الفصل الرابع

أليس في بلاد الكم

الكون ليس فقط أغرب مما نظن، بل هو أيضًا أغرب مما «يمكن» أن نظن.

جيه بي إس هالدن، ١٩٢٤

على الرغم من أن العالم البريطاني النابغة جيه بي إس هالدن كان متخصِّصًا في علم الأحياء وليس الفيزياء، فإن مقولته السابقة عن الكون هي منتهى الدقة والذكاء، على الأقل لعالَم ميكانيكا الكم الذي كان ريتشارد فاينمان على وشك غزوه. فكما رأينا من قبل، يمكن للجسيمات، على نطاق المقاييس الصغيرة التي تصير فيها الآثار الميكانيكية الكمية مؤثرة وواضحة، أن تظهر وكأنها في عدة مواضع مختلفة في آن واحد، وكذلك تؤدي عدة وظائف مختلفة في آن واحد في كل موضع منها.

الكمية الرياضية التي يمكنها تفسير كل هذا الجنون الظاهري هي الدالة التي اكتشفها عالم الفيزياء النمساوي الشهير إرفين شرودينجر، الذي اشتق ما صار بعد ذلك الفهم التقليدي لميكانيكا الكم خلال أسبوعين مشحونين كان منشغلًا فيهما هو أيضًا بتأدية عدة أعمال مختلفة في وقت واحد؛ في خِضَمِّ مغامرة عاطفية مع امرأتين مختلفتين في شاليه جبلي منعزل. ولعل هذا كان أمثل مناخ يمكن فيه تخيل عالم تتحطم فيه — في نهاية المطاف — جميع قواعد السلوك التقليدية المعروفة.

تسمى تلك الدالة التي توصل إليها شرودينجر «الدالة الموجية» لجسم ما، وهي تفسر لنا الحقيقة الغامضة — التي تقع في لب ميكانيكا الكم — والتي تقول إن جميع الجسيمات تسلك سلوكًا يشبه بطريقة ما سلوك الموجات، وجميع الموجات تسلك سلوكًا يشبه بطريقة ما سلوك الجسيمات، والفارق بين الجسيم والموجة أن الجسيم يقع في نقطة محددة في حين تنتشر الموجة فوق مساحة ما.

وهكذا، إذا أردنا وصف جسيم — لا ينتشر فوق مساحة — بواسطة شيء يسلك سلوك موجة منتشرة فوق مساحة، فلا بد أن تستوعب الدالة الموجية تلك الحقيقة. وحسبما اكتشف شرودينجر، كان هذا ممكنًا لو أن الدالة الموجية — التي يمكن أن تسلك هي ذاتها سلوك الموجة — لا تصف الجسيم ذاته وإنما بالأحرى تصف «احتمال» العثور على الجسيم في أي موضع محدد في المكان في زمن معين. فإذا كانت الدالة الموجية — ومن ثم قيمة احتمال العثور على جسيم ما — غير صفرية في أماكن عديدة مختلفة، فإن الجسيم يتصرف وكأنه موجود في عدة أماكن مختلفة في أي زمن معين.

حتى الآن الأمور تسير على ما يرام، حتى لو بدت الفكرة ذاتها مجنونة. غير أن هناك قدرًا إضافيًّا حاسمًا من الجنون يقع في موضع القلب من ميكانيكا الكم، وينبغي أن أؤكد أن علماء الفيزياء ليس لديهم فهم جذري للأسباب التي تجعل الطبيعة تسلك هذا السلوك، إلا أنهم يسلمون بأنها تفعل. فإذا كانت قوانين فيزياء الكم تحدد سلوك الدالة الموجية، فإن الفيزياء تقول لنا إنه في ظل وجود الدالة الموجية لجسيم ما في زمن معين، تتيح لنا ميكانيكا الكم من حيث المبدأ حساب الدالة الموجية للجسيم — على نحو حاسم تمامًا — في وقت لاحق. وحتى هذه النقطة، لا يزال الأمر مثل قوانين نيوتن تمامًا، التي تخبرنا كيف تتطور الحركة التقليدية لكرة بيسبول مع الزمن، أو معادلات ماكسويل، التي تقول لنا كيف تتطور الموجات الكهرومغناطيسية مع الزمن. والفارق أن الكمية التي تتحرك مع مرور الزمن بأسلوب محدد لا يمكن مشاهدتها مباشرة في حالة ميكانيكا الكم، وإنما هي مجموعة من الاحتمالات للتوصل إلى مشاهدات معينة، وهي في حالتنا هذه احتمالات لقياس وجود الجسيم في مكان معين في زمن معين.

حتى الآن الأمر غريب بما فيه الكفاية، غير أنه يتبيَّن لنا بعد ذلك أن الدالة الموجية نفسها لا تصف بصورة مباشرة احتمال العثور على جسيم ما في مكان ما في زمن ما، وإنما «مربع» الدالة الموجية هو الذي يعطينا تلك الاحتمالات. هذه الحقيقة بعينها هي المسئولة عن الغرابة التي تحيط بعالم ميكانيكا الكم لأنها تفسر قدرة الجسيمات على التصرف تمامًا وكأنها موجات، كما سأوضح الآن.

بدايةً، لاحظ أن احتمالات الأشياء التي نقيسها تكون موجبة القيمة بصفة عامة (إذ لن نقول مطلقًا إن هناك احتمالًا بنسبة سالب ١ بالمائة للعثور على شيء ما) إلى جانب أن مربع أي كمية لا يمكن إلا أن يكون موجب القيمة، وهكذا فإن ميكانيكا الكم تتنبَّأ دائمًا باحتمالات موجبة القيمة، وهذا أمر طيب. غير أن معناه في الوقت نفسه أن الدالة الموجية ذاتها يمكن أن تكون موجبة أو سالبة؛ لأن القيمتين −١ / ٢ و+١ / ٢ — على سبيل المثال — كلتيهما تعطي نفس القيمة (+١ / ٤) عند تربيعها.

لو كانت الدالة الموجية هي التي وصفت احتمال العثور على جسيم ما في موضع ما مثل الموضع «س»، فهذا يعني إذن أنه إذا كان لدينا جسيمان متطابقان، فإن احتمال العثور على أي من الجسيمين عند الموضع «س» يكون هو حاصل جمع الدالتين الموجيتين المفردتين (وكلتاهما بالضرورة موجبة القيمة). غير أنه لما كان مربع الدالة الموجية هو الذي يحدد احتمال العثور على الجسيمات، ولما كان مربع حاصل جمع عددين «لا» يساوي حاصل جمع مربع العددين، فإن الأمور بذلك تصبح أكثر تشويقًا بكثير في ميكانيكا الكم.

إذا افترضنا أن قيمة الدالة الموجية التي تحسب احتمال العثور على الجسيم «أ» في الموضع «س» هي م١، وقيمة الدالة الموجية التي تحسب احتمال العثور على الجسيم «ب» في الموضع «س» هي م٢، فإن ميكانيكا الكم تخبرنا بأن احتمال العثور على أي من الجسيمين «أ» أو «ب» في الموضع «س» يساوي (م١ + م٢)٢. لنفترض أن م١ = ١ / ٢ وم٢ = −١ / ٢. إذن، إذا كان لدينا جسيم واحد فحسب، وليكن الجسيم «أ»، فإن احتمال العثور عليه في الموضع «س» يساوي (١ / ٢)٢ = ١ / ٤. وبالمثل، سيكون احتمال العثور على الجسيم «ب» عند الموضع «س» هو (−١ / ٢)٢ = ١ / ٤. ولكن إذا كان لدينا جسيمان، فإن احتمال العثور على «أي» منهما في الموضع «س» هو ((١ / ٢) + (−١ / ٢))٢ = صفر!

هذه الظاهرة، التي تبدو مضحكة للوهلة الأولى، هي في حقيقة الأمر مألوفة في عالم الموجات، مثل الموجات الصوتية. فهذه الموجات يمكنها التداخل بعضها مع بعض بحيث يمكن للموجات التي تسير في وتر ما — على سبيل المثال — أن تتداخل فتصنع مواضع على الوتر، تسمى «عقدًا»، لا تتحرك على الإطلاق. وبالمثل، إذا انبعثت موجات صوتية من سماعتين مختلفتين في غرفة، فقد نجد، إذا تمشينا في أرجاء الغرفة، أن هناك مواضع معينة تلغي فيها الموجات تأثير بعضها على بعض، أو — كما يقول علماء الفيزياء — تتداخل سلبيًّا بعضها مع بعض. (يصمم خبراء الصوتيات قاعات الحفلات الموسيقية آملين ألا يكون فيها مثل تلك «البقع الصماء».)

وما تخبرنا به ميكانيكا الكم، من خلال تحديد الاحتمالات بواسطة مربع الدالة الموجية، هو أن الجسيمات أيضًا يمكن أن «يتداخل» بعضها مع بعض، بحيث إذا وجد جسيمان داخل صندوق، فإن احتمال العثور على أي منهما في موضع ما يقل عن احتمال العثور على جسيم واحد في ذلك الموضع إذا كان وحده في الصندوق.

ولما كان طول الموجة الناتجة — أو «النطاق» — هو الذي يتأثر بالتداخل عندما يحدث — وقد يكون النطاق موجبًا أو سالبًا، تبعًا لوجوده في قمة أو في قاع الموجة — فإن هناك اسمًا آخر للدالة الموجية لجسيم ما وهو «نطاق الاحتمال» الذي من الممكن أن يكون بالموجب أو بالسالب.

وتمامًا مثلما هي الحال في الأطوال المعتادة للموجات الصوتية، فإن نطاقات الاحتمالات المنفصلة للجسيمات المختلفة يمكن أن يلغي بعضها تأثير بعض.

هذه الحسابات الرياضية تحديدًا هي التي تقف وراء سلوك الإلكترونات التي تطلق على شاشة وامضة، كما أوضحت في الفصل الثاني. وهنا نجد أن الإلكترون يمكن أن يتداخل مع نفسه لأن احتمال وجود الإلكترونات في عدة مواضع مختلفة في وقت واحد هو احتمال غير صفري.

لنفكر أولًا في كيفية حساب الاحتمالات في عالم عقلاني تقليدي: لنفترض أننا قررنا السفر من البلدة «أ» إلى البلدة «ج» متَّخِذين مسارًا معينًا عبر البلدة «ب». ولنفترض أن احتمال اختيار مسار ما من «أ» إلى «ب» يساوي م(أ ب)، وأن احتمال اختيار مسار معين من «ب» إلى «ج» هو م(ب ج) حينئذ، إذا افترضنا أن ما يحدث عند «ب» مستقل تمامًا عما يحدث عند «أ» و«ج»، فإن احتمال السفر من «أ» إلى «ج» عبر مسار محدد يمر بالبلدة «ب» يمكن التوصل إليه ببساطة من حاصل ضرب الاحتمالين، أي إن: م(أ ب ج) = م(أ ب) × م(ب ج). فمثلًا، لنفترض أن هناك احتمالًا بنسبة ٥٠٪ لاتخاذ مسار من «أ» إلى «ب»، واحتمال بنسبة ٥٠٪ لاتخاذ مسار آخر من «ب» إلى «ج». هكذا، إذا أرسلنا أربع سيارات، فإن اثنتين سوف تصلان إلى «ب» عبر المسار المختار، وواحدة من هاتين الاثنتين سوف تتخذ المسار المختار التالي من «ب» إلى «ج». وهكذا فإن هناك احتمالًا بنسبة ٢٥٪ (٠٫٥ × ٠٫٥) لاتخاذ المسار المطلوب عبر الطريق بأكمله من البداية للنهاية.

والآن لنفترض أنه لا يعنينا الموضع المحدد الذي سنصله في البلدة «ب» الواقعة بين «أ» و«ج». حينها يكون احتمال الانتقال من «أ» إلى «ج»، الذي يساوي م(أ ج)، هو ببساطة حاصل جمع احتمالات م(أ ب ج) الخاصة باختيار المرور من «أي» نقطة عند البلدة «ب» تقع بين «أ» و«ج».

وسبب منطقية هذا الفرض أننا في المعتاد إذا كنا متجهين من «أ» إلى «ج»، وكانت «ب» تمثل إجمالي المدن المختلفة التي يمكننا المرور بها — وليكن مثلًا في منتصف الطريق بين «أ» و«ج» — فلا بد أن نمر عبر إحداها خلال رحلتنا (انظر الشكل).

(لما كانت هذه الصورة تذكرنا بالصور القديمة لأشعة الضوء، فبإمكاننا القول إنه إذا كان المثال الذي بين أيدينا متعلقًا بانتقال أشعة الضوء من النقطة «أ» إلى «ج»، فإن باستطاعتنا استخدام قاعدة الزمن الأقل لتحديد أن احتمال اتخاذ أحد المسارات — وهو المسار الذي يستغرق أقل زمن — يساوي ١٠٠٪، وأن احتمال اتخاذ أي مسار آخر يساوي صفرًا.)

والمشكلة هي أن الأمور لا تسير على هذا النحو في ميكانيكا الكم. فلما كانت الاحتمالات تتحدد عن طريق مربعات نطاقات الاحتمالات للانتقال من مكان إلى آخر، فإن احتمال الانتقال من «أ» إلى «ج» لا يمكن حسابه بجمع احتمالات الانتقال من «أ» إلى «ج» عبر أي نقطة وسيطة محددة مثل «ب». هذا لأنه، في ميكانيكا الكم، فإن «نطاقات» الاحتمالات المستقلة لكل جزء من المسار هي التي تتضاعف وليس الاحتمالات ذاتها. ومن ثم فإن نطاق الاحتمال للانتقال من «أ» إلى «ج» عبر نقطة معينة هي «ب» يُحتسب بضرب نطاق الاحتمال للانتقال من «أ» إلى «ب» في نطاق الاحتمال للانتقال من «ب» إلى «ج».

وإذا لم نحدد النقطة «ب» التي سنمر بها، فإن نطاق الاحتمال للانتقال من «أ» إلى «ج» يمكن حسابه مجددًا بجمع ناتج نطاقات الاحتمالات للانتقال من «أ» إلى «ب» والانتقال من «ب» إلى «ج»، لجميع نقاط «ب» الممكنة. غير أن هذا يعني أن الاحتمال الفعلي صار الآن يساوي «مربع» مجموع هذه النواتج. ولما كان بعض حدود هذا المجموع من الممكن أن تكون سالبة القيمة، فإن السلوك الكمي المجنون الذي تناولناه في الفصل الثاني للإلكترونات التي تصطدم بشاشة يصبح ممكنًا. أعني بهذا أننا إذا لم نقس أي النقطتين، ولنفترض مثلًا أنهما «ب» و«ب''»، فسوف يمر بها الجسيم أثناء تحركه عبر واحد من شقين يقعان بين «أ» و«ج»، واحتمال الوصول للنقطة «ج» على الشاشة يتحدد بجمع مربعات نطاقات الاحتمالات للمسارين المختلفين المتاحين. أما إذا قسنا النقطة، «ب» أو «ب''»، التي سيعبرها الجسيم خلال انتقاله بين «أ» و«ج»، فإن الاحتمال يكون ببساطة هو مربع نطاق الاحتمال لمسار واحد. وفي حال إطلاق العديد من الإلكترونات واحدًا بعد الآخر، فإن الشكل النهائي على الشاشة في الحالة الأولى سيتحدد عن طريق جمع مربعات حاصل جمع نطاقات الاحتمالات لكل من المسارين المحتملين لكل جسيم، وسيتحدد في الحالة الأخرى عن طريق جمع مربعات نطاقات الاحتمالات لكل مسار يتخذه كل إلكترون على حدة. ومرة أخرى، نظرًا لأن مربع مجموع عدة أعداد لا يساوي مجموع مربعات تلك الأعداد، فإن الاحتمال الأول يمكن أن يختلف تمامًا عن الاحتمال الأخير. وكما رأينا من قبل، إذا كانت الجسيمات إلكترونات، فإن النتائج تكون مختلفة بالتأكيد إذا لم نقس الجسيم بين نقطتي البداية والنهاية مقارنة بما يحدث لو أننا فعلنا ذلك.

إن ميكانيكا الكم تعمل، سواء بدت لنا منطقية أم لا.

•••

هذا الجانب الذي يبدو منافيًا للمنطق من ميكانيكا الكم هو «بالتحديد» ما ركز عليه ريتشارد فاينمان. وكما عبر هو عن المسألة لاحقًا، فإن الصورة الكلاسيكية تكون خاطئة إذا كانت الإفادة بأن موضع الجسيم في منتصف الطريق من «أ» إلى «ج» له قيمة محددة — هي «ب» — إفادة خاطئة. وعوضًا عن ذلك فإن ميكانيكا الكم تسمح بجميع «المسارات» الممكنة، مع إمكانية اختيار جميع قيم «ب» في الوقت نفسه.

وكان السؤال الذي طرحه فاينمان بعد ذلك هو: هل يمكن لميكانيكا الكم أن تصاغ في إطار «المسارات» المرتبطة بنطاقات الاحتمالات وليس في إطار نطاقات الاحتمالات ذاتها؟ وقد تبين أنه لم يكن أول من طرح هذا التساؤل، إلا أنه كان أول من قدم إجابة له.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤