الفصل الخامس عشر

استفزاز الكون

أظن أنه قد خطرت لي الفكرة الصحيحة، كي آتي بأفعال مجنونة …

ريتشارد فاينمان

شكلت السنوات من ١٩٥٧ إلى ١٩٦٥ فترة انتقالية في حياة ريتشارد فاينمان. على المستوى الشخصي، تحول من زير نساء إلى رب أسرة، ومن متجول وحيد إلى زوج مستأنس وأب (مع أنه لم يتوقف قط عن السعي وراء المغامرات، لكنها صارت الآن مع أسرته). وعلى المستوى المهني، تحول من شخص يعمل بصورة ملحة — من أجل تحقيق متعة فورية خاصة له في الأساس — عند قمة علم الفيزياء إلى شخص بدأ يعيد للعالم الحكمة التي اكتسبها من سنوات تفكيره في أمور الطبيعة (مع أنه على الأرجح لم يزعم مطلقًا أن ما لديه يعد حكمة).

في هذه الأثناء كان قد صار واحدًا من أشهر شارحي ومدرسي الفيزياء وأكثرهم تألقًا، وإلى حد ما، ضمير علم الفيزياء. لقد ظل واعيًا، وحريصًا على التأكيد في كل مناسبة على ضرورة أن يميز زملاؤه وعامة الناس بين العلم الحقيقي وبين ما لا يعد علمًا، وأن يدركوا الإثارة التي يمكن أن يستمدوها من دراسة العلم، وأن يميزوا الهراء الذي يمكن أن ينتج عن المبالغة في تفسير إشارات العلم، أو عن المزاعم التي لا أساس لها، أو ببساطة من جراء فقد الاتصال به تمامًا. كان لديه شعور قوي بأن العلم يحتاج إلى أمانة فكرية معينة، وأن العالم سيصير مكانًا أفضل مما هو عليه لو شاع هذا المعتقد أكثر ورسخ في الأذهان وطُبق عمليًّا.

ليس معنى هذا أن فاينمان تغيَّر على المستوى الشخصي تغيرًا جذريًّا من أي نوع. فقد ظل شغوفًا بشدة بجميع ميادين الفيزياء. وكما ذكرت منذ قليل، فقد واصل بحثه الدءوب عن المغامرات، ولكن مغامرات من نوع مختلف. فعلاوة على رحلاته العجيبة بصحبة زوجته، شرع في نشاطين يمكن أن نطلق عليهما اسم «التسامي»؛ أحدهما كان يعكف فيه على إجراء عملياته الحسابية كل يوم تقريبًا عند وصلة شريط باسادينا، حيث كان يستطيع مشاهدة الفتيات كلما سارت حساباته على نحو خاطئ، وتعلق الآخر بالجمع بين اهتمامه الدائم بالرسم واهتمامه الدائم بالنساء العاريات اللاتي يستطيع رسمهن. وقد صار بالفعل بارعًا إلى حد كبير في هذا، وهو ما يبدو متناقضًا إذ إنه حين كان شابًّا كان يسخر من الموسيقى والرسم، إلا أنه وهو في منتصف العمر صار شغوفًا بالاثنين. والأمر الذي لا يقل تناقضًا عن ذلك افتتانه الحديث في الستينيات بزيارة مختلف منشآت ما يطلق عليه «العصر الحديث» مثل «إسالن»، حيث كان يستمتع بالمناظر وبالفرصة السانحة له كي يزيل عن المشاركين معتقداتهم في الروايات الخيالية أو «الخرافات»، حسبما كان يسميها. وربما فاقت جاذبية حمامات العراة، وسحر التعامل مع نوعية مختلفة من البشر، عدم احتماله لأولئك الذين كانوا يسيئون استغلال مفاهيم علم الفيزياء، مثل ميكانيكا الكم، لتبرير تفكيرهم بطريقة «كل شيء جائز».

وفي حياته المهنية، مع تزايد شهرته، تحوَّل فاينمان بشراسة نحو حماية وقته. كان يرغب في أن يضمن ألا يتحول إلى «رجل مهم» بالمفهوم التقليدي، مثقلًا بالمسئوليات الإدارية، التي كان يتهرَّب منها متى أمكنه ذلك. بل إنه راهن فيكتور فايسكوبف، عندما زار المنظمة الأوروبية للأبحاث النووية «سيرن» في جنيف عقب حصوله على جائزة نوبل، على أنه في خلال عشر سنوات لن يتولى «منصبًا مهمًّا»؛ أي منصب «بطبيعته يُرغِم من يتولَّاه على إصدار تعليمات لأشخاص آخرين كي ينفِّذوا إجراءات معينة، على الرغم من أن متوليه لا يفهم أي شيء عما يلقيه من تعليمات للأشخاص السابق ذكرهم». ومن نافلة القول إنه فاز بالرهان.

شجعته شهرته المتزايدة على أن يسلك اتجاهًا آخر آتى ثماره في الماضي، مع أنه على المدى البعيد كلَّفه ما كان يمكن أن يمثل له نجاحًا أكبر بكثير في مواصلة ريادة الاكتشافات الحديثة في الفيزياء. صار أكثر اقتناعًا بأنه لكي يكون رائدًا متألقًا في مسارات جديدة، فإنه بحاجة إلى تجاهل الكثير مما كان يفعله الآخرون، وبالتحديد عدم التركيز على «المشكلات الحالية».

إن الفيزياء، على أي حال، نشاط اجتماعي إنساني، وفي أي وقت من الزمن، يكون هناك في أغلب الأحوال إجماع على المشكلات «الساخنة»، وعلى الاتجاهات التي يرجح أن تقودنا نحو رؤى مستنيرة جديدة. ويعتبر البعض هذا الهوس بالبحث عن الجديد مشكلة، ومثال ذلك، افتتان قسم كبير من المجتمع على مدى السنوات الخمس والعشرين الماضية بنظرية الأوتار، وهي مجموعة أفكار خلابة من الناحية الرياضية لا يفوقها في افتقارها للاتصال المباشر بالعالم العملي سوى الالتباس المتزايد بشأن ما يمكن أن تتنبأ به عن الطبيعة. (لكن مع هذا، فإن رياضيات نظرية الأوتار أدت إلى ظهور عدد من الأفكار المستنيرة المشوقة حول كيفية إجراء الحسابات وتفسير نتائج الفيزياء الأكثر تقليدية.)

من المحتم أن مجموعات الناس ذوي الاهتمامات المتشابهة تثيرهم عادةً أمور متشابهة. وفي نهاية المطاف، لا تعد الموضة في العلوم أمرًا مهمًّا، وذلك يرجع أولًا إلى أن جميع الأنشطة تكشف حتمًا عن العيوب مثلما تكشف عن الروائع مبهرة الجمال بأسرع ما يمكن، وثانيًا لأنه بمجرد أن تشير الطبيعة نحو الاتجاه الصحيح، فإن العلماء يقفزون من السفينة الغارقة أسرع مما تقفز الفئران من سفينة في قلب عاصفة.

وحتى يكون العلم صحيحًا وسليمًا، من المهم ألا يسير «كل» العلماء في نفس الاتجاه، وكانت هذه هي النقطة التي ركَّز عليها فاينمان، حتى وصلت إلى ما يشبه الهاجس له. لقد بلغت به الموهبة والتنوع أنه كان قادرًا، عند الضرورة، على إعادة ابتكار الغالبية العظمى من الابتكارات وكان عادةً ما يطورها ويُدخل عليها التحسينات من خلال ذلك. ولكن على نفس النهج، فإن إعادة اختراع العجلة يستغرق وقتًا ونادرًا ما يكون جديرًا بالجهد المبذول.

لم يكن الأمر أنه قادر على أن يسلك هذا الطريق فحسب، وإنما كثيرًا ما شعر أن من واجبه أن يفعل ذلك. كانت تلك نقطة قوة ونقطة ضعف في الوقت نفسه. لم يكن حقًّا يثق بأي فكرة ما لم يبحثها بنفسه من مبادئها الأولى بأساليبه الخاصة. وكان معنى ذلك أنه كان يفهم ما لا يعد ولا يحصى من المفاهيم بصورة أعمق وأدق من معظم الآخرين، وأنه كان يمتلك جرابًا رائعًا من الحيل يخرج منه الحلول السحرية لكثير من المشكلات المتنوعة. غير أنه كان يعني أيضًا أنه لم يكن على علم بالتطورات العبقرية التي توصل إليها آخرون والتي كان من الممكن أن تضيء الطريق أمام أبحاثه بطرق جديدة، فتوصله لأبعد مما كان يستطيع الوصول إليه وحده.

عبر سيدني كولمان — وهو فيزيائي لامع من هارفارد ويحظى باحترام ومكانة رفيعة وكان من تلاميذ جيلمان في كالتك في الخمسينيات وتعامل من قبل مع فاينمان طيلة مساره المهني والعلمي — عن ذلك بقوله: «إنني على يقين من أن ديك اعتبر هذا ميزة، وشيئًا نبيلًا. وأنا لا أعتقد أنه كذلك. أعتقد أنه خداع للذات. فالآخرون ليسوا جميعًا مجموعة من الدمى التي لا قيمة لها … إنني أعرف أناسًا هم في الحقيقة شديدو الأصالة وليسوا معاتيه غير أنهم لم يحققوا شيئًا يوازي ما كان يمكنهم تحقيقه في الفيزياء لأنهم عند نقطة ما كانوا أكثر اهتمامًا بالأصالة من اهتمامهم بأن يكونوا على صواب. وقد أمكن لديك تحقيق الكثير لأنه كان بارع الذكاء بحق.»

حقق فاينمان الكثير بالفعل. ولكن هل كان باستطاعته إنجاز ما يفوق هذا بكثير لو أنه وافق بين الحين والآخر على بناء أبحاثه على أساس مسارات طُرقت كثيرًا من قبل وجُربت بدلًا من البحث عن مسارات جديدة؟ لن نعرف إجابة هذا السؤال أبدًا. ومع ذلك فإن التقييم الأمين لإسهاماته العلمية اعتبارًا من عام ١٩٦٠ أو نحوه فصاعدًا يوضح عدة اتجاهات استمرت في تكرار نفسها. فقد استكشف مجالًا جديدًا، مبتكرًا مجموعة من التقنيات الرياضية المبتكرة، وكذا توصَّل لأفكار مستنيرة في علم الفيزياء. وكان من شأن تلك الإسهامات أن أدت في نهاية الأمر إلى المساعدة في تطورات محورية قام بها آخرون، وهو ما أدى بعد ذلك إلى مجموعة من الاكتشافات الرئيسية ووجَّه الغالبية العظمى من مجالات الفيزياء المعاصرة على الصعيدين النظري والتجريبي معًا. وتباين هذا الجهد من العمل في مجال فيزياء المادة الكثيفة مرورًا بمفاهيمنا حول التفاعلات الضعيفة والقوية، وحتى أساس العمل الذي يجري حاليًّا في مجال جاذبية الكم وحسابات الكم. لكنه هو نفسه لم يتوصل للاكتشافات أو ينل الجوائز. ومن هذا المنظور، واصل فاينمان دفع عجلة الفيزياء للأمام كما لم يفعل إلا القليل من العلماء المعاصرين، ليفتح بذلك مجالات جديدة للدراسة، ويولِّد رؤى جوهرية جديدة، ويخلق الاهتمام بأشياء لم يهتم بها أحد من قبل، غير أنه كان يميل دومًا لقيادة الدفة من المؤخرة، أو من أحد الجانبين على أفضل تقدير.

ليس واضحًا هل كان هذا الأمر يزعجه أم لا. فعلى الرغم من ميله الفطري إلى الاستعراض، كما ذكرت من قبل، فإنه كان في نهاية المطاف أكثر اهتمامًا بأن يكون على صواب من أن يكون المبتكر صاحب الفكرة الأصلية، ولو أن عمله أدى إلى أن كشف آخرون عن حقائق جديدة، كان من الممكن أن يظل متشككًا في النتائج وقتًا طويلًا، لكن في نهاية الأمر كان الرضا الذي يستمده من كونه أنار طريقًا مظلمًا يمنحه متعة عظيمة. وعن طريق التركيز على مشكلات عويصة لم يتطرق إليها التيار العلمي السائد، كان يزيد من فرص هذا التنوير.

•••

تعلقت أولى غزوات فاينمان البعيدة عن المسار المطروق برغبته، التي بدأت حوالي عام ١٩٦٠، في فهم كيف يمكن للمرء صياغة نظرية كم للجاذبية. كانت هناك أسباب قوية لاهتمامه هذا؛ أولًا: في حين راوغت هذه النظرية جميع من فكروا فيها من قبل، حقَّق هو بالفعل نجاحًا في ابتكار نظرية كَمٍّ متماسكة الأركان خاصة بالكهرومغناطيسية في حين عجز الآخرون عن ذلك، وكان يعتقد أن خبرته بالديناميكا الكهربائية الكمية ربما أدت إلى شيء نافع. وثانيًا: لطالما اعتُبرت نظرية النسبية العامة لأينشتاين أعظم ابتكار علمي منذ زمن نيوتن. فهي على كل حال نظرية جديدة عن الجاذبية. غير أنه عندما يفكِّر المرء في سلوكها عند المقاييس الصغيرة، تبدو معيبة. وأول شخص يتمكن من تقويم تلك النظرية ما من شك أنه سينظر إليه باعتباره الوريث الشرعي لأينشتاين. غير أنه ربما كان أعظم شيء جذب فاينمان لذلك الموضوع أنه ما من شخص آخر، شخص ذي حيثية على الأقل، كان يفكر في هذه المسألة. وعلى حد قوله، في خطاب أرسله إلى زوجته من مؤتمر حول الجاذبية حضره في وارسو عام ١٩٦٢: «هذا الميدان (بسبب عدم وجود تجارب فيه) ليس ميدانًا نشطًا، لذا فإن قلة من خيرة العلماء هم من يجرون أبحاثهم فيه.»

كانت تلك مبالغة منه إلى حد ما، غير أن الحقيقة هي أن دراسة النسبية العامة صارت ميدانًا مستقلًّا بذاته منذ اكتشاف أينشتاين العظيم المتمثل في معادلات المجال الكلاسيكية عام ١٩١٥. ولما كانت النسبية العامة تعني ضمنًا أن المادة والطاقة تؤثران في طبيعة الفضاء ذاته، مما يسمح له بالانحناء والتمدد والانكماش، وأن هذه الخاصية للفضاء تؤثر بعد ذلك على التطور اللاحق للمادة والطاقة، الذي يؤثر بدوره على الفضاء، وهكذا، فإن النظرية أكثر تعقيدًا بكثير من الناحيتين الرياضية والفيزيائية من نظرية نيوتن للجاذبية.

أُنجز قدر عظيم من العمل على إيجاد حلول رياضية لتلك المعادلات بهدف تفسير ظواهر متباينة من ديناميكا الكون وحتى سلوك اللحظات الأخيرة للنجوم أثناء نفاد وقودها النووي. كانت المعادلات معقَّدة بما يكفي، وكان تفسيرها الفيزيائي محيِّرًا للغاية أيضًا، فكان الأمر يتطلَّب عبقرية فذة وبراعة رياضية غير عادية، وظهر قطاع صغير من الخبراء لبحث تقنيات جديدة للتعامل مع تلك القضايا.

ولكي ندرك إلى أي مدى كان الأمر معقدًا، فلا بد أن نعلم أن الأمر استغرق عشرين عامًا كاملة والكثير من المنعطفات والطرق المسدودة والأخطاء، من بينها بعض الأخطاء الشهيرة التي ارتكبها أينشتاين نفسه، إلى أن أدرك العلماء أن النسبية العامة لا تتفق مع كون ثابت خالد، وهي الصورة العلمية المفضلة للكون في ذلك الحين. ولكي يكون الكون كذلك، حيث تحاط مجرتنا فيه بفضاء ثابت خاوٍ، أضاف أينشتاين ثابته الكوني الشهير (الذي سماه فيما بعد أكبر أخطائه).

كان الفيزيائي الروسي ألكسندر فريدمان أول من كتب معادلات الكون المتمدد عام ١٩٢٤، ولكن لسبب ما تعرضت تلك المعادلات لتجاهل واضح من مجتمع علماء الفيزياء. وأعاد القس والفيزيائي البلجيكي جورج لوميتر بصورة مستقلة اكتشاف المعادلات ونشرها في دورية علمية مغمورة عام ١٩٢٧. ومع أن عمل لوميتر لم يحظَ باهتمام عام، فما من شك أن أينشتاين علم به، فكتب إلى لوميتر يقول: «حساباتك صحيحة، لكن فيزياءك رديئة.»

لم يُترجم عمل لوميتر إلى الإنجليزية كما لم يبدأ في نيل القبول العام، بما فيه قبول أينشتاين نفسه، إلا في الثلاثينيات، بعد مشاهدة إدوين هابل للكون المتمدد من خلال حركة المجرات البعيدة. في عام ١٩٣١ نشر لوميتر مقاله الشهير في مجلة «نيتشر» ليحدد فيه الخطوط العريضة لنموذجه المعروف باسم «الذرة البدائية»، الذي صار يعرف بعدها باسم نظرية «الانفجار العظيم». وأخيرًا، في عام ١٩٣٥، أثبت هاوارد روبرتسون وآرثر ووكر بصورة قاطعة أن الفضاء الوحيد الذي يتصف بالتناسق ووحدانية الخصائص (في ذلك الوقت كان العلماء قد أدركوا أن مجرتنا ليست المجرة الوحيدة في هذا الكون، وأن الفضاء متناسق إلى حد بعيد في جميع الاتجاهات وأن المجرات موجودة في كل مكان، وقدر عددها ﺑ ٤٠٠ مليار مجرة في كوننا القابل للرصد) هو ذلك الانفجار العظيم المتمدد الذي وصفه كل من فريدمان ولوميتر. وبعدها صارت نظرية الانفجار العظيم النموذج النظري المفضل في علم الكونيات، على الرغم من أن الأمر استغرق بالفعل ثلاثين عامًا أخرى — بعد بدء فاينمان عمله — حتى استكشفت بجدية الآثار الفيزيائية الفعلية الناتجة عن الانفجار العظيم، ووضعها اكتشاف إشعاع الخلفية الميكروني الكوني على الخريطة التجريبية على نحو حاسم.

على الرغم من أن الأمر استغرق عقدين من الزمان لفهم الآثار الكونية للنسبية العامة، فإن أكثر المواقف المرتبطة بالجاذبية ألفة لنا، وهو الانهيار الذي يحدث بسبب الجاذبية للغلاف الكروي للمادة، ظل محيرًا فترة أطول كثيرًا، ولا يزال مستعصيًا على الفهم بصورة كاملة.

في غضون أشهر قليلة من وضع أينشتاين لنظرية النسبية العامة، كتب الفيزيائي الألماني كارل شفارتزشيلد الحل الدقيق والصحيح الذي يصف طبيعة الفضاء ومجال الجاذبية الناتج خارج التوزيع الكروي للكتلة. غير أن المعادلات أخرجت نتائج ذات قيم لانهائية عند نصف القطر المحدد من مركز التوزيع. ويطلق على نصف القطر هذا الآن اسم «نصف قطر شفارتزشيلد». في ذلك التوقيت، لم يكن معنى قيمة ما لانهاية هذا مفهومًا بعد، هل كانت مجرد خطأ في الحسابات الرياضية أم أنها انعكاس لظاهرة فيزيائية جديدة تحدث عند هذا المقياس.

أعمل العالم الهندي الشهير (الذي فاز في النهاية بجائزة نوبل) سوبرامانيان تشاندراسيخار الفكر في انهيار أجسام حقيقية مثل النجوم وزعم أنه في حالة النجوم التي يفوق حجمها ١٫٤٤ ضعف كتلة شمسنا، لا توجد قوة معلومة يمكنها إيقاف انهيارها وانكماشها حتى تصل إلى هذا النصف قطر أو أصغر منه. غير أن الفلكي والفيزيائي الشهير آرثر إدنجتون، الذي قدمت مشاهداته للكسوف الكلي عام ١٩١٩ أول برهان عملي على صحة نظرية النسبية العامة (ورفعت بذلك أينشتاين إلى مصاف أفذاذ مشاهير العلماء على مستوى العالم)، أعلن اعتراضه بشدة على تلك النتيجة وهزأ منها.

وفي نهاية المطاف شرح روبرت أوبنهايمر أن النتيجة التي توصَّل إليها تشاندراسيخار صحيحة بعد إجراء تنقيح طفيف لها (حوالي ٣ أضعاف كتلة الشمس أو أكثر). لكن التساؤل ظل كما هو، ما الذي يحدث عندما تنهار النجوم على نفسها وتتقلَّص لتصبح أنصاف أقطارها مساوية لنصف قطر شفارتزشيلد؟ كان من أقوى التبعات الظاهرة للنظرية أنه من وجهة نظر مشاهد من الخارج، أثناء انهيار الأجسام هائلة الحجم، يبدو أن الزمن يتباطأ كلما اقتربنا من نصف قطر شفارتزشيلد، وبهذا قد تبدو الأجسام وكأنها «في حالة تجمد» عند هذه النقطة قبل مواصلتها الانهيار، مما يؤدي إلى مصطلح أطلق على تلك الأجسام وهو «النجوم المتجمدة».

لهذه الأسباب وغيرها، آمن معظم العلماء بأن الانهيار داخل نصف قطر شفارتزشيلد مستحيل فيزيائيًّا، وبأن قوانين الفيزياء بشكل أو بآخر سوف تعمل بصورة طبيعية على إيقاف الانهيار قبل الوصول إلى نصف قطر شفارتزشيلد. إلا أنه بحلول عام ١٩٥٨ فهم العلماء أن القيم الظاهرية اللانهائية المرتبطة بنصف قطر شفارتزشيلد كانت أخطاءً رياضية في منظومة الإحداثيات المستخدمة في وصف هذا الحل، وأنه لن يحدث شيء منافٍ لقواعد الفيزياء أثناء اجتياز الأجسام لذلك النصف قطر، الذي صار يسمى الآن «أفق الحدث» لأنه بمجرد دخولها فيه، لا يعود للأجسام أي اتصال بالعالم الخارجي.

وعلى الرغم من أنه من غير المحتمل أن يحدث شيء غير مُوَاتٍ عند أفق الحدث، فإن روجر بنروز شرح عام ١٩٦٣ أن أي شيء يتجاوز أفق الحدث محكوم عليه بالانهيار متحولًا إلى «نقطة تفرد» كثيفة لانهائية في مركز المنظومة. ومن جديد، بدأت قيم ما لانهاية المخيفة تطل برأسها، ولكن هذه المرة ليس في حسابات التفاعلات بين الجسيمات وبعضها فحسب، وإنما في طبيعة الفضاء ذاته. تنبَّأ العلماء — على الرغم من أنه أمر لم يقم عليه دليل، كما اقتُرِحت مؤخرًا بالفعل عدة نماذج مضادة رقمية مؤقتة — بأن جميع نقاط التفرد التي على هذا النحو محجوبة عن الراصدين الموجودين خارجها بواسطة أفق الحدث ومن ثم لا يمكن مشاهدتها مباشرةً. لو كان هذا صحيحًا، فسيكون له تأثير أشبه بإخفاء المشكلة التي تحدث داخل جسم كهذا لغضِّ الطرف عن التعامل معها، لكنه لن يقدم حلًّا واضحًا للسؤال الفيزيائي الرئيسي عما إذا كانت نقاط التفرد تلك موجودة أم لا.

في عام ١٩٦٧ أقر جون ويلر، المشرف السابق على رسالة فاينمان، الذي ناصر من قبل القول إن الانهيار داخل نصف قطر شفارتزشيلد مستحيل حدوثه داخل كون يمكن إدراكه بالحواس، باحتمال حدوث هذا وسمى تلك الأجسام المنهارة اسمًا جذابًا وهو «الثقوب السوداء». وسواء أكان اسمها هو الذي حرَّك هذا الاهتمام بها أم لا، فإن الثقوب السوداء لا تزال محورًا لجميع المناقشات والجدل المعاصر المتعلق بفهمنا للجاذبية على نطاقات صغيرة وفي مجالات قوية.

كانت تلك المسائل المحيطة بتفسير الحلول التقليدية لمعادلات أينشتاين وطبيعة انهيار الجاذبية محور نشاط دار داخل مجتمع علماء الفيزياء النظرية الدارسين لمسألة الجاذبية عندما بدأ فاينمان يحوِّل انتباهه نحو ذلك الميدان. ولعل الأمر الذي مثَّل مفاجأة كبرى هو تطور دراسة الجاذبية حتى صارت تقريبًا ميدانًا مستقلًّا ومنعزلًا من ميادين علم الفيزياء. وعلى كل حال، كان أينشتاين قد بيَّن أن الجاذبية قوة مختلفة اختلافًا تامًّا عن سائر قوى الطبيعة الأخرى. فهي تنشأ من انحناء الفضاء ذاته، في حين أن القوى الأخرى يبدو أنها تعمل بصورة مختلفة تمامًا؛ تقوم على تبادل الجسيمات الأولية التي تتحرك في الفضاء، على سبيل المثال. وحتى المراجع كانت تميل للتعامل مع النسبية العامة باعتبارها ميدانًا مستقلًّا بذاته يمكن فهمه بصرف النظر عن الغالبية العظمى من باقي ميادين علم الفيزياء.

إلا أن فاينمان اعتقد محقًّا أن هذا الفصل مصطنع. فعلى نطاق المقاييس الصغرى، كانت ميكانيكا الكم هي القوة الحاكمة، وفي النهاية لو أن المرء يحاول فهم الجاذبية عند المقاييس الصغرى، فسيكون في حاجة لاستخدام الأدوات التي ابتكرها فاينمان وغيره من أجل فهم الأسلوب الذي يمكن به جعل نظريات كلاسيكية مثل نظرية الكهرومغناطيسية — التي تبدو على السطح مشابهة، لكونها قوة طويلة المدى تتحقَّق بدءًا من مربع المسافة وحتى ما لانهاية — تتفق مع مبادئ ميكانيكا الكم. وعن طريق فهم الجاذبية، مثلما توصل هو وآخرون لفهم الديناميكا الكهربائية الكمية، ربما يتمكَّنون من كسب رؤى مستنيرة جديدة وقيمة.

بدأ فاينمان التفكير في تلك القضايا بجدية في منتصف الخمسينيات، بعد فترة قصيرة من إتمام عمله في الديناميكا الكهربائية الكمية، كما تناقش فيها مع جيلمان خلال عطلة عيد الميلاد عام ١٩٥٤، وفي ذلك الوقت كان قد أحرز بالفعل تقدمًا عظيمًا. إلا أنه لم يتم صياغة أفكاره إلا في العام الدراسي ١٩٦٢-١٩٦٣، أثناء منهج دراسي امتد بطول عام كامل درسه لطلبة السنة النهائية بكالتك. وتحولت محاضراته حول الموضوع إلى كتاب بعد ذلك بمدة طويلة، وطبعت للجمهور عام ١٩٩٥ ولا يدهشنا أنها سميت «محاضرات فاينمان في الجاذبية». وكان هذا العنوان ملائمًا تمامًا لأنه درَّس هذا المنهج المخصص لطلاب السنة النهائية في نفس الوقت الذي كان يطور فيه ويدرس مقرره التقديمي الشهير للعام الثاني والذي أسست بناءً عليه «محاضرات فاينمان» الشهيرة. لا عجب إذن أنه صار منهكًا في نهاية تلك الفترة!

شرح فاينمان الدافع الذي حفزه للتوصل لأسلوبه في بحث علمي كتبه عام ١٩٦٣ لخَّص فيه نتائجه، واعتذر عن التفكير في الجوانب الكمية من مسألة الجاذبية، التي كانت حينئذ، مثلما هي الآن، بعيدة تمامًا عن أي إمكانية للتحقق منها عن طريق التجارب: «اهتمامي بها [نظرية الكم للجاذبية] ينصبُّ في المقام الأول على علاقة أحد أجزاء الطبيعة بجزء آخر … إنني أمنع نفسي من مناقشة مسائل هندسة الكم … فأنا لا أحاول مناقشة أي مشكلات خاصة بميادين أخرى ما دمنا لا نواجهها بالفعل في نظرية مجال الكم الحالية.»

من الصعب في المناخ الحالي، حيث تحقق مثل هذا الاهتمام العظيم بتوحيد قوى الطبيعة المختلفة، أن ندرك حجم ثورية أسلوب فاينمان في ذلك الوقت. كانت فكرة أن الجاذبية من الممكن ألا تكون مجالًا شديد الخصوصية أو مستقلة بذاتها، أمرًا أشبه بالهرطقة، لا سيما في المجتمع المنغلق للعلماء الذين كانوا يتعاملون معها باعتبارها جوهرة متميزة، ولا يمكن التعامل معها إلا بأدوات متخصصة غير متاحة للعلماء العاديين. وكما يمكن أن نتوقع، لم يكن فاينمان يطيق مثل هذا الرأي العقيم؛ فلقد كان يتناقض مع جميع معتقداته حول العلم. وأثناء حضوره المؤتمر الثاني حول الجاذبية في وارسو (وكان المؤتمر الأول في تشابل هيل عام ١٩٥٧ ممتعًا أكثر)، كتب رسالة لجوينيث يقول فيها:

إنني لا أحقق شيئًا من هذا الاجتماع … يوجد هنا ضيوف (١٢٦) من الأغبياء — وهذا ليس جيدًا لضغط الدم عندي — مع تلك الترهات التي تقال ثم تناقش بجدية، وأدخل في مجادلات خارج الجلسات الرسمية … وكلما طرح عليَّ أحدهم سؤالًا أو بدأ في إخباري بشيء عن «عمله»، دائمًا ما يكون: (١) غير مفهوم على الإطلاق، أو (٢) مبهمًا وغير محدد، أو (٣) شيئًا صحيحًا وبديهيًّا وثابتًا توصل إليه محدثي بعد بذل جهد جهيد في تحليل عويص ومسهب ثم قدمه لي على أنه اكتشاف مهم، أو (٤) زعمًا، من شخص غبي، بأن شيئًا بديهيًّا وصحيحًا ومقبولًا ومؤكدًا على مر السنين هو في الحقيقة خاطئ (وهؤلاء هم أسوأ فئة؛ فما من حجة يمكن أن تقنع الحمقى)، أو (٥) محاولة للقيام بشيء مستحيل على الأرجح، ومن المؤكد أنه لا نفع من ورائه، ويتبيَّن في نهاية الأمر فشله، أو (٦) خطأً صريحًا واضحًا. هناك قدر هائل من «النشاط في الميدان» هذه الأيام، غير أن هذا النشاط يتركَّز في الأساس على إظهار أن «النشاط» السابق لشخص آخر نتج عنه خطأ أو لم يؤدِّ إلى شيء نافع أو واعد … ذكِّريني ألا أحضر أي مؤتمرات عن الجاذبية بعد ذلك.

بدأ فاينمان بالزعم أن الجاذبية أضعف حتى من الكهرومغناطيسية، ومن ثم — تمامًا مثلما يمكن للمرء أن يسعى لفهم النظرية الكمية للكهرومغناطيسية بأن يفكر أولًا في النظرية الكلاسيكية، ومن ثم يضيف تصويبات كمومية رتبة وراء رتبة — فإن نفس الإجراء لا بد أن ينجح مع الجاذبية. ومن هنا، كان الأمر جديرًا ببحث هل القيم اللانهائية التي نتجت عندما تجاوز المرء التقريب لأدنى رتبة في الكهرومغناطيسية ستظهر في حالة الجاذبية أيضًا أم لا، وأيضًا هل يمكن محو تلك القيم بنفس الطريقة التي مُحيت بها في حالة الديناميكا الكهربائية الكمية أم لا، أو هل يمكن أن تظهر مضاعفات جديدة تؤدي إلى معرفة أكثر تبصرًا بطبيعة الجاذبية ذاتها أم لا.

في الكهرومغناطيسية، تنشأ القوى نتيجة تفاعل بين الجسيمات المشحونة والمجالات الكهرومغناطيسية، التي يطلق على كمومها اسم «فوتونات». والجدير بالملاحظة، على حد علمي، أن فاينمان كان أول من طرح فكرة إمكانية معالجة جاذبية الكم تمامًا مثلما تعالج أي نظرية كم أخرى، وبالتحديد مثلما تعالج النظرية الكمية للكهرومغناطيسية، والتي في ظاهرها تحمل أوجه شبه كبيرة بالجاذبية. وكي يقوم بذلك بحث فاينمان فكرة مميزة: لنفترض أن أينشتاين لم يضع نظرية النسبية العامة. هل كان باستطاعة شخص ما بدلًا من ذلك أن يشتق معادلات أينشتاين بمجرد التفكير في الحد التقليدي لجسيمات الكم المتفاعلة مع مجالات الكم؟ ومع أن فاينمان لم يكن أول من بحث احتمالًا كهذا أو استنبط استنتاجًا إيجابيًّا في هذا الصدد — في واقع الأمر، أجرى ستيفن واينبرج من قبل أعم وأقوى عملية تقصٍّ واستكشاف لهذه المسألة عام ١٩٦٤، وشرحها بالتفصيل في مرجعه الجميل حول الجاذبية وعلم الكونيات عام ١٩٧٢، ومرة أخرى في بحثه اللاحق الذي أجراه عام ١٩٧٩ — فإن تحليل فاينمان الأصلي خلق عقلية معاصرة يمكن في إطارها إجراء عمليات إعادة تقييم أكثر حداثة لتلك النظرية.

كان الفرض النظري جديرًا بالإعجاب: انْسَ كل شيء عن الهندسة والأفكار الخلابة عن المكان والزمان التي تبدو الأساس الذي قامت عليه النسبية العامة. فلو أن أحدهم فكَّر في تبادل جسيم لا كتلة له (تمامًا مثلما أن الفوتون جسيم له كتلة تساوي صفرًا ينقل قوة كهرومغناطيسية)، فإنه إذا كان للجسيم المعني عديم الكتلة لفًّا مغزليًّا قدره ٢ بدلًا من ١ كما الحال مع الفوتون، فإن النظرية الوحيدة التي تنتج وتكون متسقة مع ذاتها، وذلك في إطار الحدود الكلاسيكية، ستكون هي في الأساس نظرية النسبية العامة لأينشتاين.

هذا فرض مذهل بحق لأنه يشير إلى أن النسبية العامة ليست بهذا القدر من الاختلاف عن النظريات التي تصف قوى الطبيعة الأخرى. إذ يمكن شرحها من خلال عملية تبادل الجسيمات الأساسية تمامًا مثل باقي النظريات. ثم نستنبط بعد ذلك كل القوانين الهندسية بعد توصلنا للحقيقة، دون عناء. وفي الحقيقة، هناك أمور خفية ودقيقة تأتي في طي المنطوق الصحيح الفعلي لهذا الفرض، ويثيرها المعنى المقصود بعبارة «متسقة مع ذاتها»، لكنها لا تزيد عن كونها أمورًا فرعية دقيقة في الواقع. وكان واينبرج، كما أشرت من قبل، قادرًا على إثبات صحة نسخة أكثر عمومية من هذا الفرض، معتمدًا ببساطة على خصائص تفاعلات الجسيم ذي اللف المغزلي ٢ الذي لا كتلة له وتناظرات المكان التي تنشأ في النسبية الخاصة.

لكن إذا نحينا تلك الأمور الفرعية جانبًا، فسنجد أن هذه الصورة الجديدة للجاذبية والنسبية العامة قد خلقت جسرًا مبتكرًا تمامًا لم يكن موجودًا من قبل بين النسبية العامة وبقية ميادين علم الفيزياء. فقد اقترحَت، كما كان فاينمان يأمل، أنه في استطاعة المرء أن يستخدم أدوات نظرية مجال الكم ليس فحسب لكي يفهم النسبية العامة وإنما أيضًا كي يوحد بينها وبين باقي القوى الأخرى في الطبيعة.

أولًا: ما هي تلك الجسيمات ذات اللف المغزلي ٢ التي لا كتلة لها وما الذي يقابلها في الطبيعة؟ حسنًا، تذكر أن الفوتونات، وهي كموم المجال الكهرومغناطيسي، ليست سوى نسخ مكممة من الموجات الكهرومغناطيسية التقليدية، وهي موجات المجالين الكهربائي والمغناطيسي التي كان جيمس كلارك ماكسويل أول من بَيَّن أنها تنشأ عن اهتزاز شحنة كهربية، هي مصدر المجال الكهرومغناطيسي. تلك المجالات إما أن نشاهدها بأعيننا مثل الضوء، أو تحس بها جلودنا مثل الحرارة الصادرة من الشمس، ومثل موجات الراديو التي تنبعث من المذياع، أو الموجات متناهية الصغر (الميكروويف) الصادرة من هواتفنا المحمولة.

كان أينشتاين قد أوضح، بعد فترة قصيرة من توصله لنظرية النسبية العامة، أن الكتلة — وهي مصدر الجاذبية — يمكنها إحداث تأثير مماثل. فإذا تحركت الكتلة في الاتجاه الصحيح وحسب، فإن نمطًا جديدًا من الموجات سوف ينبعث، وهي التي تُعرف باسم موجات الجاذبية، وهي حرفيًّا موجات ينضغط فيها الفضاء ويتمدد على طول الموجة، وتتحرك بسرعة الضوء، تمامًا مثل الفوتونات. وفي عام ١٩٥٧، عندما ناقش فاينمان لأول مرة أفكاره في مؤتمر للفيزياء، كان كثير من الحاضرين يرتابون في مجرد وجود موجات الجاذبية من الأساس. (والحقيقة أن أينشتاين نفسه أُثني في وقت مبكر على يد إتش بي روبنسون عن نشر بحث ينكر فيه وجودها.) إلا أنه في عام ١٩٩٣، نال جوزيف تايلور وتلميذه السابق، راسل هالس، جائزة نوبل لشرحهما بصورة مقنعة أن زوجًا من النجوم النيوترونية الدوَّارة يفقد الطاقة بنفس المعدل بالضبط الذي تنبأت به نظرية النسبية العامة من انبعاث موجات جاذبية من هذه المنظومة. ومع أنه لا يزال يجب على العلماء أن يكتشفوا موجات الجاذبية على نحو مباشر، لأن الجاذبية بالغة الوهن، فقد صممت تجارب كبرى تجرى في باطن الأرض من أجل هذا الهدف، ويجري حاليًّا إعداد خطط لبناء مسبار بالغ الحساسية في الفضاء.

لا تنبعث موجات الجاذبية إلا من أجسام يتغير داخلها توزيع الكتلة بطريقة تناظرية غير كروية. ويسمي علماء الفيزياء نوع الإشعاع المنبعث بسبب ذلك التوزيع إشعاعًا «رباعي الاستقطاب». فإذا أراد أحدهم تشفير هذا النوع من التفاوت المتأثر بالاتجاهات بربط الجسيمات بالموجات المنبعثة، فإن تلك «الكموم» الأولية لا بد أن يكون لها لف مغزلي قدره ٢، وهذا بالتحديد هو السبب الذي جعل فاينمان يدرس هذا الخيار في البداية. ويطلق على «كم» موجات الجاذبية اسم «الجرافيتون»، قياسًا على الفوتون.

بعد أن أوضح فاينمان أن الجاذبية من الممكن أن تنشأ ببساطة نتيجة لتبادل الجرافيتونات بين الكتل المختلفة، تمامًا مثلما تنشأ القوى الكهربية والمغناطيسية من تبادل الفوتونات بين الشحنات، مضى قدمًا في استخدام نفس النوع من التحليل الذي أفاده من قبل مع الديناميكا الكهربائية الكمية، فاستغله في حساب تصويبات الكم التي أجراها على العمليات الجذبوية. لكن المهمة لم تكن بهذه البساطة. فالنسبية العامة نظرية تفوق في تعقيدها بكثير الديناميكا الكهربائية الكمية لأن الفوتونات تتفاعل مع الشحنات في الديناميكا الكهربائية الكمية، ولا تتفاعل فيما بينها تفاعلًا مباشرًا. ولكن لأن الجرافيتونات تتفاعل مع أي توزيع للكتلة أو الطاقة، ولما كانت الجرافيتونات تحمل طاقة، فإنها تتفاعل مع غيرها من الجرافيتونات أيضًا. ويعمل هذا التعقيد الإضافي على تغيير كل شيء تقريبًا، أو على الأقل، يجعل كل شيء تقريبًا أكثر صعوبة في حسابه.

ومن نافلة القول أن فاينمان لم يجد أنه من الممكن اشتقاق نظرية كم متماسكة للجاذبية المتفاعلة مع المادة، بدون أي قيم لانهائية بغيضة، بالاكتفاء ببساطة بمعالجة نظرية النسبية العامة مثلما فعل مع الديناميكا الكهربائية الكمية. ولا توجد حتى الآن نظرية حاسمة كهذه، على الرغم من طرح بعض النظريات المرشحة لهذا، ومن بينها نظرية الأوتار. ومع ذلك فإن كل تطور كبير حدث خلال النيف والخمسين عامًا التي مضت منذ بدأ فاينمان عمله في هذا الميدان، وشارك فيه مجموعة كبيرة من العلماء بداية من فاينمان حتى واينبرج وستيفن هوكينج ومن جاء بعدهم، بُني على أسلوب فاينمان وعلى الأدوات التي ابتكرها طوال مسيرته.

وإليكم بعض الأمثلة على ذلك:
  • (١)
    الثقوب السوداء وإشعاع هوكينج: لعل الثقوب السوداء ظلت تمثل أكبر تحدٍّ نظري واجه علماء الفيزياء خلال محاولتهم فهم طبيعة الجاذبية، وقد ظهرت من ورائها أعظم المفاجآت. ومع أن أدلة موحية تراكمت من خلال المشاهدات خلال الأربعين عامًا الماضية على وجود أجسام سوداء هائلة أشبه بالثقوب في الكون، تتراوح من كوازارات نشطة وحتى أجرام تصل كتلتها إلى ملايين ومليارات قدر كتلة الشمس في مراكز المجرات، ومن بينها مجرتنا، فإن الطبيعة التفصيلية لعمليات الكم التي تعمل في المراحل النهائية من انهيار الثقب الأسود أحدثت مفاجآت وجدلًا محتدمًا. وجاءت أعظم المفاجآت عام ١٩٧٢، عندما نقب ستيفن هوكينج عن عمليات ميكانيكا الكم التفصيلية التي قد تحدث بالقرب من أفق حدث الثقب الأسود، فاكتشف أن تلك العمليات ربما هي التي تدفع الثقب الأسود نحو بث طاقة على هيئة جميع أنواع الجسيمات الأولية، ومن بينها الجرافيتونات، كما لو كان الثقب الأسود ساخنًا، ودرجة حرارته متناسبة عكسيًّا مع كتلته. ولا بد أن شكل هذا الإشعاع الحراري متوقف بالضرورة على هوية الشيء الذي انهار أيًّا ما كان كي يصنع ما يعرف بالثقب الأسود، ولا بد أنه يجعل الثقب الأسود يفقد كتلته وربما يتبخر تمامًا في نهاية المطاف! جاءت تلك النتيجة، التي بنيت على نمط التقريب الذي استخدمه فاينمان في البداية لاستكشاف ميكانيكا كم الجاذبية — وهو تحديدًا، تقريب الفضاء الخارجي واعتباره كأنه ثابت ومسطح تقريبًا، واعتبار مجالات الكم، ومن بينها الجرافيتونات، مجالات تنتشر في الفضاء — بمنزلة قنبلة انفجرت في وجه التفكير البديهي التقليدي، لكنها في الوقت ذاته قدمت تحديات كبرى لفهمنا لميكانيكا الكم في وجود الجاذبية. ما مصدر درجة الحرارة المحددة تلك؟ وما الذي يحدث للمعلومات التي تسقط في الثقب الأسود لو أن هذا الثقب في نهاية المطاف ينحل في صورة إشعاعات؟ وماذا عن نقطة التفرد الواقعة في قلب الثقب الأسود، حيث تنهار نظرية مجال الكم التقليدية؟ تلك المشكلات النظرية والرياضية هي التي وجهت أبحاث أعظم العقول النظرية في الفيزياء على مدى الأربعين عامًا الماضية.
  • (٢)
    نظرية الأوتار وما بعدها: خلال محاولاتهم الحثيثة لترويض القيم اللانهائية التي تظهر في معادلات جاذبية الكم، اكتشف العلماء في الستينيات أنه لو فكَّر المرء في ميكانيكا كم حلقة مصنوعة من وتر يهتز، فسيكون هناك بصورة طبيعية نوع من الاهتزازات التي تلائم وصف حالة استثارة اللف المغزلي ٢ عديم الكتلة. وأدى ذلك — باستخدام نفس النتائج التي شرحها فاينمان من قبل — إلى إدراك أن النسبية العامة لأينشتاين ربما تنشأ بصورة طبيعية في نظرية الكم الأساسية التي ضمت هذه الاستثارات الشبيهة بالوتر. وكان هذا الإدراك يعني بدوره احتمال أن تكون تلك النظرية هي نظرية الكم الحقيقية للجاذبية، التي يمكن فيها ترويض جميع القيم اللانهائية التي كشف عنها فاينمان من قبل خلال تنقيبه في مسألة الجاذبية باعتبارها نظرية لمجال الكم. وفي عام ١٩٨٤ طرحت العديد من نظريات الوتر على الساحة وفيها جميعًا صار من الممكن أن تتلاشى كل تلك القيم اللانهائية، مما يصل بنا إلى أكبر انفجار في عالم الاستثارة النظري شهده علم الفيزياء ربما منذ ظهور ميدان ميكانيكا الكم ذاته.

    غير أنه مع كل هذا القدر من الإثارة الذي صنعه ذلك الاحتمال، كان هناك أيضًا تعقيد بسيط. فمن أجل السماح بالاحتمالية الرياضية لوجود نظرية كم متسقة ذاتيًّا للجاذبية، وبدون قيم لانهائية، لا يمكن للاستثارات الأساسية الشبيهة بالوتر أن توجد في أربعة أبعاد فقط. فلا بد أن «تتذبذب» فيما لا يقل عن عشرة أبعاد أو أحد عشر بعدًا مختلفًا! فكيف يمكن لنظرية مثل تلك أن تتفق مع العالم رباعي الأبعاد الذي نعيش فيه؟ وما الذي يمكن أن يحدث للأبعاد الستة أو السبعة الإضافية؟ وكيف يمكن للمرء ابتكار تقنيات رياضية لمعالجتها بطريقة متسقة في الوقت نفسه الذي يستكشف فيه ظواهر العالم الذي نعيش فيه؟ وكيف يمكن للمرء صياغة آليات فيزيائية تخفي الأبعاد الزائدة؟ وأخيرًا، ولعلها أهم نقطة، إذا كانت الجاذبية نشأت بصورة طبيعية وفق تلك النظريات، بمنطق فاينمان، فهل يمكن للجسيمات والقوى الأخرى التي نحس بها أن تنشأ هي الأخرى بصورة طبيعية داخل نفس الإطار؟

    صارت تلك القضايا هي القضايا النظرية المحورية التي اكْتُشِفَت ودُرست خلال الخمس والعشرين عامًا الماضية، وكانت النتائج متضاربة في أفضل الأحوال. إن النظريات الرياضية الخلابة التي ابتكرت قدمت أفكارًا جديدة مثيرة ومستنيرة نحو فهم نظريات الكم التي تبدو متباينة باعتبارها تعبر عن نفس القوانين الفيزيائية الأساسية — وهو أمر يندرج بالضبط تحت ما وصفه فاينمان باعتباره الهدف المحوري للعلم — والنتائج الرياضية المثيرة التي تم التوصل إليها ربما تقدم رؤى تدلنا على الأسلوب الذي تشع به الثقوب السوداء الحرارة، بما يبدو معه أنها تفقد معلومات، ومع ذلك لا تخرق الأعمدة الرئيسية التي قامت عليها نظرية الكم. وأخيرًا، سمحت نظرية الأوتار — التي تقوم على نمط جديد من مخططات فاينمان لحساب العمليات التي تتضمن سلوك الأوتار — لعلماء الفيزياء النظرية باكتشاف طرق جديدة لتصنيف أشكال فاينمان الخاصة بمجالات الكم الطبيعية، وسمحت لعلماء الفيزياء باشتقاق نتائج تحليلية في صيغة مغلقة للعمليات التي لولا ذلك لتضمنت ضرورة تلخيص رقم فلكي من مخططات فاينمان لو كانت الحسابات أجريت بطريقة مباشرة.

    لكن الورود لا تأتي بلا أشواك. فمع تطور فهمنا لنظرية الأوتار، صار من الواضح أنها أكثر تعقيدًا بكثير مما تخيَّلْنا من قبل، وأن الأوتار نفسها ربما لا تكون هي الأشياء المحورية في النظرية، وإنما هناك أشياء ذات أبعاد أعلى اسمها «الأغشية»، مما يجعل النطاق المحتمل للافتراضات التي يمكن اشتقاقها من النظرية أكثر تعقيدًا بكثير. وعلاوة على ذلك، فعلى الرغم من الآمال المبكرة التي علقناها على احتمال التوصل لنظرية أوتار وحيدة أساسية يمكنها أن تخرج بافتراضات فريدة وغير مبهمة لتُطَوِّع جميع قوانين الفيزياء الأساسية التي تقاس بالمختبرات في وقتنا الحالي، فإن العكس بالضبط هو ما حدث؛ فالغالبية العظمى من العوالم رباعية الأبعاد، مع أي مجموعة من قوانين الفيزياء، يمكن أن تنشأ في تلك النظريات. فإذا ظل هذا الأمر صحيحًا، فإنه بدلًا من التوصل إلى «نظريات لكل شيء»، يمكن التوصل إلى «نظريات لأي شيء»، وهو ما يعني في منطق فاينمان عدم التوصل لأي نظريات على الإطلاق.

    والحقيقة أن فاينمان عاش عمرًا يكفي لكي يشهد خلال حياته ثورة كبرى في نظرية الأوتار خلال عقد الثمانينيات وما صاحبها من ضجة إعلامية. إلا أن تشككه الفطري في المزاعم الضخمة لم يتزحزح قيد أنملة. وعلى حد تعبيره في ذلك الوقت: «كان شعوري — وقد أكون مخطئًا — أن هناك أكثر من طريقة. ولا أعتقد أن هناك طريقة واحدة للتخلص من قيم ما لانهاية. ومسألة أن نظريةً ما يمكنها التخلص من كافة أشكال القيم اللانهائية لا تعد في نظري مبررًا كافيًا للاعتقاد في تفردها.» وقد فهم أيضًا، حسبما عبر بوضوح في بداية بحثه عام ١٩٦٣ حول هذا الموضوع، أن أي جهد يبذل في محاولة فهم جاذبية الكم كان يواجه بمعوقات حتى إن أي تكهنات — حتى تلك التي تأتي في إطار نظرية نخرج منها بافتراضات واضحة — ربما تتجاوز بكثير نطاق التجريب. وكان الافتقار إلى القدرة على التنبؤ، جنبًا إلى جنب مع الغطرسة الواضحة من جانب علماء نظرية الأوتار، على الرغم من افتقارهم الواضح إلى الأدلة العملية القائمة على التجريب، دافعًا كافيًا له ليقول بنبرة غاضبة: «علماء نظرية الأوتار لا يتكهَّنون، إنهم يختلقون المبررات!» وقد عبَّر عن خيبة أمله في العثور على ذلك العامل الجوهري الآخر الذي كان بالنسبة له يمثل تعريفًا محددًا لنظرية علمية ناجحة بقوله:

    لا يعجبني أنهم لا يحسبون أي شيء. ولا يعجبني أنهم لا يفحصون أفكارهم أو يراجعونها. ولا يروقني أنهم كلما وجدوا شيئًا لا يتفق مع تجربة ما، اختلقوا تفسيرًا ما على عجل، أو اختلقوا طريقة ليقولوا: «حسنًا، ربما كان صحيحًا.» فمثلًا، النظرية تقتضي وجود عشرة أبعاد. حسنًا، ربما كانت هناك طريقة ما للتوصل إلى ستة أبعاد إضافية. نعم، هذا كله ممكن رياضيًّا، ولكن لم لا تكون سبعة أبعاد؟ وعندما يكتبون معادلتهم، يجب أن تقرر تلك المعادلة عدد تلك الأشياء التي يتعيَّن التوصل إليها، لا أن تسيطر عليها الرغبة في توفيق النظرية مع التجارب بأي صورة. وبعبارة أخرى، لا يوجد في نظرية الأوتار الفائقة أي سبب يمنع دمج ثمانية أبعاد من العشرة بحيث يتبقى بعدان وحسب، وهو ما سيكون مختلفًا تمامًا مع نتائج التجارب. لذا فإن حقيقة أنها قد تختلف مع التجارب تجعلها شديدة الهشاشة، فهي لا تنتج لنا شيئًا، ويجب اختلاق الأعذار لها طوال الوقت. إنها لا تبدو صحيحة.

    القضايا ذاتها التي أثارت مخاوف فاينمان، والتي عبَّر عنها منذ ما يربو على عشرين عامًا مضت، تضخمت منذ ذلك الحين. وبطبيعة الحال كان فاينمان متشككًا في كل المقترحات الجديدة، بما فيها بعض مما تبين بعد ذلك صحته. الزمن وحده، مع بذل المزيد من الجهد في البحوث النظرية، أو بعض النتائج التي تخرج بها التجارب الحديثة، هو الكفيل بتحديد هل كان حدسه في هذا الأمر صحيحًا أم لا.

  • (٣)
    تكاملات المسارات في الجاذبية الكمية و«علم الكونيات الكمي»: تعاني الصورة التقليدية لميكانيكا الكم، حسبما شرحت من قبل، مشكلة معاملتها للمكان بطريقة مختلفة عن معاملتها للزمان. فهي تحدد الدالة الموجية لمنظومة ما في لحظة زمنية معينة ثم تقدم قواعد لتطور الدالة الموجية مع مرور الزمن.

    إلا أن أحد المبادئ الأساسية للنسبية العامة يفيد بأن فصلًا كهذا بين المكان والزمان، بطريقة أو بأخرى، هو فصل اعتباطي. إذ يمكن للمرء اختيار أنظمة إحداثيات مختلفة، يكون فيها مكان أحد الأشخاص هو زمان شخص آخر، ويجب أن تكون النتائج الفيزيائية التي سيشتقها المرء مستقلة عن هذا الفصل الاعتباطي. وتكتسب هذه المسألة أهمية خاصة في الحالات التي يكون الفضاء فيها منحنيًا بشدة؛ أي حيث يكون مجال الجذب قويًّا. ولما كانت الجاذبية من الضعف بحيث يمكن للمرء تقريب الفضاء ليجعله مستويًا، فمن الممكن حينئذ اتباع وصفة فاينمان التي ابتكرها من أجل معاملة الجاذبية باعتبارها اضطرابًا طفيفًا، والآثار الجذبوية باعتبارها تحدث في الأساس نتيجة لتبادل جرافيتونات فردية تتحرك في خلفية مكانية ثابتة. ولكن في حال كانت الجاذبية قوية، فإن المكان والزمان يتحوَّلان إلى متغيرين كميين متحدين، ويصبح الفصل الصارم بينهما — إلى خلفية مكانية زمانية يمكن للظواهر أن تتطور داخلها — عسيرًا، على أقل تقدير.

    أما صياغة تكامل المسارات لميكانيكا الكم فإنها لا تحتاج إلى مثل هذا الفصل. فالمرء يجري عملية جمع حسابي لكل الاحتمالات لجميع الكميات الفيزيائية ذات الصلة، وكذا مجموع المسارات دون اشتراط الفصل بين المكان والزمان. علاوة على ذلك، في حالة الجاذبية، حيث تتضمن الكمية المرتبطة بها هندسة المكان، فإن على المرء عندئذ إيجاد حاصل جمع كافة الاحتمالات الهندسية الممكنة. إن أسلوب فاينمان يقدم وصفة للقيام بهذا، غير أنه ليس واضحًا على الإطلاق إن كانت الصورة الباقية من الممكن التعامل معها بالصياغة التقليدية لميكانيكا الكم أم لا.

    طُبِّق بالفعل أسلوب تكامل المسارات، وكان أشد المتحمسين له ستيفن هوكينج (وجاء بعده سيدني كولمان وآخرون)، لصياغة ميكانيكا كم تصلح للكون بأكمله، حيث يوجِد المرء — في أسلوب تكامل المسارات — حاصل جمع مختلف الأكوان الوسيطة المحتملة التي تكون بها هندسات لاكمية جديدة وغريبة ومحتملة، بما فيها الأكوان الوليدة والثقوب الدودية. هذا الأسلوب في معاملة كون بأكمله بطريقة ميكانيكية كمية يطلق عليه اسم «علم الكونيات الكمي»، وهو يتضمن طائفة من المسائل الحديثة والعويصة، من بينها كيف يمكن تفسير منظومة كم لا يوجد لها راصدون من خارجها، وهل يمكن لديناميكا المنظومة أن تحدد ظروفها الابتدائية الخاصة بها أم لا، بدلًا من تركها تفرض عليها من مجرب خارجي.

    من الواضح أن هذا المجال لا يزال في مرحلة طفولته المبكرة، لا سيما أنه بلا فهم مجدد لجاذبية الكم. ولكن حسبما أعرب موراي جيلمان بحب في مقال كتبه بعد وفاة فاينمان — وهو يعلم برغبة فاينمان العظيمة في اكتشاف قوانين جديدة وليس فقط إعادة صياغة قوانين موجودة بالفعل، إذا كان يخشى أن هذا هو ما فعلته طريقته في تناول الديناميكا الكهربائية الكمية — فإنه من الممكن أن تكون صياغة فاينمان المعروفة بتكامل المسارات ليست مجرد أسلوب مختلف وإن كان مكافئًا لصياغة ميكانيكا الكم، وإنما الأسلوب الأصلي الوحيد الصحيح. وعلى حد تعبير جيلمان: «بهذا، كان ريتشارد سيسعد لو علم أنه توجد الآن بعض الإشارات الدالة على أن رسالة الدكتوراه التي قدمها ربما كانت تتضمن تطورًا رئيسيًّا بحق في الفيزياء النظرية وليس مجرد تطور شكلي. فربما كانت صيغة تكامل المسار لميكانيكا الكم أكثر قيمة وأهمية من الصيغة التقليدية، من حيث إن هناك مجالًا حاسمًا يمكن تطبيقها عليه في حين أن الصيغة التقليدية قد تخفق في ذلك. وهذا الميدان هو علم الكونيات الكمي … فمن أجل ريتشارد (ومن أجل ديراك أيضًا)، كم أود لو تبيَّن أن أسلوب تكامل المسار يشكل الأساس الحقيقي لميكانيكا الكم، ومن ثم لعلم الفيزياء النظرية.»

  • (٤)
    علم الكونيات، والتسطح، وموجات الجاذبية: ادخرت للنهاية أقوى أثر لعمل فاينمان، ولعله الأقل عمقًا من الناحية الفلسفية، لأنه يسمح باحتمال وجود حسابات يمكن مقارنتها مباشرةً بالبيانات التجريبية، التي كان يرى أن الجهود النظرية بدونها تظل عاجزة.

    على نحو مدهش، أدى فاينمان عمله في وقت لم تكن فيه كل الأشياء التي يعرفها العلماء الآن عن الكون بأكبر مقاييسه معلومة. غير أنه تبين أن حدسه في عدد من المجالات الجوهرية كان صائبًا، باستثناء واحد، إلى جانب أن التجارب التي أجريت على أحدث مشاهدات علم الكونيات سرعان ما قدمت أول دليل مباشر على أن تصوره الخاص بالجرافيتونات باعتبارها الكموم الأساسية في مجال الجاذبية كان صحيحًا.

    أدرك فاينمان مبكرًا وجود احتمال أن يكون إجمالي طاقة منظومة ما من الجسيمات هو صفر بالضبط. وعلى الرغم من الغرابة التي قد يبدو عليها هذا الأمر، فإنه ممكن لأنه مع أن الأمر يحتاج إلى طاقة موجبة من أجل تخليق جسيمات من العدم، فإن قوة جذبها الصافية تشي بأن لديها «طاقة وضع جذبوية» سالبة؛ فبسبب وجوب بذل شغل للتغلب على انجذابها بعضها لبعض، فإن صافي الطاقة المفقودة بعد خلقها ثم تجاذبها معًا ربما يعوض بالضبط الطاقة الموجبة التي كانت مطلوبة لتخليقها. وعلى حد تعبير فاينمان في محاضراته حول الجاذبية: «من المثير أن نفكر في أن تخليق جسيم جديد لا يكلف شيئًا.»

    ولعلها خطوة بسيطة بعد ذلك أن نطرح فكرة أن إجمالي طاقة الكون برمته ربما كان صفرًا. ومثل هذا الكون الذي إجمالي طاقته يساوي صفرًا أمر جذاب؛ لأنه يسمح بالقول إن الكون بدأ من عدم. فكل المادة والطاقة التي نراها ربما تكون نشأت من تذبذب ميكانيكي كمي (بما في ذلك تذبذب ميكانيكي كمي جذبوي في الفضاء ذاته). ومع أن فاينمان طرح هذا الاحتمال، فإن أفضل نموذج حالي لتطور الكون، ويسمى «التضخم»، قائم على هذه الفكرة تحديدًا. وقد قال مبتكر فكرة التضخم، آلان جوث، إنه في هذه الحالة، يكون الكون هو أكبر مثال على فكرة «المكافأة المجانية»!

    والطريف، أن كونًا ذا إجمالي طاقة جذبوية يساوي صفرًا لا بد أن يكون مسطحًا من الناحية المكانية؛ أي إنه عند المقاييس الهائلة يسلك سلوك الفضاء «الإقليدي» الطبيعي الذي يسير الضوء فيه في خطوط مستقيمة. وقد ظهرت الآن أدلة بالغة القوة على أن الكون مسطح من خلال القياسات المباشرة لهندسته بالمقاييس الكبرى، وهذا أحد أكثر التطورات إثارة في علم الكونيات في الآونة الأخيرة. بَيْدَ أنه في تاريخ مبكر عن ذلك يعود إلى عام ١٩٦٣، طرح فاينمان هذه الفكرة باعتبارها احتمالًا لأن وجود المجرات والعناقيد المجرية المترابطة عن طريق الجاذبية — وهي أكبر أجسام متحدة توجد في الكون، ويبلغ قطر الواحدة منها عشرات الملايين من السنوات الضوئية — يعني ضمنيًّا أن الطاقة الحركية الموجبة لتمدد الكون متوازنة تقريبًا مع طاقة وضع جذبوية سالبة موجودة في تلك النظم. وكان على حق.

    غير أنه كان هناك أحد تطبيقات حجج نظرية مجال الكم التي قال بها، والمتعلق بالجاذبية، بدا فيه مبتعدًا عن حدسه الفيزيائي الطبيعي الرشيد. ففي بحثه في الديناميكا الكهربائية الكمية، أوضح هو وآخرون أن الجسيمات الافتراضية ليست موجودة بالفعل فحسب وإنما هي ضرورية كذلك من أجل فهم خصائص الذرات. ومن هنا فإن الفضاء الخاوي ليس خاويًا وإنما هو مزيج فائر من الجسيمات الافتراضية. إن قوانين ميكانيكا الكم تقول لنا إنه كلما صغر المقياس الذي نقيس عنده الأشياء، ارتفعت الطاقة التي يمكن للجسيمات الافتراضية التي تتواجد لفترة وجيزة أن تمتلكها. وأشار فاينمان لهذه المقولة عندما ذكر أنه في الفراغ الصغير بداخل قبضة اليد المطبقة توجد جسيمات افتراضية ذات طاقة كافية لحضارتنا بالكامل. وللأسف استخدم مؤيدو هذا الرأي وأناس غريبو الأطوار هذه العبارة في التعبير عن رغبتهم في ابتكار أجهزة تستغل طاقة الفراغ في القيام بهذا الأمر تحديدًا، وحل مشكلاتنا مع الطاقة.

    وما نسيه فاينمان بطريقة ما، وهو ما أوضحه الفيزيائي الروسي ياكوف زيلدوفيتش عام ١٩٦٧، أن كل أشكال الطاقة تتأثَّر بالجاذبية، حتى طاقة الفضاء الخاوي. فلو كان للفضاء الخاوي طاقة بالقدر الذي زعمه فاينمان، لكانت قوى التجاذب من الضخامة بحيث تفجِّر كوكب الأرض؛ لأنه وفقًا للنسبية العامة، عندما توضع طاقة ما داخل فضاء خاوٍ، فإن قوى التجاذب الناتجة تكون «تنافرية» وليست تجاذبية! ومن ثم فإن طاقة الفراغ الخاوي لا يمكن، في المتوسط، أن تكون قوتها أكبر من طاقة سائر المادة، وإلا فإن القوة التنافرية الناشئة عنها سوف تكون من الضخامة بحيث ما كان من الممكن للمجرات أن تتكون!

    غير أن فاينمان لم يكن مخطئًا تمامًا. فقد كان أكثر الاكتشافات التي أصابت العالم بالذهول خلال الخمسين عامًا الماضية، إن لم يكن أكثر، ذلك الاكتشاف أن الفضاء الخاوي يحتوي بالفعل على طاقة، وهي طاقة أقل بكثير مما تخيل فاينمان، ولكنها كافية بحيث تهيمن على تمدد الكون، وتجعله يتسارع! وليس لدينا في الوقت الراهن أي فهم للسبب وراء ذلك، ولماذا يمتلك الفضاء الخاوي طاقة من الأساس ولماذا يكافئ مقدار هذه الطاقة إجمالي الطاقة التي تحويها جميع المجرات بالإضافة إلى مادة الكون. لعله أعظم ألغاز علم الفيزياء، بل ربما يكون أعظم الألغاز العلمية على الإطلاق.

    وبتنحية خطأ فاينمان جانبًا، لو أن فكرة التضخم — ويُقصد بها فترة مبكرة من التمدد الأسي الذي أدى اليوم إلى كون مسطَّح وربما نتجت عنه كل التكوينات التي نرصدها الآن — صحيحة، فإن هناك مغزى مثيرًا من ورائها يعود إلى حسابات فاينمان الأصلية. فإذا كانت الجرافيتونات جسيمات أولية مثل الفوتونات، فبإمكان المرء إجراء عملية حسابية تصل به إلى أن نفس العمليات الميكانيكية الكمية التي عملت أثناء التضخم ستنتج في نهاية المطاف تذبذبات كثافة المادة التي تكثفت مكونةً كل المجرات والعناقيد المجرية التي نراها الآن، والتي من شأنها أن تولد أيضًا خلفية من الجرافيتونات في الكون في مراحله الأولى، والتي كان سيصبح في الإمكان مشاهدتها اليوم كخلفية من موجات الجاذبية. وهذه بالفعل واحدة من التنبؤات الجوهرية للتضخم، وأحد مجالات الفيزياء التي بحثت فيها شخصيًّا. والشيء الأكثر إثارة في هذا الأمر هو أننا ربما نكون قادرين في القريب العاجل على اكتشاف تلك الخلفية بالأقمار الصناعية التي أرسلت كي تسبر غور البنية الكونية واسعة النطاق. فإذا رُصدت تلك الخلفية، فسوف يكون معنى ذلك أن الحسابات التي أجراها فاينمان عندما قرر دراسة الجاذبية مثلها مثل أي ميدان نظري آخر تسمح بالخروج بتنبؤ يمكن مقارنته بالمشاهدات، ما يعني على أقل تقدير أنه لم يكن مضطرًّا للاعتذار الذي قدمه لأنه فكر في ظواهر شديدة الوعورة لا يفقهها سوى المتخصصين وغير قابلة للاكتشاف في مجال جاذبية الكم.

•••

من الملائم أن نختتم هذا الفصل الذي تناول افتتان فاينمان بموضوع الجاذبية بالعودة من جديد إلى الاعتذار الذي بدأ به أول أبحاثه حول هذا الموضوع. كان فاينمان منجذبًا إلى جاذبية الكم لأنها كانت خارج المسار الذي سبق طرقه من قبل. وبالمثل أدرك فاينمان أن الأمر كان كذلك لأن الحسابات الوحيدة التي يمكن للمرء إجراؤها من شأنها أن تؤدي إلى تنبؤات بآثار من المحتمل أن تظل مستعصية على القياس إلى الأبد؛ لأن الجاذبية قوة بالغة الضعف. وهكذا، بينما كان يستهل مناقشته الرسمية لآثار الكم الجذبوية، تراجع القهقرى وقال: «من الواضح إذن أن المشكلة التي نبحثها ليست هي المشكلة المقصودة؛ فالمشكلة المقصودة هي ما الذي يحدد حجم الجاذبية؟»

لم يكن ممكنًا التصريح بعبارة أكثر دقة من تلك العبارة الأخيرة. فالغموض الحقيقي الذي كان يوجِّه علماء فيزياء الجسيمات النظرية هو لماذا كانت الجاذبية أضعف أربعين مرة من حيث حجمها من قوة الكهرومغناطيسية. الغالبية العظمى من الجهود الحالية نحو توحيد القوى، ومن بينها نظرية الأوتار، تهدف إلى الإجابة عن هذا السؤال المحير والأساسي عن الكون. ومن المحتمل ألا يتمكن العلماء من التوصل لفهم تام ومكتمل سواء للجاذبية أو لغيرها من القوى الأخرى إلى أن يأتي الوقت الذي يتمكَّنون فيه من إجابة هذا السؤال.

لعل هذا أروع سمات تراث فاينمان الخالد. فحتى عندما كان يفشل في إيجاد إجابات للعديد من ألغاز الطبيعة الأساسية، كان مع ذلك يلقي الضوء بكل دقة على القضايا التي ظلت تشغل بال القمم العلمية إلى يومنا هذا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤