الفصل الثامن

من هنا إلى ما لا نهاية

لذا يبدو أن ظني كان في محله، وأن الصعوبات التي تعترض الديناميكا الكهربائية والصعوبات التي تعترض نظرية الفجوة لديراك منفصلة بعضها عن بعض ويمكن حل صعوبات إحداهما قبل الأخرى.

ريتشارد فاينمان،
في خطاب مؤرخ عام ١٩٤٧

ربما كان الأمر يتطلب رجلًا مستعدًّا لخرق جميع القواعد لكي يروض ترويضًا كاملًا نظرية كنظرية ميكانيكا الكم تخرق هي نفسها جميع القواعد. وعندما وجَّه ريتشارد فاينمان انتباهه مرة أخرى نحو الديناميكا الكهربائية الكمية، كان قد بدأ بالفعل يكتسب شهرة باستهزائه بالمعايير المتعارف عليها في مجتمع مهنته، وبعلاقاته الغرامية، وبتعاملاته المستهجنة. فحتى عندما كان في لوس ألاموس كان يهوى إحداث فوضى؛ فكان يبحث عن فتحات في أسوار الأمن، ويدخل منها، ثم يخرج من البوابة الرئيسية دون أن يكون هناك سجل لدخوله، أو ينزع أقفال خزائن الأسرار العليا ويترك رسائل بداخلها.

بعد وفاة آرلين واكتشافه الحديث لمفهوم العدم بعد تفجير قنبلة ترينيتي، كان رد فعله تجاه معاناته واضطرابه الداخلي أن كَفَرَ بكل الأعراف والتقاليد المتبعة. ومنذ ذلك الحين فصاعدًا، بدأ يستمتع بكونه مختلفًا. ومع أنه في السابق كان يتصف بالحياء مع النساء، فقد صار بعد ذلك زير نساء. ففي غضون شهور من وفاة آرلين، وهو لا يزال في لوس ألاموس، شرع في مواعدة النساء الجميلات بإيقاع محموم. وبعدها بعامين، حين طفت أحزانه الدفينة على السطح أخيرًا، تمكَّن من كتابة خطاب لآرلين يكشف فيه عما يشعر به من ألم: «أراهن أنك ستدهشين من أنني ليست لي حتى صديقة (فيما عداك يا حبيبتي) بعد مرور عامين. غير أنه لا حيلة لك يا عزيزتي — ولا أنا — لا أفهم الأمر، إذ إنني التقيت العديد من الفتيات الجميلات … غير أنه بعد لقاءين أو ثلاثة يبدون جميعًا كالرماد.»

ربما جعلته العلاقات الغرامية يشعر بالخواء، غير أنها استمرت مع ذلك. فعندما وصل إلى كورنيل أول مرة، كان لا يزال يبدو مثل الطلبة، وخلال أوقات إحساسه بالوحدة بدأ يواعد الطالبات اللاتي كان يلتقي بهن في حفلات رقص الطلاب المستجدين. لم يكن ما يعادل مطاردته للنساء في الشدة سوى رغبته في تركهن. وفي عام ١٩٤٧، وقبل أن يضع الدرجات النهائية لطلبته، غادر الجامعة في رحلة شهيرة تجوب أرجاء البلاد مع فريمان دايسون، وكان لا يزال طالبًا وقتها. كان هدفه الرئيسي من هذه الرحلة إنهاء علاقة مع امرأة من لوس ألاموس كان مستمرًّا في علاقة غرامية حميمة طويلة الأمد معها، وكانت تتسبب في إثارة غيرة امرأة أخرى في إيثاكا فتصب غضبها عليه. وفي الوقت نفسه، تعاملت معه امرأة أخرى — وهي واحدة من عديدات يبدو أنهن حملن منه وأجهضن حملهن — ببرود في خطاب كتبته إليه، وفيه صححت أيضًا خطأه في تهجي اسمها.

لم يستقر فاينمان مطلقًا في مكان واحد طيلة الفترة التي مكث خلالها في إيثاكا. كان كثيرًا ما يقيم مع أصدقاء له، عادةً ما يكونون متزوجين، وكانت تلك الزيارات كثيرًا ما تنتهي بصورة سيئة نتيجة لبذاءته جنسيًّا. بعدها بسنوات قليلة، عندما أمضى عامًا في البرازيل، وضع بالفعل مجموعة من القواعد البسيطة لإغواء النساء في الحانات، ومن بينهن العاهرات. صار مشهورًا بغواية النساء في المؤتمرات التي تُعقد بالخارج.

كانت جاذبيته أمرًا مفهومًا؛ فقد كان بارع الذكاء، مرحًا، واثقًا من نفسه، ويتمتع بشخصية كاريزمية آسرة إلى أقصى حد؛ كان طويل القامة، وقد ازداد وسامة مع مرور السنين. كانت عيناه الثاقبتان ساحرتين، وكان نشاطه وحماسه يصيبان من يعرفه بالإدمان.

غير أن خرقه للأعراف والتقاليد لم يقتصر فقط على الأمور الجنسية؛ ففي كل مكان وجد فيه ما يعتبره من قبيل الهراء، كان يتمرد، وعلى نحو يخالف الأعراف الرسمية في أغلب الأحيان. وهناك واقعة حدثت مع عدة أطباء نفسانيين كانوا يجرون فحصًا ثانيًا له في صيف عام ١٩٤٧ جديرة بأن تكون موضوع إحدى حلقات مسلسل الكوميديا الشهير «أبوت وكوستيللو»، وقد صارت واقعة شهيرة فيما بعد. فنتيجة للهياج الذي أبداه خلال المقابلة، أعلن الأطباء أنه غير لائق للخدمة من الناحية العقلية، وهي النتيجة التي جعلته وهانز بيته ينفجران في ضحك متصل بلا توقف لمدة نصف ساعة بعد عودته إلى العمل.

طور فاينمان لاحقًا مثل هذه الحكايات لتكون جزءًا من أسطورة فاينمان التي كان يحب الترويج لها. غير أنه في عام ١٩٤٧ لم يكن قد حقق شهرةً بعد، وكان تراكم سلوكياته ومواقفه غير التقليدية متزامنًا مع ما صار يمثل أكثر عامين في حياته قوة من حيث النشاط الإبداعي، وهي فترة اكتشافاته التجريبية التي جعلت من حل مسألة رياضية غامضة أمرًا أكثر إلحاحًا من أجل تحقيق تقدم فيزيائي.

كان الاكتشاف التجريبي للبوزيترون عام ١٩٣٢ بمنزلة إثبات مهم لنظرية الديناميكا الكهربائية الكمية المتفقة مع النسبية التي توصل إليها ديراك، إذ مثَّل سابقة أولى في التاريخ لاكتشاف جسيم أولي لم يكن مكتشفًا من قبل عن طريق الحدس وعلى أساس تفكير نظري محض. غير أنه أضاف، حرفيًّا، مستوى لانهائيًّا جديدًا ومحبطًا من الارتباك في أوساط علماء الفيزياء الذين كانوا يسعون لفهم منطق تنبؤات النظرية. ففور تأكيد وجود البوزيترونات، واجه علماء الفيزياء وجهًا لوجه التعقيدات المرعبة التي طرحها احتمال وجود «بحر» ديراك والتفاعلات بين الإلكترونات وتلك الجسيمات المكتشفة حديثًا — البوزيترونات — من ناحية وبين الإشعاع من ناحية أخرى، وهي ذات التفاعلات التي كان فاينمان في البداية يأمل في محوها من النظرية الكمية للكهرومغناطيسية.

وفي حين كانت التفاعلات المتوقعة للإلكترونات المفردة مع الفوتونات المفردة أو حتى مع موجات الضوء أو الراديو الكهرومغناطيسية التقليدية تتفق على نحو مدهش مع المشاهدات، فإنه كلما حاول علماء الفيزياء الذهاب لما هو أبعد من هذا التقدير التقريبي الأبسط — بإضافة تفاعلات كمية متعددة أو حتى بمحاولة تناول المشكلة طويلة الأمد المتعلقة بتفاعل إلكترون مع نفسه، وهي ذات المشكلة التي حاول فاينمان في البداية حلها أثناء دراسته الجامعية — ظلت حلولهم تحمل قيم ما لانهاية، ومن ثم كانت حلولًا واهية. كان من الممكن في ذلك الحين تجاهل هذا العجز عن فهم نظرية من الواضح أنها صحيحة عند مستوًى عميق معين دون خوف في الغالبية العظمى من التطبيقات العملية، غير أنه أقضَّ مضجع مجموعة معينة من علماء الفيزياء الطموحين وكان أشبه بعصب مؤلم مكشوف. ويمكن استجلاء شعور اليأس الذي هيمن على المشهد من خلال تصريحات العديد من أعظم علماء الفيزياء النظرية في ذلك الوقت. كتب هايزنبرج مثلًا عام ١٩٢٩ يقول إنه أصيب بالإحباط خلال محاولته فهم أفكار ديراك وأنه قلق من أن يظل «للأبد حانقًا على ديراك». وعبر فولفجانج باولي عام ١٩٢٩ عن مخاوفه (التي عكست بشكل تنبئي مخاوفَ أفصح عنها فيما بعد العديد من علماء الفيزياء، ومن بينهم فاينمان، بشأن تطورات أحداث وقعت في علم الفيزياء) بقوله: «لست راضيًا تمام الرضا … وتحديدًا فإن الطاقة الذاتية للإلكترون تخلق صعوبات أكبر بكثير مما ظن هايزنبرج في البداية. أيضًا فإن النتائج الجديدة التي تؤدي إليها نظريتنا مشكوك فيها تمامًا، والخطر عظيم بحق؛ أن يفقد الأمر برمته الاتصال بعلم الفيزياء ويتحول إلى رياضة بحتة.»

كتب هايزنبرج بدوره إلى باولي عام ١٩٣٥ يقول: «فيما يخص الديناميكا الكهربائية الكمية … نحن نعلم أن كل شيء خطأ. ولكن حتى نعثر على الاتجاه الصحيح الذي ينبغي علينا السير فيه … علينا أن نعرف عواقب الصياغة الرسمية الحالية على نحو أفضل كثيرًا من معرفتنا الحالية.» ثم أضاف لاحقًا في بحث تالٍ: «النظرية الحالية للبوزيترون والديناميكا الكهربائية الكمية يجب اعتبارها مؤقتة.» وحتى ديراك قال عن الديناميكا الكهربائية الكمية عام ١٩٣٧: «نظرًا لتعقيدها البالغ، فإن معظم علماء الفيزياء سوف يسعدهم أن يشهدوا نهاية لها.»

كانت المخاوف من الشدة بحيث إن هؤلاء الفيزيائيين — وبخاصة عالم الفيزياء الدنماركي العظيم نيلز بور — أبدوا قلقهم من أن ميكانيكا الكم ذاتها ربما تكون هي أصل المشكلة، وربما كان من الواجب استبدال فيزياء مختلفة بها. كتب بور إلى ديراك عام ١٩٣٠ يقول: «كنت أفكر مليًّا في الآونة الأخيرة في مشكلات نظرية النسبية، وأعتقد يقينًا أن حل المشكلات الحالية لن يتحقق دون مراجعة أفكارنا الفيزيائية العامة الأكثر عمقًا من تلك التي نتباحث بشأنها في ميكانيكا الكم الحالية.»

حتى باولي اقترح، عام ١٩٣٦، أنه ربما كان من الضروري مراجعة ميكانيكا الكم عند التعامل مع منظومات — مثل نظرية فجوة ديراك — تسمح بوجود عدد لانهائي من الجسيمات داخل حيز خاوٍ؛ لأنه وراء قيمة ما لانهاية الشهيرة المرتبطة بالطاقة الذاتية للإلكترون نتيجة لتفاعله مع مجاله الكهرومغناطيسي، جاء تقديم ديراك للجسيمات المضادة ليخلق فئة جديدة من التفاعلات اللانهائية التي زادت الأمور غموضًا وتعقيدًا في عالم الكم. لم تتضمَّن تلك التفاعلات الجديدة الفوتونات الوسيطة التي عمل فاينمان وويلر جاهدين من أجل التخلص منها، وإنما تضمَّنت أزواجًا «افتراضية» من الإلكترونات والبوزيترونات.

ولما كان علماء الفيزياء قد صاروا يعلمون الآن أن الجسيمات والجسيمات المضادة يمكن أن تفنى متحوِّلة إلى إشعاع صافٍ، فإن العملية العكسية، أي التحول الكامل للطاقة إلى كتلة، من الممكن أيضًا — من حيث المبدأ — أن تحدث. إلا أنه يوجد قيود على هذا التحول. فعلى سبيل المثال، لا يمكن للإلكترون وجسيمه المضاد، البوزيترون، أن يتحولا إلى جسيم إشعاعي واحد، أي الفوتون، لنفس السبب الذي يجعل القنبلة عندما تنفجر، لا تتطاير شظاياها في اتجاه واحد. فإذا التقى إلكترون مع بوزيترون وهما يسيران في اتجاهين متضادين وبنفس السرعة فإن زخمهما الإجمالي يكون صفرًا. وإذا نتج عن فنائهما فوتون واحد، فإنه سيتطاير بنفس سرعة الضوء في اتجاه ما، حاملًا زخمًا قيمته غير صفرية. وهكذا نرى أنه لا بد أن ينتج فوتونان على الأقل عند فناء إلكترون وبوزيترون، بحيث يمكن للجسيمين المنبعثين أن ينطلقا في اتجاهين متقابلين ومتساويين أيضًا. وبالمثل، لا يمكن لفوتون واحد أن يتحول فجأة إلى زوج مكون من بوزيترون وإلكترون؛ إذ ينبغي أن يجتمع فوتونان حتى ينتجا ذلك الزوج النهائي.

لكن علينا أن نتذكر أنه في حالة الجسيمات الافتراضية، تكون كل الاحتمالات مستبعدة، فلا حاجة للاحتفاظ بالطاقة والزخم ما دام الجسيم الافتراضي يتلاشى في وقت قصير للغاية بحيث لا يمكن قياسه مباشرةً. ومن ثم، فإن الفوتون الافتراضي يمكنه التحول تلقائيًّا إلى زوج مكون من إلكترون وبوزيترون، ما دام هذا الزوج يمكنه الانحلال والتحول مرة أخرى إلى فوتون افتراضي واحد خلال فترة زمنية قصيرة.

يطلق على هذه العملية التي ينشطر فيها فوتون لحظيًّا إلى زوج مكون من إلكترون وبوزيترون اسم «استقطاب الفراغ». وقد أطلق عليها هذا الاسم لأنه في وسط حقيقي كأي جسم صلب مكون من ذرات — تحتوي على شحنات موجبة وسالبة — إذا صنعنا مجالًا كهربيًّا خارجيًّا كبيرًا، فإنه يمكننا «استقطاب» الوسط بفصل الشحنات مختلفة النوع؛ فتندفع الشحنات السالبة في اتجاه بفعل المجال، في حين تنجذب الشحنات الموجبة في الاتجاه الآخر. ومن ثم تظل المادة المتعادلة متعادلة، غير أن الشحنات ذات العلامة المختلفة تنفصل مكانيًّا. هذا ما يحدث لحظيًّا في الفراغ عندما ينقسم الفوتون مؤقتًا إلى إلكترون سالب الشحنة وجسيم مضاد، أو بوزيترون، موجب الشحنة. وهكذا يُستقطب الفراغ لحظيًّا.

وأيًّا كانت تسميتنا له، فإن الإلكترون، الذي كان لا بد فيما مضى أن نعتبره محاطًا بسحابة من الفوتونات الافتراضية من حوله، صار من الضروري الآن التفكير فيه بوصفه محاطًا بسحابة من الفوتونات الافتراضية علاوة على أزواج مكونة من إلكترونات وبوزيترونات. وبطريقة ما، تعد هذه الصورة مجرد طريقة أخرى للتفكير في تفسير ديراك للبوزيترونات باعتبارها «فجوات» داخل بحر لا نهاية له من الإلكترونات الموجودة في الفراغ. وأيًّا كانت الطريقة، فما إن نضم النسبية، ووجود البوزيترونات، فإن نظرية الإلكترون الواحد تتحول إلى نظرية لعدد لانهائي من الإلكترونات والبوزيترونات.

علاوة على ذلك، فإنه تمامًا مثلما أنتج انبعاث الفوتونات الافتراضية وامتصاصها بواسطة إلكترون واحد طاقة ذاتية إلكترونية لانهائية في العمليات الحسابية، فإن إنتاج أزواج افتراضية مكونة من جسيمات وجسيمات مضادة أنتج تصحيحًا جديدًا لانهائيًّا في حسابات الديناميكا الكهربائية الكمية. وعلينا أن نتذكر مرة أخرى أن القوة الكهربية بين الجسيمات يمكن اعتبارها ناتجة عن تبادل الفوتونات الداخلية بين تلك الجسيمات. والآن إذا كان يمكن للفوتونات أن تنشطر إلى أزواج مكونة من إلكترونات وبوزيترونات، فإن هذه العملية من الممكن أن تغير من قوة التفاعل بين الجسيمات ومن ثم تحول الطاقة المحسوبة للتفاعل بين إلكترون وبروتون داخل ذرة كذرة الهيدروجين. وكانت المشكلة هي أن التحول المحسوب اتخذ قيمة لانهائية!

كانت الحقيقة المخيبة للآمال أن نظرية ديراك أنتجت تنبؤات بالغة الدقة بمستويات الطاقة للإلكترونات داخل الذرات ما دامت عمليات تبادل الفوتون الواحد هي فقط الموضوعة في الحسبان دون حساب تأثيرات المرتبة الأعلى المزعجة التي أنتجت قيمًا لانهائية. وعلاوة على ذلك فإن تنبؤ ديراك بالبوزيترونات أُثبت بواسطة بيانات تجريبية. ولولا تلك الحقائق، لفَضَّلَ كثير من علماء الفيزياء — حسبما ذكر ديراك ضمنًا — الاستغناء ببساطة عن الديناميكا الكهربائية الكمية برمتها.

•••

تبين أن ما كنا بحاجة إليه كي نحل كل تلك الصعوبات لم يكن التخلص من ميكانيكا الكم بالكلية، ولا الاستغناء عن كل تلك الجسيمات الافتراضية، وإنما بالأحرى تطوير فهم أعمق لأسلوب تطبيق المبادئ الأساسية لنظرية الكم في سياق النسبية. كان هذا يحتاج إلى السير في طريق ملتوٍ طويل غير مباشر، وأن يأتي التوجيه من تجارب رئيسية، حتى تنجلي في نهاية المطاف هذه الحقيقة المختبئة وسط مستنقع موحل من الحسابات المعقدة المضنية، سواء لفاينمان أو لبقية العالم.

بدأت عملية الاكتشاف ببطء وعلى نحو مرتبك، كما هي العادة دائمًا. فبعد اكتمال بحثه الذي نشره في دورية ريفيوز أوف مودرن فيزيكس، حوَّل فاينمان انتباهه من جديد نحو نظرية ديراك. كان قد انتهى مرة أخرى إلى أن الفيزياء علم ممتع، وعلى الرغم من ظروفه الشخصية غير المستقرة، فإن تركيزه لم يتشتَّتْ مطلقًا عن المشكلة التي استحوذت على تفكيره منذ كان طالبًا بالجامعة؛ ألا وهي مشكلة الطاقة الذاتية اللانهائية للإلكترون. لقد كان هذا لغزًا لم يحلَّه بعد، وكان ضد طبيعته أن يترك الأمر يمر ويتخلَّى عنه.

بدأ فاينمان بمشكلة صغيرة للإحماء. فلما كان اللف المغزلي للإلكترون لا يمكن فهمه إلا في إطار ميكانيكا الكم، فقد بدأ فاينمان بمحاولة فهم إن كان في استطاعته تفسير الحركة المغزلية مباشرةً في إطار صياغته لحاصل جمع المسارات أم لا. كان أحد تعقيدات نظرية ديراك هو أنها معادلة واحدة مجزأة إلى أربعة أجزاء: واحدة لوصف الإلكترونات التي تدور في اتجاه أعلى، وأخرى للإلكترونات التي تدور لأسفل، وواحدة لوصف البوزيترونات التي تدور لأعلى، وأخرى للبوزيترونات التي تدور لأسفل. ولما كان المفهوم الطبيعي للف المغزلي يتطلب وجود ثلاثة أبعاد في الفراغ (مستوى ثنائي الأبعاد يدور فيه الجسيم ومحور عمودي يدور حوله)، فكَّر فاينمان أنه يستطيع جعل المسألة أكثر بساطة لو أنه حاول أولًا التفكير في عالم ذي بعد مكاني واحد فحسب وبعد زماني واحد، حيث لا تكون للاختلافات بين المسارات تأثير كبير. ومن ثم تتضمَّن جميع المسارات الانتقال جيئة وذهابًا في بعد واحد في الفراغ، وتحديدًا، في خط مستقيم.

تمكن فاينمان من اشتقاق نسخة مبسطة من معادلة ديراك ملائمة لعالم ثنائي الأبعاد كهذا، بحيث إنه في كل مرة يدور الإلكترون «على عقبيه» وهكذا بعد أن يتحرك نحو اليمين يعاود التحرك نحو اليسار، وجرت مضاعفة نطاق احتمال هذا المسار بضربه في «معامل طوري»، وهو في هذه الحالة «رقم مركب»، وهو رقم غريب يحتوي على الجذر التربيعي ﻟ −١. ويمكن للأرقام المركبة أن تظهر في نطاقات الاحتمالات؛ تذكر أن الاحتمالات الفعلية تعتمد على مربع تلك الأرقام، وبهذا لا تظهر في النتيجة النهائية سوى أرقام حقيقية.

كانت فكرة أن الحركة المغزلية قد تُنتج بطريقة ما أطوارًا إضافية عند حساب نطاقات الاحتمالات بمنزلة نبوءة متبصرة. غير أنه عندما حاول فاينمان تجاوز بعد مكاني واحد والربط بين عوامل أطوار أكثر تعقيدًا أثناء التفاف الإلكترونات والتحرك في اتجاه مختلف، توصل إلى حلول غير منطقية ولم يتمكن من الحصول على نتائج تتفق مع نظرية ديراك.

ظل فاينمان يجرب بدائل مختلفة في شتى الاتجاهات لإعادة صياغة النظرية، لكنه لم يحقق تقدمًا يذكر. غير أنه كان هناك مجال معين تبين أن طريقة حاصل جمع المسارات التي ابتكرها مفيدة فيه للغاية. فالنسبية الخاصة تقول لنا إن «حاضر» شخص ما قد لا يكون هو «حاضر» شخص آخر؛ أي إن الراصدين في حالة الحركة النسبية لديهم أفكار مختلفة بشأن «التزامن». توضح النسبية الخاصة كيف أن تلك الفكرة المكانية عن التزامن تنطوي على قِصَر نظر، وكيف أن قوانين الفيزياء الأساسية مستقلة عن التفضيلات الفردية للراصدين المختلفين ﻟ «الحاضر».

كانت المشكلة في الصورة التقليدية لميكانيكا الكم هي أنها اعتمدت صراحةً على تعريف «حاضر» ترسخ فيه شكل مبدئي للكم، ثم ترك تحديد كيفية تطور هذا الشكل إلى وقت لاحق. وأثناء هذا، يطمر الثبات النسبي لقوانين الفيزياء؛ لأنه في اللحظة التي نختار فيها إطارًا مكانيًّا معينًا لتحديد الدالة الموجية المبدئية وثابتًا للزمن نسميه ز = صفر، نفقد الاتصال الواضح مع جمال النظرية النسبي الكامن المستقل عن الإطار.

غير أن صورة فاينمان عن اتصال المكان والزمان كانت معدلة تحديدًا لجعل الثبات النسبي للنظرية ظاهرًا جليًّا؛ في المقام الأول: كان هذا الثبات محددًا على صورة كميات — قيم لاجرانجية — يمكن كتابتها بصيغة ثابتة من حيث النسبية. ثانيًا: لما كانت طريقة حاصل جمع المسارات تتعامل بالضرورة مع كل من المكان والزمان معًا، فإننا لسنا مضطرين لتقييد أنفسنا بتحديد لحظات معينة في الزمان أو المكان. وهكذا درب فاينمان نفسه على أن يجمع في الديناميكا الكهربائية الكمية بين كميات تعتبر في أي سياق آخر منفصلة بعضها عن بعض، ويضعها في مجموعات تسلك سلوكًا تظل فيه خصائص النسبية ظاهرة. وعلى الرغم من أنه لم يحرز تقدمًا حقيقيًّا في إعادة صياغة نظرية ديراك من المبادئ الأولى بأي طريقة تحل المشكلات التي كان مشغولًا بها، فإن الحيل التي ابتكرها ثبتت لاحقًا أهميتها الحاسمة في التوصل إلى الحل النهائي.

•••

ظهر الحل في الأفق، كما يحدث دائمًا، بإجراء تجربة. في الواقع، في حين أن العلماء النظريين عادةً ما يسترشدون بنتائج التجارب، فإنه في هذه الحالة بالذات تحمل التجارب العملية أهمية كبيرة حاسمة في تحقيق التقدم. فحتى تلك اللحظة، كانت قيم ما لانهاية محبطة للعلماء النظريين، لكن هذا كل شيء. فما دامت تنبؤات مرتبة الصفر لمعادلة ديراك كافية لتفسير جميع نتائج الفيزياء الذرية — في نطاق الدقة التجريبية الممكن الوصول إليها — فإن العلماء النظريين كان بإمكانهم القلق بشأن حقيقة أن التصويبات الأعلى مَرْتَبَةً — التي كان ينبغي أن تكون صغيرة — كانت في حقيقة الأمر لانهائية، غير أن قيم ما لانهاية لم تكن حتى وقتها عائقًا عمليًّا أمام استخدام النظرية في سياق فيزيائي.

يعشق العلماء النظريون التكهنات، لكنني اكتشفت أنه إلى أن ينتج التجريبيون بالفعل نتائج قائمة على أسس صلبة تسبر غور النظرية عند مستوى جديد، يكون من العسير على العلماء النظريين أن يتعاملوا حتى مع أفكارهم هم أنفسهم بالجدية الكافية للاستكشاف الدقيق لجميع تفرعات تلك الأفكار، أو أن ينتهوا إلى حلول عملية للمشكلات القائمة. وقد تندر الفيزيائي التجريبي الأمريكي الأبرز في ذلك الحين، آي آي رابي — وهو الذي جعل من جامعة كولومبيا العاصمة التجريبية العالمية لعلماء الفيزياء الذرية — على ذلك العجز من قبل العلماء النظريين عن الارتقاء لمستوى تحديات الديناميكا الكهربائية الكمية في غياب التوجيه التجريبي. فيقال إنه في ربيع عام ١٩٤٧ قال لأحد زملائه أثناء تناول الغداء: «إن السنوات الثماني عشرة الأخيرة كانت أكثر السنوات عقمًا في هذا القرن.»

كل ذلك تغير في غضون بضعة شهور. فكما أوضحت من قبل، حتى ذلك الحين، كانت حسابات المرتبة الأدنى التي أجريت بواسطة نظرية ديراك النسبية تنتج نتائج خاصة بطيف مستويات الطاقة للإلكترونات المرتبطة بالبروتونات في ذرات الهيدروجين وهي نتائج كانت كافية ليس فقط لفهم السمات العامة للطيف، وإنما لتحقيق اتفاق كمي مع المشاهدة أيضًا، باستثناء القليل من نقاط التضارب المحتملة التي ظهرت عند آخر حدود الحساسيات التجريبية، ولذا جرى تجاهلها إلى حد بعيد. غير أن الحال ظل كذلك إلى أن قام الفيزيائي الأمريكي ويليس لامب — وكان يعمل ضمن مجموعة رابي بكولومبيا، وهو واحد من آخر أفراد سلالة من علماء الفيزياء المتمرسين في التجارب العملية والحسابات على حد سواء — بمحاولة جسورة غيَّرت كل شيء.

لعلك تذكر أن النجاح المبدئي العظيم لميكانيكا الكم خلال العقود الأولى من القرن العشرين يكمن في تفسير طيف الضوء المنبعث من الهيدروجين. كان نيلز بور أول من اقترح تفسيرًا خاصًّا بميكانيكا الكم تحديدًا لمستويات الطاقة في ذرة الهيدروجين، لو كانت الإلكترونات قادرة على القفز بين المستويات الثابتة فقط أثناء امتصاصها للإشعاع أو إطلاقه. وبعدها، بيَّن شرودينجر، بمعادلته الشهيرة للموجة، أن مستويات طاقة الإلكترونات بذرة الهيدروجين يمكن اشتقاقها بدقة بالاستعانة بالدالة الموجية التي ابتكرها، بدلًا من إصدار أحكام كما هو الحال في ذرة بور.

ما إن اشتق ديراك نسخته النسبية من الديناميكا الكهربائية الكمية حتى صار بمقدور علماء الفيزياء أن يحاولوا استبدال معادلة ديراك بمعادلة شرودينجر بهدف التكهُّن بمستويات الطاقة. وقد فعلوا هذا واكتشفوا أن مستويات الطاقة في مختلف الحالات كانت تفصل بينها مقادير طفيفة، نتيجة لتأثيرات النسبية (على سبيل المثال، الإلكترونات الأكثر نشاطًا داخل الذرات تكون ذات كتلة أكبر، وفق النسبية) ونتيجة للَّف المغزلي ذي القيمة غير الصفرية للإلكترونات التي تضمَّنتها معادلة ديراك. وعلى نحو عجيب، توافقت تنبؤات ديراك مع مشاهدات لأطياف ذرات الهيدروجين المتحللة إلى أطياف أكثر دقة، حيث رأينا بذلك ما كان يعد ترددًا واحدًا للانبعاث والامتصاص ينقسم إلى ترددين مستقلَّين للضوء يفصل بينهما فاصل دقيق للغاية. كان هذا «التركيب الدقيق» للطيف، وهو الاسم الذي عرف به بعد ذلك، بمنزلة إثبات جديد لنظرية ديراك.

غير أنه في عام ١٩٤٦ قرر ويليس لامب أن يقيس التركيب الدقيق للهيدروجين بدقة تفوق أي وقت مضى، بهدف اختبار نظرية ديراك. وقد فسَّر اقتراحه لهذه التجربة الدافع وراء إجرائها: «ذرة الهيدروجين هي أبسط الذرات في الوجود، وهي الذرة الوحيدة التي يمكن إجراء الحسابات النظرية الأساسية الدقيقة عليها … ومع ذلك، فإن الموقف التجريبي في الوقت الراهن يقول إن الطيف المشاهد لذرة الهيدروجين لا يوفر القدرة على إجراء اختبار شديد الحساسية … فالاختبار الحسَّاس لا يمكن الحصول عليه إلا بقياس … التركيب الدقيق.»

في السادس والعشرين من أبريل ١٩٤٧ (في الأيام التي كان يمر فيها بين اقتراح إجراء تجربة وإتمامها في فيزياء الجسيمات بضعة شهور لا عقود)، أتم لامب وتلميذه روبرت رذرفورد بنجاح قياسًا حاز الإعجاب كان يعد من قبل أمرًا لا يمكن تصوره. وكانت النتيجة مذهلة بالقدر نفسه.

تنبَّأت نظرية ديراك عن المرتبة الأدنى، مثل نظرية شرودينجر من قبلها، بأن نفس الطاقة تعزى إلى حالتين مختلفتين لهما ذات الزخم الزاوي الإجمالي لإلكترون الهيدروجين — الناشئ من مجموع الزخم الزاوي للف المغزلي للإلكترون والزخم الزاوي المداري له — حتى لو كانت القيم المنفصلة للمجموع مختلفة في الحالتين. غير أن تجربة لامب أثبتت بصورة قاطعة أن طاقة الإلكترونات في إحدى الحالتين تختلف عن طاقة الإلكترونات في الحالة الأخرى. وقد لاحظ تحديدًا أن حالات تحول الإلكترونات من حالة ما إلى حالة ثابتة أعلى في ذرة الهيدروجين أدت إلى انبعاث أو امتصاص الضوء الذي اختلف تردده بمقدار نحو مليار دورة في الثانية مقارنة بالتحوُّلات التي تحدث للإلكترونات من الحالة الأخرى والحالة الثابتة الأعلى. قد يبدو هذا رقمًا مهولًا، لكن الترددات المميزة للضوء المنبعث والممتص بين مستويات الطاقة في الهيدروجين كانت أكبر بحوالي عشرة ملايين ضعف من هذا الفارق في التردد. لذا كان لامب مطالبًا بقياس الترددات بدقة تفوق جزءًا من عشرة ملايين جزء.

كانت حالة الفيزياء النظرية في أعقاب انقلاب ديراك النظري قد وصلت إلى حد جعل من تأثير هذا الفارق الطفيف الذي لا يكاد يدرك — ولكنه لا يساوي صفرًا — عن تكهنات نظرية ديراك، تأثيرًا عميقًا. وفجأة، صارت المشكلة في نظرية ديراك ملموسة ومحددة. لم تعد تدور حول نتائج لانهائية غامضة ومبهمة الملامح، وإنما صارت الآن بيانات تجريبية محددة وواقعية من الممكن حسابها. وقد وصف فاينمان لاحقًا هذا التأثير بأسلوبه المميز المعتاد بقوله: «ظنًّا مني أني أفهم علم الهندسة، ورغبةً مني في تحديد طول قطر مربع مساحته خمسة أقدام، أحاول تخمين الطول الذي يجب أن يكون عليه. ولأنني لست خبيرًا أحصل على قيمة ما لانهاية؛ لا فائدة … إننا لا نبحث في علم الفلسفة، وإنما في سلوك أشياء حقيقية. لذا، وعلى نحو يائس، أقيسه قياسًا مباشرًا، ويا للعجب، إنه يقترب من سبعة أقدام؛ فلا هو ما لانهاية، ولا هو بالصفر. وهكذا قسنا أشياء أعطتنا النظرية لها تلك النتائج الغريبة.»

في شهر يونيو من عام ١٩٤٧ عقدت الأكاديمية الوطنية للعلوم مؤتمرًا مصغرًا جمع أعظم العقول النظرية الباحثة في نظرية الكم للديناميكا الكهربائية (ومن حسن الحظ أن المشرف السابق على رسالة فاينمان، جون ويلر، كان أحد منظمي المؤتمر لذا كان فاينمان بين المدعوين) في فندق صغير بشيلتر أيلاند بالقرب من لونج أيلاند بنيويورك. كان الغرض من المؤتمر الذي سُمي «مؤتمر أسس نظرية الكم» استكشاف المشكلات البارزة في نظرية الكم التي نحيت جانبًا أثناء الحرب، عندما كان فاينمان وزملاؤه يعملون بكل طاقاتهم من أجل إنتاج القنبلة الذرية. وعلاوة على فاينمان، كانت جميع العقول اللامعة من العلماء الأفذاذ الذين عملوا في لوس ألاموس حاضرة، من بيته إلى أوبنهايمر والنجم الشاب اللامع في سماء الفيزياء النظرية جوليان شفينجر.

في هذا الاجتماع المصغر، الذي بدأ بطريقة دراماتيكية ملائمة للحدث، حيث كانت الشرطة ترافق العلماء «الذريين» أبطال الحرب المشاهير أثناء المرور عبر لونج أيلاند، قدم لامب نتائج تجربته. وكان هذا أهم قضايا الاجتماع، الذي أشار فاينمان إليه لاحقًا على أنه أهم مؤتمر حضره في حياته.

غير أنه فيما يخص عمل فاينمان، وربما جميع علماء الفيزياء النظرية الذين يفكرون في مشكلات الديناميكا الكهربائية الكمية، فإن أهم نتائج المؤتمر لم تكن العملية الحسابية التي أجراها فاينمان، وإنما كانت عملية حسابية أجراها معلمه، هانز بيته، أثناء رحلة العودة بالقطار إلى إيثاكا قادمًا من نيويورك سيتي، حيث أمضى بيته بضعة أيام في زيارة لوالدته. كان بيته في حالة إثارة شديدة بسبب النتيجة التي توصل إليها حتى إنه اتصل بفاينمان من شينيكتادي لإبلاغه بالنتيجة: فبأسلوبه التقليدي، عندما عرض عليه أخيرًا رقمًا تجريبيًّا، لم يستطيع بيته مقاومة الاستعانة بأي آلة نظرية متاحة تحت تصرفه، مهما كانت محدودة، لاشتقاق تنبؤ كمي يمكن مقارنته بالنتيجة التجريبية. ولدهشته الشديدة ورضاه، وحتى بدون فهم كامل لكيفية التعامل مع أرقام ما لانهاية الغريبة التي تميز الديناميكا الكهربائية الكمية، زعم بيته أنه يفهم حجم ومنشأ التغير في التردد الذي كان قد عرف بالفعل باسم «تحول لامب».

وهكذا، بات هذا الإعلان بمنزلة التحدي الذي ألقي في وجوه فاينمان وشفينجر وباقي أعضاء المجتمع العلمي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤