الفصل السادس

فقد البراءة

إنه ديراك آخر، لكنه هذه المرة إنسان.

يوجين ويجنر،
متحدثًا عن ريتشارد فاينمان

تخرج ريتشارد فاينمان في جامعة برينستون عام ١٩٤٢ وقد نال شهادة الدكتوراه وهو شاب غر إلى حد ما ومفعم بالأمل، اشتهر بين زملائه من الطلبة وأساتذته بالعبقرية والنبوغ، لكنه مجهول إلى حد بعيد خارج حدود جامعته. ثم بزغ نجمه بعدها بثلاثة أعوام، من لوس ألاموس؛ كفيزيائي أثبت جدارته ونال تقديرًا رفيعًا من أغلب فطاحل علم الفيزياء في جميع أنحاء العالم، وشابًّا ناضجًا منهك القوى سئم الحياة. فخلال تلك الفترة، تعرض فاينمان لخسارة شخصية هائلة، بالإضافة إلى فقد البراءة الفكرية والأخلاقية كنتيجة ثانوية حتمية لويلات الحرب.

•••

بالكاد كان الحبر الذي حررت به شهادة فاينمان قد جف عندما شرع في تنفيذ قراره، الموضح في ذلك الخطاب الفاتر الذي بعث به إلى والدته، وهو قرار الزواج من آرلين. لم تُجد معارضة والديه ووالدي آرلين نفعًا، وكانوا جميعًا أكثر انشغالًا بصحته وصحة آرلين من اهتمامهم بحبهما المشترك. كان كل منهما يشعر بأن الآخر هو الحصن الذي يحتمي به من أي هجوم يتعرض له من بقية العالم. معًا كان كل شيء ممكنًا، وقد رفضا الاستسلام للتشاؤم تجاه المستقبل. وفي خطاب كتبته آرلين لريتشارد بعد فترة قصيرة من انتقاله إلى شقة جديدة في برينستون وأثناء إجراء الترتيبات النهائية لحفل الزفاف قالت: «إننا لسنا شخصين تافهين؛ إننا عملاقان … أعلم أن أمامنا مستقبلًا ينتظرنا معًا، وعالمًا من السعادة؛ الآن وإلى الأبد.»

كانت كل مناحي حياتهما القصيرة معًا، إذا تأملناها الآن، تمزَّق نياط القلوب. ففي اليوم المفترض أن يكون يوم زفافهما، استعار ريتشارد سيارة ستيشن من أحد أصدقائه، وزوَّدها بالحشايا حتى تتمكن آرلين من الرقود بداخلها. وبعدها قاد السيارة من برينستون إلى منزل والديها كي يصطحبها وقد ارتدت ثوب عرسها، وتوجها معًا إلى حي وجزيرة ستاتن أيلاند بنيويورك حيث ستقام مراسم الزواج دون أن يكون معهما أي من الأهل أو الأصدقاء، ومن هناك توجَّهَا إلى ما أصبح منزلًا مؤقتًا لآرلين، وهو مستشفى خيري في نيوجيرسي!

بعدها بفترة قصيرة، ودون مدعوين أو شهر عسل، عاد فاينمان إلى عمله ببرينستون، غير أنه لم يكن هناك شيء يفعله هناك؛ فمشروعه مع ويلسون قد توقَّف وكان فريق العمل لا يزال في انتظار أوامر جديدة. ولما كان النشاط الرئيسي في ذلك الحين يحدث في شيكاجو، حيث كان إنريكو فيرمي وويلر يعملان على بناء مفاعل نووي، أُوفِد فاينمان إلى شيكاجو ليتعرف على ما يجري هناك.

كانت رحلته عام ١٩٤٣ بمنزلة بداية لما سيصبح بعد ذلك سلسلة متعاقبة من الفرص لمقابلة أقرانه ورؤسائه وإبهارهم. وعلى الرغم من أن الحرب كدرت حياة الجميع، فقد قدمت لفاينمان في الوقت نفسه — من ناحيتين على الأقل — فرصًا مدهشة ما كانت لتتاح له لولا الحرب.

من ناحية، لما كانت خيرة العقول وألمعها تُجمع معًا كي تقضي عامين في تعاون وثيق، فقد سنحت الفرصة لفاينمان كي يتألَّق أمام أشخاص لولا تلك الظروف لاضطر أن يرتحل في جميع أرجاء المعمورة كي يلتقي بهم. كان قد أبهر من قبل بالفعل — من خلال حضوره للقاءات جماعية دورية ظلت تعقد منذ عام ١٩٤٢ في نيويورك وفي معمل الإشعاع بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا بماساتشوستس — عالِم الفيزياء العبقري، والمتوتر في الوقت نفسه، روبرت أوبنهايمر، الذي اختير بعدها بفترة قصيرة لقيادة مشروع القنبلة الذرية بأكمله. وفي شيكاجو، أثناء قيامه بمهمة جمع المعلومات، أذهل أعضاء مجموعة العلماء النظريين هناك عندما تمكَّن من إجراء عملية حسابية ظلت مستعصية عليهم لما يزيد على شهر كامل.

وعقب عودته إلى برينستون وتقديم تقريره الذي أوجز فيه نتائج مهمته، لم يضطر للانتظار طويلًا قبل أن يعلم ما سيحدث بعد ذلك. لقد اختير أوبنهايمر لقيادة مشروع القنبلة، وبعدها بفترة وجيزة اختار لوس ألاموس بولاية نيو مكسيكو — وهي منطقة ريفية نائية رائعة الجمال زارها من قبل وهو أصغر عمرًا، وتفي كذلك بشروط الجيش فيما يتعلق بالعزلة والأمن — لتكون الموقع الذي سرعان ما أصبح بعدها أكثر معامل العالم تطورًا، والذي تجمَّع به أكبر عدد من عباقرة العلم في مكان واحد (بل ربما أبرع من توماس جيفرسون نفسه، كما ضرب جون إف كنيدي ذات مرة المثل أثناء استقباله مجموعة من الفائزين بجائزة نوبل).

كان أوبنهايمر عالمًا عبقريًّا، لكن الأمر الذي كان أكثر أهمية لنجاح مشروع القنبلة الذرية، أنه كان عبقريًّا بالقدر نفسه في الحكم على مواهب الآخرين. وسرعان ما بدأ أوبنهايمر يعيِّن ويحشد فريقًا من أقرانه المتميِّزين لينتقلوا إلى لوس ألاموس، حتى قبل اكتمال بناء المعمل والمنطقة السكنية المحيطة به. ومن نافلة القول أنه بحث عن فاينمان وبذل كل ما في وسعه لإقناعه بالانتقال إلى نيو مكسيكو مع الموجة الأولى من العلماء، في نهاية مارس ١٩٤٣.

أدى عرض أوبنهايمر إلى الأثر السعيد الآخر الذي جلبه المجهود الحربي للزوجين. كان مرض آرلين يتفاقم؛ فلم يكن مقدرًا لها أن تعيش أكثر من عامين بعد الزواج. وعادة ما تكون السنوات الأولى من عمر أي زيجة فترة للرومانسية والمغامرات؛ لو كان مقدرًا أن تكون هناك فترة كتلك. ولو لم تكن الحرب قد قلبت العالم رأسًا على عقب، فما من شك أن فاينمان كان سيستغرق وقتًا أطول كي ينهي رسالة الدكتوراه التي يعدها، وكان هو وآرلين سيواصلان مكوثهما المفعم بالمعاناة في برينستون إذ كانت صحتها في تدهور مستمر، ومن ثم، قبل وفاتها، ربما كان سيمضي في طريقه لنيل درجة أستاذ مساعد في مكان ما لا يختلف كثيرًا عن برينستون. وبدلًا من ذلك، فإن قراره الانتقال إلى الجنوب الغربي الجامح المجهول منح الزوجين الشابين، ولا سيما آرلين، الفرصة للاستمتاع بشيء من الرومانسية والمغامرة التي طالما تاقا إليها والتي ما كانت آرلين لتستمتع بها مطلقًا لولا ذلك.

تأثر فاينمان باهتمام أوبنهايمر به وتقديره إياه. وبدا «أوبي»، وهو الاسم الذي كان زملاؤه ينادونه به، القائد الأمثل لتلك الكوكبة من العلماء أصحاب الفكر المستقل. لقد استحق احترامهم جميعًا، وعلى حد قول فاينمان فيما بعد: «كان بمقدورنا مناقشته في أي شيء فنيًّا لأنه كان يفهم كل شيء.» وفي الوقت نفسه أظهر أوبنهايمر اهتمامًا غير عادي بسلامة ورفاهية كل فرد عيَّنَه معه في هذه المهمة. ومرة أخرى، يقول فاينمان متذكرًا: «كان أوبنهايمر مفرطًا في إنسانيته. فعندما كان يعين كل هؤلاء الناس للذهاب إلى لوس ألاموس … كان يهتم بجميع التفاصيل. فمثلًا، عندما طلب مني القدوم أخبرته عن تلك المشكلة؛ أن زوجتي مريضة بالسل. وقد بحث بنفسه عن مستشفى ثم اتصل بي ليخبرني أنه عثر على مكان يمكنه أن يعتني بها. لم أكن إلا واحدًا من كثيرين يحاول تجنيدهم للعمل في المشروع، لكن هذا كان دأبه دائمًا؛ منشغلًا بمشكلات الناس الشخصية.» كانت مكالمة أوبنهايمر من شيكاجو بشأن عثوره على مستشفى لآرلين أول اتصال هاتفي يتلقَّاه فاينمان من مكان بعيد للغاية كهذا، ولعل هذا كان من أسباب تأثره. وعلى أي حال، بعد إجراء بعض المفاوضات مع سلطات الجيش، رُتِّبَ لآرلين وريتشارد استقلال القطار «سانتا في تشيف» من شيكاجو في ٣٠ مارس. كانت آرلين في حالة غير عادية من البهجة والإثارة:

حبيبي ريتش، آه لو تعلم كم أسعدتني برحلة القطار تلك؛ لقد كانت منتهى أملي وأحلامي منذ تزوَّجْنَا … لم يتبقَّ سوى يوم واحد. إنني في غاية الإثارة والسعادة وأتفجر بهجة. إنني أفكر وآكل وأنام «بك»؛ حياتنا، حبنا، زواجنا، والمستقبل الرائع الذي نبنيه معًا. فقط لو أن غدًا يأتي سريعًا.

بإلحاح من آرلين، ابتاع الزوجان تذكرة مقصورة خاصة، ثم صعدا إلى متن القطار واتجها إلى الغرب. وفي نهاية المطاف، وبعد بحث عدة احتمالات ممكنة، وضعت آرلين في مصحة في ألباكيركي، التي تبعد مائة ميل عن موقع المعمل (ولم يكن المعمل قد أنشئ بعد)، وكان ريتشارد يذهب لرؤيتها مرة كل أسبوع.

بطريقة ما يمكن القول إن ريتشارد فاينمان كان يعد لهذه التجربة طيلة حياته؛ فجميع مواهبه كانت ستستغل خلال العامين التاليين: قدراته الحسابية الخارقة، عبقريته السحرية في الرياضيات، حبه الفطري لعلم الفيزياء، تقديره الجلي لأهمية التجريب، بغضه وازدراؤه للسلطة، اتساع معرفته بعلم الفيزياء، من الفيزياء النووية إلى فيزياء المواد (بعد وصوله بفترة قصيرة أصابه المرض، وأرسل خطابًا إلى والدته يخبرها فيه أنه قرأ مرجعًا في الهندسة الكيميائية يحتوي موضوعات متباينة من «نقل السوائل» إلى «التقطير» أثناء إقامته مدة ثلاثة أيام في مصحة لأمراض الصدر)، وافتتانه بالآلات الحاسبة.

كان العمل الفيزيائي مختلفًا تمامًا عن عمله الأكاديمي. لقد كان أيسر من الخوض في قوانين مجهولة، لكنه أقذر كثيرًا من العمل على الإلكترونات المنفردة في ذرات الهيدروجين البسيطة. وبجانب إسهامه في اختراع القنبلة، ترك فاينمان القليل من التراث العلمي الخالد من نتاج عمله خلال تلك الفترة. (هناك معادلة خاصة بحساب كفاءة السلاح النووي، اسمها معادلة «بيته-فاينمان»، لا تزال مستخدمة إلى اليوم، لكن هذا كل ما أعرفه عنها.)

إلا أن لوس ألاموس كان لها تأثيرها البالغ على المسار المهني لفاينمان، وقد بدأ كل شيء بالصدفة البحتة، مثلما هو الحال مع أمور أخرى عديدة. ومرة أخرى نقتبس من كلماته: «معظم العلماء الكبار كانوا خارج البلدة لسبب أو لآخر، ينقلون أثاثهم أو أشياء من هذا القبيل؛ فيما عدا هانز بيته. ويبدو أنه عندما كان يبحث فكرة ما كان يحب دائمًا أن يناقشها مع شخص آخر. ولما لم يستطع العثور على أحد في الجوار، جاء لزيارتي في مكتبي … وبدأ يشرح ما كان يفكر فيه. وفيما يختص بعلم الفيزياء فإنني أنسى مع من أتحدث بالضبط، لهذا كنت أقول له: «لا، لا! هذا جنون!» وما إلى ذلك. وكلما اعترضت على شيء، كان يتبيَّن لي دائمًا أنني مخطئ، ومع ذلك كان هذا هو ما يريده.» ويتذكر بيته الأمر على هذا النحو: «لم أكن أعلم أي شيء عنه … لقد حصل حديثًا على شهادة الدكتوراه تحت إشراف ويلر في برينستون. بدأنا نتحدث، وكان من الواضح أنه شديد الذكاء. في الاجتماعات والندوات التي كانت تعقد، كان دائمًا ما يطرح أسئلة تنم عن ذكاء استثنائي وفكر ثاقب. وبدأنا نتعاون معًا.» وفي ذكرى أخرى يقول: «كان شديد الحيوية منذ البداية … أدركت على الفور أنه بمنزلة ظاهرة غير طبيعية … كنت أعتقد أن فاينمان ربما يكون الأكثر عبقرية في القسم بأكمله، لذا تعاونَّا معًا كثيرًا.»

كانت الفرصة التي سنحت له للعمل مع بيته في لوس ألاموس حاسمة إلى أقصى حد. لقد أكمل كل منهما الآخر على نحو رائع، إذ تشاركا في حدس فيزيائي خارق للعادة، وقدرة تحمل ذهنية عالية، وقدرات حسابية فذة. غير أن بيته كان مختلفًا تمامًا عن فاينمان، من عدة وجوه أخرى؛ كان هادئًا ورزينًا، وعلى العكس من فاينمان القابل للاستثارة، كان بيته «رابط الجأش». وقد انعكس هذا على أسلوب كل منهما في التعامل مع الرياضيات. كان بيته يبدأ الحسابات من البداية حتى يصل إلى النهاية، مهما طال الطريق بين البداية والنهاية ومهما كانت صعوبته. أما فاينمان فكان يبدأ من المنتصف أو حتى من النهاية، ثم يقفز عائدًا تارة للوراء وتارة أخرى يتقدم للأمام إلى أن يقنع نفسه بأنه على صواب (أو خطأ). وفي جوانب أخرى كان بيته قدوة لفاينمان. لقد أحب فاينمان روح الدعابة التي يتمتع بها بيته، وسلوكه الرزين، وأسلوبه المباشر والأخوي في التعامل مع الآخرين. وفي حين ساعده ويلر في إطلاق حماسته وإبداعه، فإنه لم يكن بنفس براعة بيته في علم الفيزياء. ولو أراد فاينمان أن يرتقي لمستويات جديدة أعلى، فقد كان بحاجة لشخص يمكن أن ينافسه، وكان بيته هو الشخص المنشود.

بحلول الوقت الذي انتقل فيه بيته إلى لوس ألاموس، كان قد تمكَّن من الإجابة عن واحد من أهم التساؤلات المحيرة في علم الفيزياء الفلكية: كيف تتوهَّج الشمس؟ طوال ما يربو على قرن من الزمان ظل العلماء يتساءلون عن مصدر طاقة الشمس الذي يجعلها تشع ضياءً منذ ما يزيد على ٤ مليارات سنة. اقترح أول التقديرات، على لسان طبيب ألماني في أوائل القرن الثامن عشر، أنه لو كانت الشمس كرة هائلة الحجم من الفحم المشتعل، لظل في استطاعتها مواصلة الاشتعال وإطلاق ذلك القدر الذي نشاهده من الوهج لمدة تقارب ١٠ آلاف سنة، وهي فترة زمنية تصادف أنها تتفق مع بعض التقديرات التوراتية لعمر الكون. وفي وقت لاحق من نفس القرن، أعلن اثنان من الفيزيائيين المشاهير، وهما هينريتش هيلمهولتز ولورد كلفن، تقديراتهما التي تقول إن الشمس ربما كانت تشع بواسطة الطاقة المنطلقة أثناء عملية الانكماش بالجاذبية، وأن هذا المصدر يمكنه تغذية الشمس بالطاقة مدة قد تصل إلى ١٠٠ مليون سنة. غير أنه حتى هذا التقدير ظل أقل بكثير من أن يفسر العمر التقديري للمجموعة الشمسية، وهو عمر يقدر بمليارات السنين لا بمئات الملايين.

استمر هذا اللغز الغامض قائمًا طيلة عقد العشرينيات، عندما زعم عالم الفيزياء الفلكية البريطاني الشهير سير آرثر ستانلي إدنجتون أنه لا بد أن يكون هناك مصدر مجهول للطاقة يغذي باطن الشمس. كانت المشكلة أن نموذج حسابات عمر الشمس يفترض أن باطن الشمس لا تزيد درجة حرارته على ١٠ ملايين درجة مئوية، وهي بالطبع درجة حرارة شديدة الارتفاع لكنها ليست مرتفعة بما يكفي. وبعبارة أخرى فإن العمليات الفيزيائية المرتبطة بالطاقات المتوفرة عند درجات حرارة كتلك كان يعتقد أنها مفهومة جيدًا، وما من مجال لفيزياء حديثة غريبة. ونتيجة لذلك، قوبل تصريح إدنجتون بالتشكيك، وهو ما أدى به إلى إطلاق عبارة التوبيخ الشهيرة التي قال فيها: «لأولئك الذين يعتقدون أن درجة الحرارة في مركز الشمس ليست مرتفعة بما فيه الكفاية لإحداث عملية فيزيائية جديدة أقول: اذهبوا وابحثوا عن مكان أكثر سخونة!»

بيته، الذي كان زميل دراسة لأعظم علماء الفيزياء النظرية في أوروبا، ومنهم أرنولد سومرفيلد وبول ديراك وإنريكو فيرمي، ثبت أقدامه بحلول أوائل الثلاثينيات ربما كأهم مرجعية في العالم في مجال الفيزياء النووية البازغ حديثًا. وقد كتب مجموعة من المقالات النقدية الحاسمة في هذا الميدان، ودرسها فاينمان وهو طالب بالجامعة. ولو كان هناك شخص مؤهل لاكتشاف العملية الجديدة التي تتولد بها طاقة الشمس، لكان هذا الشخص هو بيته، وفي عام ١٩٣٩ توصَّل لاكتشافه العظيم؛ لقد أدرك أن التفاعلات النووية المكتشفة حديثًا (التي تشبه في جوهرها تلك التي استخدمت لاحقًا في تصنيع القنبلة الانشطارية، لكنها بدلًا من أن تكون قائمة على تحطيم أنوية ثقيلة كنواة اليورانيوم والبلوتونيوم، فإنها تقوم على عمليات اندماج لأنوية خفيفة كأنوية الهيدروجين لتتحول إلى أنوية أثقل) هي أساس إطلاق كميات مهولة من الطاقة. وإضافة إلى ذلك، أوضح بيته أن هناك سلسلة من التفاعلات تبدأ بالبروتونات، التي تشكل أنوية الهيدروجين، وتنتج في نهاية المطاف أنوية ثاني أخف عنصر بعد الهيدروجين، وهو الهيليوم، الذي يطلق طاقة تقدر بأكثر من ٢٠ مليون ضعف الطاقة التي تطلقها تفاعلات كيميائية مشابهة بين أنوية الهيدروجين. وفي حين أنه عند درجة حرارة لا تزيد على ١٠ ملايين درجة مئوية ربما تستغرق نواة الهيدروجين في المتوسط أكثر من مليار سنة حتى تتعرض لتصادم قوي بما فيه الكفاية لبدء مثل هذا التفاعل، فإن أكثر من مائة ألف طن من الهيدروجين يمكنها أن تتحول إلى هيليوم كل ثانية، مولدةً طاقة كافية لجعل الشمس تشع ضياءها الحالي لمدة تقترب من نحو ١٠ مليارات سنة.

وعن هذا الاكتشاف النظري المهم، مُنح بيته جائزة نوبل في الفيزياء عام ١٩٦٩، بعد أربع سنوات من تقاسم فاينمان الجائزة مع عالمين آخرين عن عمله في الديناميكا الكهربائية الكمية. وقد أعيد صياغة تفاعلات «الاندماج» النووي التي استخدمها بيته في تفسيره للتفاعلات التي تحدث داخل الشمس بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية بأربع سنوات لتطوير «القنابل النووية الحرارية»، المعروفة باسم القنابل الهيدروجينية.

جنَّد أوبنهايمر بيته في فريقه عام ١٩٤٢ واختاره بحكمة ليرأس القسم النظري، الذي ضمَّ أعظم العقول وأضخم الذوات التي ستقطن لوس ألاموس. لم يكن بيته مناظرًا فكريًّا لهم فحسب، وإنما كانت قوة شخصيته الهادئة والمثابرة في آن واحد ضرورة أساسية للمعاونة على توجيههم وإخماد نيران الصراعات التي قد تنشأ بينهم، والأهم من هذا كله، تحمل سماتهم الشخصية الغريبة.

وجد بيته في فاينمان ضالَّتَه المنشودة لتمحيص وتنقية الأفكار، تمامًا مثلما وجد فاينمان في بيته المعلم الناصح المثالي الذي يساعده على توجيه خياله الخصب النشط. لم يضر أيًّا منهما أن كليهما يحب عمله. أحسن بيته في أنه سرعان ما أدرك موهبة فاينمان واتخذ ما بدا قرارًا جريئًا بتعيين الشاب البالغ أربعة وعشرين عامًا فحسب قائدًا لمجموعة علماء في قسم الفيزياء النظرية، متجاوزًا بذلك زملاء أكبر منه سنًّا وأعظم حنكة. يتذكر ستيفان جرويف تفاعلاتهما معًا قائلًا: «كان في الإمكان سماع صوت ريتشارد فاينمان من طرف الممر النائي وهو يقول: «كلا، كلا، أنت مجنون!» وكان زملاؤه في القسم النظري بلوس ألاموس يرفعون أبصارهم عن أجهزة الكمبيوتر التي يعملون عليها ويتبادلون ابتسامات العالِمين ببواطن الأمور. قال أحدهم: «ها هما يبدآن مجددًا. البارجة وزورق الطوربيدات!»»

لم يكن من الصعب تخمين من منهما البارجة ومن الزورق. ومع ذلك، فبخلاف الضحك المشترك الصادر من القلب والتبارز الفكري، كان الأمر الذي ترك أكثر الانطباعات استدامة لدى ذلك الشاب الذي كان لا يزال في سن التأثُّر والانبهار هو إصرار بيته على ربط كل عملية حسابية نظرية برقم ما، أي كمية يمكن مقارنتها بنتائج التجارب العملية. ومهما قيل عن ذلك فإننا لن نتمكن من وصف عمق تأثير هذه السمة على كل ما قام به فاينمان بعد ذلك في حياته كعالِم. وقد عبَّر هو نفسه عن الأمر فيما بعد بقوله: «كانت لبيته سمة تعلمتُها منه، وهي أن تحسب الأرقام. فإذا كانت أمامك مشكلة ما، فإن الاختبار الحقيقي لكل شيء — والذي لا يمكنك التغاضي عنه — هو أن تستخلص الأرقام؛ فإذا لم تستطع تمثيل فكرك على أرض الواقع، فهو إذن غير ذي أهمية. لذا كان توجهه دائمًا هو استخدام النظرية. وهذا الاستخدام يتحقق من خلال تطبيق النظرية عمليًّا.»

كانت قائمة الأنشطة التي أنجزها فاينمان أثناء فترة عمله تحت قيادة بيته في لوس ألاموس مدهشة بحق، ويكفي تنوع هذه الأنشطة. لقد بدأ بأن ابتكر بسرعة طريقة لحساب تكامل عددي (أو إيجاد حاصل جمع) لما يسمى المعادلات التفاضلية من الدرجة الثالثة، التي تحتوي على مشتقات من مشتقات من مشتقات. وتبيَّن أن طريقته تلك أكثر دقة مما يمكن للمرء أن يفعله بمعادلات أبسط منها من الدرجة الثانية. وفي غضون شهر تالٍ، توصَّل فاينمان وبيته لمعادلتهما لحساب كفاءة السلاح النووي.

ثم انتقل بعد ذلك لمشكلة كانت أكثر صعوبة من الناحية النظرية، وهي حساب انتشار النيوترونات السريعة التي تستحث عمليات الانشطار داخل القنبلة الذرية المصنوعة من اليورانيوم ٢٣٥. وابتكر من أجل حل هذه المشكلة أسلوبًا كان شديد الشبه من الناحية الرياضية بالصياغة التي سيصنعها في نهاية المطاف من أجل التعامل مع الديناميكا الكهربائية الكمية.

خلال المراحل الأخيرة من صنع القنبلة، أصبح فاينمان مسئولًا عن العمليات الحسابية، ومشرفًا في النهاية على جميع الجوانب الحسابية لتصنيع قنبلة بلوتونيوم ناجحة، التي اقترح جون فون نويمان أنه يمكن تفجيرها بواسطة تفجير داخلي هائل يعمل على زيادة كثافة المادة وجعل الكتلة المستقرة في الأحوال العادية تصبح كتلة حرجة. وكان أول انفجار نووي من صنع الإنسان — حدث في الصحراء قبل شروق الشمس بلحظات يوم ١٦ يوليو ١٩٤٥، وأعطي الاسم الكودي «ترينيتي» — ناجحًا إلى حد بعيد بسبب القيادة الحسابية لفاينمان في تلك الشهور الأخيرة الحرجة.

اشتمل عمل فاينمان على استخدام، بل حتى تجميع، جيل جديد من الآلات الحاسبة الكهروميكانيكية لأداء الحسابات المعقدة للنماذج الضرورية لتصميم الاختراع الجديد، وهو الأمر الذي مثَّل تحديًا لنبوغ فاينمان الميكانيكي والرياضي معًا. وصف بيته ذلك لاحقًا بقوله:

كان بمقدور فاينمان عمل أي شيء، أي شيء على الإطلاق. فذات مرة، كانت أهم مجموعة في قسمنا مشغولة بالآلات الحاسبة … وكان الرجلان اللذان جعلتهما مسئولين عن تلك الحاسبات يكتفيان باللهو بها، ولم يقدما لنا أبدًا الحلول التي أردناها … فطلبت من فاينمان تولي مسئولية ذلك. وبمجرد وصوله إلى هناك، صرنا نحصل على الحلول كل أسبوع؛ الكثير من الحلول بالغة الدقة. كان يعلم دومًا ما المطلوب، وكان يعلم دائمًا ما يجب عمله لتحقيقه … (وجدير بي أن أذكر أن أجهزة الكمبيوتر وصلت إلينا في صناديق؛ كل منها فيما يقرب من عشرة صناديق. وجمع فاينمان ومعه واحد من قادة المجموعات السابقين الأجهزة … وفيما بعد زارنا واحد من فنيي شركة آي بي إم المتخصصين فقال: «لم يحدث هذا أبدًا من قبل، لم أَرَ من قبل رجلًا غير متخصص يجمع أجزاء هذه الآلات، وهو عمل بالغ الإتقان!»)

وجاء أفضل وصف لإسهام فاينمان في تصنيع القنبلة بنجاح وهو يستغل مواهبه الفطرية وينضج كفيزيائي على لسان الفيزيائي والمؤرخ العلمي سيلفان شويبر حين قال: «كان تنوع قدراته أسطوريًّا. وأكسبته عبقريته — في تشخيص وإصلاح أعطال حاسبات مارشانت ومونرو، وتجميع آلات آي بي إم، وحل الألغاز والمسائل الفيزيائية العويصة، واقتراحاته باتباع مناهج حسابية مبتكرة، وشرحه للنظريات للقائمين بالتجارب وشرح التجارب للعلماء النظريين — إعجاب جميع من تعاملوا معه.»

كانت مواهب فاينمان وطاقاته في لوس ألاموس مستمَدَّة من سمة معينة وصفها صديقه وزميله القديم في الكلية تيد ويلتون، الذي انضم إليهم فيما بعد في لوس ألاموس، بقوله: «ما إن تقابله أحجية فيزيائية صيغت بوضوح، أو نتيجة رياضية ما، أو حيلة من حيل الورق، أو أي شيء كان، فلا ينام [فاينمان] قبل أن يجد لها حلًّا.» واتفق شويبر معه في الرأي قائلًا إن هذا التعليق يصف بالضبط جوهر شخصية فاينمان، الذي «تسيطر عليه حاجة ملحة «لحل» كل ما يمثل «سرًّا غامضًا».»

كانت إنجازات فاينمان أكثر إبهارًا إذا وضعنا في اعتبارنا أنه في خضم كل ذلك، كانت زوجته ترقد بين الحياة والموت في مستشفى ألباكيركي. كان عليه القيام برحلة أسبوعية لمسافة ٢٠٠ ميل جيئة وذهابًا كي يزورها، سواءٌ باستعارة سيارة أو بإيقاف السيارات والسفر متطفلًا. وكانت مراسلاته لها تزداد كلما تفاقمت أعراض مرضها وازدادت حالتها الصحية سوءًا، وأصبحت تلك المراسلات يومية قرب النهاية. كان حبهما المتبادل، ورقَّة مشاعره والقلق الذي عبر عنه في كتاباته متجليًا بوضوح ومؤلمًا لمن يقرؤه.

خلال الشهور الأربعة التي سبقت وفاة آرلين في السادس عشر من يونيو ١٩٤٥ — أي قبل إلقاء القنبلة الذرية الأولى على هيروشيما بستة أسابيع — كتب ريتشارد فاينمان اثنين وثلاثين خطابًا لآرلين. كان يكتب للأطباء محاولًا استكشاف طرق علاج جديدة للسل ومتوسلًا لذلك، ثم نقلها إلى موقع لوس ألاموس ليكونا قريبين، إلى أن تسبب عدم شعورها بالارتياح من أسلوب تعامل أطقم تمريض الجيش، واللوائح، وترتيبات الإقامة في جعل ريتشارد يعيدها من جديد إلى ألباكيركي، على الرغم من شكوكه ومخاوفه. كتب يحكي لها عن مشاعر الندم التي أحس بها عندما شرب حتى الثمالة يوم عيد نصر الحلفاء في أوروبا، وعن خوفهما المشترك من احتمال أن تكون حاملًا، وعن الطرود البريدية الآتية من موطنهما، وعن مقاومة حريق بالغابة، وعن حظر اقتراب الرجال من سكن البنات (ومازحها بأنه لم يذهب إلى سكن البنات منذ أكثر من عام)، لكن أكثر ما كتب عنه هو حبه لها. واختتم آخر خطاب كتبه لها، في السادس من يونيو، كما يلي:

سآتي هذا الأسبوع، وإذا لم تريدي رؤيتي فما عليك إلا أن تخبري الممرضة. سوف أتفهم يا عزيزتي، سوف أتفهم. سوف أتفهم كل شيء لأنني أعلم الآن أنك في شدة المرض بحيث لا تستطيعين أن تشرحي لي أي شيء. ولست بحاجة لأي شرح أو تفسير. أحبك، أعشقك، وسوف أخدمك دون أن أسأل، وإنما بتفهُّم … إنني أعشق امرأة عظيمة وصبورة. سامحيني على بطئي في الفهم. أنا زوجك. أحبك.

في هذه الأثناء، وخلال تلك الفترة العصيبة، كان هو وباقي العلماء بلوس ألاموس يمضون قدمًا بإيقاع مسعور نحو صنع قنبلة من شأنها أن تغير تاريخ العالم إلى الأبد. كانت المشاعر متَّقِدة، وربما كان هذا ما جعلهم يواصلون العمل. فعندما لحقت الهزيمة بألمانيا، لم يبد أن أحدًا طرح هذا السؤال: لماذا نصنع هذه القنبلة؟ كان الجميع يتمنون مشاهدة ثمرة عنائهم تخرج إلى النور، لتنهي الحرب في المحيط الهادي.

من وجهة نظر إنسان مثلي، شب عن الطوق في حقبة اتسمت بالازدهار العلمي والبيروقراطية الشديدة، تعد الشدة والسرعة الكبيرتان اللتان مضى بهما مشروع مانهاتن أمرًا يكاد يكون غير مفهوم. كان الوقت الذي مضى منذ كانت القنبلة مجرد تصور نظري حتى إتمام تجربة ترينيتي أقل من خمس سنوات! وكان الوقت الذي مضى منذ تعيين فاينمان وآخرين في المشروع أقل من ثلاث سنوات! أنجزت أبرع العقول في علم الفيزياء، التي كان حافزها في البداية الاعتقاد بأن العدو (ألمانيا) كان هو الآخر بصدد صنع سلاح نووي، في ثلاثة أعوام ما قد يستغرق في زماننا الحالي فترة لا تقل عن عقد أو عقدين من الزمن. إن مشروع فصل النظير المشع، وهو المشروع الهائل الذي أنجز في مختبر أوك ريدج بتنيسي وحده والذي ضاعف بنسبة تزيد على مليون مرة إجمالي كمية اليورانيوم ٢٣٥ في العالم خلال تلك السنوات الثلاث — في ظل ظروف بالغة الخطورة أُرسل فاينمان عام ١٩٤٥ لمحاولة تصحيحها — من شأنه أن يستغرق في زمننا الحالي وقتًا لا يقل عن تلك المدة لمجرد إخلاء البيئة المحيطة قبل السماح له بالبدء.

كان فاينمان يتعجَّل ليكون إلى جوار آرلين في ساعاتها الأخيرة يوم ١٦ يونيو، لكن بعد أن توفيت، أدرك أنه لم يعد بيده ما يمكنه فعله، فجمع متعلقاتها، ورتب لإقامة الشعائر الجنائزية فورًا، وعاد، محطَّمًا، إلى لوس ألاموس على نحو مثير للدهشة ليواصل عمله في المساء التالي. لم يوافق بيته على ذلك وأمره بالعودة إلى منزله بلونج أيلاند كي يحصل على قسط من الراحة. لم تكن أسرته قد أخطرت مسبقًا بوصوله، وبقي معهم إلى أن تلقَّى برقية مشفرة بعدها بحوالي شهر تستدعيه للعودة من جديد إلى نيو مكسيكو. عاد في الخامس عشر من يوليو، وأرسلت إليه سيارة لتحمله إلى منزل بيته كي يتناول شطائر أعدتها له السيدة روز، زوجة بيته، ثم استقَلَّ حافلة إلى موقع صحراوي مقفر يسمى «خورنادا دل مويرتو»، حيث انضم إلى زملائه لمشاهدة اختبار القنبلة التي وصلوا الأيام بالليالي طيلة السنوات الثلاث الأخيرة عاكفين على تصميمها وصنعها؛ القنبلة التي ستغيِّر شكل العالم إلى الأبد.

كل من شاهد الانفجار شعر بالرهبة، لكن بصور متباينة. فالبعض، مثل أوبنهايمر، تذكَّر الشعر، وكان ما تذكره في تلك اللحظة فقرة غامضة من شعر باجافاد جيتا تقول: «الآن صرت الموت، مدمر العوالم.» أما فاينمان، الذي استطاع تجنب الخرافات لحظة وفاة زوجته، والعاطفية بعدها مباشرةً، فقد حافظ على رباطة جأشه وتماسكه. أخذ يفكر في العمليات التي كونت تلك السحب التي أحاطت بموجة الانفجار، والعمليات التي جعلت الجو يتألق بالضياء أثناء تأيُّنه نتيجة لحرارة الانفجار، وبعدها بمائة ثانية، عند وصول صوت الانفجار المدوي أخيرًا إلى منصة المراقبة، كان يبتسم. فقد أثبتت الطبيعة صحة الحسابات التي بذل فيها جهدًا مضنيًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤