الفصل السابع عشر

الحق والجمال والحرية

لا أشعر بالخوف من عدم معرفة الأشياء، أو من الضياع في كون غامض بلا هدف، وتلك هي حقيقة الأمور في الواقع، على حد علمي. على أي حال، هذا لا يخيفني.

ريتشارد فاينمان

في الثامن من أكتوبر عام ١٩٦٧، نشرت صحيفة «نيويورك تايمز» تحقيقًا بعنوان «رجلان في رحلة البحث عن الكوارك». كتب مؤلف المقال لي إدسون: «الرجلان المسئولان بقدر كبير عن إيفاد العلماء في تلك المطاردة الشرسة للكوارك هما عالما فيزياء من معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا واسمهما موراي جيلمان وريتشارد فاينمان … اللذان يطلق عليهما واحد من علماء كاليفورنيا لقب «أغلى ممتلكات علم الفيزياء النظرية في الوقت الحاضر».»

في ذلك الحين، كان لتلك العبارة الأخيرة ما يبررها. أما العبارة الأولى فلا. فعلى مر السنوات الست أو السبع السابقة، في أعقاب عملهما المشترك في موضوع التفاعل الضعيف، ابتعد فاينمان بثبات عن الاندفاع المحموم نحو إزالة الارتباك الناشئ في فيزياء الجسيمات، مع نمو عالم الجسيمات المتفاعلة بقوة الخارجة من المعجلات الذي بدا وكأنه مصمم لسحر ألباب كل مَن انجذبوا — مثل بحارة الأوديسا — لنداء حورية البحر، لترتطم سفينتهم بالصخور. أما جيلمان — من ناحية أخرى — فقد اقتحم الموقف مباشرةً، بكل ما أتيح له ولزملائه من أدوات، وبعد عدد من المعارك والبدايات الخاطئة، جلب لنا أخيرًا قبسًا من الأمل في وضوح الرؤية في هذا الميدان.

لخَّص فاينمان الوضع في كلمة ألقاها في الاحتفال بعيد الميلاد الستين لهانز بيته بكورنيل، مرددًا في البداية عبارات ذكرها في أول أبحاثه عن الهيليوم السائل في أوائل الخمسينيات: «من بين الأسباب التي جعلتني لا أنجز الكثير في موضوع الجسيمات المتفاعلة بقوة أنني اعتقدت أنه لا توجد معلومات كافية للتوصل إلى فكرة جيدة. وزميلي العزيز، بروفسور جيلمان، لا يفتأ يبرهن لي أنني كنت مخطئًا … إذ ها نحن فجأة نسمع ضوضاء تكسير الجوز.»

لكي ندرك الحيرة التي سادت ميدان فيزياء الجسيمات خلال النصف الأول من ذلك العقد، لسنا بحاجة إلا لأن نتأمَّل أفضل أسلوب في الوقت الراهن لفهم جاذبية الكم و«نظرية كل شيء» المحتملة المرتبطة بها. هناك العديد من الأفكار ولكن لا يوجد سوى القليل من البيانات التي توجه علماء الفيزياء، وكلما مضينا أكثر في اتباع الأطروحات النظرية، بدا الموقف أكثر حيرة وارتباكًا. في الستينيات، لا ريب أن الآلات كانت تنتج بيانات أكثر بكثير، ومع ذلك لم يكن أحد يعلم إلى أين تقوده. ولو أن أحدًا عام ١٩٦٥ قال إنه في غضون عقد من الزمان سوف نتوصل إلى أساس نظري شبه مكتمل لفهم القوة الضعيفة بالإضافة إلى القوة القوية أيضًا، ما صدقه معظم الفيزيائيين.

كسر جيلمان بالفعل ثمرة الجوز ببصيرة مدهشة. ففي وقت كان كثير من الفيزيائيين يفكرون في صرف النظر حتى عن احتمال التوصل لفهم فيزياء الجسيمات باستخدام الأساليب التي عملت بفعالية كبيرة مع الديناميكا الكهربائية الكمية، اكتشف جيلمان في عام ١٩٦١ أهمية نظرية مجموعة التناظر، التي منحته أداة رياضية لتصنيف عدد لا يحصى ولا يعد من الجسيمات الأولية الجديدة حسب سمات تناظرها. والمدهش أن جميع الجسيمات على اختلافها بدا أنها تنتمي إلى «مجموعات جسيمات» متنوعة، حسبما أطلق عليها، يمكن لكل جسيم فيها أن يتحول إلى جسيم آخر عن طريق تطبيق تحويل تناظر مرتبط بالمجموعة. تلك التناظرات تشبه عمليات الدوران التي شرحتها في موضع سابق، التي يمكنها أن تنتج أشكالًا معينة، كالمثلثات والدوائر، تبدو على نفس الصورة. في مخطط جيلمان (حسبما اكتشف بعد ذلك العديد من العلماء الآخرين من جميع أنحاء العالم كلٌّ بطريقته)، كانت الجسيمات المختلفة تنتمي إلى مجموعات تمثيلية يمكن التعبير عن خصائصها (الشحنة على سبيل المثال) بيانيًّا بحيث تشكل قمة مجسم متعدد الأسطح، وجميع الجسيمات التي تنتمي لكل مجسم يمكن حينئذٍ تحويل بعضها إلى بعض عن طريق التناظرات، التي يمكنها أن تدير المجسم في اتجاهات مختلفة.

سميت المجموعة التي اكتشف جيلمان أن بإمكانها تصنيف الجسيمات المتفاعلة بقوة باسم SU(3). كان بها بالأساس ثماني دورانات داخلية مختلفة يمكنها ربط الجسيمات في مجموعات مختلفة أشبه بالمجسمات متعددة الأسطح ذات الأحجام المتباينة، إلا أن أوضح تعبير عنها به ثمانية أعضاء. وبهذه الطريقة استطاع تصنيف كل الجسيمات المعروفة المتفاعلة بقوة أو معظمها. وابتهاجًا بنجاحه في التوصل لهذا المخطط التصنيفي (على الرغم من أنه وباقي أعضاء مجتمع الفيزياء كانوا أبعد ما يكونون عن الاقتناع بصحته، بناءً على الأدلة التي كانت متوافرة حينها) سماه «الطريق ذا الثماني طبقات»، ليس فقط بسبب الخاصية الرقمية لمجموعة SU(3)، ولكن أيضًا، على النحو المعهود من جيلمان، بسبب مقولة شهيرة لبوذا عن الطرق الثمانية لتحقيق السعادة (أو «النيرفانا»): «والآن أيها الرهبان، إليكم حقيقة نبيلة تفضي إلى توقف الآلام؛ إنها الطريق النبيل ذو الثماني طبقات، وهي: الآراء السديدة، والنية السليمة، والكلام الصادق، والعمل المتقن، والحياة الكريمة، والجهد المخلص، والاهتمام الصادق، والتركيز التام.»
عندما صنف جيلمان، والفيزيائي الإسرائيلي يوفال نعيمان، الجسيمات بهذه الطريقة، لم يمكن تصنيف مجموعة من تسعة جسيمات على هذا النحو. غير أنه كان معلومًا أن هناك تمثيلًا مكونًا من عشرة أعضاء لمجموعة التناظر SU(3) — يسمى مجموعة العشرة — أشار كلاهما بصورة مستقلة عن الآخر إلى أنه قد يكون خيارًا ملائمًا، مما أوحى بضرورة وجود جسيم آخر، لكنه لم يكتشف بعد. وسرعان ما أعلن جيلمان أن جسيمًا جديدًا كهذا لا بد أنه موجود، وأطلق عليه اسم «أوميجا-سالب»، وحدد، مستخدمًا حجج التناظر، الخصائص المتوقعة له حتى يبحث علماء الفيزياء التجريبية عنه.

من نافلة القول أنه في خضم عملية بحث احتوت على كل أنواع الدراما السنيمائية، وعندما أوشك جميع المجربين على رفع الراية البيضاء، اكتشفوا فجأة جسيم جيلمان، وكان يحمل بالضبط الخصائص التي تنبَّأ بها، بما فيها شذوذه، وكتلة في نطاق خطأ لا يزيد عن ١ بالمائة مما تنبأ به جيلمان! وهكذا لم تثبت صحة الطريق ذي الثماني طبقات فحسب، بل إنه ازدهر أيضًا!

في اليوم التالي لاكتشاف أوميجا-سالب على يد التجريبيين في نهاية شهر يناير عام ١٩٦٤، ظهر بحث كتبه جيلمان بدورية الفيزياء العلمية الأوروبية «فيزيكس ليترز». كان قد قرر أن تنبؤه العجيب لن ينجح في المرور لو عرض على المحكمين المتشددين بدورية «فيزيكال ريفيو» الأمريكية.

ولم يغب عن فطنة جيلمان، وآخرين غيره كذلك، أن الرقم ٣ في اسم المجموعة SU(3) ربما كانت له أهمية فيزيائية. كان من الممكن فعليًّا تكوين مجموعات الجسيمات ذات العناصر الثمانية في المجموعة SU(3) من خلال توليفات ملائمة لثلاث نسخ من تمثيل أصغر لمجموعة التناظر؛ يسمى التمثيل الأساسي، الذي يحتوي على ثلاثة عناصر. فهل كان من الممكن أن تكون تلك العناصر الثلاثة مقابلة بشكل أو بآخر للجسيمات الأولية؟

كانت المشكلة أنه لو كانت جسيمات متفاعلة بقوة مثل البروتونات مصنوعة من ثلاثة مكونات فرعية، فإن تلك المكونات الفرعية لا بد أن يكون لها بصفة عامة، بالنسبة والتناسب، شحنة كهربية جزئية. ولكن إحدى السمات المميزة لعلم الفيزياء أن جميع الجسيمات المرصودة لها شحنات كهربية هي المجموع التكاملي لشحنة الإلكترون والبروتون (ولهما شحنتان متساويتان ومتضادتان). ولم يكن أحد يعلم سبب ذلك، وما زلنا لا نعلم السبب حتى الآن إلى حد ما. ولكن هذا كان من الثوابت التي يبدو أن الطبيعة تفرضها فرضًا.

مع ذلك، وبعد عام أو نحوه من النقاش والريبة، زاد من حدتهما اكتشاف سطر رائع في رواية جيمس جويس «صحوة فينيجان»، يقول: «ثلاثة كواركات لماستر مارك»، كتب جيلمان بحثًا قصيرًا من صفحتين اثنتين يقترح فيه أن الطريق ذي الثماني طبقات باعتباره تصنيفًا جذريًّا لجميع الجسيمات المتفاعلة بقوة يتصف بمنطق رياضي لو أن المكونات الأساسية لهذا المخطط كانت ثلاثة أجسام مختلفة يحمل كل منها شحنة كهربية جزئية، وهي الأجسام التي أطلق عليها اسم «الكواركات».

كان جيلمان متحفظًا في طرح فكرة وجود مجموعة جديدة تمامًا من الجسيمات الغريبة، التي من المحتمل أن تكون مضحكة، فبحلول ذلك الوقت كانت المعرفة التقليدية في أوساط مجتمع الفيزياء قد مالت نحو فكرة أن الجسيمات الأساسية ذاتها ربما كانت غير مدركة بشكل سليم، وأن جميع الجسيمات الأولية ربما كانت مصنوعة من توليفات من جسيمات أولية أخرى، فيما أطلق عليه نوع من «الديمقراطية النووية». ولهذا كان جيلمان حريصًا على الزعم بأن تلك الأجسام، التي أطلق عليها أسماء كواركات «علوية» و«سفلية» و«غريبة»، ربما تكون بمنزلة عمليات تحديد رياضي منمقة تتيح لنا إجراء الحسابات بكفاءة.

جدير بالذكر أن أحد طلبة السنة النهائية السابقين بكالتك وكان تلميذًا لفاينمان، واسمه جورج سويج، وصار في ذلك الوقت باحثًا بعد الدكتوراه في سيرن، وهو معمل المعجل الأوروبي، أتم طرحًا مشابهًا تمامًا، قُدم بتفصيل أعمق كثيرًا، وفي نفس الوقت تقريبًا. ليس هذا فحسب بل إن سويج كان أكثر استعدادًا بكثير لأن يقول إن تلك الأجسام الجديدة التي تحمل نسبة من الشحنة، والتي أطلق هو عليها اسم «الآسات»، حقيقية. وعندما شاهد بحث جيلمان القصير منشورًا، سعى مسرعًا لنشر بحثه المكون من ثمانين صفحة في دورية «فيزيكال ريفيو». غير أن جيلمان كان أكثر منه حكمة، ولم يتمكن سويج مطلقًا من نشر عمله في تلك الدورية المحافظة.

ومن نافلة القول أنه بفضل السلسلة الخارقة من تسميات جيلمان، بداية من V-A، وحتى أوميجا-سالب، كان من المحتم أن يتفوق اسم «الكواركات» على اسم «الآسات». لكن هذا لا يعني أن مجتمع الفيزياء تفاعل مع اقتراح جيلمان بحماس، وإنما استقبله بفتور من يُنبَّأ بحمل غير مرغوب فيه. فعلى أي حال، أين كانت تلك الجسيمات التي تحمل شحنة جزئية من قبل؟ فعمليات البحث الدءوب في كل شيء من بيانات المعجلات وحتى باطن أصداف المحار لم تسفر عن شيء. ومن ثم، فإنه حتى بعد أن مجدت صحيفة «نيويورك تايمز» الكواركات في مقال نشر عام ١٩٦٧، نقل عن جيلمان قوله إنه من المحتمل أن يتبين أن الكوارك ليس سوى محض «تلفيق رياضي مفيد».

وهكذا جاء عام ١٩٦٧، عندما قرر فاينمان أخيرًا العودة إلى حبه الأول، فيزياء الجسيمات، حتى يرى ما يمكنه التعامل معه من مشكلات مثيرة. وعلى الرغم من أنه كتب كلمات مجاملة لجيلمان في مقال نشرته صحيفة «تايمز»، فإنه لم يظهر حماسًا كبيرًا تجاه البحث الذي قام به جيلمان طيلة السنوات الخمس السابقة من أجل دفع ميدانه للأمام. كان شديد الانتقاد لاكتشاف أوميجا-سالب، وبدت الكواركات غير مثيرة، حتى إنه عندما طرح تلميذه السابق سويج فكرة الآسات، لم يظهر فاينمان أي حماس للفكرة أيضًا. لقد اعتبر أن جهود العلماء النظريين لالتماس الراحة في التحدث بلغة نظرية المجموعة أشبه بعكاز للاستعاضة عن الفهم الحقيقي. وكان وصفه لأسلوب الفيزيائيين لتكرار أنفسهم مستخدمين لغة الرياضيات بأنه أشبه «بحديث الأطفال، عندما يقولون بوو-بوو».

ومع أنه يجوز لنا أن نرتاب في أن ردود أفعال فاينمان كانت مشوبة بالحسد، فإن الاحتمال الأرجح أن ريبته الفطرية كانت مجتمعة مع عدم اهتمامه الأساسي بما كان علماء الفيزياء النظرية الآخرون يفكرون فيه. لهذا كان يعتنق بشدة فكرة أن بيانات التفاعل القوي كانت محيرة للغاية بحيث لا يمكنها أن تسمح بتفسير نظري نخرج منه بشيء، وكان قد عزم على تحاشي جميع الصراعات النظرية الفاشلة التي سادت فترة الستينيات، ومن بينها فكرة الديمقراطية النووية وتعارضها مع الجسيمات الأساسية. كان يجد متعته في حل المسائل بنفسه. وعلى حد قوله في ذلك الوقت، متبعًا مبدأ «التجاهل» الذي اعتنقه بعد فوزه بجائزة نوبل: «ليس علي إلا أن أفسر الظواهر المنتظمة للطبيعة، ولست ملزمًا بتفسير أساليب أصدقائي.» ومع ذلك فقد بدأ من جديد في تدريس منهج في فيزياء الجسيمات، وكان هذا يعني عودته إلى ذلك الميدان. ومن منظور فاينمان، يعني هذا العودة إلى دقائق البيانات التجريبية.

تبين أن هذا كان هو الوقت المناسب للقيام بذلك. فقد ظهر معجل جسيمات جديد في شمال كاليفورنيا، بالقرب من ستانفورد، وهكذا لم يكن بعيدًا جدًّا عن كالتك. كان هذا المعجل الجديد مبنيًّا بتقنية مختلفة لاستكشاف الجسيمات المتفاعلة بقوة. فبدلًا من ضرب تلك الجسيمات بعضها ببعض ومتابعة ما يحدث جرَّاء ذلك، كانت ماكينة «سلاك»، حسبما أطلق عليها بعد ذلك، تعجل الإلكترونات على مسار طوله ميلان وتجعلها تصطدم بالأنوية. ولما كانت الإلكترونات لا تشعر بالقوة القوية، فقد أمكن للعلماء قراءة عمليات اصطدامها بسهولة أكبر، دون أن تعوقهم ألغاز التفاعل القوي. وبهذه الطريقة كانوا يأملون في سبر غور النواة مثلما فعل إرنست رذرفورد قبل ذلك بخمس وسبعين عامًا عندما اكتشف وجود النواة عن طريق تصويب الإلكترونات نحو الذرات. وفي صيف عام ١٩٦٨، قرَّرَ فاينمان زيارة معجل «سلاك» أثناء رحلة لزيارة شقيقته ومعرفة ما يحدث هناك بنفسه.

كان فاينمان يفكِّر بالفعل في كيفية التوصل لمنطق يفسر البيانات التجريبية بشأن الجسيمات المتفاعلة بقوة، وأرى أنه كان متأثرًا بعمله في مجال الهيليوم السائل. ولعلك تتذكر أنه كان قد حاول فهم أسلوب تصرف المنظومة الكثيفة من الذرات والإلكترونات داخل سائل ما عند درجات الحرارة المنخفضة وكأن الذرات ليست في حالة تفاعل بعضها مع بعض.

ثمة سلوك مشابه إلى حد ما أشارت إليه نتائج التجارب المبكرة التي تضمَّنت تبعثرًا معقدًا للجسيمات المتفاعلة بقوة عند اصطدام بعضها ببعض. وعلى الرغم من تردده في تفسير البيانات باستخدام نظرية أساسية ما، أو ربما بسبب ذلك التردد، أدرك فاينمان أن باستطاعته تفسير بعض السمات العامة دون الرجوع لأي نموذج نظري تفصيلي معين. وكان من بين آثار نتائج التجارب أن عمليات التصادم حدثت في الغالب داخل نطاق الجسيمات التي اشتركت فيها، كالبروتونات، وليس عند نطاقات أصغر من ذلك. وقد استنتج أنه لو كانت البروتونات بها مكونات داخلية، لما أمكن لتلك المكونات أن تتفاعل بقوة بعضها مع بعض عند مقاييس أصغر، وإلا لظهر ذلك واضحًا في بيانات النتائج. لذا، يمكن للمرء أن يختار تخيل الجسيمات المتفاعلة بقوة، أو «الهادرونات»، حسب الاسم الذي أطلق عليها، باستخدام نموذج للعبة أطفال بسيطة: صندوق مليء بالمكونات، أطلق عليها اسم «بارتونات»، لا تتفاعل فيما بينها بقوة عند نطاقات صغرى لكنها بشكل أو بآخر مقيدة بأن تبقى في نطاق الهادرونات.

كانت الفكرة هي ما نسميه «التفسير الظاهري للأشياء»؛ بالتحديد، كانت مجرد وسيلة لفهم البيانات، لمعرفة هل بإمكان المرء سبر غور ركام الجسيمات بحثًا عن عناصر انسجام، من أجل التوصل لبعض الأدلة التي تفتح لنا طريقًا نحو قوانين فيزيائية أساسية، مثلما فعلت من قبل الصورة التي قدمها فاينمان للهيليوم السائل. وبطبيعة الحال، كان فاينمان يعلم بأمر كواركات جيلمان وآسات سويج، لكنه لم يكن يسعى لإنتاج فهم أساسي عظيم إلى حد ما للهادرونات؛ لقد أراد ببساطة فهم كيف يمكن استخلاص بعض المعلومات المفيدة من التجارب. وهكذا، لم يبذل فاينمان أي جهد لربط صورة البارتون التي قدمها بجسيماتهما.

أدرك فاينمان عيوب الصورة التي قدمها، واختلافها عن البناء الطبيعي للنموذج. وعلى حد قوله في أول أبحاثه عن هذا الموضوع: «نشأت تلك المقترحات في الدراسات النظرية من عدة اتجاهات وهي لا تمثل نتيجة للتفكير في أي نموذج بعينه. إنها استخلاص للسمات التي توحي بها النسبية وميكانيكا الكم وبعض الحقائق العملية، بصورة تكاد تكون مستقلة عن أي نموذج.»

على أي حال، أتاحت له الصورة التي ابتكرها التفكير في عملية تجنبها أغلب علماء الفيزياء، الذين كانوا يحاولون تفسير البيانات باستخدام نموذج أساسي. هؤلاء العلماء ركزوا على أبسط الاحتمالات جميعًا، وفيها يدخل جسيمان في تصادم ويخرج جسيمان من المنطقة. إلا أن فاينمان أدرك أن هذه الصورة المبسطة من الممكن أن تسمح له بالتنقيب عن عمليات أكثر تعقيدًا من ذلك. وفي تلك العمليات، لو أجرى المجربون عملية تصادم مباشرة بين الهادرونات بعضها وبعض باستخدام قدر كافٍ من الطاقة بحيث ينتج عن هذا كمية كبيرة من الجسيمات، فإن بإمكانهم حينئذٍ أن يأملوا في قياس طاقة وزخم بعض الجسيمات الخارجة على الأقل. وقد يعتقد المرء أنهم في تلك الحالة لن يحصلوا على الكثير من المعلومات المفيدة. غير أن فاينمان زعم، وقد حفزته صورة البارتونات التي ابتكرها، أن تلك العمليات، التي سماها «العمليات الضمنية»، قد تكون جديرة بالفعل بالتفكير فيها ووضعها في الاعتبار.

لقد أدرك أنه عند الطاقات العالية جدًّا، يمكن لتأثير النسبية أن يجعل كل جسيم، في إطار الجسيم الآخر، يبدو وكأنه «فطيرة»؛ لأن الأطوال تتقلص على امتداد اتجاه الحركة. علاوة على ذلك، فإن تأثيرات تمدد الزمن سيكون معناها أن تبدو الحركات الجانبية لكل بارتون على حدة حول تلك الفطيرة وكأنها تتباطأ إلى حد الثبات في مكانها. وهكذا من الممكن أن يبدو كل هادرون، بالنسبة للهادرونات الأخرى، وكأنه مجموعة من الجسيمات الأشبه بالنقطة الموجودة في حالة سكون داخل الفطيرة. إذن، بافتراض أن التصادم اللاحق سوف يشترك فيه أحد البارتونات من كل فطيرة في حالة تصادم، وتمر باقي الهادرونات ببساطة بعضها من خلال البعض الآخر، يمكن للفيزيائيين فهم العمليات الضمنية التي يقاس فيها جسيم واحد فقط خارج من التصادم قياسًا تفصيليًّا، وتتطاير بقية الجسيمات ولا تسجل لتوزيعها سوى سمات عامة فقط. وطرح فاينمان فكرة أنه لو كانت هذه الصورة للتصادم صحيحة، فإن كميات معينة خاضعة للقياس، مثل زخم الجسيم الخارج المقاس في اتجاه الشعاع الحادث، لا بد أن يكون لها توزيع بسيط.

يشتهر لوي باستير بمقولته: «الحظ الطيب منحة لا يتلقاها إلا صاحب العقل المتأهب.» وكان عقل فاينمان متأهبًا تمامًا عندما زار «سلاك» عام ١٩٦٨. كان العلماء التجريبيون هناك عاكفين على تحليل البيانات التي بين أيديهم، وكانت أولى البيانات التي تخرج عن الإلكترونات عالية الطاقة التي تتبعثر عند اصطدامها بأهداف من البروتونات، محدثة رذاذًا هائلًا من الجسيمات الخارجة، وفق أطروحة لعالم نظري شاب كان يعمل هناك اسمه جيمس بيوركن، ومعروف عالميًّا باسم «بي جيه». كان بيوركن عالمًا نظريًّا عبقريًّا صاحب عزيمة لطيف المعشر كثيرًا ما يتحدث بلغة غير مألوفة، لكن استنتاجاته كانت جديرة بالإنصات إليها. وكان في سلاك في ذلك الوقت.

بيَّن بيوركن عام ١٩٦٧، مستعينًا بأفكار تفصيلية من نظرية المجال، وكثير منها نشأ أصلًا من فكر جيلمان، أنه لو اكتفى المجربون فقط بقياس خصائص الإلكترونات الخارجة من تلك التصادمات، لوجدوا عناصر انتظام في توزيعها ستكون مختلفة تمامًا لو كان البروتون مكونًا من مكونين أشبه بالنقطة عما لو لم يكن الحال كذلك. وأطلق على عناصر الانتظام تلك اسم «خصائص القياس».

وعلى الرغم من أن العلماء التجريبيين المشتركين في تجارب سلاك لم يفهموا بحق التبرير النظري التفصيلي لفرضية بيوركن للقياس، فإن مقترحاته زودتهم بالفعل بأسلوب نافع في تحليل بياناتهم، وهكذا بدءوا في التحليل. والعجيب أن البيانات توافقت مع تنبؤاته. إلا أن هذا الاتفاق لم يضمن صحة افتراضات بيوركن المبهمة إلى حد ما. فلعل آليات أخرى يمكنها إحداث نفس التأثيرات.

عندما زار فاينمان سلاك كان بيوركن خارج المدينة، فتحدث مع العلماء التجريبيين مباشرةً، الذين أعطوه بالطبع فهمًا أفضل للنتائج من حيث سبب وكيفية اشتقاق بيوركن لها. ولما كان قد فكَّر من قبل بالفعل في التصادمات الأكثر تعقيدًا للهادرونات بعضها ببعض، أدرك فاينمان أن تصادمات الإلكترون بالبروتون ربما كانت أيسر في تحليلها، وأن القياس المرصود ربما كان له تفسير فيزيائي بسيط من زاوية البروتونات.

في ذلك المساء، كانت النشوة تملؤه بعد ذهابه إلى حانة تعرٍّ (لا يزال هناك بعض الجدل حول هذا الأمر)، وعندما عاد إلى غرفته بالفندق، تمكن من إيضاح أن سلوك القياس كان تفسيره في واقع الأمر بسيطًا: في الإطار المرجعي الذي بدا فيه البروتون أشبه بفطيرة في أعين الإلكترونات الوافدة، لو أن الإلكترونات ارتدت من كل بارتون على حدة، وكان كل منها مستقلًّا عن البقية بصفة أساسية، فإن دالة القياس التي اشتقها بي جيه يمكن فهمها على أنها ببساطة احتمالية العثور على بارتون ذي زخم معلوم داخل البروتون، وزنه يساوي مربع الشحنة الكهربية الموجودة على ذلك البارتون!

كان هذا تفسيرًا أمكن للتجريبيين فهمه، وعندما عاد بي جيه من رحلة تسلق الجبال إلى سلاك، كان فاينمان لا يزال هناك فسعى للالتقاء ببي جيه كي يطرح عليه مجموعة من الأسئلة حول ما كان يعلمه وما لم يكن يعلمه. ويتذكر بي جيه جيدًا اللغة التي استخدمها فاينمان، وكيف كانت مختلفة عن الأسلوب الذي كان يفكر هو به في الأمور. وقد قال عن ذلك لاحقًا: «لقد كانت لغة سهلة، مغوية، يمكن للجميع أن يفهموها. ولم يستغرق الأمر وقتًا على الإطلاق حتى بدأت عربة نموذج البارتون في التحرك.»

من نافلة القول أن فاينمان كان راضيًا ومنفعلًا في آن واحد لشعوره بقدرة صورته البسيطة على تفسير البيانات الجديدة. أدرك هو وبي جيه أيضًا أنه من الممكن استخدام أدوات استكشاف أخرى للبروتونات للحصول على معلومات مكملة عن تركيب البروتونات باستخدام الجسيمات التي تتفاعل ليس بطريقة كهرومغناطيسية مع البارتونات، وإنما عن طريق التفاعل الضعيف، وهي النيوترينوات. وعاد فاينمان من جديد إلى قلب نشاط الميدان، وفي ذلك الوقت نشر أول أبحاثه حول الفكرة، بعد توصله إليها بعدة أعوام، وكان تحليل «التشتت العميق غير المرن»، وهو الاسم الذي صار يطلق عليه، هو محور تركيز النشاط بأسره.

بطبيعة الحال، صارت الأسئلة المحورية عندئذ هي: هل البارتونات حقيقة واقعة؟ وإذا كانت كذلك، فهل البارتونات هي الكواركات؟ وأدرك فاينمان أن الإجابة عن السؤال الأول إجابةً كاملةً عسيرةٌ، مع العلم بالبساطة المتناهية لنموذجه واحتمال أن تكون الظواهر الفيزيائية الفعلية أكثر تعقيدًا من ذلك. وبعدها بسنوات، وفي كتاب نشره حول ذلك الموضوع، ذكر مخاوفه صراحةً قائلًا: «جدير بالذكر أنه حتى إذا كان ما في جعبتنا من أوراق سيكتب له البقاء وستثبت صحته، فإننا مع ذلك لم نبرهن بعد على وجود البارتونات … سوف تكون البارتونات دليلًا نفسيًّا مفيدًا من حيث العلاقات التي علينا أن نتوقَّعَها، وإذا استمرت تؤدي ذلك الدور في إنتاج توقعات أخرى صائبة فلسوف تبدأ بالطبع في التحول إلى شيء واقعي، وربما كان واقعيًّا بنفس قدر أي بنيان نظري آخر ابتُكِر لوصف الطبيعة.»

أما السؤال الثاني، فكانت صعوبته مضاعفة؛ أولًا: استغرق الأمر بعض الوقت، وسط ذلك المناخ الذي كان فيه الانحياز النظري العام معارضًا للجسيمات الأساسية، قبل أن يبدأ الناس إظهار استعدادهم لمناقشته بجدية. وثانيًا: حتى إذا كانت البارتونات تمثل الكواركات، فلِمَ لمْ تفصح عن نفسها بوضوح، كي يراها الجميع، وتنطلق من التصادمات عالية الطاقة؟

إلا أنه مع ذلك وبمرور الوقت تمكَّن الفيزيائيون مستعينين بالصياغة التي ابتكرها فاينمان من استخلاص خصائص البارتونات من واقع البيانات، ويا للعجب، صارت الشحنات النسبية على تلك الأجسام واضحة للعيان. وبحلول أولى سنوات السبعينيات صار فاينمان مقتنعًا بأن البارتونات تحمل جميع خصائص كواركات جيلمان الافتراضية (وآسات سويج)، ومع ذلك استمر يتحدث بلغة البارتون (ربما كي يثير ضيق جيلمان). أما جيلمان فمن ناحيته حول نقده، الذي كان يقول فيه إنه ليس مستعدًّا لأن يصدق بواقعية الكواركات، إلى السخرية من صورة فاينمان المبسطة. وفي نهاية المطاف، ولأن الكواركات جاءت من نموذج أساسي، تحول عالم الفيزياء خلال سنوات السبعينيات من صورة البارتون للبروتونات إلى صورة الكوارك.

لكن أين كان يمكن العثور على الكواركات؟ ولماذا كانت مختبئة داخل البروتونات، ولم يعثر عليها متوارية في أي مكان آخر؟ ولماذا كانت تسلك سلوك الجسيمات الحرة داخل البروتونات عندما كان التفاعل القوي الذي يحكم التصادمات بين البروتونات بعضها وبعض، ومن ثم بين الكواركات بعضها وبعض، هو أقوى قوة معروفة في الطبيعة؟

الجدير بالملاحظة أنه في غضون فترة خمس سنوات، لم يكتف العلماء بالإجابة عن تلك التساؤلات حول القوة القوية بشكل أساسي وحسب، وإنما تمكَّن علماء الفيزياء النظرية كذلك من التوصل لفهم أساسي لطبيعة القوة الضعيفة أيضًا! وبعد مرور عقد من الزمان على بدء ذلك الارتباك، فُهِمت بصورة أساسية ثلاث من القوى الأربع المعلومة في الطبيعة. ولعل أهم ما في الموضوع، وهو أمر لا يزال على الأرجح من أقل الأمور التي تطرح على الملأ، أن ثورات نظرية في تاريخ فهمنا الأساسي للطبيعة قد اكتملت إلى حد بعيد. وفاز علماء الفيزياء التجريبيون في معجل «سلاك»، الذين سبق أن اكتشفوا مسألة «التدريج»، ومن ثم اكتشفوا الكواركات، بجائزة نوبل عام ١٩٩٠، وفاز العلماء النظريون الذين ابتكروا «النموذج القياسي» الحالي للقوى الضعيفة والقوية بجوائز نوبل أعوام ١٩٧٩ و١٩٩٧ و٢٠٠٤.

•••

لا بد لنا أن ننوه بإعجاب إلى أن أبحاث فاينمان، سواء خلال تلك الفترة أو خلال فترة السنوات الخمس التي سبقتها، ساعدت بقدر كبير ومباشر على جعل هذه الثورة أمرًا ممكنًا. فخلال تلك المسيرة، ودون قصد منه، وربما حتى دون تقدير تام على الإطلاق للنتائج، أسهمت أعمال فاينمان في التوصل لفهم جديد لطبيعة الحقيقة العلمية. وكان معنى ذلك من ثم أن عمله الخاص في مجال الديناميكا الكهربائية الكمية لم يكن محض حدس فطري وإنما قدم فهمًا فيزيائيًّا حديثًا وجوهريًّا في الوقت نفسه للسبب الذي جعل النظريات المعقولة عن الطبيعة عند المقاييس القابلة للقياس تعطي نتائج ذات قيم محددة.

تبدأ قصة كيفية حدوث كل ذلك، بالمصادفة، بعمل أنجزه جيلمان مع زميله فرانسيس لو بإلينوي عامي ١٩٥٣-١٩٥٤. استنتج بحثهما، الذي أبهر فاينمان عند زيارة جيلمان لكالتك لأول مرة، أن المقدار الفعال للشحنة الكهربية الموجودة على الإلكترونات يتباين تبعًا للحجم، فهو يزداد مع اقتراب المرء من سحابة أزواج الإلكترونات-البوزيترونات الافتراضية التي تصنع درعًا واقيًا للشحنة، واختراقها.

وفي موقع يقع إلى الشرق قليلًا من ذلك المكان، وفي صيف عام ١٩٥٤، نشر فرانك يانج وزميله بالمكتب روبرت ميلز بمختبر بروكهافن بلونج أيلاند — وقد حفزهما نجاح الديناميكا الكهربائية الكمية في تفسير الطبيعة — بحثًا افترضا فيه تعميمًا محتملًا للنظرية اعتقدا أنه من الممكن أن يكون ملائمًا لفهم القوى النووية القوية.

في الديناميكا الكهربائية الكمية، تنتشر القوة الكهرومغناطيسية عن طريق تبادل جسيمات لا كتلة لها، وهي الفوتونات. ويكون شكل معادلات التفاعل الكهرومغناطيسي مقيدًا بشدة بتناظر يطلق عليه التناظر المعياري، الذي يضمن بصفة أساسية أن يكون الفوتون بلا كتلة، ومن ثم يكون التفاعل طويل المدى، كما أوضحت من قبل. لاحظ أنه في الكهرومغناطيسية، تقترن الفوتونات بالشحنات الكهربية، في حين أن الفوتونات نفسها تكون متعادلة كهربيًّا.

اقترح يانج وميلز نسخة أكثر تعقيدًا من الثبات المعياري وفيه يمكن تبادل أنواع مختلفة عديدة من «الفوتونات» بين أنواع عديدة من «الشحنات»، بل إن بعض الفوتونات نفسها يمكن شحنها، وهو ما يعني أنه من الممكن أن تتفاعل مع نفسها ومع الفوتونات الأخرى. كانت تناظرات معادلات يانج-ميلز الجديدة، حسبما صار يطلق عليها، تجمع بين كونها خلابة وموحية في آن واحد. لم يبد مثلًا أن القوة القوية تميز بين البروتونات والنيوترونات، ولهذا كان ابتكار تناظر ما بينها، علاوة على جسيم مشحون أشبه بالفوتون يمكنه إلى حد ما أن يجتمع مع آخر أو يتحول إليه، أمرًا له شيء من المنطق الفيزيائي. علاوة على ذلك، اعتمد النجاح في التخلص من قيم ما لانهاية في الديناميكا الكهربائية الكمية بصفة أساسية على التناظر المعياري لتلك النظرية، وبهذا كان استخدامه كأساس لنظرية جديدة أمرًا يبدو منطقيًّا.

كانت المشكلة أن التناظر المعياري للمعادلات الجديدة يتطلب بصفة عامة أن تكون الفوتونات الجديدة بلا كتلة، ولكن لأن التفاعلات القوية قصيرة المدى، ولا تعمل إلا على نطاقات نووية فحسب، فإنها من الناحية التطبيقية لا بد أن تكون ذات كتلة. ولم يكن لديهما أدنى فكرة عن كيفية حدوث ذلك، لهذا لم يكن بحثهما في حقيقة الأمر نموذجًا وإنما كان أقرب إلى الفكرة.

وعلى الرغم من تلك المشكلات، فقد استمر مؤيدو هذه الفكرة، من أمثال جوليان شفينجر وموراي جيلمان، في العودة إلى فكرة نظريات يانج-ميلز خلال عقدي الخمسينيات والستينيات لأنهم شعروا أن بنيانها الرياضي ربما كان يقدم لهم أساسًا لفهم القوة الضعيفة أو القوية، أو كليهما معًا. ومن المثير أنه يمكن التعبير عن تناظرات المجموعة ليانج-ميلز باستخدام نفس النوع من لغة نظرية المجموعة التي استخدمها جيلمان لاحقًا كطريقة لتصنيف الجسيمات المتفاعلة بقوة.

كلف شفينجر طالب الدراسات العليا الذي يعمل تحت إشرافه، شيلدون جلاشو، بمهمة التفكير في نوع بنيان المجموعة وأي نوع من نظريات يانج-ميلز يمكنه وصف التناظرات المرتبطة بالتفاعل الضعيف. وفي عام ١٩٦١، لم يكتفِ جلاشو بالعثور على التناظر المرشح لذلك، وإنما أوضح أيضًا بصورة تستحق الإعجاب أنه يمكن الجمع بينه وبين التناظر المعياري في الديناميكا الكهربائية الكمية لإنتاج نموذج نتج فيه كل من التفاعل الضعيف والتفاعل الكهرومغناطيسي من نفس مجموعة التناظرات المعيارية، وأنه في هذا النموذج يكون فوتون الديناميكا الكهربائية الكمية مصحوبًا بثلاثة بوزونات معيار أخرى، حسبما صار يطلق على ذلك النوع الجديد من الفوتونات. كانت المشكلة أن التفاعل الضعيف، مرة أخرى، ذو مدى قصير، في حين كانت الكهرومغناطيسية ذات مدى طويل، ولم يشرح جلاشو كيف يمكن استيعاب هذا الفارق. وفي اللحظة التي يمنح المرء فيها كتلًا للجسيمات الجديدة، يختفي التناظر المعياري، ويختفي معه جمال النموذج وتماسكه الرياضي المحتمل.

كان جزء من المشكلة أنه لم يكن هناك أحد يعلم على وجه اليقين كيفية تحويل نظريات يانج-ميلز إلى نظريات مجال كم تامة الاتساق مثلما هو الحال مع الديناميكا الكهربائية الكمية. كانت الرياضيات أكثر صعوبة، ولم يكن هناك حافز للاضطلاع بتلك المهمة. ثم ظهر ريتشارد فاينمان. عندما شرع لأول مرة في العمل في موضوع الجاذبية باعتبارها نظرية كم، كانت المسائل الرياضية شديدة الوعورة حتى إنه توجَّه إلى جيلمان طلبًا للمشورة. اقترح جيلمان أن يبدأ أولًا بحل مسألة أبسط. فأخبر فاينمان عن نظريات يانج-ميلز وزعم أن التناظرات المتأصلة في تلك النظريات مشابهة تمامًا لتلك المرتبطة بنظرية النسبية العامة، وإن كانت أقل إثارة للفزع.

اتبع فاينمان نصيحة جيلمان وحلَّل الخصائص الكمية لنظريات يانج-ميلز وتوصل إلى عدد من الاكتشافات الرئيسية، التي لم يدوِّنْها بالتفصيل إلا بعد ذلك بسنوات. وتحديدًا، اكتشف مثلًا أنه لكي نحصل على قواعد فاينمان متماسكة لنظرية الكم، ينبغي إضافة جسيم تخيلي للحلقات الداخلية كي نجعل الاحتمالات تعمل بطريقة صحيحة. وبعدها بعامين أعاد عالما الفيزياء الروسيان لودفيج فاديف وفيكتور بوبوف اكتشاف هذا الأمر، وصارت الجسيمات الآن تعرف باسم «بوزونات فاديف-بوبوف الشبحية». علاوة على ذلك، اكتشف فاينمان أيضًا نظرية عامة جديدة عن مخططات فاينمان في نظريات مجال الكم؛ إذ ربط بين المخططات ذات حلقات الجسيمات الافتراضية الداخلية وبين تلك التي لا حلقات لها.

تبين أن طرق فاينمان لفهم نظريات يانج-ميلز المكممة كانت ذات أهمية محورية في التطورات الرئيسية التي وقعت في علم الفيزياء في نهاية العقد؛ فأولًا، أعاد ستيفن واينبرج اكتشاف نموذج جلاشو للتوحيد الكهربي الضعيف، حسبما أطلق عليه، في سياق نظرية معينة وأكثر واقعية من نظريات يانج-ميلز، حيث أمكن للبوزونات الضعيفة، من حيث المبدأ، أن تبدأ بكتلة مقدارها صفر — فتحافظ على التناظر المعياري — ثم تنشأ كتلتها لاحقًا، تلقائيًّا، نتيجة لديناميكا النظرية.

كان هذا حلًّا جميلًا محتملًا لمشكلة إيجاد نظرية للتفاعل الضعيف. غير أنه بقيت مشكلة. هل النظرية «قابلة لإعادة التطبيع»؟ أو تحديدًا، هل يمكن لشخص ما أن يبين، مثلما فعل فاينمان أو شفينجر أو توموناجا في الديناميكا الكهربائية الكمية، أن جميع القيم اللانهائية يمكن التخلص منها بكفاءة عند التنبؤ بالكميات الفيزيائية؟ في عام ١٩٧٢، قدم طالب هولندي اسمه جيرارت هوفت في الدراسات العليا مع المشرف على رسالته مارتينوس فيلتمان، معتمدين على وسائل فاينمان للحساب الكمي لتلك النظريات، الإجابة، وكانت: نعم. فجأة صارت نظرية جلاشو-واينبرج مثيرة للاهتمام! وخلال السنوات الخمس التالية بدأت التجارب تزود العلماء بأدلة على صحة النظرية، بما فيها الحاجة إلى ثلاثة بوزونات جديدة من المعيار الثقيل، وفي عام ١٩٨٤، في مؤتمر سيرن اكتُشفت تلك البوزونات الثقيلة. وكان من نتاج كل تلك التطورات التي حدثت في ميدان الفيزياء أن مُنحت جوائز نوبل لكوكبة من العلماء: جلاشو وواينبرج وعبد السلام؛ الذي أجرى أبحاثًا مشابهة لأبحاثهما، وهوفت وفيلتمان، ولعلماء الفيزياء التجريبيين الذين اكتشفوا البوزونات الضعيفة.

صار لدى علماء الفيزياء النظرية الآن نظريات رائعة وأصيلة للتفاعلات الضعيفة والكهرومغناطيسية ولكن ظل التفاعل القوي محيرًا. وبدت نظرية أكثر تعقيدًا ليانج-ميلز — ارتبطت بنفس مجموعة التناظر التي استخدمها جيلمان في تصنيف الكواركات، وهي مجموعة SU(3) — واعدة. وفي هذه الحالة لم يعد الرقم «٣» مناظرًا ﻟ «نكهات» الكواركات المختلفة — أي الكواركات العلوية والسفلية والغريبة — وإنما صار يناظر رقمًا كموميًّا داخليًّا جديدًا يسمى «اللون». وبدا أن هذه النظرية قادرة على وصف السمات الظواهرية للأسلوب الذي ربما تجتمع به الكواركات معًا كي تشكل الهادرونات. وفي تشبيه بميدان الديناميكا الكهربائية الكمية، سمي هذا الميدان «الديناميكا اللونية الكمية». غير أنه من جديد كان التفاعل القوي قصير المدى، على نحو يبدو معه أنه بحاجة إلى بوزونات ضخمة.

لكن الأهم، كيف يمكن لقوة جديدة قوية أن تفسر حقيقة أن الأجسام داخل البروتونات، سواءٌ سمَّاها المرء بارتونات أو كواركات، تتصرَّف كما لو كانت لا تتفاعل معًا؟ وجاءت الإجابة في غضون عام واحد، وكانت تعود إلى نتائج توصل إليها جيلمان ولو خاصة بتقوية القيمة الفعالة للشحنة الكهربية للإلكترونات على المقاييس الصغيرة.

في عام ١٩٧٣، وفي وقت بدا فيه سهم نظرية مجال الكم آخذًا في الارتفاع، في أعقاب التقدم الذي حدث في النظرية الكهروضعيفة، قرَّر عالم نظري شاب من برينستون — كان فيما مضى قد فُطِم في بيركلي على نماذج الديمقراطية النووية، التي تزعم أن الجسيمات والمجالات تمثِّل الطريق الخاطئ نحو فهم التفاعلات القوية — الإجهاز على النظرية الوحيدة المتبقية التي لا تزال تمثل الأمل في تفسير التفاعل القوي. قرر ديفيد جروس وتلميذه النابغة فرانك ويلكزيك فحص سلوك المسافة القصيرة لنظريات يانج-ميلز، والديناميكا اللونية الكمية تحديدًا، بهدف بيان أن المقدار الفعال من «شحنات اللون» في الديناميكا اللونية الكمية سوف يزداد حجمًا فيما يبدو، مثلما هو الحال في الديناميكا الكهربائية الكمية، عند المسافات القصيرة، نتيجة لعملية مسح من قبل جسيمات افتراضية عند المسافات الأطول. ولو صح ذلك، فلن يكون هناك أي أمل في التوصل لنظرية الديناميكا اللونية الكمية كهذه كي تفسر نتائج قياس معجل سلاك التي عرضها فاينمان وبي جيه. وبدوافع مختلفة، كان أحد طلاب الدراسات العليا بهارفارد، وهو من تلامذة سيدني كولمان واسمه ديفيد بوليتزر، يبحث مستقلًّا هو أيضًا في خصائص «التدريج» للديناميكا اللونية الكمية.

ولدهشة العلماء الثلاثة جميعًا، رصد سلوك مناقض تمامًا لما كان متوقعًا في المعادلات الناتجة (بمجرد مراجعة وتصحيح أخطاء متنوعة في علامات جبرية محورية)، ولكن هذا تم فقط في نظريات ليانج-ميلز مثل الديناميكا اللونية الكمية. ﻓ «الشحنة اللونية» الفعالة للكواركات لا تصبح أكبر مقدارًا عند المسافات القصيرة، وإنما أصغر! وأطلق علماء النظرية على تلك الخاصية العجيبة غير المتوقعة اسم «الحرية المتقاربة». في البداية أتبع جروس وويلكزيك ومن بعدهما بوليتزر هذا الاكتشاف بسلسلة من الأبحاث تبنوا فيها بدقة الصياغة التي ابتكرها فاينمان لعقد مقارنات مع نتائج تجارب التدريج في معجل سلاك. واكتشفوا أن الديناميكا اللونية الكمية ليس في استطاعتها وحسب تفسير التدريج، وإنما يمكن أيضًا — بسبب حقيقة أن التفاعلات بين الكواركات لم تكن قيمتها صفرًا ولكنها كانت مع ذلك أضعف مما كان يمكن أن تكون عليه بدون الحرية المتقاربة — حساب تصويبات سلوك التدريج، الذي يجب أن يكون قابلًا للرصد.

في هذه الأثناء، ظل فاينمان متشككًا حيال كل الإثارة المحيطة بالنتائج الجديدة. لقد شاهد علماء نظريين من قبل في مرات كثيرة يتحمَّسون لأفكار عظيمة. والأمر المثير للاهتمام حقًّا هو أن تشككه استمر بالرغم من أن تلك النتائج الجديدة نشأت نتيجة استخدام نفس الأساليب التي كان فاينمان رائدًا لها، سواء أفي فهم تجارب التدريج أم في التعامل مع نظريات يانج-ميلز.

وأخيرًا، وبحلول منتصف السبعينيات، كان فاينمان قد صار مقتنعًا بأن تلك الأفكار تحمل قدرًا كافيًا من المزايا حتى إنه بدأ في متابعتها بالتفصيل، وبقدر عظيم من التلذذ والنشاط. وبالاشتراك مع باحث بعد الدكتوراه اسمه ريك فيلد، حسب فاينمان طائفة من الظواهر الفيزيائية المحتملة القابلة للرصد في الديناميكا اللونية الكمية، وساعد بذلك في استشراف حقبة جديدة ومثيرة من الاتصال المتبادل الوثيق بين التجربة والنظرية. كان عملًا شاقًّا لأن مقياس الطاقة الذي صارت تفاعلات الديناميكا اللونية الكمية عنده من الضعف بحيث يمكن الاعتماد على الحسابات التي يجريها علماء النظرية كان أعلى بعض الشيء مما استطاع التجريبيون تحقيقه. لذا، على الرغم من بدء توافد تأكيدات مؤقتة للتنبؤات بالحرية المتقاربة، فإن الأمر استغرق ما لا يقل عن عقد آخر، حتى منتصف الثمانينيات؛ أي قرب وفاة فاينمان، حتى تأكدت النظرية تمامًا. كما استغرق الأمر عشرين عامًا أخرى حتى منح جروس وويلكزيك وبوليتزر جائزة نوبل عن عملهم في الحرية المتقاربة.

خلال السنوات الأخيرة من عمره، وبقدر ما ظل فاينمان مفتونًا بالديناميكا الكهربائية الكمية، استمر جزء منه يقاوم الإيمان التام بالنظرية؛ إذ على الرغم من أن النظرية بدت تبلي بلاءً رائعًا في تفسير تدريج سلاك، وبالرغم من رصد انحرافات التدريج التالية المتوقعة أيضًا، وفي الواقع أظهرت جميع قياسات قوة تفاعل الديناميكا اللونية الكمية أنها تزداد ضعفًا عند المسافات القصيرة والطاقات المرتفعة، فإنه على مقياس المسافة الكبيرة المضاد صارت النظرية من القوة بحيث استحال تطويعها. وقد حال هذا دون إجراء أي اختبار نظري لما كان سيعد في نظر فاينمان معيار الذهب، وهو: تفسير لعدم مشاهدتنا لأي كواركات حرة في الطبيعة.

تقول المعرفة التقليدية إن الديناميكا اللونية الكمية تصبح في غاية القوة على المسافات الكبيرة حتى إن القوة بين الكواركات تظل ثابتة مهما كانت المسافة، ومن ثم فإن الأمر يتطلب، من حيث المبدأ، قدرًا لانهائيًّا من الطاقة حتى يمكن فصل كواركين أحدهما عن الآخر تمامًا. وكان ما يؤيد هذا التوقع حسابات معقدة أجريت على الكمبيوتر؛ حسابات من النوع الذي كان فاينمان يقوده عندما كان يعمل على جهاز التوصيل لمصلحة هيليس في بوسطن.

لكن نتيجة الكمبيوتر كانت في رأي فاينمان مجرد دعوة لفهم الفيزياء. فحسبما تعلم من قبل وهو تلميذ لبيته منذ سنوات عديدة مضت، فإنه ما لم يمتلك فهمًا تحليليًّا لسبب حدوث شيء ما بحيث يمكنه إخراج أرقام مقاربة للبيانات التجريبية، فإنه لا يثق في المعادلات. وهو لم يكن يمتلك ذلك الفهم. وإلى أن يمتلكه، لم يكن مستعدًّا للتسليم بأي شيء.

في ذلك الوقت التقيت ريتشارد فاينمان لأول مرة، حسبما وصفت في بداية هذا الكتاب. لقد جاء إلى فانكوفر وألقى محاضرة وهو في حالة من الانفعال الشديد حول فكرة كان يعتقد أنها تبرهن على أن الديناميكا اللونية الكمية من الممكن أن تكون «مقيدة»، حسب التسمية التي أطلقت على مشكلة «عدم رصد» كواركات حرة منعزلة. كانت المشكلة بالغة الصعوبة بحيث لا يمكن معالجتها في ثلاثة أبعاد، غير أنه كان متيقنًا للغاية أنه يستطيع باستخدام بعدين التوصل لأسلوب تحليلي يمكنه تحقيق تسوية نهائية للأمر بأسلوب يرضيه.

•••

واصل فاينمان معركته مع مرض السرطان، الذي عولج منه في البداية عام ١٩٧٩ ثم عاود الظهور عام ١٩٨٧، كما عانى من ارتفاع مستوى تشتته الذهني المرتبط بتعاظم شهرته، بداية من الأنشطة المحيطة بكتب السيرة الذاتية التي كتبها وحققت أعلى المبيعات إلى المهمة التي أوكلت إليه بشأن مكوك الفضاء «تشالنجر» (حيث ساعد بنفسه، لعلك تتذكر، في إماطة اللثام عن السبب وراء الانفجار المأساوي لمكوك الفضاء)، غير أنه لم يعش لليوم الذي يرى فيه هدفه يتحقق. وحتى يومنا هذا، وعلى الرغم من تحسن حسابات الكمبيوتر بصورة هائلة، بحيث زادت أكثر وأكثر من دعمها لفكرة التقييد، وعلى الرغم من أن طائفة من التقنيات النظرية الحديثة أتاحت إيجاد أساليب جديدة بالغة التعقيد للتعامل مع نظريات يانج-ميلز، فلم يتوصل أي شخص لبرهان بسيط وأنيق على أن النظرية لا بد أن تقيد الكواركات. ولا أحد يشك في أن هذا الأمر صحيح، غير أن «اختبار فاينمان» — لو جاز لنا أن نطلق عليه هذا الاسم — لم يتم تجاوزه بعد.

غير أن تراث فاينمان لا يزال حيًّا بيننا في كل يوم. إن الأساليب الوحيدة المثمرة التي تتسم بالكفاءة بحق للتعامل مع كل من نظريات معيار يانج-ميلز والجاذبية تتضمن صيغة فاينمان المعروفة باسم تكامل المسار. وليست هناك أي صيغة أخرى لنظرية مجال الكم يستخدمها الفيزيائيون المعاصرون. لكن الأهم من ذلك أن نتائج تكاملات المسارات، والحرية المتقاربة، والقابلية لإعادة تطبيع التفاعلات القوية والضعيفة وجهت الفيزيائيين نحو وجهة جديدة، مانحةً فهمًا جديدًا للحقيقة العلمية بطريقة لا بد أنها جعلت فاينمان يشعر أخيرًا بالفخر للعمل الذي أنجزه في ميدان الديناميكا الكهربائية الكمية، بدلًا من الشعور بأن دوره اقتصر فقط على تقديم طريقة أنيقة لإخفاء المشكلات وليس لحلها.

لقد أتاح منهج فاينمان العلمي المعروف باسم تكامل المسار للفيزيائيين إجراء فحص منهجي لكيفية تغير تنبؤات النظرية مع تغيير المرء لمقياس المسافة الذي يختار عنده تعديل النظرية كي يزيل آثار الجسيمات الافتراضية ذات الطاقة الأعلى حتى يعيد تطبيع النظرية. ولما كانت نظريات الكم تصاغ، حسب لغته، عن طريق فحص المسارات الزمكانية بصورة صريحة، يستطيع المرء أن يجري «حساب تكامل» (أي جمع للمتوسطات) لأقل ذبذبات تحدث في المسارات الملائمة لتلك المقاييس، ومن ثم يحصر تفكيره فقط في المسارات التي لم تعد تلك الذبذبات موجودة بها.

أوضح الفيزيائي كينيث ويلسون، الذي فاز بعد ذلك بجائزة نوبل، أن هذا التكامل معناه أن النظرية الناتجة، أي النظرية المحددة، ليست حقًّا سوى «نظرية فعالة»، وهي النظرية الملائمة لوصف الطبيعة عند مقاييس أكبر من مقياس القطْع الذي حُسِبَ تكامل الذبذبات الصغرى في المسارات عنده.

لم تكن طريقة فاينمان للتخلص من قيم ما لانهاية إذن مجرد تلفيق بارع، وإنما كانت بالأحرى ضرورة فيزيائية. هذا لأننا صرنا الآن ندرك أنه لا يجب علينا بعد ذلك أن نتوقع صمود النظرية، دون أن يطرأ عليها تغيير، عند جميع مقاييس الطاقة والمسافات. ولا يتوقع أحد أن تظل الديناميكا الكهربائية الكمية، وهي أفضل نظرية خضعت للاختبار وأحبها الجميع في دنيا الفيزياء، الوصف الملائم للطبيعة مهما صغرت المقاييس. وفي حقيقة الأمر، وحسبما بيَّن جلاشو وواينبرج وعبد السلام، فإنه عند مقياس طاقة مرتفع بدرجة كافية، تندمج الديناميكا الكهربائية الكمية مع التفاعل الضعيف ليصنعا نظرية موحدة جديدة.

إننا نفهم الآن أن «جميع» النظريات الفيزيائية هي مجرد نظريات فعالة تصف الطبيعة عند نطاق معين من المقاييس. فلا يوجد حتى الآن شيء يسمى حقيقة علمية مطلقة، إن كنا نعني بذلك نظرية تصلح لجميع المقاييس ولكل الأزمنة. وهكذا فإن الحاجة الفيزيائية لإعادة التطبيع بسيطة: النظرية المطلقة — أي، النظرية التي نستنبطها من واقع المشاهدات بصورة اعتباطية نزولًا حتى مقاييس الأبعاد الصغيرة — ليست هي النظرية الصحيحة، والقيم اللانهائية هي العلامة الدالة على هذا. فإذا اخترنا أن نستنتج النظرية على هذا النحو، فإننا نقوم بذلك بصورة تتجاوز مجال صلاحيتها. وعند اقتطاع النظرية عند مقياس صغير الحجم، فإننا نتجاهل ببساطة الفيزياء الحديثة المجهولة التي لا مناص من أن تدخل تغييرات على النظرية عند تلك المقاييس الصغيرة. إن الإجابات المحددة التي نحصل عليها يكون لها معنى بالتحديد لأننا إذا رغبنا في سبر غور الظواهر عند مقاييس كبيرة الأبعاد، فإنه «يمكننا» تجاهل هذه الفيزياء الحديثة المجهولة عند المقاييس بالغة الصغر. والنظريات المنطقية القابلة لإعادة التطبيع مثل الديناميكا الكهربائية الكمية تفقد حساسيتها تجاه الفيزياء الحديثة عند مقاييس مسافات أقل كثيرًا من المقاييس التي نجري عندها التجارب بهدف اختبار النظريات.

كان الأمل الذي يحدو فاينمان إذن في أن يتمكن بشكل أو بآخر من حل مشكلة القيم اللانهائية في الديناميكا الكهربائية الكمية بدون إعادة تطبيع، أملًا في غير محله. فنحن نعلم الآن أن صورته، التي تسمح لنا أن نرى على نحو منهجي كيفية تجاهل الأمور التي لا نفهمها، هي أقصى ما يمكننا الوصول إليه. وباختصار، لقد قام فاينمان بأقصى ما كان ممكنًا، ولم يقصد حله الرياضي إخفاء مشكلات نظرية المجال، بل كان يفوق هذا بكثير. لقد بين بحق المبادئ الفيزيائية الحديثة التي كان يأمل دومًا أن يكون مسئولًا يومًا ما عن اكتشافها.

لا بد أن هذا الفهم الجديد كان من شأنه أن يبهج فاينمان، ليس فقط لأنه يمنح أهمية جديدة لعمله الذي أنجزه في مرحلة مبكرة من عمره، لكن لأنه يجدد أيضًا شباب ألغاز الفيزياء. ولا توجد في الوقت الراهن نظرية معلومة تقدم الحل النهائي. ولا بد أنه كان سيحب ذلك. وكما قال ذات مرة: «يقول لي الناس: «هل تبحث عن القوانين النهائية لعلم الفيزياء؟» كلا إنني لا أفعل ذلك. فكل ما أبحث عنه المزيد من المعرفة عن هذا العالم. فإذا تبين وجود قانون بسيط نهائي يشرح كل شيء، فليكن، فلا بد أن هذا الأمر سوف يكون غاية في الروعة لو اكتشف. أما لو تبين أنه أشبه بالبصلة ذات ملايين الطبقات، وقد مللنا النظر إلى تلك الطبقات، إذن فليكن. ولكن أيًّا كان ما سيتبين، فإنها الطبيعة، وسوف تظهر لنا على الحال التي هي عليه.»

في الوقت نفسه، تسببت التطورات الرائعة التي حدثت خلال السبعينيات، والتي صارت ممكنة بفضل أبحاث فاينمان، في توجيه الكثير من الفيزيائيين نحو وجهة أخرى. وبعد نجاح توحيد القوة الكهروضعيفة والحرية المتقاربة، ظهرت إمكانية جديدة. فعلى كل حال، كما بيَّن جيلمان ولو، تصبح الديناميكا الكهربائية الكمية أكثر قوة عند المقاييس الصغرى. وكما بيَّن جروس وويلكزيك وبوليتزر، فإن الديناميكا اللونية الكمية تصبح أضعف عند المقاييس الصغيرة. ربما إذا اتجهنا إلى مقياس بالغ الصغر، الذي وفق تقديرنا ربما كان حجمه في حدود ١ على ١٦ من حجم البروتون، ونحو ١ على ١٢ من الحجم الذي تستطيع أفضل المعجلات المتاحة لنا في الوقت الراهن اكتشافه، فإن جميع القوى المعلومة قد تصير موحدة في نظرية واحدة. وهذا الاحتمال، الذي أطلق عليه جلاشو اسم «التوحيد العظيم»، صار هو القوة المحركة لفيزياء الجسيمات خلال معظم عقد الثمانينيات، وصنف ضمن هدف أعظم وأكبر عندما اكتُشِف أن نظرية الأوتار تسمح بتوحيد ممكن للقوى الثلاث غير الجذبوية مع قوة الجاذبية.

غير أن فاينمان مع ذلك ظل متشككًا. فقد ظل طيلة حياته يناضل ضد الإفراط في قراءة البيانات، ولقد شهد طائفة من النظريات العبقرية الأنيقة تتهاوى وتنهار. وبالإضافة إلى ذلك فقد علم أنه ما لم يكن علماء الفيزياء النظرية مستعدين وقادرين على مواصلة اختبار أفكارهم في عالم التجارب القاسي، فإن احتمال خداع النفس بالأوهام يظل كبيرًا. وقد علم — مثلما كان يقول كثيرًا — أن أسهل شخص يمكنك خداعه هو نفسك.

عندما وقف فاينمان في مواجهة أدعياء العلم، و«خبراء» اختطاف البشر من قبل سكان الفضاء، والمنجمين، والدجالين، حاول أن يذكرنا بأننا فيما يبدو مجبولون على الاعتقاد بأن ما يحدث لنا بصورة طبيعية يبدو كما لو كان يكتسب أهمية ومعنى مميزًا، حتى ولو كان حادثًا وقع بالمصادفة. فعلينا أن نحترس من هذا الأمر، والسبيل الوحيد لذلك لا يأتي إلا من خلال التمسك بالقيد المتمثل في الواقع العملي التجريبي. لذا، عندما نواجه بادعاءات تقول إن نهاية علم الفيزياء قد أوشكت وأن القوانين النهائية لعلم الفيزياء في متناول أيدينا، ساعتها يكتفي فاينمان بالقول بحكمة: «لقد قضيت عمرًا كاملًا في ذلك … عمرًا كاملًا ألتقي فيه بأناس مؤمنين بأن الحل يقع في متناول أيدينا.»

لو كان لنا أن نتعلم درسًا من الحياة المهنية الرائعة لواحد من أكثر علماء القرن العشرين تميزًا، فهو أن الإثارة والغطرسة، اللذين من الطبيعي أن يعقبا الوصول إلى المكانة النادرة التي يحظى بها من يكشف ولو عن جزء صغير من ألغاز الطبيعة، لابد لهما من عنصر ملطف ألا وهو إدراك أنه مهما كان مقدار ما نعرفه، فإن الحياة تخبئ لنا المزيد من المفاجآت، لو كنا على استعداد لمواصلة البحث. وكان هذا البحث هو محرك حياة العالِم المغامر والعبقري الجسور ريتشارد فاينمان.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤