الفصل الثاني عشر

إعادة ترتيب الكون

لا جدوى من المقاومة.

جنس البورج، مخاطبًا كابتن بيكارد،
في مسلسل «ستار تريك: الجيل التالي»

شرح فاينمان كيف يمكن فهم عملية التحول التي أدت إلى إنتاج الهيليوم فائق الميوعة على أنها تكثُّف أشبه بتكثُّف بوز-أينشتاين؛ حيث تتكثَّف جميع الذرات في حالة كم واحدة مرئية بالعين المجردة. غير أن هذا لم يحل المشكلة. فالعالم لا يبدو لنا ميكانيكيًّا كميًّا لأن الارتباطات الميكانيكية الكمية الغامضة عند المستوى الذري التي تتسبب في جميع الظواهر الشاذة يمكن أن تتعرض للتدمير سريعًا بواسطة التفاعلات مع البيئة. ومع زيادة حجم المنظومة أكثر وأكثر، يزداد عدد وتنوع تلك التفاعلات، التي صارت الآن تشمل التفاعلات الداخلية بين العديد من مكوناتها، وسرعان ما يُفقَد «تماسك الكم» على المقاييس الزمنية المجهرية بالغة الصغر. وهكذا فإن التكثف في حالة كمية مرئية بالعين المجردة مجرد جانب، ولكن لماذا لا يدمر أصغر الاضطرابات حجمًا هذه الحالة؟ ما الذي يجعل الهيليوم فائق الميوعة يظل فائق الميوعة؟

إلى أن بدأ فاينمان في العمل على هذا الموضوع، كانت الإجابات التي تقدم لتلك المسألة «فينومينولوجية» أو «ظواهرية» (أي مبنية على علم الظواهر). وبعبارة أخرى، لما كانت التجارب قد بيَّنت بوضوح وجود ما يعرف بالميوعة الفائقة، فإن بإمكان المرء استخلاص السلوك العام للنظام من النتائج التجريبية ومن ثم استنباط الخصائص الفيزيائية المجهرية للنظام التي يجب أن يتَّصف بها حتى يُحدِث تلك النتائج. قد يبدو هذا أشبه بتفسير فيزيائي مكتمل، لكنه ليس كذلك. إن اشتقاق الخصائص الفيزيائية المجهرية من التجارب يختلف عن تفسير أسباب صنع الطبيعة لتلك الخصائص. وكان هذا هو الهدف الذي وضعه فاينمان لنفسه، ونجح إلى حد بعيد في تحقيقه.

كان ليف لانداو قد طرح النموذج الظواهري الصحيح. كان لانداو مهيمنًا على مجال الفيزياء في الاتحاد السوفييتي بقوة شخصيته واتساع نطاق اهتماماته الذي كان يوازي اتساع نطاق اهتمامات فاينمان، وكان فاينمان يكنُّ له تقديرًا عظيمًا. وفي الواقع، عندما دعت الأكاديمية السوفييتية للعلوم فاينمان عام ١٩٥٥ لحضور أحد المؤتمرات، كان الالتقاء بلانداو أحد الأسباب التي جعلت فاينمان في البداية يرحب بكل سرور بتلك الفرصة. ولكن مع الأسف، تسبَّبت توترات الحرب الباردة في أن نصحته وزارة الخارجية بعدم الذهاب، وأذعن فاينمان لهذا الطلب.

على عكس فاينمان — الذي كان «مركزه» الذهني يعود به دائمًا فيما يبدو إلى فيزياء الجسيمات — ظل لانداو عاكفًا على فيزياء المواد، وهو المجال ذاته الذي كان فاينمان في ذلك الوقت يركِّز اهتمامه عليه. كان لانداو قد زعم أن استمرار حالة الميوعة الفائقة يقتضي ضمنًا أنه لا توجد حالات طاقة منخفضة أخرى متاحة بالقرب من حالة تكثف بوز-أينشتاين المتماسكة عند درجة الحرارة المنخفضة بحيث يمكن للاضطرابات أن تدفع السائل الكمي إليها. إن السائل الطبيعي لديه مقاومة للانسياب (اللزوجة) لأن كل ذرة وجزيء تتحرك وتصطدم بما حولها من ذرات وجزيئات أخرى في السائل، أو بالشوائب، أو بجدران الوعاء. تلك التقلبات الداخلية تغير فقط حالة حركة الذرات المفردة، غير أنها تشتت الطاقة من السائل إلى الوعاء وتبطئ حركة انسياب السائل. ولكن، إذا لم تكن هناك حالات ميكانيكية كمية جديدة متاحة يمكن أن تدخلها الجسيمات المفردة، فإن تلك الجسيمات لا يمكنها تغيير حالة حركتها نتيجة لأي تصادمات. وهكذا يستمر السائل فائق الميوعة في الحركة المتناسقة، تمامًا مثلما يستمر الإلكترون في الدوران حول الذرة دون أن يبدد أي قدر من الطاقة.

ما كان فاينمان يأمل في إثباته على أساس المبادئ الأولى لميكانيكا الكم — مستخدمًا صورة تكامل المسارات التي ابتكرها — هو أن حدس لانداو كان صائبًا. وهنا استخدم فاينمان الحقيقة الجوهرية التي شرحتها سابقًا، وهي تحديدًا، أن ذرات الهيليوم بوزونات، وهو ما يعني أن النطاق الميكانيكي الكمي الذي يصف حالة ذرات الهيليوم سيظل كما هو إذا بدلت أي مجموعات من الذرات مواضعها.

وكما ألمحت سابقًا، كانت حجة فاينمان تبدو بسيطة على نحو خادع؛ أولًا: زعم فاينمان أنه بسبب التنافر قصير المدى لذرات الهيليوم، فإن الحالة القاعية الأقل طاقة للسائل سوف تكون حالة كثافة متسقة تقريبًا. لقد تصور أن كل ذرة محبوسة في «قفص» صنعته المواضع التي تتخذها جميع جاراتها، والتي تُحدث كل واحدة منها قوة تنافر إذا اقتربت الذرات كثيرًا بعضها من بعض. فإذا كانت كثافة السائل أعلى في موضع ما، فذلك يعني أن القفص المحيط بالذرة أصغر حجمًا، وبذلك يحبس الذرة المعنية في مساحة أصغر. ولكن مبدأ عدم اليقين لهايزنبرج يقول إن تقييد الذرة في مساحة أصغر يرفع طاقتها. وهكذا فإن طاقة المنظومة سوف تكون في أدنى حالاتها عندما تكون كل الذرات في حالة أقصى تباعد ممكن عن جارتها، مع تمتُّعها بمتوسط كثافة متسق تقريبًا.

من حالات الطاقة المنخفضة الموجودة دائمًا حالة «الموجات الصوتية» ذات الطول الموجي الكبير للغاية. الموجات الصوتية «موجات كثافة»، وهو ما يعني أن الكثافة تتباين ببطء عبر السائل، والقوى الذرية التي تقاوم الضغط تعمل وكأنها زنبركات صغيرة، متسببة في انتقال فائض الكثافة بسرعة معينة — هي سرعة الصوت — عبر السائل. وما دام الطول الموجي للموجات الصوتية كبيرًا للغاية، بحيث يكون التباين في الكثافة متدرجًا بشدة، فإن تلك الموجات الصوتية لا تتكلف إلا أقل القليل من الطاقة. وهي أيضًا لا تغير من خصائص السائل، ولا تؤثر — وهذا هو الأهم — على انسيابه.

ولكن مرة أخرى، لماذا لا توجد حالات أخرى من الطاقة المنخفضة داخل السائل؟

لعلك تتذكر أن ميكانيكا الكم تقتضي ضمنًا أن جميع الجسيمات يمكن اعتبارها موجات احتمالية؛ حيث يتناسب اتساع الموجة مع احتمال العثور على الجسيمات في أماكن مختلفة. لكنها لا تسمى دوالًا موجية دون سبب وجيه. فإحدى السمات العامة للموجات في ميكانيكا الكم هي أن الطاقة المرتبطة بالموجة تتحدد بواسطة طولها الموجي. والدوال الموجية التي تتذبذب كثيرًا في مساحات صغيرة تكون طاقتها أعلى من تلك التي لا تفعل.

يرتبط السبب في ذلك ارتباطًا وثيقًا، في حقيقة الأمر، بمبدأ عدم اليقين لهايزنبرج. فإذا تباينت دالة موجية من قيمة مرتفعة إلى قيمة منخفضة في نطاق مسافة بالغة الصغر، فبإمكان المرء حينئذ تحديد موضع الجسيم الذي تصفه الدالة الموجية ضمن نطاق بالغ الصغر. ولكن هذا يعني أن الزخم، ومن ثم عدم اليقين بشأن الطاقة المرتبط بالجسيم، يكون كبيرًا.

المفتاح إذن للعثور على حالة كم ذات طاقة منخفضة هو وجود دالة موجية غير مصحوبة باهتزازات كثيرة بينها مساحات ضيقة. والآن، وكما أوضحت، فإن مجرد وجود موجات صوتية طويلة الموجة لا يدمر الميوعة الفائقة، لذا علينا أن ندرس احتمالات أخرى. قال فاينمان: دعونا نبدأ بحالة قاعية للطاقة، أيًّا كانت، بكثافة متَّسِقة، ونتخيَّل كيف يمكننا خلق حالة مختلفة عنها، ولكن على امتداد مسافات كبيرة، بحيث لا تكون أي ذبذبات في الدالة الموجية على مسافات قريبة من بعضها. يمكننا أن نتخيَّل تحقيق هذا عن طريق تحريك ذرة مفردة، ولتكن «أ»، بعيدًا لمسافة طويلة إلى موضع جديد، وليكن «ب». ولكن لو كان الوضع الجديد أيضًا ذا كثافة متسقة، فإن على الذرات الأخرى أن تعيد ترتيب نفسها، وعلى ذرة أخرى أن تتحرك لتحل محل الأولى.

الآن، بعد أن حرَّكنا الذرة مسافة طويلة، قد نظن أن هذه الحالة تختلف اختلافًا كبيرًا عن الأولى في حالة المسافات البعيدة فقط لأن الجسيم «أ» قد غيَّر موضعه. ولكن، كما أوضح فاينمان، جميع ذرات الهيليوم جسيمات متطابقة، بالإضافة إلى أنها بوزونات. لذا، على الرغم من أن الإزاحات كانت لمسافات كبيرة، فإنه لما كانت المحصلة النهائية هي ببساطة تبادل مواقع لبوزونات متطابقة، فإن هذا لا يمثل وضعًا كميًّا جديدًا.

فكر لبرهة في هذا المثال، وستدرك أنه مهما كانت المسافة التي ابتعدها جسيم ما، فإن الدالة الموجية الجديدة للمنظومة الناتجة لا يمكنها أن تعكس إزاحات للجسيم تتفاوت بمقدار يزيد عن نحو نصف متوسط المسافة بين الجسيمات المتجاورة. وأي حركة تتم لمسافة أكبر يمكن أن تحل محلها مجموعة من التبادلات بين ذرات هيليوم أخرى متطابقة، وهذا لن يغير الدالة الموجية على الإطلاق.

يعني هذا أن أكبر ذبذبات إضافية يمكننا إدخالها في الدالة الموجية لوصف حالة جديدة للمنظومة لا يمكن أن تكون أكبر من متوسط المسافة الفاصلة بين الذرات وبعضها. غير أن ذبذبات بهذا القياس أو أصغر منه تقابلها طاقات مستثارة عالية نسبيًّا، ومن المؤكد أنها أعلى بكثير مما يمكن للذبذبات الحرارية العشوائية أن تنتجه عند درجات الحرارة المنخفضة التي تلاحظ عندها ظاهرة الميوعة الفائقة.

هكذا، أوضح فاينمان من خلال هذا التفكير المنطقي الفيزيائي الأنيق أن إحصائيات البوزونات تقتضي بصورة مباشرة أنه لا توجد حالات استثارة منخفضة المستوى تعلو الحالة القاعية للطاقة يمكن الوصول إليها بسهولة من خلال حركة الذرات بحيث تنتج مقاومة لسريان التيار. وستظل الحالة القاعية للطاقة فائقة الميوعة مستمرة ما دامت الطاقة الحرارية المتوفرة للمنظومة أصغر من الفجوة بين الحالة القاعية للطاقة وأقل الحالات المستثارة طاقة.

وبالطبع أنجز فاينمان ما هو أكثر من ذلك. فباستخدام صيغة تكامل المسارات التي ابتكرها، استطاع حساب طاقة الحالات المستثارة، التي سماها لانداو «روتونات»، بتنويع جميع التخمينات المعقولة لدوال الموجة وحساب حالة أدنى طاقة. كانت التقديرات فجة ولم تتوافق في بادئ الأمر مع البيانات المتوافرة بصورة مُرضية، ولكن على مدار ذلك العقد، نقَّح فاينمان تحليله وتوصل لتنبؤات اتفقت مع البيانات.

قبل أن يبدأ فاينمان أبحاثه على الهيليوم السائل، كان لاسلو تيسا — الذي تعرفت عليه فيما بعد باعتباره أستاذًا جامعيًّا متقاعدًا مرحًا، في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا — قد اقترح ما سماه «نموذج المائعَين» لوصف كيف يمكن أن يحدث التحول بين حالة الهيليوم السائل فائق الميوعة والسائل العادي. وبعدها وسع لانداو الفكرة. لقد تخيل أنه عند درجة حرارة الصفر المطلق، يكون الهيليوم السائل بأكمله في حالة ميوعة فائقة. وبعد ذلك ومع تسخين السائل، تخلق بعض الاستثارات فتتحرك في خلفية مشهد المائع الفائق، لكنها من الممكن أن تصطدم بالجدران وتشتت الطاقة، ومن ثم تعمل وكأنها مكون من السائل الطبيعي. ومع مزيد من التسخين للمنظومة، تُخلِّق المزيد من الاستثارات إلى أن يملأ السائل الطبيعي السعة بأكملها.

مرة أخرى أعادت تقديرات فاينمان الكمية المعتمدة على المبادئ الأولى إنتاج الصورة الفيزيائية العامة، لكن الأمر استغرق منه اثنين وثلاثين عامًا حتى تمكَّن من إجراء حسابات تفصيلية بشكل كافٍ لتحقيق توافق جيد مع البيانات. ففي عام ١٩٨٥، وباستخدام جهاز كمبيوتر فائق في إجراء حسابات تكامل المسارات التفصيلية التي كان فاينمان قد أجراها على نحو تقريبي، استطاع الفيزيائيون التحقق من أن هذه الطريقة يمكنها تحقيق توافق ممتاز مع الطبيعة التفصيلية لانتقال الهيليوم السائل بين الطور المائع العادي والمائع الفائق.

لكن لعل أكثر الحيل الفيزيائية التي ابتكرها فاينمان إبهارًا كانت تلك المتعلقة بحل المشكلة الآتية: ماذا سيحدث لدلو من الهيليوم فائق الميوعة لو أن شخصًا ما أداره؟ كما هي الحال مع كثير من مشكلات الفيزياء، قد لا تبدو تلك مسألة ملحة، إلى أن تبدأ التفكير فيها. أوضح فاينمان أنه بسبب طبيعة الحالة القاعية للطاقة والطاقة المطلوبة لخلق حالات الاستثارة التي تعلوها، لا بد أن تكون حالة السائل فائق الميوعة «غير قابلة للتدوير»، وهو ما يعني أنه لا يمكن أن تتكون دوامات قد تعوق تدفق التيار. ولكن ما الذي يمكن أن يحدث لو أننا جعلنا السائل بأكمله يدور بأن أدرنا الوعاء الذي يحتويه؟ استنبط فاينمان ما يمكن أن يحدث، ولم تكن لديه أدنى فكرة في ذلك الوقت أن عالم الكيمياء الأمريكي المولود في النرويج لارس أونساجر، الفائز بجائزة نوبل، اقترح هو أيضًا حلًّا مماثلًا. ومرة أخرى، لعبت قواعد ميكانيكا الكم دورًا رئيسيًّا في هذه المسألة.

تذكر أن نيلز بور نفسه كان هو البادئ بإشعال ثورة الكم عندما افترض أنه مع دوران الإلكترون حول الذرة، لا يكون متاحًا له سوى مستويات طاقة معينة. وهكذا تكون الطاقات مكممة. ولكن المبدأ الذي حدد قاعدة التكميم مشتق بالفعل من الزخم الزاوي المداري للإلكترون حول الذرة. افترض بور أن هذا الزخم الزاوي مكمم من حيث مضاعفات أصغر وحدة (وهي نفس الوحدة التي وصفتها من قبل للإلكترونات، وفيها يساوي الزخم الزاوي المغزلي ١/ ٢).

ولو أن المائع الفائق محكوم أيضًا بميكانيكا الكم، فإن زخمه الزاوي المداري — لو أننا أرغمناه على الدوران — سيكون مكممًا أيضًا في ضوء نفس الوحدة الأساسية. وسوف يعني ذلك وجود قيمة دنيا للدوران.

أجهد فاينمان فكره طويلًا بشأن كيفية تقليل الطاقة في سائل كهذا إلى الحد الأدنى، وتوصل في النهاية إلى صورة فيزيائية لا يدور فيها السائل ككل، وإنما تدور العديد من المناطق الصغيرة به — أصغر ما يمكن في حقيقة الأمر، بحيث لا يزيد عرضها على عدة ذرات — حول منطقتها المركزية. وتلك المناطق المركزية تصطف رأسيًّا لتشكل خطوطًا دوامية دوارة، مثل الأقماع التي يصنعها الإعصار، أو المياه الدوارة حول فتحة صرف المياه (حسب تعبير فاينمان). تلك الخطوط الدوامية توزع نفسها في أرجاء الخلفية، المكونة من سائل لا يدور، بكثافة متسقة متساوية في جميع الأنحاء.

أتاح التفكير في الدوامات لفاينمان تقدير العديد من أوجه سلوك الهيليوم السائل، ومن بينها كيفية حدوث المقاومة أثناء إنتاج الاستثارات الدوامية. إن تلك الدوامات تلتف وتتشابك بعضها مع بعض أثناء انسياب السائل، وعند سرعة أصغر بمائة مرة من السرعة التي يمكن أن يتخيَّلها المرء، تتعرض الميوعة الفائقة للتدمير.

أنتج خيال فاينمان الخلاق في نهاية الأمر صورة فيزيائية بحتة لروتونات لانداو؛ تلك الاستثارات الموضعية ذات أدنى طاقة. وأدرك فاينمان أن الدوامة لا تصطف باستقامة بالضرورة من قمة الوعاء إلى قاعه، وإنما من الممكن أيضًا أن تلتف على نفسها في شكل حلقي. لقد فكَّر في حلقات الدخان التي كان قد درسها وهو طالب بالمدرسة الثانوية، وأدرك أنه ربما كانت نسخة الكم لأصغر حلقة من تلك الحلقات من الذرات التي من الممكن أن توجد داخل السائل تصف الروتون، ومنها اشتق فاينمان خصائصها. وبينما كان يفكر في الرياضيات في رأسه ويحاول حل المعادلات ليعرف كيف يمكنه التوفيق بين الصورة البديهية لحلقة الدخان وبين رياضيات معادلة شرودينجر، توصَّل في النهاية إلى صورة أخرى فيزيائية تمامًا: صورة حلقة مستمرة من أطفال المدرسة ينزلقون واحدًا تلو الآخر على زحلوقة، ثم يعودون مرة أخرى ببطء كي يرتقوا السلم ثم ينزلقوا لأسفل مرة أخرى. قد يكون الروتون منطقة موضعية يتحرك السائل فيها بسرعة مختلفة مقارنةً بالسائل المحيط في الخلفية، ولكن كي تبقى خصائص الزخم الزاوي لميكانيكا الكم قائمة، يجب أن ينساب السائل عائدًا مرة أخرى إلى مكان آخر، مثل الدوامة. وبالتفافها على نفسها على هيئة حلقة، سوف تنكمش الدوامة إلى أن تحمل أقل طاقة ممكنة، وهي طاقة الروتون.

كل تلك التأملات مسلية، ولكن الأمر بالغ الأهمية بشأنها هو أنها غيرت مرة أخرى الأسلوب الذي كان فيزيائيو هذا المجال يفكرون به في المسألة. أدت تخمينات فاينمان الحدسية بشأن «دوال الموجة الاختبارية» — التي تمكن من تنويعها ليستكشف أيها ذات أقل طاقة — إلى ترسيخ استخدام ما يسمى «الأسلوب التنويعي» في فيزياء المواد الكثيفة، وهو الأسلوب الذي استُخدم لاحقًا في تناول كافة المشكلات الرئيسية البارزة تقريبًا في دراسة المادة خلال نصف القرن الأخير.

أفلتت حلول بعض هذه المشكلات من فاينمان، غير أن تأثير أفكاره كان جليًّا بشكل لا تخطئه العين. خذ على سبيل المثال «مشكلة أفلتت منه»، وهي مشكلة الموصلية الفائقة. فلم ينجح فاينمان مطلقًا في التوصل إلى الاكتشاف الفيزيائي الذي توصل إليه علماء الفيزياء جون باردين وليون كوبر وروبرت شريفر لتفسير هذه الظاهرة — ويرجع ذلك بصورة كبيرة إلى أن فاينمان لم يحاول متابعة الأبحاث السابقة في هذا المجال متابعة كاملة، وهي سمة مزعجة في شخصيته جعلت عددًا من الاكتشافات الأساسية يفوت عليه — غير أن منهجهم استعار الكثير من الأفكار التي طرحها فاينمان لدراسة خصائص المواد بصفة عامة، والأفكار التي ابتكرها لتفسير الميوعة الفائقة بصفة خاصة. كان أول بحث وضعه فاينمان وطبق فيه النهج الزمكاني الذي ابتكره لفهم خصائص الإلكترونات في المواد يشرح بالتفصيل أهمية تزاوج الإلكترونات للأنماط الاهتزازية داخل المادة. وتبين أن هذا التزاوج ذو أهمية بالغة لفهم التفاعلات التي تسمح لأزواج الإلكترونات بالارتباط معًا والتكثُّف في موصل فائق. وفي الحقيقة، كان شريفر — قبل عام من توصله هو وزملاؤه أخيرًا إلى حل للمشكلة، وهو الحل الذي تسبب في فوزهم بجائزة نوبل — حاضرًا وسط جمهور يستمع إلى فاينمان وهو يتحدث عن الميوعة الفائقة والموصلية الفائقة، وانبهر بسماع فاينمان يتحدث بالتفصيل عن أفكاره الخاطئة بشأن الموصلية الفائقة. كان أسلوبهم في فهم الموصلية الفائقة هو أن يعرفوا بالضبط — تمامًا كما فعل فاينمان — كيف يمكن لتكثف شبيه بتكثف بوز-أينشتاين أن يتشكل في هذه الحالة لجسيمات مثل الإلكترونات، التي هي ليست بوزونات. وكان يأتي على نفس القدر من الأهمية إثبات أن ثمة فجوة في الطاقة بين الحالة القاعية للطاقة والحالات المستثارة — مثلما أثبت فاينمان — بحيث إنه عند الطاقات المنخفضة، لا يمكن حدوث التصادمات التي تصنع في الأحوال الأخرى الاستثارات التي تبدد الطاقة.

كانت أفكار فاينمان بشأن الكيفية التي يدخل بها الزخم الزاوي في سائل فائق الميوعة أُرْغِمَ على الدوران — من خلال تكوين دوامات — تدل أيضًا على بصيرة نافذة بشكل لافت للنظر. وتحدث ظاهرة مماثلة تمامًا في الموصلات الفائقة؛ إذ لا يسمح الموصل الفائق في الأحوال العادية لمجال مغناطيسي بالتواجد بداخله، تمامًا مثلما لا يميل السائل فائق الميوعة إلى الحركة في دوامات دائرية. ولكن، كما أوضح فاينمان، لو أن السائل أُرغم على الدوران (مثلًا بتعريضه لضغط مرتفع وتجميده، ثم تدويره وتركه ينصهر)، فإن الدوران سيحدث عن طريق صنع دوامات. ولاحقًا أوضح أليكسي أبريكوسوف أنه بالإمكان إرغام خطوط مجال مغناطيسي على المرور عبر موصل فائق، غير أنها أيضًا سوف تنفذ من خلال الموصل الفائق في صورة خطوط دوامية رفيعة. وقد فاز بجائزة نوبل عن أبحاثه وقال في خطاب تسلم الجائزة إنه وضع مقترحه الأصلي في درج لأن لانداو لم يهتم به كثيرًا. ولم يجد أبريكوسوف في نفسه الشجاعة لنشر أفكاره حول الدوامات المغناطيسية إلا بعد تعرفه على أفكار فاينمان بشأن الدوامات الدوارة داخل السوائل فائقة الميوعة. وهكذا كان غزو فاينمان لفيزياء المواد الكثيفة مهمًّا وملحوظًا، ليس فقط بسبب الأسلوب الذي به أدى حدسه للتوصل إلى أفكار جوهرية متبصرة، ولكن أيضًا بسبب الطريقة التي وضع بها بصمته في هذا المجال، من خلال عدد من الأبحاث يعد على أصابع اليد الواحدة.

خلال هذه الفترة، استمتع فاينمان بالتواصل مع مجتمع جديد من علماء الفيزياء، لكنه عانى أيضًا مشاعر القلق التي تنتاب المرء عندما يقتحم مجالًا خارج نطاق خبرته. ففي بعض الأحيان تتعرض لمن يحرجونك. فعلى سبيل المثال، بعد أن أدهش فاينمان تلامذة أونساجر بتنبؤاته حول الدوامات في مؤتمر دُعي للتحدث فيه، واتته فرصة للقاء أونساجر في اجتماع لمناقشة فيزياء المواد الكثيفة. وعلى مائدة العشاء، وقبل أن يلقي فاينمان كلمته، سأله أونساجر: «إذن أنت تعتقد أن لديك نظرية عن الهيليوم السائل؟» فأجابه فاينمان: «نعم أعتقد هذا.» واكتفى أونساجر بالرد بأن زفر: «هممم.» على نحو جعل فاينمان يظن أن أونساجر لم يكن يتوقع منه الكثير.

غير أنه في اليوم التالي، عندما قال فاينمان إن هناك جانبًا من التحول الطوري لم يفهمه، انطلق أونساجر متحدثًا على الفور: «السيد فاينمان مستجد في مجالنا، ومن الواضح أن هناك شيئًا لا يعلمه عنه، وعلينا أن نعلِّمه.» تسمَّر فاينمان مبهوتًا، غير أن أونساجر واصل الحديث قائلًا إن الشيء الذي لم يفهمه فاينمان بشأن الهيليوم هو شيء غير مفهوم بشأن أي مادة أخرى، وأردف قائلًا: «ومن ثم فإن حقيقة عدم استطاعته فهمه فيما يتعلق بالهيليوم لا تعكس مطلقًا قيمة إسهامه في فهم بقية الظواهر.»

بهت فاينمان بهذا الدفء الذي أظهره أونساجر حتى إنه واصل الالتقاء به ومناقشة الأمور معه، على الرغم من أن فاينمان كان هو المتحدث في أغلب الأوقات؛ فأونساجر لم يكن متحدثًا مفوهًا مثل شباب المزارعين ذوي الأصول النرويجية القادمين من ولاية مينسوتا الذين كان جاريسون كيلور يستضيفهم في برنامجه الإذاعي، ولكنه كان ينحدر من الأصول النرويجية نفسها، ولم يكن يتكلم إلا نادرًا، وعندما يشعر أن لديه ما يقوله حقًّا.

ومع أن فاينمان ربما فاتته بعض الجوائز الإضافية، فإن جائزته الكبرى كانت تتمثل دائمًا في فهم الفيزياء. ولو أنه شعر يومًا بالغيرة أو بالندم على جائزة فقدها، أو تقدير أخطأه ولم يكن في محله، فإنه لم يكن يُظهر ذلك. وهناك العديد من الأمثلة على بحثه في أمر ما من أجل إرضاء نفسه، دون أن يشعر باحتياج إلى كتابة بحث فيه، ثم يجذب شخص آخر الانتباه إليه وينال التقدير عن نفس الفكرة التي كان هو سبَّاقًا إليها. وفوق ذلك، عندما كان يكتشف أن شخصًا آخر لديه فكرة مشابهة لفكرته، كان في أغلب الأحيان يُحيل إلى عمل هذا الشخص وليس إلى عمله هو. فعلى سبيل المثال، وربما كرد فعل لحفاوة أونساجر الفكرية في أول لقاء لهما، كان دائمًا ما ينسب الفضل لأونساجر عن فكرة الدوامات، على الرغم من أنه لم يعرف شيئًا عن أبحاث أونساجر إلا بعد أن توصل لنتائجه بفترة طويلة.

ولعل أحد أبرز الأمثلة على إنكار فاينمان لذاته في هذا الصدد هو ما حدث بعد عشرين عامًا من بدئه لأول مرة في التفكير في الهيليوم السائل والدوامات. فعندما كان يفكر في الأنظمة ثنائية الأبعاد مثل الغلالات الرقيقة من الهيليوم السائل أدرك فاينمان أن الظهور المحتمل للدوامات من الممكن أن يحدث تغييرًا جذريًّا في خصائصها، ينتج عنه نوع من التحول الطوري يخرق بوضوح نظرية رياضية شهيرة عن سلوك تلك الأنظمة ثنائية الأبعاد. بل لقد كتب بحثًا عن هذا الموضوع. إلا أنه اكتشف أن اثنين من شباب الفيزيائيين وكانا بعدُ لا يزالان مغمورين، وهما جون كوسترليتز وديفيد ثوليس، وضعا لتوهما بحثًا مشابهًا حول نفس الفكرة. وبدلًا من أن يتجاهلهما أو يسبقهما في النشر، قرر فاينمان ألا ينشر بحثه، مكتفيًا وقانعًا بكونه تمكَّن من حل المسألة بنفسه. وصار التحول الطوري الشهير بعد ذلك يعرف باسم تحول «كوسترليتز-ثوليس».

ولكن بقدر ما استمتع فاينمان بتلك الإجازة من ميدان فيزياء الجسيمات التجريبي والنظري غير المستقر، ظل يتوق لاكتشاف قانون جديد للطبيعة، وكانت الفيزياء الأساسية الأكثر تطورًا هي أفضل الاحتمالات المتاحة أمامه. وهكذا، حتى وهو يعمل في بحث الهيليوم السائل، كان يحاول في الوقت نفسه ملاحقة ما يجري على الساحة في ميدانه الأصلي. كان ديراك قد توصل إلى معادلته. أما فاينمان فلم يكن قد توصل إلى معادلته بعد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤