الفصل الثالث

طريقة تفكير جديدة

إن الفكرة التي تبدو متناقضة تمامًا للوهلة الأولى، إذا حُللت على نحو كامل بجميع تفاصيلها وفي مواقف تجريبية، قد لا تكون متناقضة في واقع الأمر.

ريتشارد فاينمان

على الرغم من تطمينات أساتذة ريتشارد فاينمان الجامعيين لوالده، فإن ميلفيل فاينمان لم يتخل عن مخاوفه بشأن مستقبل ابنه. فبعد أن بدأ ريتشارد علاقة العمل التي جمعته بجون أرشيبالد ويلر في كلية الدراسات العليا، قام ميلفيل برحلة إلى برينستون ليتحرى مرة أخرى عن تقدم ابنه والآفاق المستقبلية المفتوحة أمامه. ومرة أخرى، قيل له إن ريتشارد أمامه مستقبل باهر يتطلع إليه، ولا علاقة لهذا ﺑ «خلفيته الاجتماعية البسيطة» أو أي «تحيز محتمل ضد اليهود»، بحسب صياغة ميلفيل. ربما كان ميلفيل يجمل الواقع، أو ببساطة يعكس ميوله التعليمية الشخصية. فبينما كان بعدُ طالبًا، كان هو مؤسس ورئيس ما يعرف باسم «اتحاد شباب الكنيسة والكُنيس».

إلا أن أي عداء للسامية ما زال باقيًا في الأوساط الأكاديمية ما كان ليكفي لإيقاف مسيرة ريتشارد فاينمان الناجحة وتقدُّمه. لقد كان ببساطة أبرع من أن يقف شيء في طريقه وكان يستمتع بوقته. الأحمق وحده هو من كان يمكن أن يغفل عن عبقريته وقدراته. لقد امتد افتتان فاينمان بالفيزياء وقدرته على حل مشكلات لا يستطيع الآخرون حلها ليغطيا نطاق عالم الفيزياء كله، من القضايا الخفية الغامضة التي لا تفهمها إلا فئة قليلة من الناس وحتى الأمور التي تبدو عادية وبسيطة، واستمر هذا الأمر طوال حياته كلها.

كانت لمحات من طاقته الهائلة العابثة اللاهية تنتشر في كل مكان. فقد عشق أطفال ويلر زياراته لهم وانتظروها بشوق، حيث كان كثيرًا ما يسلِّيهم بحيَلِه البارعة. وقد تحدَّث ويلر ذات مرة متذكرًا ظهيرة أحد الأيام عندما طلب فاينمان علبة من الصفيح وأخبر الأطفال أنه يستطيع أن يعرف هل ما بداخلها مادة سائلة أم صلبة دون أن يفتحها أو ينظر إلى الملصق الموجود عليها. وكان السؤال من الأطفال جميعًا في وقت واحد: «كيف؟!» فأجابهم: «من خلال الطريقة التي ستسقط بها عندما أقذفها في الهواء.» وبالطبع كان محقًّا فيما قال.

كان شعور فاينمان الشخصي بالإثارة تجاه العالم يعني أن شعبيته لدى الأطفال في أَوْج قوتها، كما يتبيَّن لنا من خلال خطاب كتبه عام ١٩٤٧ الفيزيائي فريمان دايسون، الذي كان طالبًا بالدراسات العليا في كورنيل حينما كان فاينمان أستاذًا مساعدًا هناك. كان دايسون يصف حفلًا في منزل عالم الفيزياء الكبير هانز بيته على شرف ضيف مميز، وذكر أن ابن بيته البالغ من العمر خمس سنوات، واسمه هنري، ظل يتذمر من عدم وجود فاينمان قائلًا: «أريد ديك. لقد أخبرتني أن ديك سيأتي.» وأخيرًا وصل فاينمان، واندفع إلى الطابق العلوي وراح يلهو مع هنري محدثًا جلبة أوقفت جميع المحادثات التي كانت دائرة في الطابق السفلي.

وبينما كان فاينمان يلهو مع أطفال ويلر، استمر هو وويلر في تسلية أحدهما الآخر أثناء عملهما خلال العام على استكشاف أفكارهما الغريبة حول تخليص الكهرومغناطيسية الكلاسيكية من مشكلة التفاعل الذاتي اللانهائي للجسيمات المشحونة كهربائيًّا، وذلك بواسطة تفاعلات غريبة تسير في عكس اتجاه الزمن مع ممتصات خارجية تقع في عالم خارجي غير محدود.

كان حافز فاينمان لمواصلة هذا العمل بسيطًا ومباشرًا؛ فقد أراد حل مشكلة رياضية في الكهرومغناطيسية الكلاسيكية على أمل الوصول في نهاية المطاف إلى المشكلات الأكثر أهمية التي تنشأ في نظرية الكم. ومن ناحية أخرى، كانت لدى ويلر فكرة أكثر جنونًا أراد تطويرها لتفسير الجسيمات الجديدة التي كانت تُرصد في الأشعة الكونية وفي تجارب الفيزياء النووية: ربما كانت جميع الجسيمات الأولية هي فقط مكونة من تركيبات مختلفة من الإلكترونات، وبطريقة ما تتفاعل على نحو مختلف مع العالم الخارجي. كانت الفكرة مجنونة بحق، ولكنها على الأقل ساعدت في الحفاظ على حماسه للعمل الذي كانا يقومان به.

يتجسَّد توجه فاينمان اللاهي بشأن الإحباطات والعقبات الحتمية المرتبطة بالعمل النظري في الفيزياء من خلال أحد أول الخطابات التي كتبها لوالدته، بعد وقت قصير من بدء دراسته في كلية الدراسات العليا وقبل أن يتحول عمله مع ويلر تجاه إعادة دراسة الكهرومغناطيسية:

كانت الأمور تسير بسرعة ودقة هائلتين في الأسبوع الماضي، ولكنني الآن أواجه بعض الصعوبات في الرياضيات، وإما سأتغلب عليها أو ألتف حولها أو أسلك سبيلًا آخر — وكل هذه الصعوبات تستهلك وقتي كله — لكنني أحب إنجاز الكثير، وأنا في غاية السعادة في الواقع. لم يسبق لي أن فكَّرت في مشكلة ما كل هذا الوقت وبكل هذا الثبات والإصرار — لذا فإنني إذا لم أصل إلى شيء فسوف يزعجني هذا كثيرًا — إلا أنني وصلت بالفعل إلى شيء ما، شيء بعيد — وعلى نحو نال رضى البروفسور ويلر. غير أن المشكلة لم تنتهِ على الرغم من أنني بدأت للتوِّ أرى المسافة التي تفصلني عن النهاية وكيف يمكننا الوصول إليها (مع أن بعض الصعوبات في الرياضيات تلوح في الأفق، كما ذكرت آنفًا)، سأحظى ببعض المرح!

اشتملت فكرة فاينمان عن المرح على التغلب على صعوبات الرياضيات؛ وتلك إحدى الصفات العديدة التي ميَّزته على الأرجح عن رجل الشارع العادي.

بعد بضعة أشهر مكثَّفة من الأخذ والرد مع ويلر في ربيع وشتاء عام ١٩٤٠-١٩٤١ أثناء العمل على أفكارهما الجديدة عن الكهرومغناطيسية، أخيرًا منح ويلر الفرصة لفاينمان لعرض هذه الأفكار، ليس أمام طلاب الدراسات العليا، ولكن أمام علماء فيزياء متخصصين، وذلك من خلال ندوة قسم الفيزياء بجامعة برينستون. أدار الندوة يوجين ويجنر، والذي فاز لاحقًا بجائزة نوبل، وقد دعا مجموعة خاصة من العلماء من بينهم: عالم الرياضيات الشهير جون فون نويمان، وعالم الفيزياء القدير الفائز بجائزة نوبل وأحد مؤسسي ميكانيكا الكم، فولفجانج باولي، الذي جاء زائرًا من زيورخ، وألبرت أينشتاين بنفسه، الذي كان قد عبَّر عن اهتمامه بالحضور (ربما بسبب اتصال حثه ويلر خلاله على الحضور).

لقد حاولت أن أتخيل نفسي في موقف فاينمان في ذلك الوقت، باعتباره طالبًا بالدراسات العليا يتحدث أمام مجموعة كهذه. فلم يكن من السهل إرضاء جمهور كهذا، حتى مع غض الطرف عن مقامهم الرفيع. كان معروفًا عن باولي مثلًا أنه ينهض من مكانه وينتزع الطباشير من يد المتحدث الذي يختلف معه في الرأي.

غير أن فاينمان أعد خطابه وما إن بدأ في التحدث حتى استحوذت الفيزياء عليه وزال كل ما كان متبقيًا من عصبيته. وكما هو متوقع، اعترض باولي شاعرًا بالقلق تجاه احتمال أن استخدام التفاعلات التي تسير عكس الزمن يوحي بأن المرء كان ببساطة يعمل رياضيًّا في اتجاه عكسي بادئًا بالحل الصحيح بدلًا من أن يشتق بالفعل شيئًا جديدًا. كذلك كان قلقًا بشأن فكرة «الفعل عن بعد»، التي تنشأ عن التخلي عن المجالات التي تنقل القوى والمعلومات عادة، وسأل أينشتاين عن احتمال كون هذا الأمر يتعارض مع بحثه الخاص حول النسبية العامة. وعلى نحو مثير، أجاب أينشتاين بتواضع بأنه قد يكون هناك تعارض حقًّا، ولكن على أي حال فإن النظرية التي وضعها هو نفسه عن الجاذبية (التي اعتبرها باقي العلماء في مجتمع الفيزياء النظرية الأكثر أهمية منذ عصر نيوتن) «لم تكن راسخة بقوة». وفي الواقع، كان أينشتاين متعاطفًا مع فكرة استخدام حلول عكس اتجاه الزمن كما كان متعاطفًا مع الحلول التي تسير في الاتجاه الطبيعي للزمن، وذلك حسبما قال ويلر فيما بعد متذكرًا الوقت الذي ذهب فيه بصحبة فاينمان لزيارة أينشتاين في منزله الواقع في شارع ميرسر لمناقشته مناقشة أكثر توسعًا في أفكارهما.

المشكلة هي أن واحدة من أكثر الخصائص وضوحًا للعالم المادي، وهي خاصية تتجلى منذ اللحظة التي نستيقظ فيها كل يوم، هي أن المستقبل يختلف عن الماضي. لا ينطبق هذا فقط على التجربة الإنسانية، وإنما ينطبق أيضًا على سلوك الأجسام غير الحية. فعندما نضيف اللبن إلى قهوتنا مثلًا ونقلبه، لن يمكننا أبدًا أن نجعل هذا اللبن في لحظة ما في المستقبل يعود ليتَّحد في صورة قطرات صغيرة كما كان يبدو عندما صببناه على القهوة لأول مرة. والسؤال هو: هل خاصية عدم القابلية للانعكاس المؤقتة الواضحة تلك في الطبيعة تنشأ بسبب عدم تناظر في العمليات الميكروسكوبية؟ أم أنها ملائمة فقط للعالم الكبير القابل للرصد الذي نعيش فيه؟

كان أينشتاين، تمامًا مثل فاينمان وويلر، يؤمن بأن المعادلات الميكروسكوبية للفيزياء يجب أن تكون مستقلة عن اتجاه الزمن؛ أي إن خاصية عدم إمكانية عكس الظواهر في العالم الكبير الذي نعيش فيه تنشأ لأن أوضاعًا معينة تزداد احتمالات وجودها كثيرًا في الطبيعة عندما تشارك العديد من الجسيمات عن أوضاع أخرى. وفي حالة أفكار فاينمان وويلر، كما أوضح فاينمان لطالب زميل في الدراسات العليا، فإن الفيزياء تسلك سلوكًا منطقيًّا على مستوى الأحجام الكبيرة؛ أي إن المستقبل يختلف عن الماضي على الرغم من التفاعل الذي يسير في عكس اتجاه الزمن الذي استنتجه هو وويلر. ويرجع هذا تحديدًا إلى أن الاحتمالات المرتبطة بسلوك بقية العدد الذي يفترض أنه لانهائي من الشحنات الأخرى في الكون، التي تستجيب لحركة الشحنة محل الدراسة، تنتج ذلك النوع من عدم قابلية الانعكاس على مستوى الأجسام الكبيرة الذي اعتدنا رؤيته في العالم من حولنا.

في وقت لاحق، عام ١٩٦٥، اكتشف علماء الفيزياء — على نحو أدهشهم كثيرًا — أن عمليات ميكروسكوبية معينة للجسيمات الأولية لها اتجاه زمني معين مصاحب لها؛ بمعنى أن معدلات عملية ما ومعدلات النسخة المعكوسة زمنيًّا من نفس العملية يختلف بعضها عن بعض قليلًا. كانت تلك النتيجة مدهشة، حتى إنها حصدت جائزة نوبل للعلماء التجريبيين الذين توصَّلُوا إليها. غير أنه في حين يمكن لهذا التأثير أن يلعب دورًا مهمًّا في فهم خصائص معينة عن كوننا — ربما من بينها سبب أننا نعيش في كون من المادة وليس من المادة المضادة — فإن المعرفة التقليدية ما زالت تقترح أن اتجاه الزمن في عالم الأجسام الكبيرة مرتبط بنزوع الاضطراب إلى التزايد والنشوء، ليس من الفيزياء الميكروسكوبية للأجسام الصغيرة، وإنما من احتمالات عالم الأجسام الكبيرة، وذلك كما افترض أينشتاين وفاينمان وويلر.

•••

وفي النهاية كان كل هذا الاضطراب الذي ثار بسبب تفسير أفكار فاينمان وويلر في غير موضعه. فالأفكار النظرية التي اقترحاها اتضح في النهاية أنها خاطئة بدرجة أو أخرى، وذلك لأن اقتراحاتهما لم تتفق في نهاية المطاف مع الواقع الفعلي. فالإلكترونات تتفاعل بالفعل مع نفسها، والمجالات الكهرومغناطيسية — بما فيها تلك التي تحتوي على جسيمات افتراضية — حقيقية وموجودة. وقد أوجز فاينمان المسألة جيدًا بعد عقد من الزمان عندما كتب إلى ويلر يقول: «لذا أظن أن تخميناتنا في عام ١٩٤١ كانت خاطئة. هل تتفق معي؟» ولم يسجل لنا التاريخ ردًّا من ويلر، ولكن في ذلك الحين كانت الأدلة لا تقبل الجدل.

ما كانت جدوى كل هذا الجهد إذن؟ حسنًا، في العلوم، تكاد كل فكرة مهمة جديدة تكون خاطئة، إما خاطئة بقدر بسيط (بمعنى أنها تحتوي على خطأ رياضي) وإما خاطئة من الأساس (أي إنه بقدر الجمال الذي قد تكون عليه الفكرة، فإن الطبيعة لا تستخدمها بأي صورة). ولو لم تكن الحال كذلك، لكان توسيع حدود العلم وتحقيق التقدم العلمي أسهل مما ينبغي ومما هو عليه بكثير.

وفي ضوء هذا، يكون لدى العلماء خياران. فإما يختارون اتباع السبل المألوفة ودفع النتائج الثابتة للأمام خطوة بخطوة بقدر معقول من ضمان النجاح، وإما يمكنهم اتخاذ سبل جديدة أكثر خطورة، حيث لا توجد ضمانات للنجاح وحيث لا بد أن يكونوا مستعدين للفشل. قد يبدو هذا محبطًا، ولكن خلال عملية استكشاف جميع الطرق المسدودة والسبل المقطوعة، يكتسب العلماء الخبرة والحدس السليم ومجموعة من الأدوات المفيدة. وفوق ذلك، يفوزون بأفكار غير متوقعة ناتجة عن مقترحات لا تؤدي إلى أي شيء — على الأقل فيما يتعلق بالمشكلة الأصلية موضع الدراسة — ولكنها تأخذهم أحيانًا في اتجاه لم يكن متوقعًا على الإطلاق، وأحيانًا يكون هذا الاتجاه هو ما يؤدي إلى تحقيق تقدم حقيقي. وأحيانًا تكون الأفكار التي لم تفلح في أحد ميادين العلم هي بالضبط عين المطلوب لحل مشكلة كبرى في ميدان آخر. وكما سنرى، كانت تلك هي الحال في رحلة ريتشارد فاينمان الطويلة في فيافي الديناميكا الكهربائية.

•••

وسط التدفق الذهني المضطرب في حياة فاينمان خلال تلك الفترة، تطورت حياته الشخصية بعمق أيضًا. فمنذ أن كان فتى يافعًا، أو حتى وهو يكاد يكون طفلًا، عرف فتاة معينة، وأُعجب بها، وحلم بها، وكانت فتاة امتلكت صفات افتقر هو إليها: امتلكت مواهب فنية وموسيقية، وامتلكت الثقة الاجتماعية والمكانة السامية المصاحبة لهما. صارت آرلين جرينبوم حاضرة في حياته في مرحلة مبكرة من دراسته بالمدرسة الثانوية. كان قد التقاها في حفل عندما كان في الخامسة عشرة وكانت هي في الثالثة عشرة من العمر. لا بد أنها كانت تمتلك كل ما كان يبحث عنه؛ فقد كانت تعزف على البيانو، وترقص، وترسم. وبحلول الوقت الذي التحق فيه بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، كانت قد صارت جزءًا ثابتًا من حياته العائلية، حيث كانت ترسم ببغاء على باب خزانة ملابس العائلة، وتعلم شقيقته جوان دروس البيانو، ثم تصطحبها في نزهة سيرًا على الأقدام بعد ذلك.

لن نعرف أبدًا هل كانت هذه الأعمال الكريمة من جانب آرلين هي وسيلتها للتودد إلى فاينمان والفوز بالحظوة عنده أم لا، ولكن كان من الواضح أنها قررت أنه الشاب المناسب لها، وكان هو أيضًا مسحورًا بها. زعمت جوان، شقيقة ريتشارد، في وقت لاحق أنه بحلول الوقت الذي التحق فيه بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، عندما كان في السابعة عشرة من عمره، أدرك باقي أفراد الأسرة أن ريتشارد وجوان سيتزوجان يومًا ما. لقد كانا مناسبين أحدهما للآخر. كانت آرلين تزوره في الجماعة التي انضم لها في بوسطن في العطلات الأسبوعية خلال أول سنتين دراسيتين بالكلية، وعندما أصبح في السنة الثالثة، تقدم لخطبتها، ووافقت على الخطبة.

كان ريتشارد وآرلين حبيبين عاشقين. لم يكونا نسختين متطابقتين، بل كانا ضدين متكافلين؛ فكل منهما يكمل الآخر. انبهرت آرلين بعبقرية ريتشارد العلمية الواضحة، وأحب ريتشارد حقيقة أنها أحبت وتفهمت أشياء لم يكن يقدرها أو يهتم بها في ذلك الوقت. ولكن كان أهم ما تشاركا فيه على الإطلاق هو حب الحياة وروح المغامرة.

تستحق آرلين الظهور في تلك الترجمة العلمية لحياة ريتشارد فاينمان في هذه المرحلة، ليس فقط لأنها كانت أول حب في حياة فاينمان، وأعمق حب أيضًا على الأرجح، ولكن أيضًا لأن روحها زوَّدته بالشجاعة الضرورية التي احتاجها للاستمرار، والبحث عن طرق جديدة، وكسر العادات والتقاليد، العلمية منها وغير العلمية.

كان انسجامهما معًا خلال السنوات الخمس التي مرت منذ لحظة تقدمه لخطبتها وحتى لحظة موتها بمرض السل عميقًا ومؤثِّرًا إلى حد بعيد. لقد كانا يمثلان زوجًا شابًّا مفعمًا بالأمل المقترن بحب واحترام متبادلين، ومصرًّا على شق طريقه في الحياة أيًّا كانت العقبات.

في يونيو عام ١٩٤١، حينما كان ريتشارد في خضم دراساته العليا، وقبل عام من زواجهما، كتبت إليه آرلين تطلعه على آخر مستجدات زياراتها للأطباء (فقد شُخصت حالتها بصورة خاطئة مرات عديدة قبل أن يصل الأطباء إلى التشخيص الصحيح)، ولكن الخطاب كان يركز عليه أكثر مما يركز عليها:

حبيبي ريتشارد، كم أحبك … ما زال أمامنا المزيد لنتعلَّمه في لعبة الحياة والشطرنج تلك التي نعيشها، ولست أريدك أن تضحِّي بأي شيء من أجلي … أعلم أنك حتمًا تعمل بكدٍّ شديد لكي تنتهي من أطروحتك، وأنك تحل مشكلات أخرى على هامش ذلك، وأنا في غاية السعادة لأنك ستنشر شيئًا ما، فسوف أبتهج كثيرًا عندما يحظى عملك بالتقدير، وأريدك أن تستمر فيما تفعل وتقدم للعالم والعلم كل ما تستطيع تقديمه … وإذا تلقَّيت أي نقد فتذكَّر أن كل إنسان يحب بطريقة مختلفة.

لقد عرفت آرلين ريتشارد كما لم يعرفه شخص آخر، وبهذا كانت تمتلك القدرة على احتوائه وعلى دفعه للأمام ليظل متمسكًا بمعتقداته. وكانت أهم هذه المعتقدات هي الصدق وشجاعة اتخاذ قراراته بنفسه. وكان عنوان أحد كتب السيرة الذاتية التي كتبها: «وما يضيرك فيما يعتقده الآخرون؟» هو السؤال الذي كانت تكرره عليه كثيرًا عندما تجده في لحظة تردد أو خوف، ومثال ذلك أنها أرسلت له ذات مرة علبة أقلام رصاص نُقش على كل واحد منها عبارة: «حبيبي ريتشارد، أحبك! بوتسي!» (وكان اسم «بوتسي» هو الاسم الذي يدللها به)، ثم رأته ذات مرة يكشط كلمات العبارة خشية أن يراها البروفسور ويلر أثناء عملهما معًا. ويرجع الفضل الأكبر في امتلاك فاينمان لشجاعة التمسك بمعتقداته، ومن ثم شجاعة أن يسير في طريقه الخاص في الحياة، من الناحية الفكرية وغيرها، إلى آرلين وإلى ذكراها.

وفي حين كان ميلفيل فاينمان مهتمًّا بحياة ابنه المهنية، كانت والدته، لوسيل، مهتمة بالقدر نفسه بحياة ابنها الشخصية. لقد أحبت آرلين بكل تأكيد، ولكنها كتبت إلى ريتشارد قرب انتهائه من دراساته العليا، كأم يهودية تقليدية، تعبر له عن قلقها من أن آرلين سوف تكون عقبة في طريق عمله وعثوره على وظيفة وعلى أوضاعه المالية؛ فمرض آرلين سوف يتطلب رعاية خاصة، ووقتًا، ومالًا، وكانت لوسيل تخشى أن ريتشارد لا يمتلك ما يكفي من أي من هذه الأشياء.

ورد ريتشارد على خطاب أمه قبل أسابيع من نيله درجة الدكتوراه وزواجه من آرلين، في يونيو عام ١٩٤٢، بفتور ملحوظ قائلًا:

لست غبيًّا بما يكفي لأن أربط حياتي المستقبلية بأسرها بوعد قطعته في الماضي في ظل ظروف مختلفة … إنني أريد الزواج من آرلين لأنني أحبها، وهذا يعني أنني أريد الاعتناء بها. هذا كل ما في الأمر …

غير أن لدي رغبات وأهدافًا أخرى في الحياة بالطبع. وأحد هذه الأهداف هو أن أسهم بأكبر قدر أستطيعه في علم الفيزياء. وهذا، في عقلي، أكثر أهمية من حبي لآرلين.

لذا فمن حسن الطالع أن زواجي — كما أرى (أظن) — لن يعيق عملي إلا قليلًا، هذا إن أعاق من الأساس هدفي الرئيسي في الحياة. إنني واثق من أنني أستطيع القيام بكلا الأمرين في وقت واحد. (بل إن هناك احتمالًا أن السعادة المترتبة على الزواج، والتشجيع والمشاركة العاطفية المستمرين من جانب زوجتي، سوف يدعمان جهودي، لكن الحقيقة هي أن حبي لم يؤثر كثيرًا في الماضي على عملي بالفيزياء، ولا أعتقد حقًّا أنه سيكون شديد التأثير في المستقبل.)

ولأنني أشعر أنني أستطيع الاستمرار في مهمتي الرئيسية، في الوقت نفسه الذي أستمتع فيه ببهجة الاعتناء بشخص أحبه، فإنني أنوي الزواج في غضون وقت قصير.

وسواء أثر حبه على عمله بالفيزياء أم لا، فإن آرلين عزَّزَت بوضوح عزمه على متابعة أفكاره أيًّا كان ما يمكن أن تؤدي إليه. لقد أسهمت في ضمان استقامته الفكرية، ومع أن كلمات خطابه بدت باردة وفاترة إلى حد ما، لكن لو كانت آرلين قد قرأتها لكانت شعرت بالتشجيع بسببها؛ لأن هذه الكلمات عكست نوع التفكير العقلاني الذي أرادت بشدة تعزيزه في الرجل الذي أحبته واحترمته إلى أبعد الحدود.

ولعلها كانت ستتأثر أيضًا بالقدر نفسه بحدث يخلع الفؤاد وقع بعد وقت طويل من ذلك الوقت، في يوم وفاتها في ١٦ يونيو ١٩٤٥، وقبل ستة أسابيع من إلقاء القنبلة الذرية التي شارك ريتشارد في صنعها على هيروشيما. فبعد أن لفظت أنفاسها الأخيرة في غرفة المستشفى، قبَّلها ريتشارد، وسجلت الممرضة وقت الوفاة في الساعة ٩:٢١ مساءً. وبعدها اكتشف ريتشارد أن المنبه الموضوع إلى جوار فراشها توقف عند ذلك الوقت بالضبط! ولعل عقلًا أقل منطقية كان سيجد في هذا الأمر سببًا لتأثر أو إلهام روحي، وهو نوع الظواهر الذي يجعل الناس يؤمنون بنوع من الذكاء الكوني الأعلى. ولكن فاينمان كان يعلم أن المنبه عرضة للعطب لأنه كان قد أصلحه عدة مرات، ففكر أن الممرضة لا بد التقطته حين أرادت معرفة وقت وفاة آرلين فتسببت في توقفه عن العمل. وسيبدي فاينمان نفس النوع من التركيز الذهني والعزم على مواصلة الطريق الذي بدأه عام ١٩٤١، وهو طريق كان من شأنه أن يغير بعمق وعلى نحو دائم طريقة تفكيرنا في العالم.

•••

قالت الكاتبة لويز بوجان ذات مرة: «اللغز الأولي الذي يصاحب أي رحلة هو: كيف وصل المسافر إلى نقطة البداية في المقام الأول؟» وفي حالة رحلة فاينمان، كالعديد من الرحلات الملحمية، كانت البداية بسيطة. لقد أكمل هو وويلر عملهما الذي يوضح أن الكهرومغناطيسية الكلاسيكية يمكن عرضها في شكل لا يتضمَّن إلا التفاعلات المباشرة فحسب بين الجسيمات المشحونة المختلفة، وإن كانت تحدث مع اتجاه الزمن وفي عكس اتجاه الزمن. وبهذا يمكن للمرء أن يتجنَّب مشكلة الطاقة الذاتية اللانهائية لأي جسيم فردي مشحون. وكان التحدي التالي هو معرفة هل هذه النظرية يمكن أن تنسجم مع ميكانيكا الكم أم لا، وهل يمكن أن تحل المشكلات الرياضية الشائكة التي أدت إلى نظرية كمية للكهرومغناطيسية.

كانت المشكلة الوحيدة هي أن نظريتهما شديدة الغرابة، التي كانت مكتظة بالتفاعلات التي تحدث في أزمنة وأماكن مختلفة لكي تكون مكافئة في تنبؤاتها لنتائج الكهرومغناطيسية الكلاسيكية، ذات المجالات الكهربائية والمغناطيسية التي تنقل تلك التفاعلات، كانت تتطلب شكلًا رياضيًّا لم تكن ميكانيكا الكم تستطيع التعامل معه في ذلك الوقت. نشأت المشكلة بسبب التفاعلات بين الجسيمات في أزمنة مختلفة، أو كما عبر فاينمان فيما بعد عن الأمر فإن: «مسار جسيم معين في زمن معين يتأثر بمسار جسيم آخر في زمن مختلف. لذا إذا حاولت أن تصف الأمور … وتعبر عن كنه الأوضاع الحالية للجسيمات، وكيف ستؤثر تلك الأوضاع على المستقبل، فستجد أنه من المستحيل أن تتمكَّن من هذا بواسطة الجسيمات وحدها؛ لأن شيئًا فعلته الجسيمات في الماضي سوف يؤثر على المستقبل.» حتى هذه النقطة، كانت ميكانيكا الكم معتمدة على مبدأ بسيط. فلو أننا عرفنا بطريقة ما الحالة الكمية لمنظومة ما في وقت معين، فإن معادلات ميكانيكا الكم تسمح لنا بأن نحدد بالضبط التطور الديناميكي التالي للمنظومة. وبطبيعة الحال فإن معرفة التطور الديناميكي للمنظومة بالضبط لا يعني التنبؤ بدقة بما سنقيسه لاحقًا. إن التطور الديناميكي لمنظومة كمية لا يتضمن تحديد الحالة النهائية للمنظومة بالضبط، بل تحديد مجموعة من الاحتمالات التي تخبرنا بالحالة التي من المحتمل أن تكون عليها المنظومة المقاسة في وقت لاحق.

المشكلة هي أن الديناميكا الكهربائية وفقًا لصياغة فاينمان وويلر كانت تتطلب معرفة مواضع وحركات العديد من الجسيمات الأخرى في أوقات عديدة مختلفة من أجل تحديد حالة أي جسيم معين في أي وقت معين. وفي هذه الحالة، فإن الطرق الكمية القياسية لتحديد التطور الديناميكي التالي لهذا الجسيم تكون قد فشلت.

كان فاينمان قد نجح خلال خريف وشتاء عام ١٩٤١-١٩٤٢، كعادته دومًا، في صياغة نظريتهما بمجموعة من الطرق المختلفة، وإن كانت متساوية من الناحية الرياضية. وفي هذه الأثناء، اكتشف فاينمان أنه يستطيع إعادة كتابتها بالكامل من منظور المبدأ ذاته الذي أنكره بشدة عندما كان طالبًا بالجامعة.

لعلك تذكر أن فاينمان عرف في المدرسة الثانوية أن هناك صيغة لقوانين الحركة لم تكن معتمدة على ما يحدث في وقت واحد معين، وإنما على ما حدث في جميع الأوقات: إنها صيغة لاجرانج، ومبدأ الفعل الأقل الذي وضعه.

ولعلك تذكر أيضًا أن مبدأ الفعل الأقل يخبرنا أنه لكي نحدد المسار الكلاسيكي الفعلي لجسيم ما، يمكننا دراسة جميع المسارات المحتملة للجسيم بين نقطتي البداية والنهاية ثم نحدد المسار الذي له أقل قيمة متوسطة للحركة (التي تتحدد باعتبارها الفارق بين نوعين مختلفين من الطاقة الكلية للجسيم — وهما اللذان يسميان بطاقة الحركة وطاقة الوضع — مجموعة على النحو الملائم لكل مسار). كان هذا هو المبدأ الذي بدا لفاينمان أكثر أناقة وإحكامًا مما ينبغي، بحيث فضل أن يحسب المسارات عن طريق دراسة القوى المؤثرة عند كل نقطة ويستخدم قوانين نيوتن. لقد بدت فكرة أنه ينبغي عليه أن يهتم بالمسار الكامل للجسيم لكي يستطيع حساب سلوكه عند أي نقطة فكرة غير فيزيائية في ذلك الوقت.

غير أن فاينمان طالب الدراسات العليا اكتشف أن نظريته هو وويلر يمكن إعادة صياغتها بالكامل في ضوء أحد مبادئ الحركة، الذي تصفه بالكامل مسارات الجسيمات المشحونة مع مرور الزمن، دون حاجة لوضع المجالات الكهربائية والمغناطيسية في الاعتبار. وبتأمل الماضي، يبدو واضحًا لماذا كانت هذه الصيغة — التي ركزت على مسارات الجسيمات — ملائمة لوصف نظرية فاينمان-ويلر. فعلى أي حال فإن هذه المسارات هي التي حددت شكل نظريتهما في الأساس، وهي النظرية التي تعتمد كليًّا على التفاعلات بين الجسيمات التي تتحرك بطول مسارات مختلفة في الزمن. لذا، قرر فاينمان أنه لصياغة نظرية كم فإنه سيحتاج إلى معرفة كيفية استخدام ميكانيكا الكم مع منظومة كتلك التي كان هو وويلر يدرسانها، والتي يمكن تحديد الديناميكا الكلاسيكية لها بواسطة مبدأ فعل كهذا، ولكن ليس بطرق تقليدية.

أدت الفيزياء — أو على الأقل الفيزياء التي كان يتخيَّلها هو وويلر — بفاينمان إلى موقف ما كان يتوقع قط أن يكون فيه قبل ذلك بنحو خمس أو ست سنوات! وكان التحول في طريقة تفكيره في أعقاب جهوده المكثفة لاستكشاف نظريتهما الجديدة تحولًا جذريًّا. لقد صار مقتنعًا في تلك اللحظة أن التركيز على أحداث تقع في وقت محدد ليس هو طريقة التفكير المناسبة، وأن مبدأ الفعل — المعتمد على استكشاف مسارات كاملة عبر المكان والزمان — هو الطريقة المناسبة للتفكير. وقد كتب لاحقًا يقول: «لدينا [في مبدأ الفعل] شيء يصف طابع المسار عبر المكان والزمان. إن سلوك الطبيعة يتحدد عن طريق القول إن مسار المكان والزمان الكامل الخاص بها له طابع معين.» ولكن كيف يمكن ترجمة هذا المبدأ إلى ميكانيكا الكم، التي كانت حتى ذلك الوقت تعتمد اعتمادًا حاسمًا على تعريف المنظومة في وقت معين بهدف حساب ما سوف يحدث في أوقات لاحقة؟ وجد فاينمان مفتاح الحل خلال حفل غير متوقع لتناول الجعة في برينستون، ولكن لكي نستطيع تقدير هذا المفتاح حق قدره، علينا أولًا أن نأخذ منعطفًا قصيرًا لنراجع الصورة التي رسمناها لعالم الكم الغامض الذي كان فاينمان على وشك تغييره.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤