الفصل الثالث عشر

الاختباء داخل المرآة

كانت تلك لحظة أدركت فيها كيف تعمل الطبيعة.

ريتشارد فاينمان

الميزونات نفسها التي بدأت غزو عالم ريتشارد فاينمان عام ١٩٥٠ هي التي قلبت عالم جميع علماء فيزياء الجسيمات رأسًا على عقب عام ١٩٥٦. ظلت اكتشافات الجسيمات الجديدة تتوالى تباعًا، وكل جسيم جديد كان أكثر غرابة من سابقه. كانت الجسيمات تنتَج بقوة في الأشعة الكونية، ولكن نفس قوانين الفيزياء التي أنتجتها كان لا بد أيضًا أن تجعلها تنحل سريعًا. ولكن مدة بقائها كانت تطول إلى جزء من مليون جزء من الثانية، وهو زمن لا يبدو طويلًا جدًّا، غير أنه أطول ملايين المرات مما يمكن للمرء أن يتوقعه على أساس المبادئ الفيزيائية الأولى.

وبحلول عام ١٩٥٦، أصبحت شهرة فاينمان في أوساط علماء الفيزياء راسخة. فقد صارت مخططات فاينمان جزءًا من صندوق الأدوات الأساسية لمجتمع الفيزياء، وكان كل من يزور كالتك يبذل قصارى جهده كي يعلن تقديره له. كان الجميع يرغبون في التحدث إلى فاينمان لأنهم كانوا راغبين في مناقشته في مشكلات الفيزياء التي تواجههم. وكانت السمة ذاتها التي جعلته معبودًا للنساء هي التي فعلت الأعاجيب كذلك مع طائفة العلماء. وكانت تلك سمة اشترك فيها مع الفيزيائي الإيطالي الكبير إنريكو فيرمي، الحاصل على جائزة نوبل الذي أسهم في توجيه مشروع مانهاتن لبناء أول مفاعل نووي مُتحكم به بجامعة شيكاجو، وآخر عالم فيزياء نووية وفيزياء جسيمات يبرع في التنظير كبراعته في التجريب. كان فيرمي قد فاز بجائزة نوبل عن وضع نظرية بسيطة تصف العملية النووية المصاحبة لانحلال النيوترون إلى بروتون (وإلكترون وأخيرًا إلى جسيم جديد سماه فيرمي «نيوترينو»، وهو اسم يعني في اللغة الإيطالية «نيوترونًا صغيرًا»)، التي تسمى «انحلال بيتا»، وهي واحدة من العمليات الأساسية التي شكلت جزءًا من التفاعلات التي أدت إلى إنتاج القنبلة الذرية، والأسلحة النووية الحرارية فيما بعد.

لما كان النيوترون يعيش قرابة عشر دقائق قبل أن ينحل، وهو عمر ممتد كالدهر إذا ما قورن بأعمار الميزونات غير المستقرة المتفاعلة بقوة التي اكتُشفت في الخمسينيات، فقد أدرك العلماء أن القوى التي تتحكم في انحلاله لا بد أنها شديدة الضعف. ومن ثم أطلق على التفاعل الذي ابتكر له فيرمي نموذجًا في انحلال بيتا اسم «التفاعل الضعيف». وبحلول منتصف الخمسينيات كان قد صار واضحًا أن التفاعل الضعيف قوة مستقلة كليًّا موجودة في الطبيعة، منفصلة عن التفاعلات القوية التي كانت تنتج جميع الجسيمات الجديدة التي شوهدت في المعجلات، وأن القوة الضعيفة من المرجح أن تكون مسئولة عن انحلال جميع الجسيمات ذات الأعمار الطويلة الشاذة. لكن مع أن نموذج فيرمي لانحلال بيتا كان بسيطًا، لم تكن هناك نظرية أساسية تربط جميع التفاعلات التي كانت تُرصد وتُعزى إلى هذه القوة الجديدة.

كان فيرمي قد حوَّل مجموعة علماء الفيزياء النظرية بجامعة شيكاجو إلى مركز دولي. كان الجميع يرغبون في أن يكونوا وسط تلك المجموعة، لا لكي يشاركوا فيما يقدمه علم الفيزياء فقط من إثارة ولكن أيضًا في إثارة العمل مع فيرمي. كان فيرمي يتمتع بسمات شخصية غير عادية إلى حد بعيد؛ سمات كان يشاركه فيها فاينمان: فعندما كانا ينصتان، كانا «ينصتان» بحق! كان الاثنان يركزان كل انتباههما على ما يُقال، ويحاولان فهم الأفكار المطروحة، وإن أمكن يحاولان المساعدة في تطوير تلك الأفكار وتحسينها.

مع الأسف، توفي فيرمي عام ١٩٥٤ بعد صراع مع السرطان، لعل السبب في إصابته به كان هو إهماله في التعامل مع المواد المشعة في وقت لم تكن الأخطار المحيطة بالتعامل مع تلك المواد مفهومة بعد. كانت وفاته ضربة قاصمة لكل من علم الفيزياء ولجامعة شيكاجو، حيث كان يساعد في تدريب صغار علماء الفيزياء النظرية والفيزياء التجريبية الذين كانوا سيهيمنون فيما بعد على مجال الفيزياء بأكمله طوال سنوات الجيل التالي.

بعد وفاة فيرمي، بدأ شباب علماء الفيزياء النظرية ينجذبون نحو سحر شخصية فاينمان. ولكن على عكس فيرمي، لم يكن فاينمان يتحلَّى بالصبر والمثابرة للمساعدة بدأب في تدريب العلماء. غير أنه لم يكن ما يشعرهم بالإطراء أكثر من أن يركز فاينمان كل اهتمامه على أفكارهم وينصت لهم. فبمجرد أن كان فاينمان يهتم بمشكلة ما، فإنه ما كان يهدأ حتى يحلها أو يقرر أنها غير قابلة للحل. وكثيرًا ما كان شباب الفيزيائيين يسيئون فهم اهتمامه بمشكلاتهم متصوِّرين أنه اهتمام بهم شخصيًّا. وكانت النتيجة دائمًا مغوية إلى أقصى حد.

كان أحد هؤلاء الذين انجذبوا من شيكاجو إلى أضواء فاينمان شاب عبقري في الخامسة والعشرين من العمر اسمه موراي جيلمان. ولو قلنا إن فاينمان هيمن على فيزياء الجسيمات خلال حقبة ما بعد الحرب مباشرةً، فإن جيلمان فعل الشيء نفسه خلال العقد التالي. وعلى حد وصف فاينمان لاحقًا، في واحدة من نوباته المميزة في الثناء على أعمال الآخرين: «لا تضم معرفتنا بالفيزياء الأساسية أي فكرة مثمرة لا تحمل اسم موراي جيلمان.»

لا تحمل هذه العبارة الكثير من المبالغة. فلقد توافقت مواهب جيلمان على نحو مثالي مع مشكلات ذلك الوقت، وقد ترك أثرًا لا يمحى على ذلك المجال، ليس فقط من خلال مصطلحات غريبة مثل «الشذوذ» و«الكواركات»، ولكن أيضًا من خلال أفكاره التي ظلت — مثل أفكار فاينمان — تصبغ المناقشات الدائرة عند الجبهة الأمامية لعلم الفيزياء حتى يومنا هذا.

غير أن جيلمان كان على نقيض فاينمان في عدة وجوه؛ فقد كان — مثل جوليان شفينجر — طفلًا معجزة. تخرَّج من المدرسة الثانوية في سن الخامسة عشرة، وتلقَّى أفضل عروضه من جامعة ييل، وهو عرض كان محبطًا له، لكنه قبله على أي حال. وفي سن التاسعة عشرة تخرَّج وانتقل إلى معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، حيث نال درجة الدكتوراه في سن الحادية والعشرين. وقد أخبرني ذات مرة أنه كان يستطيع نيل الدكتوراه في عام واحد لو أنه لم يضيع وقته في محاولة جعل موضوع رسالته مثاليًّا.

لم يتقن جيلمان في سن الحادية والعشرين علم الفيزياء فحسب، وإنما أتقن «كل شيء». وكان من أبرز الأشياء افتتانه باللغات، ودراسة أصول الكلمات، والنطق، والعلاقات. ومن الصعب أن تجد شخصًا عرف موراي دون أن يصحح له هذا الأخير طريقة نطق اسمه!

غير أن جيلمان كان يختلف اختلافًا مميزًا عن شفينجر أدى إلى انجذابه إلى فاينمان. فلم يكن يطيق أولئك الذين يزينون جهودهم التي تكون تافهة غالبًا بصبغة رسمية مزخرفة. كان جيلمان قادرًا على الرؤية عبر حجب الخداع والتحايل، وقلة من الفيزيائيين هم من كان يمكنهم رفض أعمال الآخرين كما كان يفعل هو. غير أن جيلمان علم من خلال أبحاث فاينمان، ومن خلال الاستماع إلى أحاديثه، أنه عندما كان يعمل في الفيزياء، لم يكن هناك أي هراء، أو ادعاء، أو تحايل، ولا أي شيء سوى الفيزياء. وعلاوة على ذلك، كانت حلول فاينمان بالغة الأهمية بحق. وعلى حد تعبير جيلمان: «ما كان يعجبني دائمًا في أسلوب ريتشارد هو تخليه عن التنميق في عروضه. لقد سئمت علماء الفيزياء النظرية الذين يزخرفون أعمالهم بلغة رياضية منمقة أو يبتكرون أطرًا رنانة زائفة لإسهاماتهم التي كانت في بعض الأحيان غاية في التواضع. أما أفكار ريتشارد، التي كانت في الغالب فعَّالة ومؤثرة وتتسم بالعبقرية والأصالة، فكانت مقدمة بأسلوب مباشر كنت أجده ممتعًا ومجددًا.»

كان هناك وجه آخر من أوجه شخصية فاينمان لم يرق لجيلمان على الإطلاق، وهو حب الاستعراض. وعلى حد وصفه لاحقًا: «كان [فاينمان] يقضي وقتًا طويلًا ويبذل جهدًا مضنيًا في اختلاق حكايات عن نفسه.» ولكن في حين أن تلك السمة أزعجته فيما بعد وأثارت أعصابه، ففي أعقاب وفاة فيرمي عام ١٩٥٤، وبينما كان يفكر في المكان الذي قد يرغب في العمل فيه إذا رحل عن جامعة شيكاجو، ومع من يرغب في العمل، بدا الخيار واضحًا له.

كان جيلمان، بالاشتراك مع عالم الفيزياء النظرية فرانسيس لو، قد أجرى عملية حسابية مبكرة مميزة عام ١٩٥٤ مستعينًا بأساليب فاينمان في التعامل مع الديناميكا الكهربائية الكمية في محاولة لمعرفة ما يمكن أن يحدث بالضبط للنظرية عندما يستكشف المرء مقاييس أصغر وأصغر، وبالتحديد المنظومة غير القابلة للرصد في الأحوال العادية التي تضمنت وصفة فاينمان للتخلص من قيم ما لانهاية فيها تعديل النظرية على نحو مصطنع متكلف. وكانت النتيجة مدهشة، وعلى الرغم من أنها كانت فنية ومن الصعب متابعتها وفهمها في ذلك الحين، فقد وضعت في نهاية الأمر الأساس لكثير من التطورات التي تحققت في فيزياء الجسيمات خلال سبعينيات القرن العشرين.

اكتشف جيلمان ولو أنه نتيجة لتأثيرات الأزواج الافتراضية من الجسيمات والجسيمات المضادة التي يجب إدخالها في المسألة عند دراسة تأثيرات ميكانيكا الكم على الديناميكا الكهربائية الكمية، تعتمد الكميات القابلة للقياس فيزيائيًّا، مثل الشحنة الكهربية للإلكترون، على النطاق الذي تقاس عنده. وفي الواقع، في حالة الديناميكا الكهربائية الكمية، كانت الشحنة الفعالة التي يحملها الإلكترون، ومن ثم قوة التفاعل الكهرومغناطيسي، تبدو وكأنها تزداد أثناء اختراق سحابة الأزواج الافتراضية المكونة من إلكترونات وبوزيترونات التي تحيط بكل جسيم.

على الرغم من ذلك، كان فاينمان الذي اشتهر بتجاهل أبحاث الآخرين وهو يحاول بصفة مستقلة اشتقاق جميع نتائج الفيزياء — أو إعادة اشتقاقها في كثير من الأحيان — شديد الانبهار بالبحث الذي أجراه جيلمان ولو، وأخبر جيلمان بذلك عندما زار كالتك لأول مرة. في الحقيقة، قال فاينمان إنها العملية الحسابية الوحيدة في الديناميكا الكهربائية الكمية التي علم بها ولم يشتقَّهَا هو نفسه مستقلًّا عن الآخرين. وعندما نتأمل هذا الآن، نجد أنه كان مدهشًا بعض الشيء لأن أثر نهج جيلمان ولو كان من شأنه أن يؤدي إلى تأويل مختلف تمامًا لعملية التخلص من قيم ما لانهاية في نظرية مجال الكم عن التأويل الذي ظل فاينمان يؤكد عليه لفترة من الوقت. إنه يعني — كما سترون لاحقًا — أن أسلوب فاينمان لإعادة التطبيع — الذي ظل يعتقد دومًا أنه ليس سوى وسيلة بدائية مصطنعة لا بد أن يحل محلها ذات يوم فهم جوهري حقيقي للديناميكا الكهربائية الكمية — يعكس في حقيقة الأمر حقيقة فيزيائية أساسية ذات أهمية جوهرية في أسلوب عمل الطبيعة عند أصغر مقاييسها.

عند وصول جيلمان إلى كالتك، كان من الواضح له، ولكثير من أفراد مجتمع الفيزياء، أنه ربما صار أعظم عقلين في مجال الفيزياء في جيل واحد موجودين معًا في معهد واحد. واستعد الجميع لنتائج التفاعل بين هذين العقلين.

وعلى الرغم من أنه من عدم الإنصاف حتمًا أن نختار سمة واحدة لنصف بها عمل عقل عميق ومبدع كعقل جيلمان، فإنه كان بالفعل قد بدأ يضع بصمته على علم الفيزياء، واستمر في فعل ذلك، عن طريق الكشف عن تناظرات جديدة في الطبيعة عند أصغر مقاييسها. إن التناظر أمر جوهري لفهمنا الحالي للطبيعة، غير أن أهميته يساء فهمها على نطاق واسع في الوعي العام، وربما كان ذلك يرجع جزئيًّا إلى أن الأشياء التي تتسم بقدر كبير من التناظر في الفيزياء تعتبر أقل إثارة من المنظور الفني. ففي المعتاد، كلما كانت التناظرات في العمل الفني أكثر زخرفة، حظي بالمزيد من التقدير. وهكذا نعتبر الثريا الجميلة التي تضم الكثير من القطع المنحنية المتطابقة تحفة فنية نفيسة. والعمل الفني الذي أبدعه إم سي إشر، وفيه العديد من نسخ الأسماك أو غيرها من الحيوانات مطمورة داخل الصورة، مثال آخر على هذا. ولكن في الفيزياء، التناظرات التي تحظى بأعلى تقدير هي تلك التي تجعل الطبيعة أقل تنميقًا وزخرفًا. فالشكل الكروي الممل، على سبيل المثال، أكثر تناظرًا بكثير من الهرم رباعي الأسطح.

السبب في هذا هو أن التناظرات في الفيزياء تعني أن الأشياء أو النظم لا تتغير عندما نغير نحن منظورنا. فمثلًا، عندما ندير هرمًا رباعي الأسطح بزاوية ٦٠ درجة على محور أيِّ سطح من أسطحه، سيبدو متطابقًا. ولكن الكرة أكثر تناظرًا لأننا لو أدرنا الكرة بأي زاوية كانت، صغيرةً أم كبيرة، فإنها تبدو كما هي دون تغيير. إن إدراكنا لحقيقة أن التناظرات تعني ضمنيًّا أن الشيء لا يتغير عندما نغير منظورنا له يجعل أهمية التناظرات في علم الفيزياء — بالتأمل اللاحق للمسألة — تكاد تبدو بديهية. غير أنها لم تكن كذلك حتى جاءت عالمة الرياضيات الألمانية الشابة إيمي نويثر لتميط اللثام عما صار الآن يسمى «نظرية نويثر» عام ١٩١٨ لتظهر بوضوح المعاني الضمنية الرياضية الأساسية للتناظرات في علم الفيزياء.

ما أوضحته نويثر، التي لم تستطع نيل أي منصب جامعي لكونها امرأة، أنه مقابل كل تناظر موجود في الطبيعة، لا بد أيضًا من وجود كمية «محفوظة»؛ أي لا تتغير مع مرور الزمن. وأشهر أمثلة ذلك مبدأ حفظ الطاقة وحفظ الزخم. كثيرًا ما يتعلم الطلاب في المدارس أن تلك الكميات محفوظة لا تتغير، ولكنهم يلقنون هذا وكأنه معتقد إيماني. إلا أن نظرية نويثر تخبرنا أن حفظ الطاقة يحدث لأن قوانين الفيزياء لا تتغير مع مرور الزمن — فهي اليوم كما كانت بالأمس — وحفظ الزخم ناشئ عن عدم تغير قوانين الطبيعة من نقطة إلى أخرى؛ فالقوانين واحدة سواء أجرينا التجارب في لندن أو في نيويورك.

صارت محاولة استخدام تناظرات الطبيعة في تقييد القوانين الأساسية لعلم الفيزياء أو التحكم فيها أكثر شيوعًا في بداية الخمسينيات مع ظهور عدد ضخم من الجسيمات الأولية الجديدة في المعجلات أرغم الفيزيائيين على البحث عن نظام ما وسط تلك الفوضى الظاهرية. تركزت الجهود في البحث عن كميات لا يبدو أنها تتغيَّر عندما ينحل أحد الجسيمات ويتحول إلى جسيمات أخرى. وكان الأمل معقودًا على أن تسمح مثل هذه الكميات المحفوظة للفيزيائيين بالعمل في اتجاه عكسي لاكتشاف التناظرات الكامنة في الطبيعة، وأن تتحكم تلك التناظرات عندئذٍ في الشكل الرياضي للمعادلات التي ستصف قوانين الفيزياء ذات الصلة. وقد تحقق هذا الأمل.

حقق جيلمان الشهرة في البداية حين اقترح عام ١٩٥٢ أن الميزونات الجديدة — التي كان إنتاجها بالغ القوة غير أن انحلالها كان بالغ الضعف — تسلك هذا السلوك لأن كمية ما مرتبطة بالجسيمات الجديدة تبقى محفوظة في التفاعل القوي. وقد أطلق على هذه الكمية الغريبة الجديدة — ربما على نحو غير ملائم — اسم «الشذوذ». غير أن محرري دورية فيزيكال ريفيو المحافظين، وهي الدورية التي نشر فيها أفكاره أول مرة، اعتقدوا أن هذا الاسم الجديد غير ملائم لمطبوعة متخصصة في الفيزياء، ورفضوا استخدامه في عنوان بحثه حول الموضوع.

كانت حجة جيلمان على النحو الآتي: لما كان الشذوذ كمية محفوظة، فلا بد أن تُنتَج الجسيمات الجديدة في صورة أزواج — جسيمات وجسيمات مضادة — ذات قيم متساوية ومتضادة من هذا «العدد الكمي» الجديد. حينئذ ستكون الجسيمات ذاتها مستقرة بصورة مطلقة؛ لأن الانحلال إلى جسيمات «غير غريبة» من شأنه أن ينتهك قانون الكمية المحفوظة هذا — مغيرًا «رقم الشذوذ» بمقدار واحد صحيح — إذا كانت القوة النووية القوية هي الوحيدة التي تعمل. ولكن إذا لم تذعن القوة الضعيفة — وهي القوة المسئولة عن انحلال النيوترونات والتفاعلات التي تمد الشمس بالطاقة — لقانون الكمية المحفوظة هذا، فإن القوة الضعيفة يمكنها أن تحث انحلال تلك الجسيمات الجديدة. ولكن لأن القوة ضعيفة، فإن الجسيمات ستعيش عمرًا طويلًا قبل أن تنحلَّ.

بقدر ما كانت هذه الفكرة جذابة، فإن النجاح في الفيزياء لا يقوم على الاستنتاج فقط. فما الذي يمكن للفكرة التنبؤ به بحيث يسمح باختبارها؟ في الواقع، كان هذا هو رد الفعل المباشر في أوساط العديد من زملاء جيلمان. وعلى حد تعبير ريتشارد جاروين، وهو عالم فيزياء تجريبية عبقري لعب دورًا أساسيًّا في ابتكار القنبلة الهيدروجينية: «لست أفهم في أي شيء يمكن أن تفيد هذه الفكرة.»

وحدثت الطفرة عندما أدرك جيلمان أن هذا العدد الكمي للشذوذ يمكن استخدامه في تصنيف مجموعات من الجسيمات الموجودة، حتى إنه توصَّل لتنبؤ أغرب. فقد تنبأ بأن جسيمًا متعادلًا يسمى «كيه-صفر» لا بد أن يكون له جسيم مضاد، هو «كيه-صفر المضاد»، يختلف عنه. ولما كانت معظم الجسيمات المتعادلة الأخرى، مثل الفوتون، مكافئة لجسيماتها المضادة، فإن هذا الطرح كان غير اعتيادي، على أقل تقدير. ولكن ثبتت صحته في نهاية المطاف، وصارت منظومة كيه-صفر-كيه-صفر المضاد وسيلة اختبار رائعة لاستكشاف علم فيزياء جديد، مرسخة سمعة جيلمان بين جيل علماء فيزياء الجسيمات الصاعد في ذلك الحين.

بعد تقديمه لمفهوم «الشذوذ»، ووفاة فيرمي، بدأ جيلمان يتلقى عروضًا للعمل خارج شيكاجو. كان راغبًا في الانتقال إلى كالتك للعمل مع فاينمان، وشجعته كالتك على اتخاذ القرار بمضاهاة العروض المتنافسة بالإضافة إلى جعله، وهو بعد في السادسة والعشرين من عمره، أصغر أستاذ كامل الأستاذية في تاريخها. وكان الأمل يحدوها ألا يكون هذا هو آخر حدث تاريخي يصنعه جيلمان، مع فاينمان، للجامعة.

جمعت بين فاينمان وجيلمان علاقة شراكة رائعة قامت على التبادل الفكري. كان الرجلان لا يكفان عن المجادلة في مكتبيهما، وهو نوع من الجدل الودي، سماه جيلمان فيما بعد: «استفزاز الكون»، وهما يحاولان الكشف عن أحدث الألغاز في طليعة علم فيزياء الجسيمات. وكان لتلك المجادلات أثرها على طلابهما وكذلك على الباحثين الحاصلين على درجة الدكتوراه. إنني أتذكر حين كنت باحثًا شابًّا في هارفارد، حيث عملت مع شيلدون جلاشو، أحد تلامذة شفينجر وأحد الفائزين بجائزة نوبل، وكانت لقاءاتنا يتخللها مزيج من الحجج والمناقشات والضحكات. كان جلاشو باحثًا حاصلًا على درجة الدكتوراه في كالتك مع جيلمان، وأظن أنه تأثَّر بشدة بأسلوب المناقشة الذي شهده هناك، والذي أصبحت أنا أحد المستفيدين الإضافيين اللاحقين منه، وآمل أن يكون هذا هو حال طلابي أيضًا. كانت الشراكة بين فاينمان وجيلمان أيضًا اقترانًا مضطربًا بين ضدين. كان جيلمان نموذجًا مثاليًّا للعالم المثقف، ولم يكن فاينمان كذلك. وكان جيلمان، بطبيعته، ميالًا لنقد الناس ونقد أفكارهم، ودائم الانشغال بالأولوية الفكرية. أما فاينمان فلم يكن يحتمل الهراء أو التنميق المتباهي في الفيزياء وكان يقدر الموهبة، ولكن عندما كان يسبقه أحد في التوصل لفكرة ما — كما ذكرت من قبل — فقد كان أكثر ما يعنيه هو هل كان مصيبًا أم مخطئًا، وليس من الذي نال التقدير في النهاية. لقد كانت شراكة مثيرة بحق، ولكن كان مقدرًا لها — بسبب الاختلاف في شخصيتهما وأسلوبهما — أن تواجه المتاعب في النهاية، لكن ليس على الفور.

غير أن ذلك كان وقتًا اقترب فيه كلا العالمين من ذروة إبداعهما. كان جيلمان قد بدأ لتوِّه في إحداث ثورة في عالم الجسيمات الأولية، وكان فاينمان قد أكمل لتوه ثورته في ميكانيكا الكم. وعندما بدآ العمل معًا، كانت مشكلة فيزيائية مزعجة أخرى قد ظهرت بالفعل، وكانت مرتبطة أيضًا إلى حد ما بالجسيمات الغريبة الجديدة التي كان جيلمان عاكفًا على تصنيفها. كانت تلك المشكلة أكثر غموضًا بكثير من مشكلة الأعمار بالغة الطول التي فسرتها نظرية جيلمان. لقد كانت تتعلق بواحد من أكثر تناظرات الطبيعة التي تميز العالم المادي شيوعًا وبدهية.

في مرحلة ما من طفولتنا نتعلم جميعًا التفريق بين اليمين واليسار. الأمر ليس سهلًا، وقد اعتاد فاينمان أن يقول لطلابه إنه كان في بعض الأحيان يضطر للنظر إلى الشامة الموجودة على يده اليسرى ليتأكد. هذا لأن الفارق بين اليسار واليمين أمر تقديري. فلو أطلقنا على كل شيء كنا نسميه يسارًا يمينًا، وعلى كل شيء كنا نسميه يمينًا يسارًا، فما الذي سيتغير فيما عدا المسميات؟

أو دعونا نفكر في الأمر بصورة أخرى، بالأسلوب الذي وصفه فاينمان ذات مرة. لو أننا كنا على اتصال بسكان كوكب آخر، فكيف يمكننا أن نخبرهم بالفارق بين اليمين واليسار؟ حسنًا، إذا كان لكوكبهم مجال مغناطيسي مثل مجال كوكب الأرض وكان يدور حول نجمه في نفس الاتجاه الذي يدور به كوكب الأرض لأمكننا أن نجعلهم يأخذون قضيبًا مغناطيسيًّا ويضبطون قطبه الشمالي ليشير نحو الشمال، وحينئذ يمكننا تعريف اليسار بأنه الاتجاه الذي تغرب فيه الشمس. لكنهم حينها سيقولون: «نعم لدينا قضيب مغناطيسي، ولكن أي طرفيه هو الشمالي؟»

يمكننا الاستمرار على هذا المنوال إلى ما لا نهاية وأن نقنع أنفسنا بأن مصطلحات مثل «اليسار» و«الشمال» هي اصطلاحات اعتباطية ابتكرناها واتفقنا عليها، لكن ليس لها معنى مطلق في الطبيعة، أم أنها لها؟ تخبرنا نظرية نويثر أنه إذا لم تتغير الطبيعة إذا عكسنا اليمين مكان اليسار واليسار مكان اليمين، فلا بد أن تكون هناك كمية محفوظة — نسميها «كمية التماثل» — لا تغيير أيًّا كانت العمليات الفيزيائية التي تحدث.

لكن هذا لا يعني أن جميع الأشياء متناظرة من حيث اليسار واليمين. انظر إلى نفسك في المرآة. إن شعرك ربما كان مفروقًا في أحد الاتجاهين، أو كانت ساقك اليسرى أطول قليلًا من اليمنى. إلا أن صورتك في المرآة جعلت فرق شعرك في الاتجاه الآخر، وجعلت ساقك اليمنى هي الأطول. أما الأشياء التي تظل كما هي دون تغيير، كالكرة على سبيل المثال، عندما نقلبها جهة اليمين وجهة اليسار فيقال إن لها تماثلًا «زوجيًّا»، وتلك الأشياء التي تتغير يقال إن لها تماثلًا «فرديًّا». وما تقوله لنا نظرية نويثر هو أن كلًّا من الأجسام ذات التماثل الزوجي والفردي ستطيع مع ذلك قوانين الفيزياء في عالم المرآة. وقانون حفظ الكمية المرتبط بها يقول إن الأجسام ذات التماثل الزوجي لا تتحول تلقائيًّا إلى أجسام ذات تماثل فردي. وإذا فعلت ذلك، فإننا نستطيع استخدام هذا التحول التلقائي في تحديد اليسار المطلق أو اليمين المطلق.

يمكن تصنيف الجسيمات الأولية حسب خصائصها التناظرية، التي ترتبط عادة بالأسلوب الذي تتفاعل به مع غيرها من الجسيمات الأخرى. فلدى بعضها تفاعلات ذات تماثل زوجي ولدى البعض الآخر تفاعلات ذات تماثل مفرد. وتخبرنا نظرية نويثر بأن الجسيم المنفرد ذا التماثل الزوجي لا يمكنه الانحلال إلى جسيم ذي تماثل فردي وآخر ذي تماثل زوجي. إلا أنه يمكنه الانحلال إلى جسيمين لهما تماثل فردي لأنه إذا توجه أحد الجسيمين إلى اليسار وتوجه الآخر إلى اليمين، في حال تبادل الجسيمان أيضًا هويتهما في ظل هذا التحول التناظري في الوقت نفسه الذي يتبدل فيه اتجاها الجسيمين نتيجة للتبادل بين اليسار واليمين، فإن الوضع الناتج سوف يبدو متطابقًا بعد ذلك؛ بمعنى أنه سيكون ذا تماثل زوجي، مثلما كان حال الجسيم الأصلي.

حتى الآن كل شيء على ما يرام. غير أن الفيزيائيين اكتشفوا أن انحلال ميزونات غريبة تسمى «ميزونات-كيه»، التي كان موراي قد فسر أعمارها الطويلة من خلال مفهوم «الشذوذ»، لا تذعن للقواعد. رُصد انحلال «الكاونات»، وهو اسم آخر يطلق عليها، إلى جسيمات أخف وزنًا تسمى «بايونات»، ولكنها في بعض الأحيان تنحل إلى بايونين اثنين وفي أحيان أخرى إلى ثلاثة بايونات. ولما كانت البايونات ذات تماثل فردي، فإن حالة البايونين تحمل خصائص انعكاس مختلفة عن حالة البايونات الثلاثة. ولكن حينئذ سيكون من المستحيل على جسيم أحادي النوع أن ينحل إلى وضعين مختلفين؛ لأن هذا سيكون معناه أن الجسيم الأصلي سيكون له تماثل زوجي في بعض الأحيان وتماثل فردي في أحيان أخرى!

كان الحل البسيط لتلك المعضلة أنه ينبغي أن يكون هناك نوعان مختلفان من الكاونات، أحدهما ذو تماثل زوجي وينحل إلى بايونين، والآخر ذو تماثل فردي ينحل إلى ثلاثة بايونات. وكانت المشكلة أن هذين النوعين من الكاونات، اللذين أطلق عليهما الفيزيائيون اسمَيْ «تاو» و«ثيتا»، بدوا متطابقين تمام التطابق في جميع النواحي الأخرى؛ فلديهما نفس الكتلة ونفس العمر. فلماذا تنتج الطبيعة جسيمين متطابقين لكنهما مختلفان كهذين؟ ربما أمكن ابتكار تناظرات جديدة عديدة غريبة من شأنها أن تمنحهما نفس الكتلة، وكان جيلمان وآخرون يدرسون تلك الاحتمالات، ولكن إنتاج جسيمات لها أيضًا نفس العمر بدا أمرًا مستحيلًا؛ لأن احتمالية الكم العامة أن ينحل جسيم إلى ثلاثة جسيمات أقل كثيرًا من احتمالية انحلاله إلى جسيمين، عند ثبات جميع العوامل الأخرى.

كانت تلك هي الحال في ربيع عام ١٩٥٦ عندما بدأ فاينمان وجيلمان العمل معًا في كالتك، وحضرا معًا المؤتمر الرئيسي حول فيزياء الجسيمات في ذلك الوقت، الذي كان يسمى «مؤتمر روتشيستر»، والذي كان لا يزال حينئذ يعقد في روتشيستر بنيويورك. وهناك سمعا عن بيانات جديدة مهمة جعلت التاو والثيتا من جديد يبدوان أشبه بتوءمين متماثلين.

صار من الصعوبة بمكان تفسير الوضع حتى إن بعض الفيزيائيين بدءوا يتساءلون في أنفسهم هل تاو وثيتا مختلفان بالفعل. خلال فترة انعقاد المؤتمر، كان فاينمان يشترك في السكن مع فيزيائي تجريبي شاب هو مارتن بلوك. وتشير المحاضر المسجلة للمؤتمر أنه خلال جلسة يوم السبت قرب نهاية الاجتماع، نهض فاينمان وطرح سؤالًا على الخبراء نسبه إلى بلوك، ومفاده أنه ربما كان الجسيمان بالفعل متطابقين، وأن التفاعلات الضعيفة ربما كانت لا تبالي بمسألة التماثل؛ أي إن الطبيعة ربما كانت — عند مستوى معين — قادرة على التمييز بين اليمين واليسار!

قيل فيما بعد إن موراي جيلمان عاير فاينمان وسخر منه بقسوة لاحقًا؛ لأنه لم تكن لديه شجاعة طرح السؤال باعتباره سؤاله هو، لذا اتصلت بصديقي القديم مارتي بلوك وسألته عما حدث بالفعل. وأكد لي أنه سأل فاينمان لماذا لا يمكن خرق التماثل بواسطة التفاعل الضعيف. شعر فاينمان في البداية برغبة في أن يدعوه أحمق إلى أن أدرك أنه لا يستطيع إجابة سؤاله، وناقش هو ومارتي المسألة كل ليلة طيلة فترة المؤتمر إلى أن اقترح فاينمان أن يطرح مارتي هذا الاحتمال خلال الاجتماع. ورد مارتي بأن أحدًا لن ينصت إليه، وطلب من فاينمان أن يطرح المسألة نيابة عنه. وعرض فاينمان الفكرة على جيلمان ليرى إن كان يعلم أي أسباب واضحة تجعل هذا الاحتمال مستبعدًا، فلم يجد لديه مثل هذه الأسباب. لذا فقد كان فاينمان، بأسلوبه المعهود، ينسب الفضل لمن يستحقه، ولم يكن يتجنب السخرية التي قد تنشأ عن طرح احتمال قد يكون مستبعدًا ولعله خاطئ على نحو واضح لم ينتبه إليه.

لقي سؤال فاينمان ردًّا من عالم فيزياء نظرية شاب هو تشين نينج (فرانك) يانج، الذي أجاب، طبقًا للتقرير الرسمي، بأنه وزميله تسونج-داو لي كانا يبحثان تلك المسألة لكنهما لم يصلا لأي نتائج. (وقد أخبرني بلوك أن التقرير الرسمي كان غير صحيح، وأنه يتذكر أن يانج أجاب بأنه لا يوجد دليل على وجود مثل هذا الخرق.)

وعندما ناقش فاينمان وجيلمان سؤال بلوك أثناء الاجتماع، أدركا أنهما لا يمكنهما التوصل إلى سبب عملي مقنع لاستحالة خرق اتساق التناظر في حالات انحلال الكاونات الضعيفة. وإذا كان التفاعل الضعيف يخرق التناظر، فأين المواضع الأخرى التي قد يظهر فيها في فيزياء الجسيمات؟ إن التفاعل الضعيف نفسه لم يكن مفهومًا على نحو جيد. وكما ذكرت من قبل، فإن فيرمي كان قد وضع من قبل نموذجًا مبسطًا للانحلال الضعيف في صورته الأولية، وهو انحلال النيوترون إلى بروتون، ويسمى «انحلال بيتا»، لكن لم تكن ظهرت بعد صورة موحدة لحالات الانحلال الضعيف المختلفة المعروفة.

وحتى أثناء احتدام النقاش بين عملاقي الفيزياء النظرية فاينمان وجيلمان حول ذلك الاحتمال الغريب، وانشغال فيزيائيين آخرين من الحاضرين بالمؤتمر بالمسألة إلى حد عقد المراهنات، أبدى الفيزيائيان الأحدث سنًّا، لي ويانج — وكلاهما زميل سابق لجيلمان في شيكاجو — شجاعة وتهورًا فكريًّا جعلاهما يعودان إلى سكنهما ويفحصان بجدية جميع البيانات التي توافرت حينئذ ليريا هل يمكن استبعاد خرق التناظر في التفاعل الضعيف أم لا. واكتشفا أنه لا توجد تجارب يمكنها الإجابة عن ذلك السؤال بصورة قاطعة. والأهم من ذلك أنهما اقترحا إجراء تجربة تتضمَّن انحلال بيتا ذاته. فلو كان التناظر يُخرق، وكانت النيوترونات تُستقطب بحيث تدور دورانًا مغزليًّا في اتجاه معين، فإن خرق التناظر حينئذ سوف يكون معناه ضمنًا أن الإلكترونات، وهي أحد نواتج ذلك الانحلال، سوف تكون أقرب لأن تنتج في أحد نصفي الكرة مقارنة بالآخر. وكتب العالمان بحثًا جميلًا حول فرضيتهما تلك نُشِر في يونيو ١٩٥٦.

بدا هذا الاحتمال أقرب إلى الجنون، غير أنه كان جديرًا بالتجربة. وأقنع الاثنان زميلتهما بجامعة كولومبيا، شيين-شيونج وو، وهي خبيرة في مجال انحلال بيتا، بالعودة وقطع عطلتها التي كانت تقضيها في أوروبا بصحبة زوجها لتجري تجربة حول انحلال النيوترونات في نظير الكوبالت ٦٠. كانت تلك الحقبة مختلفة عن أيامنا هذه، حيث قد تمتد الفترة الزمنية التي تمضي بين المقترحات النظرية في فيزياء الجسيمات وبين التحقق منها بالتجارب العملية في عصرنا هذا إلى عقود. وفي خلال ستة أشهر فحسب، كانت وو قد حصلت على دليل تجريبي، ليس فقط على أن الإلكترونات كانت تخرج من جهازها على نحو غير متناظر، وإنما أيضًا على أن عدم التناظر بدا تقريبًا بأكبر حجم ممكن فيزيائيًّا.

كان هذا كفيلًا بإقناع فيزيائي تجريبي آخر من جامعة كولومبيا هو ليون ليدرمان — الذي فاز بعد ذلك بجائزة نوبل، والذي كان لي يحاول إقناعه بإجراء تجربة مماثلة على انحلال البايونات — بإجراء التجربة. ومرة أخرى، بسرعة يتعذَّر فهمها للفيزيائيين الذين نشئوا بعد جيل من ذلك الوقت، أعاد ليدرمان وزميله ريتشارد جاروين تهيئة جهازهما في أحد أيام الجمعة، بعد غداء عمل عقد لهيئة التدريس لمناقشة هذا الاحتمال، وبحلول يوم الاثنين كانا قد حصلا على النتيجة، بعد يوم واحد من إتمام شيين-شيونج وو لتجربتها. كان التماثل يتعرض للخرق بالفعل لأقصى حد ممكن. لم يكن الرب — إذا شئنا استعارة التعبير المستخدم في لعبة البيسبول الذي استخدمه عالم الفيزياء النظرية المتشكك فولفجانج باولي — «لاعبًا أعسر ضعيفًا»، وإنما كان قويًّا!

أحدثت تلك النتيجة ضجة. فحقيقة أن هذا التناظر بالغ التقديس الذي يتصف به العالم من حولنا يُخرق ولا يُكترث به عند مستوى أساسي من قبل واحدة من قوى الطبيعة الأربعة المعروفة، صنعت موجات دهشة عارمة اجتاحت عالم الفيزياء، ووصلت أصداؤها إلى جميع وسائل الإعلام. (من الواضح أن لي ويانج عقدا واحدًا من أوائل المؤتمرات الصحفية المعاصرة في علم الفيزياء في جامعة كولومبيا للإعلان عن التأكيد التجريبي لصحة اقتراحهما.) وفي واحد من أسرع تطورات الأحداث في تاريخ الفيزياء، تقاسم لي ويانج جائزة نوبل عام ١٩٥٧ عن اقتراحهما، الذي تقدما به منذ عام واحد فقط.

•••

لماذا لم يتابع فاينمان البحث عن إجابة للسؤال الذي طرحه في اجتماع روتشيستر؟ مرة أخرى وجد فاينمان نفسه قريبًا من حل مسألة مهمة في علم الفيزياء، لكنه لم يهتم بمتابعة الأمر حتى الوصول إلى نتيجة. وربما كان هذا التوجه يعكس سمة في شخصيته ظلت ملازمة له: فهو لم يرغب قط في السير على خطى فيزيائيين آخرين. فإذا رأى أن مجتمع الفيزياء كله يركز على مشكلة ما، فإنه يبتعد عنها ويتجنَّبها ويبقي على ذهنه متفتحًا حتى يتمكن من معالجة الألغاز بالطريقة التي يحبها؛ من البداية حتى النهاية. وعلاوة على ذلك، كان يكره قراءة أدبيات الفيزياء، وهو أمر كان ضروريًّا لتحقيق الإنجاز الذي حققه لي ويانج.

غير أنه ربما كان السبب أيضًا أن فاينمان كان لديه صيد أثمن يطارده، أو هكذا كان يظن. فإدراك أن التفاعلات الضعيفة تخرق التناظر شيء جيد، لكنه لا يعادل وضع نظرية جديدة عن الطبيعة. وكان هذا شيئًا تاق فاينمان إليه بشدة. فلطالما شعر أن عمله في مجال الديناميكا الكهربائية الكمية عملًا بدائيًّا يؤدي الغرض بالكاد، وليس عملًا أصيلًا جوهريًّا؛ ليس مثل المعادلة التي وضعها بطله المفضل ديراك!

كان ما جذب فاينمان أكثر هو احتمال التوصل إلى نظرية توحد بين جميع الظواهر المختلفة المرصودة للتفاعل الضعيف — بما فيها عمليات انحلال أنواع مختلفة جدًّا من الجسيمات، كالنيوترونات، والبايونات، والكاونات — في صورة واحدة. كان فيرمي قد وضع نموذجًا تقريبيًّا لكنه جميل لانحلال بيتا، وإن كان مقصورًا على جانب محدد، غير أن البيانات المتوافرة حول حالات الانحلال الضعيف للجسيمات المختلفة كانت غير حاسمة ومستعصية على التوحيد. وصار السؤالان المحوريان هما: هل ثمة تفاعل ضعيف موحد يصف كل هذه العمليات؟ وإن كان الأمر كذلك، فما شكله؟

وبخته شقيقته، التي كانت فيزيائية هي الأخرى، لتراخيه وإحجامه فيما يتعلق بعدم حفظ التناظر. لقد كانت تعلم أن قليلًا من العمل فحسب — مصحوبًا بالمثابرة لكتابته — كان كفيلًا بإتمام الأمر. فحثته على ألا يتبع مبدأ الحرية الذهنية المطلقة فيما يتعلق بأفكاره بشأن التفاعل الضعيف.

في عصرنا الحاضر، يسهل عرض صورة خرق تناظر الانعكاس في التفاعل الضعيف باستخدام عبارة بسيطة: الجسيمات الغريبة المسماة ﺑ «النيوترينوات»، وهي نواتج انحلال بيتا التي سماها فيرمي بهذا الاسم، والوحيدة المعروفة التي تتفاعل فقط بالتفاعل الضعيف، هي جسيمات «عسراء». فكما أوضحت من قبل، فإن معظم الجسيمات الأولية تحمل زخمًا زاويًّا وتتصرف وكأنها تتحرك حركة مغزلية. والأجسام التي تتحرك حركة مغزلية في اتجاه معين تُرصد وكأنها تدور في الاتجاه المعاكس إذا نظرنا إليها في مرآة. وجميع الجسيمات الأخرى المعروفة يمكن قياسها وهي تسلك سلوكًا يجعلها تبدو وكأنها تتحرك مغزليًّا إما في اتجاه عقارب الساعة وإما في عكس اتجاه عقارب الساعة، حسب التجربة التي يتم إجراؤها. غير أن النيوترينوات — تلك الجسيمات المراوغة المتفاعلة تفاعلًا ضعيفًا — تخرق تناظر المرآة إلى أقصى حد ممكن، على حد علمنا على الأقل. فهي تدور في اتجاه واحد فحسب!

كان تسونج-داو لي يلمح في واقع الأمر إلى هذا المعنى عندما كان يصف عمله مع يانج أثناء مؤتمر روتشيستر عام ١٩٥٧، وجذب هذا انتباه فاينمان. في الأيام الخالية، عندما كان فاينمان يحاول جاهدًا تكرار معادلة ديراك لأول مرة وهو طالب بالجامعة مع تيد ويلتون، لم يتمكن من عمل ذلك على نحو كامل، وانتهى إلى معادلة أبسط لم تتضمن الحركة المغزلية للإلكترون على نحو صحيح. كانت معادلة ديراك تضم أربعة مكونات مختلفة، لوصف الوضعين المختلفين للحركة المغزلية للإلكترونات وللجسيمات المضادة لها، وهي البوزيترونات.

والآن أدرك فاينمان أنه عن طريق استخدام صيغة تكامل المسار التي ابتكرها، يمكنه بطبيعة الحال التوصل إلى معادلة تبدو شبيهة بمعادلة ديراك غير أنها أكثر بساطة. كانت تحتوي على مكونين اثنين فقط. وكان هذا مثيرًا له. لقد أدرك أنه لو كان التاريخ قد غيَّر مساره، لكانت معادلته اكتشفت أولًا، ولاشتق ديراك معادلته منها لاحقًا. وبالطبع، انتهت معادلته إلى تحقيق نفس نتائج معادلة ديراك — فمعادلته كانت تصف حالة لف مغزلي واحدة للإلكترون وواحدة لجسيمه المضاد، وكان هناك معادلة أخرى مشابهة تصف الحالتين الأخريين — لذا لم تكن معادلته جديدة حقًّا. لكنها قدمت بالفعل احتمالا جديدًا. وبالنسبة للنيوترينوات، التي يبدو أنها تدور في اتجاه واحد فقط، كانت معادلته، حسبما كان يشعر، ستكون طبيعية أكثر.

إلا أنه كانت هناك مشكلة واحدة. فإذا حاول المرء دمج هذا النوع من المعادلات بصيغة رياضية بغرض وصف التفاعل الضعيف الذي أدى إلى انحلال بيتا وإنتاج النيوترينوات، فإنه سيحصل على نتائج مختلفة عن النتائج التي بدا أن علماء الفيزياء التجريبية يكتشفونها من خلال تجاربهم. غير أن الغريب في الأمر هو أن نتائج تلك التجارب لم تكن حاسمة، ولا تتفق مع وجود قوة واحدة تعمل. ولو أن المرء صنف كل تلك الصيغ الرياضية المختلفة التي يمكنه كتابتها لتفاعلات النيوترون والبروتون والإلكترون والنيوترينو (والثلاثة الأخيرة هي نواتج انحلال الأول)، فسيجد أن لديه خمسة احتمالات مختلفة: «المدرج» (ورمزه S)، و«المدرج الزائف» (ورمزه P)، و«المتجه» (ورمزه V)، و«المتجه المحوري» (ورمزه A)، و«الموتر» (ورمزه T). ويصف مخطط التصنيف الرياضي هذا خصائص التفاعلات أثناء عمليات الدوران وعكس التناظر. ولكل تفاعل خصائص مختلفة. وكانت حقيقة أن التفاعل الضعيف يخرق التناظر تعني أنه لا بد أن يضم نوعين مختلفين من التفاعلات على الأقل، كل منهما له خصائص تناظر مختلفة. وكانت المشكلة هي أن تجارب انحلال بيتا تقترح أن يكون مزيج التفاعلات مكونًا من بين المدرج S والموتر T أو بين المتجه V والموتر T، في حين كانت صورة المكونين التي اقترحها فاينمان تتطلب مزيجًا مكونًا من المتجه V والمتجه المحوري A.

لم يكن فاينمان هو الوحيد الذي يفكر في تلك المسائل. فقد كان جيلمان، الذي فكر أيضًا في قضايا التناظر لبعض الوقت، حريصًا على توحيد حالات الانحلال الضعيف المختلفة، بعد أن سبقه لي ويانج وبعد أن أزعجه هذا أكثر مما أزعج فاينمان بكثير. وفي الوقت الذي عاد فيه فاينمان للبرازيل مرة أخرى لقضاء إجازة صيف مرحة، بقي جيلمان يعمل في كاليفورنيا.

لكن كان هناك آخرون أيضًا، منهم الفيزيائي إي سي جي سودارشان، وهو فيزيائي هندي شاب جاء إلى جامعة روتشيستر عام ١٩٥٥ للعمل مع الفيزيائي روبرت مارشاك، وقد تعرض سودارشان لاحقًا لموقف مأساوي. كان مارشاك قد اقترح عام ١٩٤٧ أن هناك نوعين مختلفين من الميزونات رُصدا في التجارب، أحدهما هو البايون، الذي يمثل الجسيم المتفاعل بقوة الذي توقع الفيزيائيون وجوده، وجسيم مختلف هو «الميون»، الذي صار معروفًا الآن بأنه نسخة ثقيلة الوزن من الإلكترون. وكان مارشاك مشتهرًا أيضًا في أوساط علماء الفيزياء باعتباره مؤسس مؤتمر روتشيستر، وهو المؤتمر الذي تُبحث فيه باستفاضة المشكلات الأساسية الحالية في فيزياء الجسيمات، مثل مشكلة «تاو-ثيتا»، ومشكلة خرق التناظر.

كان سودارشان باعتباره طالبًا بالدراسات العليا قد اكتسب معرفة واسعة بعلم الفيزياء النووية، وبصفة خاصة انحلال بيتا للنيوترون، وبعد اكتشاف مسألة خرق التناظر، بحث هو ومارشاك البيانات التجريبية المتوافرة في ذلك الوقت، وتوصلا إلى أن المزيج التقليدي المكون من المدرج S والموتر T لانحلال بيتا النووي لا بد أنه خاطئ. لقد أدركا أن جميع الانحلالات الضعيفة، بما فيها انحلال الميونات، لا يمكن توحيدها إلا إذا كان التفاعل يحدث في صورة مزيج من المتجه V والمتجه المحوري A.

وعلى نحو استثنائي، كان سودارشان مستعدًّا لعرض نتائجه في مؤتمر روتشيستر السابع عام ١٩٥٧، حيث كان مارشاك هو رئيس المؤتمر. غير أن مارشاك قرر أن سودارشان — باعتباره لا يزال طالبًا بالدراسات العليا — ليس مخولًا حضور المؤتمر، ولما كان مارشاك سيلقي كلمة عن موضوع آخر، فقد شعر أنه لا يستطيع التحدث عن هذا الموضوع، وهكذا ضاعت فرصة ذهبية لإعلان مقترحهما على مجتمع الفيزياء من خلال المؤتمر. فلما كانت البيانات المتعلقة بانحلال الميونات إلى بايونات — التي تنحل لاحقًا بدورها انحلالًا ضعيفًا لتتحول إلى إلكترونات ونيوترينوات — غير مؤكدة تمامًا بعد، فلعل مارشاك كان مترددًا في عرض أي مزاعم مؤكدة في ذلك الوقت.

بدلًا من ذلك، أتم مارشاك وسودارشان طوال فترة الصيف تحليلًا منهجيًّا للبيانات المتوافرة حتى حينه، وأعدا بحثًا يقترح صيغة موحدة للتفاعل الضعيف هي مزيج المتجه V والمتجه المحوري A، وكان من المزمع أن يعرضه مارشاك في خريف نفس العام في «بادوا» بإيطاليا. كان هذا زعمًا جريئًا، إذ كان يقتضي أن تكون أربع نتائج تجريبية على الأقل خاطئة! خلال تلك الفترة كان مارشاك وسودارشان في كاليفورنيا، بجامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس، فذهبا لزيارة جيلمان والتحدث معه، الذي كان قد رتب لهما بدوره اجتماعًا مع عالم الفيزياء التجريبي بكالتك فيليكس بويم. شرحا لجيلمان — الذي كان يفكر أيضًا في أمر صورة المتجه V والمتجه المحوري A غير أنه تخلى عن الفكرة لأنها تعارضت مع بعض البيانات — أنهما شعرا أن تلك التجارب قد تكون خاطئة. وطمأنهما بويم بأن أوضح لهما أن نتائجه التجريبية صارت الآن متفقة مع صورة V-A.
أخبر جيلمان — الذي كان قد أدرك بدوره أن صورة V-A هي الصيغة الوحيدة المعقولة لتفاعل ضعيف جامع موحد، لو كان هناك بالفعل تفاعل كهذا — الثنائي القلق مارشاك وسودارشان أنه لم يكن يعتزم كتابة بحث حول الموضوع، لكنه ربما يذكر هذا الاحتمال في إحدى فقرات مراجعة نقدية طويلة كان يكتبها حول التفاعل الضعيف. وبعدها توجه لقضاء عطلة، وعاد مارشاك وسودارشان إلى موطنيهما.
في هذه الأثناء، كان فاينمان مستغرقًا في التفكير في التفاعل الضعيف الموحد، الذي ربما كان أمله الأخير في اكتشاف قانون أساسي في الفيزياء. إلا أن حالة الارتباك الناجمة عن التجارب المختلفة ظلت عقبة في طريقه. وعند عودته إلى باسادينا خلال الفترة التي كان جيلمان يقضي فيها عطلته، علم أن بويم وجيلمان تحدثا معًا عن احتمال تجاوز صورة V-A للعقبات التجريبية أخيرًا.
كانت هذه هي اللحظة التي انتظرها فاينمان. فلو كان هذا صحيحًا، فإن فكرته عن وصف النيوترينوات بواسطة مكونين اثنين في صيغة رياضية بسيطة يمكنها استيعاب انحلال بيتا صحيحة إذن! وقد حكى الموقف لاحقًا بقوله: «قفزت من مقعدي في تلك اللحظة وقلت: «إذن فإنني أفهم كل شيء. أفهم كل شيء وسوف أشرحه لكم صباح الغد» … لقد ظنوا عندما قلت هذا أنني أمزح … لكنني لم أكن مازحًا. لقد كان التحرر من طغيان الاعتقاد بأن المزيج مكون من S وT هو كل ما أحتاج إليه، لأنه كانت لديَّ نظرية تقول إنه إذا كان مزيج V وA محتملًا، فسوف يكون صحيحًا حتمًا، لأن الأمر سيكون هكذا مرتبًا وجميلًا.» كان فاينمان في غاية الإثارة حتى إنه أقنع نفسه بأنه الشخص الوحيد في العالم الذي فهم أن مزيج V-A سينتج صورة عامة موحدة للتفاعل الضعيف. وفي الواقع، كانت لديه أسبابه الخاصة حتى يعتقد هذا الاعتقاد، وهي ترجع — كالمعتاد — إلى صيغته الفريدة. وبسرعة غير معتادة منه، راح يكتب مسودة بحث ظن أنه أمله العظيم في وضع نظرية جديدة عن الطبيعة.
في هذه الأثناء، عاد جيلمان إلى كالتك فعلم أن فاينمان عاكف على كتابة أطروحته، في حين كانت لدى جيلمان أسبابه الخاصة للتفكير في مزيج V-A، وعلاقته بتناظر «التيارات»، أو جريان الشحنات المرتبطة بالجسيمات الداخلة في التفاعل والناتجة عنه. وقرر — على الرغم من التعهد الذي أعطاه لمارشاك — أن عليه أن يكتب بحثه الخاص.

وفي واحدة من اللحظات الصعبة على أي رئيس قسم (وهي لحظات ألفتها شخصيًّا خلال اثنتي عشرة سنة قضيتها في هذا المنصب)، قرر رئيس قسم الفيزياء بكالتك أنه لا ينبغي لنجميه الساطعين أن يمارسا لعبة التنافس بالأبحاث، وأبلغهما أن يشكِّلا فريقًا ويكتبا بحثًا واحدًا. وعلى نحو يثير الدهشة، وافق فاينمان وجيلمان على ذلك.

كان بحث فاينمان وجيلمان المشترك مزيجًا مثيرًا من الأساليب، ومع ذلك كان تحفة فنية أصيلة. لقد أخرج أفضل ما لديهما؛ صيغة فاينمان ذات المكونين للنيوترينو (التي صارت مفيدة لاحقًا، مع أنها بدت ملفَّقة في حينها)، وأفكار جيلمان العبقرية عن الكميات والتناظرات المحفوظة المرتبطة بالتيارات الضعيفة (التي ثبتت جدواها لسنوات تالية فيما يتجاوز كثيرًا مسألة فهم انحلال بيتا).

ومن نافلة القول أن نبأ البحث المشترك لفاينمان وجيلمان سرعان ما ذاع، وكان على سودارشان المسكين أن يتحمل حديثًا تلو حديث يستمع فيه إلى نسب فكرة مزيج V-A إلى هذين النجمين الساطعين. صحيح أن جيلمان أصر على كتابة شكر وتقدير أشار فيه لمناقشاته مع مارشاك وسودارشان، وأن فاينمان أقرَّ بعدها لسودارشان بأنه منذ ذلك الحين يسمع أن سودارشان سبق الجميع إلى فكرة مزيج V-A، وأقر لاحقًا بهذا الأمر على الملأ، إلا أن بحث فاينمان وجيلمان ظل سنوات طوالًا يُعتبر المرجع التقليدي والوحيد الذي يستشهد به الناس عند مناقشة الفكرة.

لعل هذه كانت المرة الوحيدة في حياة فاينمان المهنية التي شعر فيها بالإثارة والانقياد لفكرة حتى إنه أراد نشرها باعتبارها فكرته. لقد شعر أنها ربما كانت أعظم لحظات الفخار في حياته، أو كما عبَّر هو عن الأمر: «كانت تلك لحظة أدركت فيها كيف تعمل الطبيعة. إن لها أناقةً وجمالًا. لقد كانت متألِّقة.» وكان البحث عملًا جميلًا أيضًا، مثلما يمكن للمرء أن يتوقَّع من أكثر عقلين مبدعين في فيزياء الجسيمات في عصرهما. وعلى الرغم من أن البحث لم يكن صادمًا، ولا حتى يمثِّل مفاجأة كاملة، وبالتأكيد لم يكن نظرية مكتملة عن أي شيء (فالنظرية الكاملة عن التفاعل الضعيف استغرق وضعها عقدًا آخر من الزمان، ثم احتاجت إلى عقد آخر كي تحظى بالقبول)، وعلى الرغم من تقييم فاينمان الشخصي، فإنه بالنسبة للعالم بدا دليلًا على أن الشراكة التي بدأت عام ١٩٥٤ عندما انتقل جيلمان إلى كالتك ليكون بالقرب من فاينمان قد وصلت إلى مرحلة الإثمار الذي يبشِّر بإنجازات عظيمة قادمة. وقد صورت مجلة «تايم» العالِمَين باعتبارهما من بين كبار النجوم الساطعة في العلوم في الولايات المتحدة قائلة: «عندما يقفان أمام السبورة تندفع الأفكار وكأنها شرارات تتطاير من حجر المِسَنِّ، وتلطم تبسيطات كل منهما جبهة الآخر على نحو تبادلي، فيبدي انبهاره بالدقائق الرائعة في معادلات الآخر التي تمتد بطول حائط، فتشحن بطاريات إبداعهما.»

لكن لم تكن هذه بداية شراكة جميلة، وإنما كانت أقرب إلى النهاية. فبمجرد أن صار تعاونهما أشبه بزواج إجباري، أخذ العالمان العبقريان أبحاثهما المستقبلية في مسارين متوازيين لا يلتقيان، مع أن أحدهما لم يفقد أبدًا احترامه لقدرات الآخر وأفكاره. بالطبع ظل كل منهما يستشير الآخر طالبًا منه النصح وظلَّا يناقشان الأفكار ويتجادلان بين الحين والآخر، لكنهما لم يتعاونا مطلقًا بعد ذلك على «استفزاز الكون». كان جيلمان على وشك أن يصنع أعظم إسهاماته في علم الفيزياء، وكان فاينمان بصدد التركيز على أمور أخرى طوال ما يقرب من عقد من الزمن، قبل أن يعود مرة أخرى إلى فيزياء الجسيمات ويسهم، وياللمفارقة، في إقناع العالم بأن اكتشاف جيلمان الرياضي، المسمى «الكواركات»، ربما كان حقيقيًّا في واقع الأمر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤