الفصل التاسع

شطر ذرة

يمكن أن نعرف حقائق أكثر بكثير جدًّا مما يمكننا إثباته.

ريتشارد فاينمان، من الخطاب الذي ألقاه
أثناء تسلم جائزة نوبل، عام ١٩٦٥

عندما عرض ويليس لامب النتيجة التي توصل إليها في بداية مؤتمر شيلتر أيلاند، ظهر على الفور سؤال حول ما قد يكون السبب في التباين بين المشاهدات العملية ونظرية ديراك للديناميكا الكهربائية الكمية. اقترح أوبنهايمر — الذي هيمن على الاجتماع — أنه ربما كان مصدر تباين التردد هو الديناميكا الكهربائية الكمية ذاتها، لو استطاع أحد بالفعل معرفة كيفية ترويض تصويبات النظرية الأعلى مرتبة واللانهائية على نحو لا يتفق مع قوانين الفيزياء. اعتمدت جهود بيته للقيام بذلك تحديدًا على أفكار استلهمها من أوبنهايمر ومن عالمي الفيزياء إتش إيه كريمرز وفيكتور فايسكوبف، الذي حصل فيما بعد على إجازة من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا كي يصبح أول مدير للمعمل الأوروبي للأبحاث النووية، الذي يحمل الآن اسم «سيرن»، في جنيف.

أكد كريمرز على أنه لما كانت مشكلة الإسهامات بقيم لانهائية في الكهرومغناطيسية تعود إلى المشكلة الكلاسيكية بشأن الطاقة الذاتية للإلكترون، فيجب على علماء الفيزياء التركيز على الكميات القابلة للرصد، التي هي بطبيعة الحال ذات قيمة محددة، وذلك عند التعبير عن نتائج العمليات الحسابية. على سبيل المثال، مصطلح كتلة الإلكترون الذي ظهر في المعادلات، وتلقَّى بدوره تصويبات طاقة ذاتية ذات قيم لانهائية، لا يجب اعتباره يمثِّل الكتلة الفيزيائية المقاسة للجسيم. وبدلًا من ذلك يمكن تسميته «الكتلة المجردة». فإذا كانت قيمة حد الكتلة المجردة في المعادلة هي ما لانهاية، فلعل حاصل جمع هذا الحد والتصويب اللانهائي للطاقة الذاتية يلغي كل منهما الآخر، تاركين القيمة المتبقية المحددة التي من الممكن أن تتساوى عندئذ مع الكتلة التي قيست في التجارب.

كان اقتراح كريمرز أن جميع قيم ما لانهاية التي أمكن حسابها في الديناميكا الكهربائية — على الأقل للإلكترونات التي تتحرك دون ارتباط بالنسبية — يمكن التعبير عنها في صورة إسهام الطاقة الذاتية اللانهائية في كتلة السكون للإلكترون. وفي هذه الحالة، ما دمنا تخلَّصنا من هذه الكمية اللانهائية المنفردة عن طريق التعبير عن كافة النتائج في صورة كتلة مقاسة ذات قيمة محددة، فإن جميع الحسابات قد تنتج حلولًا ذات قيمة محددة. وبهذا، يمكن للمرء تغيير النطاق، أو «تطبيع» حد الكتلة الذي يظهر في المعادلات الأساسية، لهذا صارت هذه العملية تعرف باسم «إعادة التطبيع».

نحو واضح نظرية الكم النسبية للديناميكا الكهربائية في محاولة لتطبيق هذه الفكرة، وحقَّقَا تقدمًا. وتحديدًا، أوضحا أن قيمة ما لانهاية المحسوبة للطاقة الذاتية للإلكترون صارت في حقيقة الأمر أخفَّ وطأة قليلًا عند دمج تأثيرات النسبية.

أجرى بيته — وقد حفزته تلك الادعاءات — حسابًا تقريبيًّا لهذا الإسهام محدد القيمة. وعلى حد قول فاينمان لاحقًا في الخطاب الذي ألقاه في حفل تسلم جائزة نوبل: «بروفسور بيته … رجل يتمتع بهذه السمة: إذا ظهر رقم جيد من خلال التجارب، فعليك أن تتوصل إليه من خلال النظرية. وهكذا، أرغم الديناميكا الكهربائية الكمية التي سادت في تلك الأيام على أن تقدم له حلًّا للانفصال بين هذين المستويين [في الهيدروجين].» ولا شك أن منطق بيته كان يشبه ما يأتي: إذا كانت تأثيرات الإلكترونات والفجوات والنسبية تبدو أنها تروض قيم ما لانهاية إلى حد ما، فلعله من الممكن أن يجري المرء عملية حسابية بواسطة النظرية غير النسبية — التي تعد أكثر سهولة بكثير في التعامل معها — وبعد ذلك يتجاهل بكل بساطة إسهام جميع الفوتونات الافتراضية الأعلى من الطاقة المساوية تقريبًا لكتلة السكون المقاسة للإلكترون. فتأثيرات النسبية لا تتدخل إلا عندما يتجاوز إجمالي الطاقات قيمة كتلة السكون هذه، وربما عندما يحدث هذا، تضمن هذه التأثيرات أن إسهام الجسيمات الافتراضية ذات الطاقة الأعلى يصبح غير ذي صلة.

عندما أجرى بيته العملية الحسابية مستخدمًا هذا الخصم الاعتباطي لطاقة الجسيمات الافتراضية، كان التحول المتوقع للتردد بين الضوء المنبعث أو الممتص بواسطة الحالتين المداريتين المختلفتين في الهيدروجين يقدر بنحو ١,٠٤٠ ميجاسايكل (مليون دورة) في الثانية، وكانت هذه القيمة متفقة إلى حد بعيد جدًّا مع ملاحظات لامب!

تذكر فاينمان بعد ذلك أنه — على الرغم من عبقريته — لم يقدر النتيجة التي توصل إليها بيته في حينه حق قدرها. لم يفهم فاينمان أهمية النتيجة التي توصل إليها بيته وكيف أن كل العمل الذي قام به حتى تلك اللحظة يتيح له تحسين تقديرات بيته، إلا فيما بعد، في كورنيل، عندما ألقى بيته محاضرة حول الموضوع، مشيرًا إلى أنه إذا كانت لدى المرء وسيلة معتمدة كليًّا على النسبية للتعامل مع إسهامات المستوى الأعلى في النظرية، فإنه لا يكون قادرًا فقط على التوصل لنتيجة أكثر دقة وإنما يكون قادرًا أيضًا على توضيح مدى اتساق ومتانة الإجراء الذي استخدمه.

توجه فاينمان بعد انتهاء المحاضرة إلى بيته قائلًا له: «يمكنني القيام بهذا من أجلك. سوف أحضر لك النتيجة غدًا.» كانت ثقته مبنية على سنوات أضنى نفسه خلالها في إعادة صياغة ميكانيكا الكم مستخدمًا مبدأ الفعل الذي وضعه وحاصل جمع المسارات، وهو ما أمدَّه بنقطة بدء معتمدة على النسبية يمكنه استخدامها في حساباته. أتاح له الشكل الذي ابتكره في الحقيقة تعديل المسارات المحتملة للجسيمات بطريقة تحجم الحدود لانهائية القيمة في حساب الكم عن طريق التحديد الفعال لأقصى طاقة للجسيمات الافتراضية التي تدخل في العملية الحسابية، لكنه فعل ذلك بطريقة تتفق أيضًا مع النسبية، تمامًا مثلما طلب بيته.

كانت المشكلة الوحيدة أن فاينمان لم يعمل من قبل قط باستخدام عملية حساب الطاقة الذاتية للإلكترون في نظرية الكم، لذا توجه إلى مكتب بيته، كي يشرح له الأخير كيف يمكنه إجراء العملية الحسابية، ولكي يشرح فاينمان بدوره لبيته كيف يستخدم أسلوبه. وفي واحدة من حالات المصادفات الكشفية السعيدة التي أثرت في مستقبل الفيزياء، عندما توجه فاينمان لزيارة بيته وأجريا معًا حساباتهما على السبورة ارتكبا خطأً. ونتيجة لذلك، لم تكن النتيجة التي حصلا عليها في ذلك الوقت لانهائية وحسب، وإنما كانت القيم اللانهائية أسوأ في الواقع مما ظهر في الحسابات غير المعتمدة على النسبية، مما جعل فصل الأجزاء التي تمثل قيمًا محددة أكثر صعوبة.

عاد فاينمان إلى غرفته، وهو على يقين من أن العملية الحسابية الصحيحة لا بد أن تصل إلى رقم محدد. وفي النهاية، وبأسلوب فاينمان المعتاد، قرر أن عليه أن يعلم نفسه على نحو تفصيلي مؤلم كيفية إجراء حساب الطاقة الذاتية بالطريقة التقليدية المعقدة بواسطة الفجوات، وحالات الطاقة السالبة وما إلى ذلك. وبمجرد أن عرف بالتفصيل كيف يجري الحسابات بالطريقة التقليدية، صار على ثقة من قدرته على تكرارها باستخدام أسلوب تكامل المسار الجديد الذي ابتكره، مع إجراء التعديلات الضرورية لجعل النتيجة محددة القيمة ولكن بطريقة تظل النسبية وفقها موضوعة في الاعتبار بشكل واضح.

وعندما استقرت الأمور، جاءت النتيجة كما كان يأملها فاينمان تمامًا. تمكن فاينمان من التوصل لقيم محددة، من بينها نتيجة شديدة الدقة لتحول لامب، معبرًا عن كل شيء بما يتفق مع كتلة سكون الإلكترون المقاسة.

وكما تبيَّن لاحقًا، استطاع آخرون أيضًا إجراء عملية حسابية معتمدة على النسبية في نفس الوقت تقريبًا، ومن بين هؤلاء فايسكوبف وتلميذه أنتوني فرينش، وكذلك شفينجر. وعلاوة على ذلك، استطاع شفينجر أن يبيِّن أن ترويض نفس قيم ما لانهاية التي تسببت في تحول لامب محدد القيمة والقابل للحساب أتاح أيضًا حساب انحراف تجريبي آخر عن تنبؤات نظرية ديراك غير المصوبة، وهو الانحراف الذي اكتشفته مجموعة رابي في كولومبيا. وكان لهذا التأثير علاقة بالعزم المغناطيسي المقاس للإلكترون.

لما كان الإلكترون يتصرف وكأنه يدور دورانًا مغزليًّا، ولما كان يحمل شحنة كهربية، فإن الكهرومغناطيسية تخبرنا بأنه ينبغي أن يسلك أيضًا سلوك مغناطيس دقيق الحجم. لذا ينبغي أن تكون قوة مجاله المغناطيسي مرتبطة بمقدار اللف المغزلي للإلكترون. غير أن قياس هذه القوة كشف أنه ينحرف عن التنبؤ البسيط الأدنى مرتبة بنحو واحد بالمائة. إنه مقدار ضئيل، ومع ذلك فإن القياس كان من الدقة بحيث جعل الفارق عن التنبؤ ملموسًا ومؤثرًا. ومن هنا صارت هناك حاجة لفهم النظرية عند مرتبة أعلى لكي نعرف إن كانت متفقة مع البيانات التجريبية أم لا.

أوضح شفينجر أن نفس نوع الحساب، الذي يفصل الأجزاء ذات القيم اللانهائية ويعدلها بأسلوب محدد بدقة، ثم التعبير عن كافة النتائج المحسوبة في صورة كميات مثل الكتلة السكونية المقاسة للإلكترون، قد أنتج تغيرًا متوقعًا في العزم المغناطيسي للإلكترون بالمقدار الصحيح الذي يفسر النتيجة التجريبية.

كتب رابي لبيته ملحوظة مفعمة بالنشوة عند سماعه نبأ العملية الحسابية التي أجراها شفينجر، ورد بيته، مشيرًا إلى تجارب رابي: «من المؤكد أنه أمر رائع أن قدمت لنا تجاربك وجهة جديدة تمامًا لفهم النظرية وأن النظرية أثمرت خلال فترة قصيرة نسبيًّا. الأمر بنفس قدر الإثارة التي كان عليها في الأيام الخوالي لميكانيكا الكم.»

لقد بدأت الديناميكا الكهربائية الكمية تبرز أخيرًا بعد تخبط طويل في الظلام. وخلال السنوات التي مرت منذ ذلك الحين، ظلت تنبؤات النظرية تتفق مع نتائج التجارب بدرجة من الدقة لم يكن لها نظير في جميع فروع العلم. وببساطة، من هذه الزاوية، لا توجد نظرية علمية في الطبيعة أفضل من هذه النظرية.

•••

لو كان فاينمان واحدًا فحسب وسط حشد كبير من العلماء الذين بيَّنوا على نحو صحيح كيف يمكن حساب تحول لامب، فما كنا على الأرجح لنحتفي بإسهاماته اليوم. إن القيمة الحقيقية التي تحققت لعلم الفيزياء من وراء جهوده في حساب تحول لامب، وفهمه لأسلوب ترويض القيم اللانهائية الداخلة في العملية الحسابية، تكمن في أنه بدأ في حساب المزيد والمزيد من الأشياء. وأثناء ذلك استعان فاينمان بمهاراته الرياضية الهائلة، إلى جانب حدسه الفطري الذي نمَّاه خلال عملية إعادة صياغة ميكانيكا الكم، لكي يتوصل بالتدريج إلى طريقة جديدة كليًّا لتصوير الظواهر التي تحدث في الديناميكا الكهربائية الكمية. وقد فعل هذا بأسلوب نتج عنه ظهور طريقة جديدة رائعة لإجراء حسابات النظرية، تعتمد على مخططات بيانية زمكانية، وتعتمد هي ذاتها على طريقة «حاصل جمع المسارات».

•••

كان أسلوب فاينمان في حل مشكلات الديناميكا الكهربائية الكمية يجمع بين كونه شديد الأصالة وشديد التشتت في آن واحد. كان في كثير من الأحيان يخمن بكل بساطة الشكل الذي يجب أن تأخذه المعادلات، ثم يختبرها بأثر رجعي ليتأكد من أنه كان على صواب بمقارنة تخميناته في سياقات متنوعة مع النتائج المعروفة عندما تتوافر له. علاوة على ذلك، في حين أتاح له الأسلوب الزمكاني الذي ابتكره استخدام الرياضيات بأسلوب يتفق مع النسبية، لم تكن حساباته الفعلية التي أجراها مشتقة بصورة مباشرة من أي إطار رياضي منهجي توحدت فيه النسبية مع ميكانيكا الكم، على الرغم من أن كل شيء سار بشكل صحيح.

كان الإطار المنهجي للجمع بين النسبية وميكانيكا الكم موجودًا في الواقع منذ الثلاثينيات على الأقل. كان يطلق على هذا الإطار اسم «نظرية المجال الكمي»، وكان في جوهره نظرية تتعلق بما لا حصر له من الجسيمات، ولعل هذا هو السبب الذي دفع فاينمان بعيدًا عنه. ففي الكهرومغناطيسية التقليدية، المجال الكهرومغناطيسي هو كمية توصف عند كل نقطة في المكان والزمان. وعند معاملة المجال بأسلوب ميكانيكا الكم، يكتشف المرء أنه يمكن النظر إليه باعتباره جسيمات أولية، وهي في حالتنا هذه، الفوتونات. وفي نظرية المجال الكمي، يمكن اعتبار المجال شيئًا كميًّا، له احتمال معين لخلق (أو تدمير) فوتون عند كل نقطة في الفراغ. يتيح هذا وجود عدد من الممكن أن يكون لانهائيًّا من الفوتونات الافتراضية التي تنتج مؤقتًا عن طريق التذبذبات التي تحدث في المجال الكهرومغناطيسي. وكان هذا التعقيد تحديدًا هو ما حفز فاينمان من البداية على إعادة صياغة معادلات الديناميكا الكهربائية بطريقة تختفي فيها تلك الفوتونات تمامًا وتحدث فيها تفاعلات مباشرة للجسيمات المشحونة. ثم تعامل بعد ذلك مع تلك التفاعلات المباشرة بطريقة ميكانيكا الكم باستخدام أسلوب حاصل جمع المسارات.

في خضمِّ انشغاله بالتوصل لأسلوب لدمج نظرية ديراك للإلكترونات المعتمدة على النسبية ضمن إطار عملياته الحسابية للديناميكا الكهربائية الكمية، وقع فاينمان على حيلة رياضية رائعة بسطت الحسابات بصورة هائلة وألغت الحاجة إلى التفكير في الجسيمات و«الفجوات» باعتبارها كيانات منفصلة. غير أن تلك الحيلة في الوقت نفسه أظهرت بوضوح حقيقة أنه في اللحظة التي تُدمج فيها النسبية ضمن ميكانيكا الكم، لا يستطيع المرء أن يعيش في عالم يكون فيه عدد الجسيمات المحتملة محددًا. فالنسبية وميكانيكا الكم «تحتاجان» ببساطة إلى نظرية يمكنها التعامل مع عدد من الممكن أن يكون لانهائيًّا من الجسيمات الافتراضية الموجودة في أي لحظة.

كانت الحيلة التي استعان بها فاينمان مرجعها أصلًا فكرة قديمة عرضها عليه جون ويلر ذات يوم عندما قال إن جميع الإلكترونات في العالم يمكن اعتبارها ناشئة من إلكترون واحد، ما دام هذا الإلكترون سُمح له بأن يتحرك ذهابًا وإيابًا عبر الزمن. فالإلكترون الذي يتحرك في الزمن عكسيًّا سوف يبدو كبوزيترون يتحرك للأمام زمنيًّا. وبهذه الطريقة، يمكن لإلكترون واحد يتحرك ذهابًا وإيابًا في الزمن (متنكرًا في صورة بوزيترون أثناء الإياب) استنساخ نفسه عددًا هائلًا من المرات في أي لحظة. وبطبيعة الحال أوضح فاينمان العيب المنطقي الذي يعتري هذه الصورة عندما احتج بأنه لو كان هذا صحيحًا، لكان هناك عدد من البوزيترونات يساوي أعداد الإلكترونات الموجودة في أي لحظة. غير أن البوزيترونات غير مقاسة في المادة العادية.

مع ذلك فإن فكرة أن البوزيترون يمكن اعتباره إلكترونًا يسير عكسيًّا في الزمن كانت فكرة أدرك فاينمان فجأة — بعد مرور كل تلك السنوات — إمكانية استغلالها في سياق مختلف. وعند محاولته إجراء حسابات معتمدة على النسبية، حيث من الطبيعي وجوب إدراج كل من الإلكترونات والفجوات فيها، أدرك فاينمان أن باستطاعته الحصول على نفس النتائج بإدراج الإلكترونات فقط في صورته للزمكان، لكن مع السماح للعمليات التي تتحرك فيها الإلكترونات للأمام وللخلف في الزمن (وهي ذات الفكرة التي عرضها معلمي في المدرسة الثانوية بصورة مبتورة إلى حد ما أثناء محاولته إثارة اهتمامي بعلم الفيزياء في ذلك الدرس المسائي الصيفي منذ زمن بعيد).

كي نفهم كيف نشأت معالجة فاينمان الموحدة للبوزيترونات والإلكترونات، فإن أيسر سبيل لذلك هو أن نبدأ التفكير من منظور الرسوم البيانية التي بدأ فاينمان في نهاية المطاف يرسمها لنفسه لتصوير عمليات الزمكان التي نتجت في رؤيته لميكانيكا الكم المبنية على حاصل جمع المسارات.

تأمل مثلًا رسمًا بيانيًّا يصف العملية الزمكانية لإلكترونين يتبادلان فوتونًا افتراضيًّا، ينبعث عند النقطة «أ» ويُمتص عند النقطة «ب»:

لكي نحسب نطاق هذه العملية من منظور ميكانيكا الكم، سيكون علينا أن نحسب جميع المسارات الزمكانية المحتملة المتفقة مع تبادل فوتون افتراضي بين الجسيمين. ولما كنا لا نشاهد الفوتون، فإن العملية التالية، وفيها ينبعث الفوتون عند النقطة «ب» ويُمتص عند النقطة «أ»، عندما تسبق «ب» «أ»، تسهم أيضًا في المجموع النهائي:

الآن، هناك طريقة أخرى للتفكير في الرسمين البيانيين المنفصلين. تذكر أننا نتعامل مع ميكانيكا الكم، ومن ثم فإنه خلال الزمن الذي مرَّ بين القياسين، يكون أي شيء يتفق مع مبدأ عدم اليقين لهايزنبرج مسموحًا به. وهكذا، على سبيل المثال، فإن الفوتون الافتراضي ليس مقيدًا للانتقال بسرعة الضوء بالضبط طيلة فترة انتقاله بين الجسيمين. غير أن النسبية الخاصة تقول إنه إذا كان يتحرك بسرعة تفوق سرعة الضوء، فيمكن القول إنه سيبدو وكأنه يتحرك عكسيًّا في الزمن وفقًا لإطار مرجعي معين. وإذا كان يتحرك عكسيًّا في الزمن، فمن الممكن أن ينبعث عند «أ» ويُمتص عند «ب». وبعبارة أخرى، فإن الرسم البياني الثاني يمثل عملية مطابقة لتلك التي يصورها الرسم الأول، غير أنه في الحالة الأخيرة كان الفوتون الافتراضي يتحرك بسرعة تفوق سرعة الضوء.

في حقيقة الأمر، على الرغم من أن فاينمان لم يصف العملية مطلقًا بشكل صريح في ذلك الحين، على حد علمي، فإن نفس هذه الظاهرة تفسر سبب «احتياج» نظرية نسبية الإلكترونات — أي نظرية ديراك — للجسيمات المضادة. إن فوتونًا، لا يحمل أي شحنة كهربية، يتحرك عكسيًّا في الزمن من «أ» إلى «ب» يشبه تمامًا فوتونًا يتحرك للأمام في الزمن من «ب» إلى «أ». غير أن جسيمًا مشحونًا يتحرك عكسيًّا في الزمن سيبدو أشبه بجسيم ذي شحنة مضادة يتحرك للأمام في الزمن.

وهكذا، فإن العملية البسيطة التي يتحرك فيها إلكترون (ك−) بين نقطتين، التي يصورها هذا الرسم البياني للمكان والزمان:

يجب أن تكون مصحوبة أيضًا بهذه العملية:

غير أن العملية الأخيرة يمكن وصفها أيضًا ببوزيترون وسيط (ك+) على النحو التالي:

بعبارة أخرى، يبدو أن إلكترونًا واحدًا يبدأ رحلته، وعند نقطة أخرى ينشأ زوج مكون من إلكترون وبوزيترون من الفراغ الخاوي، ويتحرك بوزيترون افتراضي للأمام في الزمن، ليتلاشى في نهاية المطاف مع الإلكترون الأول، تاركًا الإلكترون الأخير المنفرد فقط في نهاية الرحلة.

قدم فاينمان لاحقًا وصفًا جميلًا لهذا الموقف في بحثه عام ١٩٤٩ الذي كان بعنوان «نظرية البوزيترونات». كان تشبيهه الشهير مستعارًا من قائد قاذفة قنابل ينظر بمنظاره لأسفل على طريق (ما من شك أن الحرب العالمية الأخيرة أثرت دون شك على اختيارات فاينمان لتشبيهاته هنا): «الأمر يشبه قائد طائرة قاذفة يرى طريقًا واحدًا من خلال منظار القنابل لطائرة تحلق على ارتفاع منخفض ثم فجأة يرى ثلاثة طرق، وفقط عندما يلتقي اثنان منهما ثم يختفيان مرة أخرى، يدرك أنه ببساطة قد مر فوق تعرج طويل لطريق واحد.»

وهكذا فإن عدد الجسيمات في نظرية كم نسبية يجب أن يكون غير محدد. فما إن نظن أن لدينا جسيمًا واحدًا، حتى يبرز لنا زوج مكون من جسيم وجسيم مضاد من الفراغ، فتصبح ثلاثة. وبعد أن يبدد الجسيم المضاد أحد الجسيمين (سواء شريكه أو الجسيم الأصلي)، يصبح هناك جسيم واحد مرة أخرى، تمامًا مثلما شاهد قاذف القنابل من كوة إلقاء القنابل وهو يعد الطرق التي تقع تحته. فالفكرة الأساسية مرة أخرى ليست هي أن حدوث هذا «ممكن» وحسب وإنما أن النسبية «تقتضي» حدوثه، حتى إننا بالنظر للأمر من المنظور الحالي نرى أن ديراك لم يكن أمامه خيار سوى تضمين الجسيمات المضادة في نظريته النسبية للإلكترونات والضوء.

فكرة أن فاينمان كان هو الشخص الذي أشار في مخططاته إلى احتمال معاملة البوزيترونات باعتبارها إلكترونات تتحرك عكس الزمن هي فكرة مدهشة؛ لأنها توحي على الفور أن نفوره السابق من نظرية المجال الكمي كان في غير محله. وقد احتوى توسعه البياني الزمكاني بهدف حساب الآثار الفيزيائية في الديناميكا الكهربائية الكمية ضمنًا على المحتوى الفيزيائي لنظرية يمكن بمقتضاها أن تنشأ الجسيمات وتفنى، ومن ثم يكون عدد الجسيمات خلال الخطوات الوسيطة لإحدى العمليات الفيزيائية غير محدد. وقد اضطرت الفيزياء فاينمان إلى إعادة إنتاج المحتوى الفيزيائي لنظرية المجال الكمي. (في الحقيقة، في بحث مغمور أجراه الفيزيائي الألماني إرنست ستوكلبرج عام ١٩٤١، قبل بحث فاينمان بثمانية أعوام، وجد هذا العالم نفسه مدفوعًا نحو التفكير من منظور المخططات الزمكانية، والتفكير في البوزيترونات باعتبارها إلكترونات تتحرك عكسيًّا في الزمن، إلا أنه لم يجد الدافع الكافي لمتابعة المنهج الذي اتبعه فاينمان في نهاية المطاف مستخدمًا تلك الأدوات.)

الآن وقد ألفنا تلك الرسوم البيانية التي ستعرف فيما بعد باسم «مخططات فاينمان»، يمكننا رسم العمليات المتوافقة مع العمليات التي كانت قبل ذلك لانهائية والمرتبطة بالطاقة الذاتية للإلكترون واستقطاب الفراغ:

غير أنه من وجهة نظر فاينمان، كان هناك اختلاف جذري بين الرسمين البيانيين. فقد كان باستطاعته تخيل الرسم الأول بصورة طبيعية حين يبعث الإلكترون فوتونًا ثم يعيد امتصاصه لاحقًا. إلا أن الرسم البياني الثاني بدا غير طبيعي لأنه لا يمكن أن ينتج عن مسار إلكترون واحد يتحرك ويتفاعل جيئة وذهابًا في المكان والزمان، وشعر فاينمان أن مثل هذه المسارات هي الوحيدة الملائمة لإدخالها ضمن حساباته. ونتيجة لهذا، كان متنبهًا لحاجته لإدراج تلك العمليات الجديدة، ولم يفعل هذا في البداية. وتسبب هذا القرار في عدد من المشكلات لفاينمان وهو يحاول اشتقاق إطار يمكن فيه تحاشي كل قيم ما لانهاية التي ظهرت في نظرية ديراك، ويمكن فيه اشتقاق تنبؤات واضحة للعمليات الفيزيائية.

ارتبط أول نجاح عظيم لأساليب فاينمان بحساب الطاقة الذاتية للإلكترون. كان أهم شيء أنه عثر على طريقة لتغيير تفاعل الإلكترونات والفوتونات على مقاييس بالغة الضآلة وطاقات بالغة الارتفاع بأسلوب يتفق مع متطلبات نظرية النسبية. وينتج هذا بشكل تصويري من تأمل الحالة التي تصبح فيها الحلقة الموجودة في رسم الطاقة الذاتية شديدة الصغر، ثم تغيير تفاعلات جميع الحلقات الصغيرة والأصغر. وبهذه الطريقة يمكن اشتقاق نتيجة مبدئية، وهي ذات قيمة محددة. علاوة على ذلك، من الممكن إيضاح أن هذه النتيجة مستقلة عن شكل تغيير تفاعلات الحلقات الصغيرة في الحدود التي تصبح فيها الحلقات أصغر وأصغر. وأهم شيء، كما أكدت من قبل، هو أنه لما كانت الحلقات تأخذ في الاعتبار زمنًا عشوائيًّا للانبعاث والامتصاص وفي نفس الوقت تشمل عناصر تتحرك في الزمن ذهابًا وإيابًا، فإن شكل التعديل الذي أجراه فاينمان لم يفسد السلوك النسبي للنظرية، الذي لا يجب أن يعتمد على تعريف أي مشاهد منفرد للزمن.

وكما تنبأ كريمرز وغيره، كان المفتاح هو جعل إسهامات الحلقات المتغيرة تلك ذات قيم محددة، أو إخضاعها لنظام، حسبما أطلق على هذا لاحقًا، بطريقة تتفق مع النسبية. حينها إذا عبَّر المرء عن التصويبات التي أجريت على الكميات الفيزيائية — مثل طاقة إلكترون في مجال ذرة هيدروجين — من حيث الكتلة المادية والشحنة المادية للإلكترون، فإن القيمة المتبقية، بعد حذف الحد الذي كان سيتخذ قيمة لانهائية لولا التعديل الذي تم على الحلقات الصغيرة، تجمع بين كونها محددة ومستقلة عن الشكل الصريح للتعديل الذي تم إجراؤه. والأهم من ذلك أنها تظل ذات قيمة محددة حتى بعد إنقاص مقياس الحجم الذي تتغير عنده أشكال الحلقات البيانية إلى صفر، حيث كان الرسم البياني للحلقة سيتخذ قيمة لانهائية لولا ذلك. ونجحت إعادة التطبيع! واتفق التصويب محدد القيمة بقدر معقول جدًّا مع تحول لامب المُقاس، وأُثبتت الديناميكا الكهربائية كنظرية كمية.

إلا أنه مع الأسف لم ينجح نفس النوع من الإجراءات الذي استخدمه فاينمان لتغيير النظرية على مقاييس مسافات ضئيلة عند بحثه في الطاقة الذاتية للإلكترون عندما بحث في التأثير اللانهائي للرسوم البيانية لاستقطاب الفراغ. فلم يتمكن فاينمان من العثور على تعديل لحلقات الإلكترون-البوزيترون الصغيرة بحيث يحافظ على الخصائص الرياضية الأنيقة للنظرية دون إجراء هذا التعديل. ولعل هذا سبب آخر، يضاف إلى إحساسه بأن تلك المخططات ربما لم تكن ملائمة فيزيائيًّا للمشكلة التي يبحثها، دفعه لتجاهلها في حساباته الأولى لتحول لامب.

دخل فاينمان في صراع متقطع مع هذه المشكلة على مدار عامي ١٩٤٨ و١٩٤٩. وتمكَّن من التوصل لنتائج دقيقة من المنظور الكمي بأن افترض بالحدس أن الحدود الإضافية المتنوعة في معادلاته، التي ظهرت بسبب تغيير شكل حلقة الإلكترون-البوزيترون، من المرجح أنها كانت غير فيزيائية؛ لأنها لم تتفق مع الدقائق الرياضية للديناميكا الكهربائية الكمية، ومن ثم صار بالإمكان تجاهلها بأمان. وحُلَّ هذا الوضع غير المرضي عندما أبلغ بيته فاينمان بعد ذلك في عام ١٩٤٩ عن حيلة اكتشفها فولفجانج باولي وسمحت بتعديل متوافق رياضيًّا يجري إدخاله على رسوم استقطاب الفراغ البيانية.

ما إن أدخل فاينمان هذا المخطط في حساباته، حتى أمكنه ترويض جميع القيم اللانهائية في الديناميكا الكهربائية الكمية، وأمكن حساب كل كمية فيزيائية بدقة متناهية ومضاهاتها بنتائج التجارب. ومن المنظور العملي لامتلاك نظرية للإلكترونات والفوتونات يمكن للمرء من خلالها حساب تنبؤات محددة القيمة (ودقيقة) لجميع العمليات، حقق فاينمان الهدف الذي حفزه في البداية في مشروع تخرجه تحت إشراف ويلر.

غير أن فاينمان لم يتخلَّ بسهولة عن شكوكه الحدسية، وفي بحثه الشهير عام ١٩٤٩، بعنوان «نهجٌ زمكاني لفهم الديناميكا الكهربائية الكمية»، الذي أوضح الأساليب البيانية والنتائج، أضاف حاشية أشار فيها إلى الحاجة لتجارب أكثر دقة على تحول لامب، حتى يُعرف إن كان الإسهام الصغير الذي حسبه هو وآخرون حتى ذلك الوقت باعتباره ناجمًا عن تأثيرات استقطاب الفراغ حقيقيًّا أم لا.

وكان حقيقيًّا بالفعل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤