الفصل السادس عشر

من القمة إلى القاع

اللعبة التي أمارسها لعبة مثيرة للغاية؛ إنها لعبة الخيال، لكنه الخيال المقيد.

ريتشارد فاينمان

في شهر ديسمبر من عام ١٩٥٩ ألقى فاينمان محاضرة في الاجتماع السنوي الذي تعقده الجمعية الفيزيائية الأمريكية، وكان الاجتماع يعقد ذلك العام في كالتك. ومن جديد، كانت الرغبة في طرق اتجاهات جديدة غير مأهولة تسيطر على عقله بشكل واضح، حيث بدأ محاضرته باقتباس عبارة استخدمتها في موضع سابق قال فيها: «أتخيل أن علماء الفيزياء التجريبية لا بد أنهم كثيرًا ما ينظرون بعين الحسد إلى رجال من أمثال كامرلينج أونس، الذي اكتشف ميدانًا مثل ميدان درجات الحرارة المنخفضة، الذي يبدو عميقًا لا قرار له ويمكن للمرء أن يغوص فيه أكثر وأكثر. إن أمثال هذا الرجل رواد ويملكون احتكارًا مؤقتًا لمغامرة علمية.» كان عنوان المحاضرة التي نشرت في العام التالي بمجلة «الهندسة والعلوم» التي تصدرها كالتك «هناك مساحة فسيحة في القاع». كانت مناقشة جميلة ومليئة بالخيال لعالم جديد تمامًا من الاحتمالات التي لا علاقة لها بفيزياء الجسيمات أو الجاذبية، لكنها كانت قائمة على أساس متين من الظواهر ذات التطبيقات المباشرة.

وعلى الرغم من اختيار فاينمان التركيز بشدة على تخصص ميدان فيزياء الجسيمات في السابق، فإنه لم يفقد أبدًا اهتمامه أو افتتانه بفيزياء العالم المادي؛ الذي يمكننا رؤيته وملامسته. وهكذا جاءت هذه المحاضرة لتمثل لفاينمان فرصة لإطلاق العنان لخياله كي يجول في ميدان كان دومًا يخلب لبه، بحثًا عن موضوع جديد لمغامرته العلمية القادمة؛ حيث يمكنه العثور على مجال احتكار. وكانت تمثل أيضًا افتتانه الخاص بالاحتمالات الملاحظة في الفيزياء في مجالين سيطرا على مخيلته منذ نعومة أظفاره، وحتى وصل إلى لوس ألاموس: الآلات الميكانيكية والحوسبة.

كانت المحاضرة بمنزلة علامة بارزة على الطريق، وأعيد طبعها بعد ذلك كثيرًا؛ لأنها كانت تحدد بشكل أساسي الخطوط العريضة لميدان جديد تمامًا في التكنولوجيا والعلوم، أو هو بالأحرى عدة ميادين مجتمعة، تتصل بما صار الآن يعرف باسم «تكنولوجيا النانو» غير أنها لا تقتصر على ذلك المضمار وحسب. كانت النقطة المحورية التي طرحها فاينمان أنه في عام ١٩٥٩ عندما كان معظم الناس يفكرون في الميل إلى تصغير الأحجام، وكانوا يطرحون هذا الأمر في وجل؛ كان هناك بون شاسع بين حجم الآلات التي يستعملها البشر وبين أحجام الذرات. وعن طريق استغلال هذا الفارق، تخيل فاينمان أن بإمكاننا ليس فقط تغيير التكنولوجيا وإنما أن نفتح كذلك ميادين جديدة تمامًا من البحث العلمي كانت في ذلك الوقت بعيدة عن متناول أيدي العلماء. ولم تكن تلك الميادين مثل جاذبية الكم، وإنما كانت ميادين يمكن استغلالها في زمانها لو فكَّر الناس بجدية في ذلك الكون الرائع الذي يوجد أمامهم مباشرة. وعلى حد تعبيره: «إنه عالم صغير إلى حد مذهل ذلك الذي يوجد أسفل منا. وعندما يأتي عام ٢٠٠٠، عندما يستعيدون ذكريات عصرنا هذا، سوف يتساءلون في عجب عن السبب الذي جعلنا ننتظر حتى عام ١٩٦٠ كي نشرع بجدية في التحرك في هذا الاتجاه.»

بدأ فاينمان محاضرته بقوله إن بعض الناس انبهروا لرؤيتهم ماكينة يمكنها كتابة صلاة الرب فوق رأس دبوس. وكان هذا لا يعد شيئًا يذكر. لقد تخيَّل هو كتابة «الموسوعة البريطانية» بأكملها فوق رأس دبوس. غير أن هذا على حد زعمه لم يكن شيئًا يذكر أيضًا، لأنه يمكن للمرء بسهولة القيام بذلك باستخدام الطباعة العادية ببساطة بتصغير مساحة كل نقطة مستخدمة إلى ١ إلى ٢٥٠٠٠ من حجمها الأصلي. وعلى حد قوله فإنه حتى في هذه الحالة فإن كل نقطة سوف تحتوي على ما يقرب من ١٠٠٠ ذرة. وحسبما تخيل، فتلك ليست مشكلة تستعصي على الحل.

غير أنه حتى ذلك الأمر كان على حد قوله نوعًا من التواضع الجبان. فماذا عن كتابة جميع المعلومات الواردة في جميع كتب العالم؟ لقد أجرى عمليات تقدير حسابية للقيام بذلك، كانت مشابهة بشكل طريف لتلك التي قمت بها عندما حاولت في كتاب «فيزياء ستار تريك» حساب حجم المعلومات المطلوبة لتخزين نسخة رقمية واحدة من شخص ما بغرض نقلها. وزعم أنه قد يكون من الميسور تخزين بت واحد من المعلومات (أي في صيغة ١ أو صفر) باستخدام مكعب كل وجه من أوجهه مكون من خمس ذرات مثلًا، أو ما يزيد قليلًا على ١٠٠ ذرة. وكان تقديره أيضًا أنه توجد حوالي ١٠١٥ معلومة في جميع كتب العالم في ذلك الوقت، وقدرها حينئذ بما يقرب من ٢٤ مليون مجلد. وفي هذه الحالة، ولكي نخزن جميع المعلومات الواردة في جميع كتب العالم سوف نحتاج فقط إلى مكعب من المادة تقل مساحة كل وجه من أوجهه عن واحد على مائة من البوصة، وهو ما يعادل في صغر حجمه حجم ذرة غبار لا تكاد ترى بالعين المجردة! حسنًا، الآن اتَّضَحَت الصورة.

أراد فاينمان استكشاف جميع احتمالات استخدام المادة عند مستوى الذرة، وهو نطاق، على حد وصفه، يقترب من كونه يستعصي على الإدراك. علاوة على ذلك، وفي موقف يعبر عن إخلاصه لحبه الأول (حسب وصفه في خطابه بحفل جائزة نوبل)، كان أكثر ما أثاره أنه بمجرد أن يبدأ العلماء في التفكير الهندسي عند هذا المستوى، لا بد أن يواجهوا مباشرةً بواقع ميكانيكا الكم. وبدلًا من بناء الماكينات التقليدية، سيكون عليهم البدء في التفكير في آلات تعمل بتكنولوجيا الكم! وهذا سبيل لدمج عالم الكم بعالم التجارب الإنسانية. فما الذي يمكن أن يكون أكثر إثارة من هذا؟

لقد اعتراني الذهول وأنا أعيد قراءة خطابه، بسبب سبقه المثير للإعجاب لعلماء عصره. فكثير من الاحتمالات التي وصفها تحققت الآن وصارت أحداثًا مررنا بها، حتى وإن لم تكن مطابقة تمامًا لتخيله، وعادةً ما كان عدم التطابق يأتي نتيجة لعدم امتلاكه للبيانات الضرورية في ذلك الحين كي يكون تخيله صحيحًا. ومرة أخرى، ومع أنه ربما لم يحل جميع المشكلات بصورة مباشرة وشخصية، فإنه كان يطرح تساؤلات صحيحة ويفصِّل التطورات التي صارت قمة التكنولوجيا بعدها بنصف قرن، وتخيل أيضًا المبادئ التي ربما كانت تشكل أساس التكنولوجيا خلال الخمسين عامًا المقبلة. وهذه بعض الأمثلة:
  • (١)
    كتابة جميع الكتب الموجودة على سطح كوكب الأرض فوق ذرة غبار: إلى أي مدى وصلنا في تحقيق هدف تخزين جميع كتب العالم فوق ذرة غبار؟ عندما كنت أُدَرِّس في جامعة ييل عام ١٩٨٨، اشتريت ما كان يعد وقتها أكبر «قرص صلب» في قسم الفيزياء. كانت سعته ١ جيجا بايت، وكان سعره وقتها ١٥ ألف دولار. واليوم أمتلك شريحة ذاكرة بحجم دبوس مشبك الأوراق أحتفظ بها في سلسلة مفاتيحي. إن سعتها ١٦ جيجا وثمنها ٤٩ دولارًا لا غير. وأمتلك قرصًا صلبًا خارجيًّا متنقلًا سعة تخزينه ٢ تيرا بايت (أي ألفي جيجا بايت) لاستخدامه مع جهاز الكمبيوتر المحمول الخاص بي وثمنه ١٥٠ دولارًا، وبهذا يمكنني الآن شراء سعة تخزين توازي ألفي ضعف سعة التخزين التي كانت لدي وبسعر يبلغ واحد من مائة من سعرها فيما مضى. ويعادل تقدير فاينمان ﻟﻠ ١٠١٥ بِت التي تستوعب جميع كتب العالم وقتها حوالي ١٠٠ تيرابايت، أو ما يقرب من خمسين قرصًا صلبًا متنقلًا مثل الذي لدي. وبطبيعة الحال، فإن معظم المساحة المتاحة على تلك الأقراص ليست مخصصة للتخزين وحسب، وإنما لآلية القراءة أيضًا، ولواجهات التعامل مع الكمبيوتر، ولوحدات الإمداد بالطاقة. وعلاوة على ذلك، لم يبذل أي شخص أي جهد في تصغير حجم التخزين أكثر من الحجم الذي يلائم جهاز كمبيوتر محمول. فنحن لسنا قادرين بعد على تخزين كميات كبيرة من المعلومات عند نطاق يعادل حجم الذرة، لكننا الآن بعيدون عن ذلك بمعامل يقدر فقط بنحو ألف.
    في عام ١٩٦٥ طرح جوردون مور، وهو أحد مؤسسي شركة إنتل للمعالجات، «قانونًا» ينص على أن السعة المتاحة للتخزين وسرعة الحاسبات تتضاعف تقريبًا مرة كل اثني عشر شهرًا أو نحوها. وعلى امتداد الأربعين عامًا الماضية تحقق هذا الهدف أو تم تجاوزه مع مواصلة التكنولوجيا ملاحقة الطلب. وهكذا، إذا علمنا أن ١٠٠٠ = ٢١٠، فبإمكاننا القول إننا نبعد عشرة أعوام عن تحقيق هدف فاينمان، ليس فقط بكتابة جميع كتب العالم على رأس دبوس وإنما أيضًا بقراءتها.
  • (٢)
    علم الأحياء على المستوى الذري: حسب تعبير فاينمان عام ١٩٥٩:

    ما أبرز وأهم المشكلات الأساسية التي تواجهنا في علم الأحياء اليوم؟ إنها تساؤلات مثل: ما تسلسل القواعد في جزيء الدي إن إيه؟ ماذا يحدث عندما تصاب بطفرة وراثية؟ ما ترتيب القواعد في الدي إن إيه المرتبط بترتيب الأحماض الأمينية في البروتين؟ ما تركيب جزيء آر إن إيه؛ هل هو سلسلة مفردة أم مزدوجة، وما مدى ارتباطه بترتيب القواعد في الدي إن إيه؟ وما تنظيم الميكروسومات؟ وكيف تصنع البروتينات؟ وإلى أين يتجه آر إن إيه؟ وكيف يستقر؟ وأين تقبع البروتينات؟ وإلى أين تتجه الأحماض الأمينية؟ وفي التمثيل الضوئي؛ أين يوجد الكلوروفيل؟ وكيف يجري ترتيبه؟ وأين توجد الكاروتينويدات التي تدخل في هذا الشيء؟ وما المنظومة المختصة بتحويل الضوء إلى طاقة كيميائية؟ من السهل للغاية إجابة كثير من تلك التساؤلات الأساسية المهمة؛ بمجرد أن تنظر إلى الشيء!

    هل كان بمقدوره أن يعدد بشكل أوضح وأدق من ذلك جبهات علم الأحياء المعاصر؟ إن ما لا يقل عن ثلاثة من الفائزين بجائزة نوبل فازوا بها عن أبحاث أتاحت لنا معرفة تسلسل أزواج القواعد الجزيئية في الدي إن إيه بحيث يمكن قراءتها على المستوى الذري. لقد كان التوصل إلى تسلسل الجينوم البشري انتصارًا رائعًا لعلم الأحياء، وكانت القدرة على تحديد التسلسل الجيني في تحسن مستمر بمعدل فاق بكثير سرعة قانون «مور» في علم الكمبيوتر. وما كان يتكلف إنجازه أكثر من مليار دولار في المرة الأولى، منذ أقل من عشرة أعوام، صار الآن يتم مقابل بضعة آلاف من الدولارات، ويتوقع أن يتمكن الناس خلال العقد المقبل من معرفة تسلسل الجينوم الوراثي لهم مقابل سعر أقل من تكلفة وجبة عشاء طيبة في أحد المطاعم.

    إن قراءة الجزيئات أمر مهم، غير أن الأساس الحقيقي للتطورات التي حدثت في علم الأحياء هو تحديد التركيبات الجزيئية ثلاثية الأبعاد عند النطاق الذري. إن تركيب البروتين يحدد الوظيفة، وتحديد الأسلوب الذي تنطوي به المكونات الذرية للبروتينات لتشكل آلية مؤدية لوظيفتها يعد في الوقت الراهن واحدًا من أكثر الموضوعات سخونة في علم الأحياء الجزيئي.

    غير أن القدرة على سبر غور المنظومات الحيوية عند المستوى الذري ليست مجرد مغامرة سلبية، كما توقَّع فاينمان أيضًا. فعند نفس المستوى، إذا تمكَّن العلماء من قراءة البيانات، فإن باستطاعتهم كتابتها أيضًا؛ أي إن بإمكانهم بناء الجزيئات الحيوية من لا شيء تقريبًا. وإذا تمكَّنوا من بناء جزيئات حيوية، فسيكون باستطاعتهم في نهاية المطاف صنع أجهزة حيوية — أي حياة — من لا شيء تقريبًا! وإذا تمكنَّا من صنع تلك الأجهزة من لا شيء تقريبًا وفهمنا ما يجعلها تؤدي وظائفها على النحو الذي تؤديها به، فسوف نكون قادرين حينئذٍ على تصميم أشكال من الحياة لا توجد حاليًّا على وجه الأرض، وقد تكون أشكالًا من الحياة قادرة على استخلاص ثاني أكسيد الكربون من الجو وتصنيع البلاستيك، أو طحالب تنتج البنزين. ولو بدا لك هذا الأمر بعيد المنال، فاعلم أنه ليس كذلك. فهناك علماء أحياء مثل جورج تشيرش بجامعة هارفارد، ومعه كريج فينتر، ساعدت شركتهما الخاصة في حل شفرة الجينوم البشري لأول مرة، وهم يبحثون في تلك التحديات في الوقت الحالي، وقد تلقَّت شركة فينتر حديثًا ٦٠٠ مليون دولار من مؤسسة «إكسون» مخصصة لمشروع إنتاج البنزين من الطحالب.

  • (٣)
    رصد الذرات المفردة والتعامل معها: عام ١٩٥٩، أعرب فاينمان عن أسفه للحالة المثيرة للشفقة لميدان الميكروسكوبات الإلكترونية، الذي كان هو ذاته ميدانًا حديثًا نسبيًّا. فلما كانت الإلكترونات ثقيلة (مقارنةً بالضوء الذي لا كتلة له)، فإن الطول الموجي الميكانيكي الكمي للإلكترونات بالغ الصغر. ومعنى ذلك أنه في حين تكون الميكروسكوبات الضوئية محدودة القدرة بسبب الطول الموجي للضوء المرئي، والذي يتراوح بين ١٠٠ إلى ١٠٠٠ ضعف حجم الذرات، فإنه يمكن للمجالات المغناطيسية استخدام الإلكترونات في تكبير وإنتاج صور للأجسام الصغيرة للغاية التي تنبعث هذه الإلكترونات منها. غير أنه في عام ١٩٥٩، بدا احتمال تصوير كل ذرة على حدة بعيد المنال؛ لأن الطاقات المطلوبة لذلك من شأنها إحداث اضطراب في المنظومات حتى يمكن رصدها.

    كم تغيرت الأمور الآن؛ فعن طريق استخدام ذات الخصائص التي تتسم بها المنظومات الميكانيكية الكمية، مرة أخرى حسبما توقع فاينمان، تمكننا الميكروسكوبات الجديدة المسماة «الميكروسكوبات النفقية الماسحة» وميكروسكوبات القوة الذرية من تصوير الذرات فرادى داخل الجزيئات التي تحويها. علاوة على ذلك، تنبَّأ فاينمان قائلًا: «إن مبادئ الفيزياء، حسبما أعرف، لا تمنع إمكانية التلاعب في الأشياء ذرة بذرة. إنها ليست محاولة لخرق أي قانون؛ بل شيء يمكن تحقيقه من حيث المبدأ، غير أنه من الناحية العملية لم يتم لأننا شديدو الضخامة.» وما يؤكد ذلك أنه قد ابتكرت الآن «ملاقيط ذرية» باستخدام تقنيات مماثلة لتلك المستخدمة في الميكروسكوبات الحديثة، وأُنتِجت أشعة ليزر من الشدة بحيث أتاحت للباحثين التلاعب بالذرات المفردة وتحريكها. ومرة أخرى، منحت ثلاث جوائز نوبل مختلفة عن هذا العمل.

    لا يستطيع العلماء الآن تحديد الذرات الفردية مكانيًّا فقط وإنما باستطاعتهم ذلك زمنيًّا أيضًا. فقد سمحت تقنية الليزر بإنتاج نبضات ليزر تدوم بضعة فيمتو ثانية (الفيمتو ثانية ١٠−١٥ من الثانية). وهذا يكافئ المقاييس الزمنية التي تتم خلالها التفاعلات الكيميائية بين الجزيئات. وعن طريق إضاءة الجزيئات بواسطة نبضات قصيرة مثل تلك، يأمل العلماء في مشاهدة تسلسل الأحداث الذي تتم به تلك التفاعلات عند المستوى الذري.
  • (٤)
    هندسة الكم: كان أكثر ما أثار فاينمان بشأن الآلات ذرية القياس وتقنياتها إدراكه أنه بمجرد أن يتمكن المرء من العمل عند تلك المقاييس، فإن الخصائص الغريبة التي تتصف بها ميكانيكا الكم تصير ظاهرة للعيان. ومن الممكن حينئذ لكل من يفهم تلك الحقيقة أن يأمل في تصميم مواد ذات خصائص ميكانيكية كمية معينة، تكون عجيبة في بعض الأحيان. ومرة أخرى نقتبس من بحثه تلك العبارات:

    ما الذي يمكن أن تكون عليه خصائص المواد لو أننا تمكَّنَّا بالفعل من ترتيب الذرات بالطريقة التي نريدها؟ سوف يكون من المثير للغاية أن نبحث الأمر من الناحية النظرية. ولست أعرف بالضبط ما الذي سيحدث، غير أنني لا أشك لحظة في أننا — عندما نمتلك شيئًا من السيطرة على ترتيب الأشياء عند مقياس صغير — سوف نحصل على نطاق أعظم بكثير من الخصائص المحتملة التي يمكن أن تتمتع بها المواد، ومن الأشياء المختلفة التي يمكننا القيام بها. وعندما نصل إلى العالم بالغ الصغر — وليكن مثلًا دوائر كهربية مكونة من سبع ذرات — فإننا نملك حينئذ الكثير من الأشياء الجديدة التي يمكن أن تحدث والتي تمثل فرصًا جديدة تمامًا للتصميم. إن الذرات عند نطاق صغير تسلك سلوكًا مختلفًا تمامًا عن سلوكها عند المقاييس الكبرى؛ إذ إنها عندئذ تطيع قوانين ميكانيكا الكم. وهكذا فإننا كلما هبطنا إلى أسفل وعزفنا على أوتار الذرات الموجودة هناك، تعاملنا حينئذ مع قوانين مختلفة. يمكننا حينئذ أن نُصنع الأشياء بطرق مختلفة. يمكننا أن نستخدم، ليس الدوائر فحسب، وإنما منظومة تتضمن مستويات كمية من الطاقة، أو تفاعلات دوائر مغزلية محددة الكم … إلخ.

    تضم الجمعية الفيزيائية الأمريكية حاليًّا أكثر من خمسة وعشرين ألف عضو. ومن بين هؤلاء الفيزيائيين المتخصصين والطلبة، يعمل أكثر من نصفهم في مجال يطلق عليه اسم فيزياء المادة الكثيفة، وفيه يُخصص قدر كبير من جهدهم ليس فقط لفهم الخصائص الإلكترونية والميكانيكية للمواد وفق قوانين ميكانيكا الكم، وإنما أيضًا لتخليق مواد غريبة تؤدي بالضبط ما تنبأ به فاينمان. ونتيجة لذلك صار من الممكن التوصل لطائفة من التطورات، تتباين من موصلات فائقة لدرجات الحرارة المرتفعة، إلى أنابيب النانو الكربونية، إلى ظواهر أكثر غرابة مثل المقاومة محددة الكم واللدائن الموصلة، وقد مُنح ما لا يقل عن عشر جوائز نوبل في الفيزياء عن أبحاث التجارب وما صاحبها من بحوث نظرية في خصائص الكم العجيبة لتلك المواد التي صنعها الإنسان. وتمامًا مثلما غير الترانزستور — وهو الجهاز الذي يعتمد على قوانين ميكانيكا الكم في أدائه لوظائفه وهو الأساس وراء الغالبية العظمى من جميع الأجهزة الإلكترونية التي نستخدمها الآن — شكل العالم كليًّا، فإن تقنيات عالم القرن الحادي والعشرين وما بعده ستعتمد بلا أدنى شك على هندسة الكم التي تُمارس الآن في معامل الأبحاث في جميع أنحاء العالم.

•••

لما رأى فاينمان أن الإثارة الذهنية التي تحققها تلك الاحتمالات التي عرض خطوطها العريضة في السطور السابقة غير كبيرة بالقدر الكافي، قرَّر عام ١٩٦٠ أن يمول بشكل شخصي جائزتين باسم «جائزة فاينمان» بقيمة ١٠٠٠ دولار أمريكي. واشترط أن يكون أول فائز بها «أول رجل يتمكَّن من وضع المعلومات الواردة في صفحة من كتاب على مساحة تبلغ ١ / ٢٥٠٠٠ بمقياس الرسم الخطي بحيث يمكن قراءتها بالميكروسكوب الإلكتروني». أما الثانية فمخصصة «لأول رجل يصنع محركًا كهربائيًّا؛ محركًا كهربائيًّا دوارًا يمكن التحكم فيه من الخارج، ولا يزيد حجمه عن ١ / ٦٤ من البوصة المكعبة، بدون الوصلات والأسلاك.» (للأسف، كان فاينمان ابن عصره، وعلى الرغم من أن شقيقته كانت فيزيائية، فإن جميع الفيزيائيين والمهندسين كانوا في نظره ذكورًا.)

لكن على الرغم من بعد نظر فاينمان، فإنه كان إلى حد ما متأخرًا زمنيًّا. فلدهشته الكبرى (وخيبة أمله أيضًا لأن الابتكار في حقيقة الأمر لم يتضمن أي تقنية جديدة)، في خلال عام من نشر حديثه، ظهر رجل مهذب اسمه ويليام ماكليلان على عتبة باب منزله ومعه صندوق خشبي وميكروسكوب لمشاهدة محركه الصغير، مطالبًا بالجائزة الثانية. ومع أن فاينمان لم يكن قد أعد هيكل شروط الجائزة بصيغة رسمية فقد أعطاه الألف دولار عن طيب خاطر. إلا أنه في خطاب بعث به لماكليلان، أضاف قائلًا: «لا أنوي تقديم الجائزة الأخرى كعمل خيري. فبعد أن كتبت المقال تزوجت واشتريت منزلًا!» لم يكن هناك داعٍ للقلق. فلقد استغرق الأمر خمسًا وعشرين عامًا حتى تمكَّن شخص — وفي حالتنا هذه، كان طالبًا (ذكرًا) بالدراسات العليا بجامعة ستانفورد — من اتباع وصفة فاينمان بنجاح وطالب بجائزته. وبحلول ذلك الوقت لم تعد جائزة الألف دولار تمثل مبلغًا ذا قيمة كبيرة.

•••

على الرغم من تلك الجوائز، وعلى الرغم من افتتانه بالآلات العملية (إذ واصل فاينمان تقديم مشوراته بصفة منتظمة لشركات متعددة مثل شركة «هيوز أيركرافت» لصناعة الطائرات طيلة حياته المهنية، حتى في الأوقات التي كان يخصص فيها جل وقت جهوده البحثية لأشياء مثل الجسيمات الغريبة والجاذبية)، كانت الفكرة التي أسرت لب فاينمان في محاضرته التي ألقاها عام ١٩٥٩، والتي ذكرها بصفة أساسية باعتبارها الدافع الذي دعاه للتفكير أصلًا في تلك المشكلات، والوحيدة التي تتبعها بحق فيما بعد على الصعيد المهني، هي احتمال صنع نوع مختلف تمامًا من أجهزة الكمبيوتر أكثر سرعة، وأصغر حجمًا.

لطالما افتتن فاينمان بالآلات الحاسبة والحوسبة عمومًا (حكى مارفن مينسكي، عالم الحاسبات بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، ذات مرة أمرًا يصعب تصديقه، وهو أن فاينمان أخبره أنه كان دومًا مفتونًا بالحوسبة أكثر من افتتانه بالفيزياء)، إلى حد بلغ ذروة مبكرة ربما خلال السنوات التي قضاها في لوس ألاموس، حيث كانت تلك الأنشطة حيوية من أجل نجاح برنامج القنبلة الذرية. فابتكر خوارزميات جديدة تمامًا من أجل إجراء التقديرات الذهنية سريعًا لكميات عادةً ما تعد بالغة التعقيد ولحل معادلات التفاضل المعقدة. وتقديرًا لقدراته الفذة، مع أنه كان قد تخرَّج للتوِّ من كليته، جعله هانز بيته قائد المجموعة الحسابية، التي تجري الحسابات بالورقة والقلم أولًا، ثم تجريها باستخدام آلات يدوية بدائية يطلق عليها اسم حاسبات مارشانت، ثم أخيرًا باستخدام آلات حاسبة إلكترونية حديثة (وهي التي — لعلك تتذكر — أخرجها فاينمان وفريقه من صناديقها وجمعوها قبل أن يصل خبراء شركة آي بي إم لأداء تلك المهمة). حسبت المجموعة كل شيء من انتشار النيوترونات داخل قنبلة، وهي العملية الحسابية اللازمة لتحديد مقدار المادة المطلوب للوصول للكتلة الحرجة، وحتى محاكاة الانهيار الداخلي، وهي عملية جوهرية لنجاح قنبلة البلوتونيوم. لم يكن هناك وجه من الوجوه إلا وبرع فيه بصورة مذهلة، مما دفع بيته — الذي كان يدخل معه في مسابقات حسابية يتبارزان خلالها ذهنيًّا — للقول إنه يفضل أن يخسر أي اثنين آخرين من علماء الفيزياء ولا يخسر فاينمان.

قبل وصول الكمبيوتر الإلكتروني بوقت طويل، أسهم فاينمان في إنشاء ما يمكن أن نطلق عليه اسم أول كمبيوتر بشري يجري عمليات المعالجة بالتوازي، فكان مثل إرهاصة تبشر بمقدم معالجات كبيرة الحجم تجري العمليات بالتوازي. كان قد نظم بالفعل مجموعة الانتشار التابعة له لتشكل فريقًا دقيق التنسيق، بحيث عندما دخل عليهم بيته ذات يوم وطلب من المجموعة أن تحسب تكامل كمية ما تكاملًا رقميًّا، هتف فيهم فاينمان قائلًا: «حسنًا، أقلام رصاص، احسبوا!» فقذفوا جميعًا أقلامهم الرصاص في الهواء ثم التقطوها معًا في آن واحد (وكانت حركة علَّمهم إياها). كان الأمر أكثر من مجرد لهو. إبان الحقبة التي سبقت عصر الحاسب الإلكتروني، كان لا بد من تقسيم الحسابات المعقدة إلى أجزاء حتى يمكن إجراؤها سريعًا. وكانت كل عملية حسابية بالغة التعقيد بحيث لا يمكن لشخص واحد أو حاسبة مارشانت واحدة إجراؤها. غير أنه نظم مجموعة كبيرة، مشكَّلة في الغالب من زوجات العلماء، كل منهن تتعامل مع جزء بسيط من عملية حسابية معقدة ثم تمررها إلى التالية لها في الصف وهكذا.

من خلال خبراته، صار فاينمان معتادًا ومتآلفًا بشدة مع التفاصيل الدقيقة لعمل الكمبيوتر، وكيفية تحليل المشكلات إلى أجزاء صغيرة بحيث يتمكن من حلها (على نحو يحول الكمبيوتر إلى «كاتب ملفات» كفء، حسبما أطلق عليه)، والأكثر طرافة من ذلك أنه كان يحدد المشكلات التي يمكن حلها في وقت معقول وتلك التي لا يمكن حلها. وعادت كل تلك الأمور عليه بالفائدة من جديد عندما شرع في التفكير في عملية التصغير التي أراد القيام بها. إلى أي مدى يمكن تصغير أجهزة الكمبيوتر؟ ما التحديات التي ستواجهه، وما المكاسب التي ستعود عليه، سواء في استهلاك الطاقة أو في القدرة على الحساب، لو أمكن استخدام أجهزة أصغر حجمًا وأكثر تعقيدًا وذات عناصر أكثر؟ وعلى حد قوله عام ١٩٥٩، مقارنًا بين عقله وأجهزة الكمبيوتر الموجودة آنذاك:

عدد العناصر داخل هذا الصندوق العظمي الذي لدي المسمى بالمخ يفوق كثيرًا جدًّا عدد العناصر الموجودة بحاسباتنا «الرائعة». غير أن حاسباتنا الميكانيكية هائلة الحجم، أما العناصر التي في هذا الصندوق فإنها مجهرية الحجم. وأنا أريد أن أصنع شيئًا دون مجهري … ولو أردنا أن نصنع جهاز كمبيوتر له كل تلك القدرات النوعية الإضافية الرائعة، فإننا قد نحتاج لتصنيعه ليكون بحجم مبنى البنتاجون مثلًا. ولهذا الأمر عدة عيوب؛ أولها: أنه يحتاج حينئذ إلى قدر هائل جدًّا من المواد، وقد لا تتوافر بالعالم كمية كافية من عنصر «الجرمانيوم» لصنع كل الترانزستورات التي يجب وضعها بداخل هذا الشيء الهائل. وهناك أيضًا مشكلة توليد الحرارة واستهلاك الطاقة … غير أنه توجد صعوبة عملية أكبر حجمًا من كل ما سبق وهي أن هذا الحاسب سوف يكون محدودًا بسرعة معينة. ونظرًا لضخامة حجمه، فلا بد أن يكون هناك وقت محدد مطلوب لنقل المعلومات من مكان إلى آخر. ولن تتمكن تلك المعلومات من الحركة بسرعة أكبر من سرعة الضوء؛ لذا، في نهاية المطاف، عندما تصبح حاسباتنا أسرع وأكثر إتقانًا، سوف نتمكن من تصغيرها أكثر.

وعلى الرغم من أن فاينمان حدد في محاضرة عام ١٩٥٩ التحديات والفرص السانحة التي أدت إلى الكثير والكثير من التطورات بعد ذلك، فإن هذه المسألة الأخيرة كانت الوحيدة التي عاد إليها بجدية بالتفصيل، وفي اتجاهات مدهشة جمعت عددًا من الاحتمالات المتنوعة التي ذكرها في حديثه. ومع ذلك استغرق الأمر منه أكثر من عشرين عامًا للقيام به. وكان من أسباب تحفُّزه للعودة إلى ذلك الموضوع اهتمامه بابنه، كارل. ففي أواخر السبعينيات التحق كارل بالكلية، الكلية التي تخرج منها فاينمان، معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، وكم كانت سعادة فاينمان عندما حول الابن مساره الدراسي من الفلسفة إلى علوم الكمبيوتر. واهتم فاينمان بإعمال المزيد من الفكر في الميدان الذي صار مجال عمل ولده. ثم قدم كارل إلى مارفن مينسكي، الأستاذ بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، الذي كان سبق أن التقاه في كاليفورنيا، فعرف مينسكي كارل إلى واحد من طلاب السنة النهائية الذي كان يقطن ببدروم منزله واسمه داني هيليس. كانت لدى هيليس فكرة مجنونة وهي إنشاء شركة تقوم ببناء جهاز كمبيوتر عملاق به مليون وحدة معالجة مستقلة تحسب على التوازي ويتصل بعضها ببعض من خلال منظومة توصيل معقدة. وعرَّف كارل أبيه بهيليس، والحقيقة أنه أشار على هيليس بزيارة والده عندما كان، أي هيليس، في رحلة إلى كاليفورنيا. ولدهشة هيليس العظيمة، قاد فاينمان سيارته في طريق استغرق ساعتين للوصول إلى المطار ليكون في استقباله كي يعرف المزيد من المعلومات عن المشروع، الذي سماه على الفور «كووكي»، وهو ما كان يعني أنه سوف يدرس احتمالاته وإمكانياته العملية. وكانت هذه الآلة، مع كلٍّ، هي النسخة الإلكترونية الحديثة من الكمبيوتر الموازي للعقل البشري التي صنعها في لوس ألاموس. كان هذا، بالإضافة إلى كون ابنه معنيًّا بالأمر، كفيلًا بجعلها فرصة لا تقاوم.

وفي الحقيقة، عندما بدأ هيليس بالفعل في إنشاء شركة «الآلات المفكرة»، تطوَّع فاينمان بقضاء صيف عام ١٩٨٣ في العمل في بوسطن (مع كارل)، غير أنه رفض تقديم «نصائح» عامة مبهمة مبنية على خبرته العلمية، وأطلق على هذا الأمر مصطلح «حزمة من الهراء»، وطالب بأن يقوم بما سماه «عملًا حقيقيًّا». واشتق في نهاية المطاف حلًّا حسابيًّا لعدد الرقائق التي سيحتاجها كل موجه اتصال من أجل الاتصال به حتى يسمح بإجراء حسابات متوازية بنجاح. والمذهل في هذا الحل أنه لم تجر صياغته باستخدام أي من التقنيات التقليدية لعلوم الكمبيوتر، وإنما باستخدام أفكار مستقاة من علم الفيزياء، ومن بينها الديناميكا الحرارية والميكانيكا الإحصائية. والأهم من ذلك — على الرغم من أنه لم يوافق على الحسابات التقديرية التي قام بها مهندسو الكمبيوتر الآخرون بالشركة — أنه تبين صحة حساباته هو (في الوقت نفسه بيَّن لهم كيف يمكن تحقيق استفادة طيبة من حاسبهم في حل مشكلات الفيزياء التي تتحدى الآلات الأخرى رقميًّا، ومن بينها المشكلات المتعلقة بمحاكاة أشكال نظم فيزياء الجسيمات الأولية).

في ذلك الوقت تقريبًا، في عام ١٩٨١، شرع فاينمان أيضًا في إعمال مزيد من الفكر العميق في الأسس النظرية للحساب الآلي ذاته، واشترك مع زملائه بكالتك، جون هوبفيلد وكارفر ميد في تقديم دورة دراسية تغطي مسائل متباينة من التعرف على النمط وحتى القابلية الحسابية ذاتها. كانت المسألة الأولى شيئًا خلب لبه دومًا، ومن أجله أنشأ بعض المقترحات الغريبة التي كانت تعدُّ في زمانها غير ممكنة التطبيق لأجهزة الكمبيوتر. ولا يزال «التعرف على النمط» أبعد من قدرات وإمكانيات معظم أجهزة الكمبيوتر حتى الآن، ولهذا السبب فإنك عندما تحاول التسجيل في بعض مواقع الإنترنت، ولكي يتمكن الموقع من التمييز بين المستخدمين من البشر العاديين وبين فيروسات الكمبيوتر الآلية أو القراصنة، يعرض لك صورة بها بعض الحروف المكتوبة بطريقة مشوهة ويطلب منك كتابة ما تراه قبل أن يسمح لك بمواصلة التسجيل.

كان هذا هو المجال الذي استحوذ على اهتمام فاينمان، ونقصد به فيزياء الحوسبة، والقضية المتعلقة به؛ حوسبة الفيزياء. وأنتج فاينمان سلسلة من الأبحاث العلمية وكتابًا يجمع ملاحظات المحاضرات، نشرت بشكلها النهائي (بعد شيء من التنازع القضائي بشأن ملكيته لها)، من الدورة الدراسية التي قدمها حول هذا الموضوع والتي بدأت عام ١٩٨٣.

لفترة من الوقت كان مفتونًا بفكرة الآليات الخلوية، التي ناقشها بإسهاب مع طالب شاب نابغة في كالتك، هو ستيفن وولفرام، الذي واصل طريقه بعد ذلك ليشتهر باعتباره مبتكر حزمة برامج رياضيات الكمبيوتر المعروفة باسم «ماثيماتيكا»، التي أحدثت ثورة كبرى في الأسلوب الذي يجري به الناس الآن حساباتهم الرقمية والتحليلية. إن الآليات الخلوية في الأساس مجموعة من الأجسام المنفصلة غير المترابطة داخل مصفوفة يمكن برمجتها بحيث تتبع قواعد بسيطة في كل خطوة زمنية من خطوات عملية يجريها الكمبيوتر، بناءً على حالة أقرب جيرانها. حتى القواعد شديدة البساطة يمكنها إنتاج أنماط معقدة إلى حد لا يصدقه عقل. وما من شك أن فاينمان كان معنيًّا بما إذا كان عالم الواقع يمكنه العمل بهذه الطريقة أم لا، مع وجود قواعد أساسية للغاية وموضعية لكل نقطة زمكانية في أساسها، وفي نهاية المطاف تنتج تعقيدًا يشاهد عند المقاييس الأكبر.

لكن ليس من المدهش أن تحول اهتمامه الأساسي نحو مسائل الحوسبة وميكانيكا الكم. سأل فاينمان نفسه عن حاجة المرء لتغيير الخوارزميات لجعل الكمبيوتر يحاكي منظومة ميكانيكية كمية لا منظومة تقليدية. فعلى أي حال، كانت القواعد الفيزيائية الأساسية مختلفة. وسوف يكون النظام المعني في حاجة لمعالجته من خلال الاحتمالات، وحسبما بين هو في إعادة صياغته لعالم الكم، من أجل أن يتتبع بطريقة ملائمة تطوره الزمني يحتاج المرء لحساب نطاقات الاحتمالات (وليس الاحتمالات ذاتها!) للعديد من المسارات البديلة المختلفة في الوقت نفسه. ومرة أخرى، كانت ميكانيكا الكم، حسبما صاغها، تتطلب بطبيعة الحال وجود جهاز كمبيوتر يمكنه إجراء حسابات مختلفة على التوازي، ليتم جمع النتائج بعدها في نهاية العملية الحسابية.

أدى تأمله الخلاب لهذا الموضوع، الذي احتوته سلسلة من الأبحاث التي كتبها بين عامي ١٩٨١ و١٩٨٥، إلى طرق اتجاه جديد يعود إلى أطروحته التي قدَّمها عام ١٩٥٩. فبدلًا من استخدام جهاز كمبيوتر تقليدي في محاكاة العمل الميكانيكي الكمي، هل يمكن للمرء تصميم كمبيوتر ذي عناصر من الصغر بحيث يمكن التحكم فيها هي ذاتها بواسطة قواعد ميكانيكا الكم، وإن أمكن ذلك، فكيف يمكن لهذا الأمر أن يغير الأسلوب الذي يجري به الكمبيوتر حساباته؟

من الواضح أن اهتمام فاينمان بهذه المسألة نبع من اهتمامه المستمر بفهم ميكانيكا الكم. وربما اعتقد المرء أنه كان يفهم أسلوب عمل ميكانيكا الكم أكثر من أي شخص، غير أنه في محاضرة ألقاها عام ١٩٨١ وبحث ناقش فيه هذا الأمر لأول مرة، أدلى باعتراف يكشف عن المنطق الذي يتبعه في انتقاء المشكلات التي يفكر فيها — وهي في حالتنا هذه حاسبات الكم — أكثر مما يكشف عن عدم ارتياحه لميكانيكا الكم:

هل يمكن أن أقول على الفور، حتى تعلموا مقصدي الحقيقي، إننا كنا نواجه دومًا … (سر، سر، أغلقوا الأبواب!) … كنا نواجه دومًا قدرًا هائلًا من الصعوبة في فهم صورة العالم الذي تعبر عنه ميكانيكا الكم. على الأقل أنا أواجه هذه الصعوبة، لأني بلغت من العمر أرذله ولم أصل للنقطة التي يبدو عندها هذا الأمر بديهيًّا. حسنًا، ما زلت أشعر بالعصبية تجاهه. لذا فإن بعض الطلبة الشبان … أنتم تعلمون كيف هو الأمر دومًا، كل فكرة جديدة تستغرق جيلًا أو اثنين حتى يصير واضحًا أنه لا توجد مشكلة حقيقية بها. ولهذا السبب أهوى تقصي حقائق الأشياء. هل يمكنني أن أتعلم أي شيء من خلال طرح هذا السؤال عن أجهزة الكمبيوتر؛ عن هذا الشيء الذي قد يكون وقد لا يكون لغزًا بشأن صورة العالم من منظور ميكانيكا الكم؟

ولكي يتحرَّى تلك المسألة تحديدًا، بحث فاينمان إمكانية إجراء محاكاة دقيقة للسلوك الميكانيكي الكمي باستخدام منظومة حوسبة كلاسيكية تعمل بالاحتمالات التقليدية وحسب. كان لا بد أن تكون الإجابة بعدم إمكانية ذلك. فلو كانت تلك الإمكانية متاحة، لكان هذا يعني القول إن عالم ميكانيكا الكم الحقيقي مكافئ من الناحية الحسابية لعالم تقليدي بعض الكميات به لا يمكن قياسها. وفي عالم كهذا ربما لا يتمكن المرء إلا من تحديد النتائج الاحتمالية للمتغيرات التي يمكنه قياسها لأنه لن يعلم قيمة «المتغيرات الخفية». وفي هذه الحالة سوف تتوقف احتمالية أي حدث قابل للرصد على شيء مجهول، وهي قيمة الكمية غير المرصودة. وعلى الرغم من أن هذا العالم التخيلي يبدو على نحو يثير الشك أشبه بعالم ميكانيكا الكم (وكان هو العالم الذي أعرب ألبرت أينشتاين عن أمله في أن يكون هو عالمنا الذي نعيش فيه؛ أي عالم تقليدي ندركه بعقولنا تكون فيه الطبيعة الاحتمالية لميكانيكا الكم ليست سوى نتيجة لجهلنا بالمتغيرات الإحصائية الفيزيائية الأساسية الموجودة بالطبيعة)، لكن عالم الكم أكثر غرابة بكثير من هذا، حسبما شرح جون بيل عام ١٩٦٤ في بحث مميز. وسواء أعجبك الأمر أم لم يعجبك، فإن عالم الكم والعالم التقليدي الكلاسيكي لا يمكن أبدًا أن يكونا متكافئين.

استخلص فاينمان مثالًا فيزيائيًّا جميلًا من بحث بيل عندما أوضح أنه لو حاول أحدهم تقليد جهاز كمبيوتر كلاسيكي قادر على إنتاج نفس الاحتمالات التي كانت منظومة «كم» ستنتجها لبعض الكميات القابلة للرصد أثناء تطور المنظومة، فمن الضروري أن تكون قيمة احتمال كمية أخرى مرصودة سالبة القيمة. الواقع المؤكد تمامًا أن عالم احتمالات الكم أكبر من أي شيء ممكن دمجه في عالم تقليدي محض.

خلال تقديم فاينمان شرحًا فيزيائيًّا لطيفًا للسبب الذي يجعل جميع النظريات التي تحتوي على متغيرات خفية محكوم عليها بالفشل، طرح في بحثه هذا أيضًا تساؤلًا أكثر تشويقًا: هل يمكن ابتكار جهاز كمبيوتر ذي طبيعة ميكانيكية كمية؟ وتحديدًا، لو أن بتات الكمبيوتر الأساسية كانت أجسامًا كمية، كدورة مغزلية للإلكترون مثلًا، فهل يمكن للمرء عندئذ إجراء محاكاة رقمية تحاكي بدقة متناهية سلوك أي منظومة ميكانيكية كمية، ومن ثم تتعامل مع أي عمليات محاكاة ميكانيكية كمية لا يستطيع أي كمبيوتر تقليدي أن يتعامل معها بكفاءة؟

كانت إجابته المبدئية المدوية في بحث عام ١٩٨٢ هي: «محتمل». إلا أنه استمر يفكر في هذه المسألة، يحفزه في ذلك بحث أجراه تشارلز بينيت، وهو فيزيائي يعمل بمعامل آي بي إم بيَّن أن كثيرًا من المعلومات المتعارف عليها في فيزياء الحوسبة غير صحيحة. وبالتحديد، كان الافتراض أنه في كل مرة يُجري فيها الكمبيوتر عملية حسابية، يتعيَّن عليه بث طاقة على هيئة حرارة (على أي حال، أي شخص لديه جهاز كمبيوتر محمول يعرف إلى أي مدى يمكن أن تصل سخونته). لكن بينيت أوضح أنه يمكن، من حيث المبدأ، إجراء عملية حوسبة بالكمبيوتر «بطريقة عكسية». أو بعبارة أخرى، يمكن من الناحية النظرية إجراء تلك العملية الحسابية ثم إجراء العمليات العكسية فننتهي من حيث بدأنا، دون أي فقدان للطاقة في صورة حرارة.

وبرز السؤال: هل سيعمل عالم ميكانيكا الكم بجميع تذبذباته الكمية على إفساد هذه النتيجة؟ في بحث قدم عام ١٩٨٥، أوضح فاينمان أن الإجابة هي لا. ولكن من أجل القيام بهذا، كان عليه أن يتوصَّل إلى نموذج نظري لكمبيوتر كمي عام؛ أي، منظومة ميكانيكية كمية بحتة يمكن التحكم في تطورها بحيث تنتج العناصر المنطقية الضرورية التي تمثِّل جزءًا من منظومة حوسبة عامة (أي: «و»، «ليس»، «أو» … إلخ). وصمَّمَ فاينمان نموذجًا لكمبيوتر كهذا وشرح كيفية تشغيله ومن ثم توصَّل إلى هذا الاستنتاج: «عند أي معدل، يبدو أن قوانين الفيزياء لا تضع أي عوائق أمام تقليص حجم أجهزة الكمبيوتر إلى أن تصبح البتات بحجم الذرات، ويصبح سلوك الكم الحاكم المهيمن على الأمور.»

على الرغم من أن القضية الفيزيائية العامة التي كان يتناولها كانت أكاديمية إلى حد بعيد، فقد أدرك أن إمكانية صنع كمبيوتر يبلغ حجمه من الصغر حدًّا تصبح معه قوانين ميكانيكا الكم هي التي تحكم سلوك عناصره أمر قد تكون له فائدة عملية حقيقية. وفي أعقاب تصريحه بأن كمبيوتر الكم الذي وضع له مخططًا نظريًّا صُمم ليحاكي الحاسبات التقليدية في كل عملية منطقية تجري بشكل متتابع، أضاف قائلًا: «إن ما يمكن عمله، في أنظمة الكم القابلة للعكس هذه، للحصول على السرعة المتاحة بواسطة العمليات المتزامنة، أمر لم ندرسه هنا.» إن الاحتمال المشار إليه في هذا السطر وحده يمكنه بسهولة تغيير وجه العالم. ومرة أخرى، طرح فاينمان فكرة كان من شأنها أن تهيمن على التطورات البحثية في ميدان علمي بأسره لجيل كامل، على الرغم من أنه لم يحقق هو بنفسه النتائج الأساسية النهائية.

صار مجال الحوسبة الكمية واحدًا من أكثر المجالات النظرية والتجريبية إثارة، وبالتحديد بسبب طرح فاينمان الذي قال فيه إن الحاسبات التقليدية لا يمكنها أبدًا محاكاة أنظمة الكم. فأنظمة الكم أكثر ثراءً بكثير، ومن ثم يمكن أن يُجري «كمبيوتر كَمي» أنماطًا جديدة من الخوارزميات الحسابية التي تتيح له إتمام عملية حسابية بكفاءة وواقعية كانت ستستغرق من أكبر أجهزة الكمبيوتر التقليدية المتاحة اليوم وقتًا أطول من عمر الكون بأكمله!

الفكرة الأساسية هي حقًّا تلك السمة البسيطة التي استغلَّها فاينمان بكل وضوح في لوس ألاموس، والتي تعرضها بوضوح صياغة فاينمان لميكانيكا الكم المعروفة بتكامل المسار. فمنظومات الكم بطبيعتها سوف تستكشف عددًا لانهائيًّا من المسارات المختلفة في آن واحد. فلو أمكن جعل كل مسار يمثل عملية حسابية محددة، يمكن لمنظومة كم أن تصبح معالجًا موازيًا مثاليًّا من صنع الطبيعة!

تأمل المنظومة التي ناقشها فاينمان في البداية، جسيم ميكانيكي كمي مبسط له حالتان من اللف المغزلي، يمكننا تسميتهما اللف «العلوي» و«السفلي». فإذا رمزنا لحالة اللف العلوي بالعدد «١» والسفلي بالعدد «صفر»، فإن منظومة اللف المغزلي بذلك تصف معلومة حسابية واحدة نمطية. غير أن السمة المهمة لمنظومة ميكانيكية كمية مثل تلك هي أنه إلى أن نقيسها لنعرف إن كانت في حالة علوية أم سفلية، تقول لنا ميكانيكا الكم إن هناك احتمالًا محددًا أن تكون في أي من الحالتين، وهو ما يعدل القول إنها في حقيقة الأمر في كلتا الحالتين في الوقت نفسه! وهذا يجعل بت الكم، أو «الكيوبيت» حسبما صار يعرف الآن، مختلفًا اختلافًا كبيرًا عن البت التقليدي. فإذا تمكَّنَّا من العثور على سبل لتشغيل الكمبيوتر بكيوبيت كهذا دون قياسه فعليًّا، ومن ثم إرغامه على أن يكون في حالة محددة، فإن هناك احتمالًا قائمًا أن نوجد معالجًا كميًّا يُجري أكثر من عملية حسابية في آن واحد.

في عام ١٩٩٤، أوضح بيتر شور، وهو عالم رياضيات تطبيقية بمعامل بيل، القدرة المرتقبة لمنظومة مثل تلك، وانتبه العالم لهذا النبأ. بيَّن شور أن الكمبيوتر الميكانيكي الكمي يمكنه بكفاءة حل مسألة رياضية معينة ثبت عجز أجهزة الكمبيوتر التقليدية عن حلها في زمن محدود قابل للقياس. وقد عرض المسألة ببساطة: يمكن كتابة كل عدد بصورة فريدة باعتباره حاصل ضرب أعداد أولية في بعضها. فمثلًا، العدد ١٥ هو حاصل ضرب ٣ × ٥، والعدد ٩٩ هو حاصل ضرب ١١ × ٣ × ٣، والعدد ٥٤ هو حاصل ضرب ٢ × ٣ × ٣ × ٣، وهكذا. ومع كبر الأعداد أكثر وأكثر، تتضاعف صعوبة تحديد هذا التحليل المتفرد للعدد. وما أثبته شور أنه يمكن ابتكار طريقة حساب لكمبيوتر كمي لاستكشاف فضاء رحب من العوامل الأولية لأي عدد وتحليله إلى عناصره الأولية الصحيحة.

لماذا نهتم بتلك النتيجة شديدة الغموض؟ حسنًا، بالنسبة لأولئك الذين يمتلكون بعض المال في البنوك، أو يستخدمون بطاقات ائتمانية في تعاملاتهم، أو ينشغل بالهم بشأن أمان الشفرات المستخدمة لحفظ الأسرار الوطنية، هذا الأمر يهمهم كثيرًا. فجميع المعلومات المصرفية والوطنية السرية تحفظ باستخدام شفرة بسيطة يستحيل على أي جهاز كمبيوتر تقليدي حلها. وتجرى عملية التشفير باستخدام «مفتاح» يقوم على معرفة العوامل الأولية لرقم كبير للغاية. وما لم نعلم تلك العوامل مسبقًا، فلن يكون باستطاعتنا فك الشفرة باستخدام جهاز كمبيوتر عادي لأن هذا الأمر سيستغرق زمنًا أطول من عمر الكون نفسه. غير أن جهاز كمبيوتر كمي «كبير» بدرجة كافية يمكنه القيام بتلك المهمة في وقت معقول. ويتوقف المقصود بكلمة «كبير» هنا على درجة تعقيد المشكلة، غير أن المنظومات التي تحوي بضعة مئات أو آلاف من الكيوبيتات سوف تتمكن من أداء المهمة بسهولة ويسر.

فهل ينبغي علينا أن نندفع نحو البنوك لسحب أموالنا منها وإخفائها تحت البلاطة، أو نهرع نحو مخابئنا وننتظر غزوًا يجري الإعداد له في أعقاب فك شفرات أمننا القومي؟ كلا بالطبع. ففي المقام الأول، على الرغم من الموارد الهائلة التي يجري تخصيصها للجهود التجريبية المتواصلة، لم يتمكن أي شخص من تصنيع جهاز كمبيوتر كمي مكون مما يزيد على بضعة كيوبيتات. والسبب بسيط. فلكي يسلك الكمبيوتر السلوك الميكانيكي الكمي، يجب عزل الكيوبيتات بعناية عن جميع التفاعلات الخارجية، وهو ما يؤدي بنجاح إلى مسح جميع المعلومات الميكانيكية الكمية المختزنة داخل النظام، وهو نفس السبب الذي يجعلنا نتصرف بطريقة تقليدية وليست ميكانيكية كمية. في معظم الأنظمة شيء يطلق عليه عادةً اسم «تماسك الكم» — أي الحفاظ على الوضع الميكانيكي الكمي للمكونات المستقلة داخل النظام — وهو يتعرض للتدمير خلال جزء بالغ الصغر من الثانية. ويعد الحفاظ على حاسبات الكم «شبيهة بالكم» تحديًا صعبًا يواجهه العلماء، ولا يعلم أحد إن كان هذا الأمر سوف يصبح ممكنًا عمليًّا بالمفهوم التشغيلي في نهاية المطاف أم لا.

والأهم من هذا الاعتبار العملي هو حقيقة أن نفس مبادئ ميكانيكا الكم التي تسمح لجهاز كمبيوتر كمي بتخطي الحدود التقليدية عند حل مشكلات مثل مشكلة إيجاد العوامل الأولية للأعداد الكبيرة تجعل من الممكن أيضًا، من حيث المبدأ، ابتكار خوارزميات «نقل كمي» جديدة تسمح بنقل آمن تمامًا للمعلومات من نقطة إلى أخرى. وأعني بذلك أننا من الممكن أن نصبح قادرين على أن نكتشف، وبقدر مطلق من اليقين، إن كان طرف ثالث متلصص تمكَّن من اعتراض الرسالة أم لا.

كان انفجار الأفكار الذي دفع ميدان الحوسبة الكمية الجديد من مجرد لمعة ومضت في عيني فاينمان عام ١٩٦٠ ليعتلي قمة العلم والتكنولوجيا المعاصرين انفجارًا هائلًا بحق؛ هائلًا إلى حد أننا لا نستطيع هنا أن نفيه حقه من الوصف. وقد تؤدي تلك الأفكار في النهاية إلى إحداث تغيرات في أسلوب تنظيمنا لمجتمعاتنا الصناعية المعاصرة. من زاوية التطبيق العملي، ربما كانت تلك التطورات البحثية تمثل بعضًا من أهم ما تركه فاينمان من تراث فكري، حتى وإن لم يعش هو عمرًا يكفيه لكي يقدر بشكل تام أهمية مقترحاته. إن الدهشة تأبى أن تفارقني وأنا أفكر كيف يمكن لتكهنات تستعصي على الفهم أبدعها عقل جريء ومبدع أن تغير وجه العالم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤