في فهمنا الأساسي للطبيعة يرجو أن تعالج مشكلات فيزياء الكم النسبية — لم يصبح حقيقة ملموسة بعد. وعلى حد تصريحه لجريدة طلابية في يوم الإعلان عن جوائز نوبل: «كان الهدف من وراء نشر بحثي عام ١٩٤٩ إتاحة تلك الطرق المبسطة في الحساب بشكل أكبر للجميع، فقد كنت لا أزال أظن أنني لم أحل أي مشكلات حقيقية … وكنت لا أزال أنتظر أن يأتي يوم أصل فيه إلى نهاية لفكرتي الأصلية … وأن أحصل على إجابات ذات قيم محددة، وأن أخرج هذا الإشعاع الذاتي وأن أُقوِّم دوائر الفراغ وغيرها … وهو ما لم أتمكن من تحقيقه مطلقًا.» وعلى حد وصفه لاحقًا في خطاب تسلم جائزة نوبل: «هذا يكمل قصة تطور النظرة الزمكانية للديناميكا الكهربائية الكمية. وإني لأتساءل هل يمكننا أن نتعلم منها أي شيء. أشك في ذلك.»

إلا أن التاريخ سيبرهن في نهاية المطاف على عكس ذلك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤