المقدمة

المصادر المكتوبة عن اليهود، الذين يُعدُّون من «أهل الكتاب»، معروفة لنا منذ أقدم العصور، ورغم ضياع الجزء الأكبر منها، فقد حفظت الطوائف اليهودية، في أثناء ترحالها الطويل الاضطراري عبر العالم، الوثائق التاريخية والقانونية والمراجع الدينية جنبًا إلى جنب مع أغراض العبادة. على أن كثيرًا من هذه الكتابات التهمَها لهيب الحرائق، أو ضاعت نتيجة للأوبئة العديدة ولغيرها من الكوارث الطبيعية، وقد نجَت بعض المعلومات عن الماضي بشكلٍ كامل أو جزئي.

يَتناول هذا الكتاب تاريخ الطوائف اليهودية إبان الحكم العثماني على امتداد مساحات شاسِعة من أنحاء المعمورة؛ حيث عاشَت هذه الطوائف طويلًا قبل أن يَصِل الأتراك إليها.

في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، في الفترة التي بلَغَت فيها الدولة العثمانية ذروة قوتها، ازدادت أعداد الطوائف اليهودية المحلية بسرعة، بفَضل تدفُّق اللاجئين القادِمين من الدول الأوروبية.

ووفقًا لأحكام الإسلام، فقد كان جميع سكان الإمبراطورية العثمانية من غير المسلمين يَدفعون الجزية لبيت المال، والتي كانت تزيد بدرجة ملحوظة على تلك الإتاوة التي كان الرعايا المسلمون يَدفعونها. ويحتفظ الأرشيف العثماني بدفاتر تحتوي على بيانات خاصة بتعداد السكان في الأراضي العثمانية، مع الأخذ في الاعتبار الديانة وحجم وقيمة الأملاك والفئة الضريبية لكلِّ محافظة.

لقد بدأ البحث العلمي لوثائق الأراشيف الحكومية التركية عقب اندلاع ثورة تركيا الفتاة عام ١٩٠٨م، عندما تم تأسيس «الجمعية التاريخية العثمانية» (Tarih-I Osman-i Encumeni)، وكان هدفها الأسمى دراسة وتصنيف ونشر الوثائق الأرشيفية، وقد تنامى هذا النشاط منذ عام ١٩١١م.

أدَّت الصعوبات التي اكتنَفت الحرب العالمية الأولى، وما بعدها، إلى الانهيار النهائي للدولة العثمانية، ثم ظهور مشكلات قيام الجمهورية التي تمخَّضت عن ظهور الجمهورية التركية؛ الأمر الذي كان له أثره في تعطيل عمل الجمعية التاريخية الذي كان قد بدأ لتوه. وقد استجمعت الجمعية قواها لتبدأ مرحلة جديدة في الثلاثينيات. في عام ١٩٣٦م، تعرضت إدارة الأراشيف لإعادة تشكيلها. واستمر العمل بعد ذلك في تصنيف وإعداد كاتالوجات وثائق الأرشيف. وبناء عليها تم نشر عدد من الدراسات ومجموعات الأبحاث في الأربعينيات والخمسينيات (من القرن العشرين). وتحتفظ الأراشيف التركية بأعداد هائلة من الوثائق الخاصة بتاريخ الجاليات اليهودية في الفترة العثمانية.

تتضمَّن البحوث التي قام بها أحمد رفيق، وغيره من المؤرخين الأتراك، معلومات عن الوضع الاجتماعي لليهود العثمانيين؛ تعدادهم وعلاقاتهم بالسلطات.

لقد تم جمع مواد غاية في الأهمية تتعلَّق بتاريخ الطوائف اليهودية (في إزمير وإسطنبول بالدرجة الأولى) قام بها البروفيسور أفرام جالانتي من جامعة إسطنبول، والحاصل على لقب العضو المراسل لأكاديمية العلوم البرتغالية، وقد نشرها في النصف الأول من القرن العشرين. ونقدم في ملحق هذا الكتاب مقالًا موجزًا عن هذا العالم والسياسي.

وفي مُنتصَف القرن الماضي تمَّ نشر مجموعات تضمُّ عددًا من الوثائق القضائية. وتعرضت هذه الوثائق للنزاعات القانونية في نطاق الطوائف اليهودية، وكذلك للخلافات التي نشبت بين اليهود وغير اليهود في أقاليم البلقان التي نُظرت أمام المحكمة الحاخامية (اليهودية).

وقد نُشرت في دول البلقان والمجر في الثلث الأخير من القرن العشرين مراجع وأبحاث جديدة تتناول تاريخ الطوائف اليهودية، من بينها مجموعات من الوثائق تتضمَّن شكاوى رؤساء الطوائف اليهودية الموجودة إلى السلطات المحلية والمركزية والرد عليها.

وتوجد فرمانات سلطانية تتعلَّق بتعيين كبار الحاخامات، ولوائح متعلِّقة ببعض الأوضاع المحدَّدة لوضع الطوائف اليهودية.

ولا نجد في المدوَّنات التاريخية للبلاط العثماني، التي تصف الأحداث إبان سنوات حكم السلاطين، سوى القليل من المعلومات الخاصة بالأقليات العرقية الدينية؛ إذ إنها لم تكن تُمثِّل أهمية كبرى بالنسبة للذين كتبوها. على أن الحكاية المأساوية التي وقعت لليهودية كيرا (إستر)، والتي شكَّلت مشهدًا من مشاهد الحياة في البلاط، راحت تَنتقِل من مدوَّنة تاريخية إلى أخرى حتى اكتسبت شهرة فائقة. إنَّ المعلومات حول هذه المرأة، وحول عدد آخر أيضًا من اليهود في البلاط العثماني: يوسف ناسي، سولومون أشكينازي، موجودة في أراشيف تركيا، وكذلك في وثائق السفارات في الدول الأوروبية. ويُمكننا أن نقابل معلومات جزئية حول اليهود العثمانيين في كتابات الرحَّالة التركي أوليا جلبي في القرن السابع عشر.

يعود الجزء الأكبر من المواد الأرشيفية المتعلِّقة بالطوائف اليهودية إلى القرن التاسع عشر. لقد جرى حفظ ونشر مدونات المؤلفين اليهود، مثل تلك التي تركها أحد وجهاء الطائفة اليهودية في طرابلس؛ موردخاي خا-كوهين.

وتُمدُّنا قوائم عديدة من المصادر الأوروبية بتصور حول وضع الأحياء اليهودية في المدن العثمانية. ومؤلِّفو هذه المصادر هم من التجار والمُبشِّرين والرحَّالة والعسكريين والعملاء والمغامرين والمُرتدين، الذين عملوا في خدمة الحكَّام المسلمين.

ومع التغلغل النشط للأوروبيِّين في الممتلكات العثمانية في شمال أفريقيا في الثلث الأول من القرن التاسع عشر، انتشرت في أوروبا معلومات جديدة عن هذا الإقليم. ومع بداية الاحتلال الأوروبي لأراضي شمال أفريقيا، راحت الكتابات الخاصة ببلدان المغرب وسكانه تكتسب طابعًا أكثر براجماتية يومًا بعد الآخر.

وفي قرننا الحالي باتت الأعمال العِلمية حول الأقليات العرقية الدينية في أوروبا والشرق مطلوبة بشدة؛ ففي ألمانيا صدر للبروفسيور جنريخ جريتس، الأستاذ في جامعة بريسلاو، مرجع أساسي في عدة أجزاء بعنوان «تاريخ اليهود من أقدم العصور حتى الآن». وقد توالى صدور هذا العمل باللغة الروسية في الفترة من عام ١٩٠٣م وحتى عام ١٩٠٧م. ويشغل تاريخ اليهود في العصور الوسطى في أوروبا الغربية المكانة الأساسية في هذا العمل، ولكنه يحتوي أيضًا على أبواب عن حياة اليهود العثمانيين، وبخاصة عن الأحداث التي وقعت داخل هذه الطوائف.

في هذا الكتاب يستند ج. جريتس إلى العديد من المصادر اليهودية في العصور الوسطى، الأمر الذي يضفي عليه أهمية فريدة. كما استخدم المؤلف دائرة واسعة من المصادر الأوروبية في القرن التاسع عشر. ويتضمَّن العمل كمًّا كبيرًا من المعلومات في تاريخ الثقافة والحياة الدينية للطوائف اليهودية في الدياسبورا (الشتات)، وكذلك معلومات عن الوضع داخل الطائفة في شتى العصور التاريخية، وبعض المعلومات أيضًا عن علاقات اليهود بمن يحيطهم من سكان. وهناك، علاوة على ذلك، مواد عن قادة الطوائف والشخصيات الثقافية والقائمين على الأعمال الخيرية والرعاة.

في نهاية السبعينيات من القرن التاسع عشر يلتقي جنريخ جريتس بكارل ماركس ليتبادلا بعد ذلك الخطابات.

في النصف الثاني من القرن العشرين، صدرت في كل من أوروبا الغربية والولايات المتحدة الأمريكية أعمال حول تاريخ الطوائف اليهودية، من بينها وثائق الأرشيف التركية حول فلسطين وسكانها في القرن السادس عشر. وتُعدُّ أعمال برنارد لويس ذات شهرة في تاريخ الشرق الأوسط.

في عام ٢٠٠٤م، نُشرت باللغة الإنجليزية ثلاثة مقالات قصيرة في سبع وثلاثين صفحة للبروفيسور أورتايلي، الأستاذ بجامعة إسطنبول، تناول فيها الطوائف اليهودية في الإمبراطورية العثمانية في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين. وهنا نجد أن دائرة اهتمام المؤلِّف متنوعة وعريضة للغاية. وإلى جانب المقالات سابقة الذكر فقد اشتمل كتابه Ottoman Studies على أعماله أيضًا في التاريخ الروسي.

لقد نشطت البحوث المتعلِّقة بتاريخ يهود فلسطين والدياسبورا بعد إنشاء دولة إسرائيل في عام ١٩٤٨م؛ حيث تأسَّس فيها معهد إسحاق بن تسفي لدراسة الطوائف اليهودية في بلدان الشرق، والذي يهدف إلى دراسة الآثار والوثائق التاريخية.

وقد حظيت أعمال علماء الدراسات العثمانية اليهود أ. هايد، أ. كوهين، م. ماوزا، أ. كارميل، د. كوشنر، ح. هربر، ي. لانداو، ي. هاريل وغيرهم بشهرة واسعة.

تَرتكِز أبحاث المؤرِّخين الإسرائيليين على الوثائق والاكتشافات الأثرية، وهي شديدة القرب بالأبحاث الأوروبية والأمريكية من ناحية الالتزام بالموضوعية كتقليد. ويعدُّ إسهام العلماء الإسرائيليين في الدراسات الخاصة بتاريخ جماعات السكان غير اليهود في فلسطين منذ أقدم العصور وحتى الآن إسهامًا مهمًّا.

إن أيَّ أبحاث تجرى في مجال التاريخ الوطني القومي هي بمثابة الخوض في حقل ألغام؛ فهذه الأبحاث أمر بالغ التعقيد أمام أي باحث؛ إذ من المستحيل في هذا السياق تجنُّب النظر في العديد من الصراعات والحروب التي دارت على أراضي الدولة الحديثة دون الميل إلى تفسير بعينه. كما أنه ليس من اليسير أن نجمع، على سبيل المثال، بين تصوُّر فلسطين في الفترة العثمانية باعتبارها إقليمًا من الأقاليم التي كانت تابعة آنذاك لهذه الإمبراطورية، والنظرة القومية التاريخية لها باعتبارها أرض إسرائيل المقدَّسة في فترة محدودة جدًّا من تاريخها المُمتد عبر آلاف السنين.

من المعروف أنَّ أي أبحاث تاريخية محدَّدة هي — بدرجة لا يستهان بها — نتاج ثقافة هذا المجتمع الذي أجريَت فيه، وخلافًا للعلوم الدقيقة فإنها تحمل حتمًا طابعًا ذاتيًّا. وبناءً على ذلك فإن هذه الأبحاث تستغلُّ في الدعاية الأيديولوجية والسياسية للدوائر الحاكمة، سواء في حدود المجتمع الذي أجريت فيه، أو باعتبارها ذرائع عند التعامل مع الآخرين، وفي المقام الأول مع الدول المجاورة. ومن ثم نرى أن الغالبية العُظمى من الكتابات التاريخية في المجتمعات التسلطية، مثلما هو الحال في الشرق الأوسط، هي كتابات مُسيَّسة إلى حد الشطط.

منذ غابر الأزمان والمؤلَّفات التاريخية يتم استخدامها في الصراعات الإقليمية التي لا تُعدُّ ولا تُحصى، والتي تدور رحاها في أرجاء العالم بأَسرِه، وليس في الشرق الأوسط فحسب، كحُجة ومُبرِّر لمواقف الأطراف المتصارعة، أما ما يُسمى بالرأي العام العالمي فتتم صياغته وفقًا لمصالح كل دولة في اللحظة الراهنة، ولهذا تحديدًا تَندلِع الصدامات المسلحة في مختلف أرجاء العالم حتى رأَينا ذروة نفاق الدول العُظمى وأطماعها مُمثلًا في الحربَين العالميتَين الأولى والثانية.

ومهما بلغت درجة الموضوعية والإنصاف التاريخي (أتُراهما موجودَين فعلًا؟) في إلقاء الضوء على الصراعات بين الدول، وتقييم هذه الصراعات، فإنَّ تحقيقهما يكاد يكون مُستحيلًا. وما دامت القوة العسكرية هي الحُجَّة الأكثر وزنًا حتى الآن فسيظل هناك طرف رابح وآخر خاسر.

أما فيما يتعلَّق بالسياسيين الذين يَميلون إلى الاستناد إلى الأحداث التاريخية؛ فهؤلاء قليلًا ما يولون اهتمامهم لتحليل العملية التاريخية الطويلة في حد ذاتها، أو بتحليل المصادر التاريخية الخاصة بالتناقضات القائمة بين الدول بكل ما في هذه التناقضات من تعقيدات؛ فأقصى ما يُهمُّهم هو الصياغة المبسطة التي يُمكن أن تُمثِّل أساسًا لسياستهم في الوقت الحالي. ودائمًا ما يولي المجتمع أيضًا اهتمامًا محدودًا لجوهر الأحداث التاريخية وحقائقها، فمن أجل تحقيق الأهداف الحالية وفرض الأيديولوجيا المهيمنة في اللحظة الراهنة، يتم تغيير التاريخ تغييرًا جذريًّا، وتعاد كتابته من جديد. وكما أن بعض الأحداث والوقائع يتم السكوت عنها أو يجري تأويلها على نحو مُتعسَّف، فإن البعض الآخر يكتسب أهمية كبيرة دون وجه حق. وعلى هذا النحو تحديدًا جرى التعامل مع التاريخ في روسيا بعد تغيُّر النظام السياسي في أكتوبر ١٩١٧م. ووفقًا لإرادة السلطة الجديدة، تم تفسير أحداث الماضي بصورة جائرة؛ فتم استبعاد عدد من أسماء الشخصيات السياسية والعسكرية الشهيرة غير المرغوب فيها من كتب التاريخ. تغيَّرت الأنظمة السياسية وتغيرت معها الأولويات التاريخية، كما تغير تأويل هذه الأحداث أو تلك، وهكذا ظهر ماضٍ لا يمكن التكهُّن بما حدث فيه.

أصبحت نتائج الأحداث التي جرَت في العقود الأخيرة من وجود الدولة العثمانية موضوعًا للمُناظرات التاريخية: أسباب انهيارها وظهور تركيا الجمهورية، وكذلك الوصاة Protectors من الدولة الأوروبية في الشرق الأوسط، ثمَّ قيام الدول العربية المستقلَّة وإسرائيل فيما بعد. لقد جرى تَناوُل كل هذه الأحداث التي وقعت في النصف الأول من القرن العشرين في الكتابات التاريخية التركية والإسرائيلية والعربية بصور متعدِّدة.
لقد أصبحت أرض فلسطين في الفترة الأخيرة من الدولة العثمانية ميدانًا للعمليات العسكرية التي دارت رحاها إبان الحرب العالَمية الأولى؛ حيث جرى الصدام بين مصالح الدول المؤيدة لألمانيا ودول التحالف الثلاثي Entente (بريطانيا، فرنسا، روسيا القيصرية)، وقد حاول السكان المحليُّون، العرب واليهود بالدرجة الأولى، أن يُحوِّلوا الاضطراب الحادث لصالحهم.

بعد أن مُنيت تركيا، حليفة ألمانيا، بالهزيمة في الحرب، أصبحت مهدَّدة بفقدان استقلالها. وقد نجح الكماليُّون (أنصار كمال أتاتورك، ١٨٨١–١٩٣٨م) في الحفاظ على سيادة الأرض التركية في حدود الأناضول وجزء صغير من أوروبا، بعد أن قدموا تضحيات دموية كبيرة وبذلوا جهودًا مُضنية.

تميَّز مصطفى كمال أتاتورك، القائد القومي وأول رئيس لتركيا، خلافًا للحكام العثمانيين، بأنه كان رجلًا براجماتيًّا وواقعيًّا، كما أنه لم يكن، وبالقدر نفسه، مهمومًا بأفكار التضامن الإسلامي. لقد ركَّز جهوده على توحيد الأتراك داخل حدود الدولة الجديدة، بعد أن طرح القومية التركية باعتبارها الأيديولوجيا الرسمية. كان النظام الجديد ينظر إلى أيديولوجية الجامعة الإسلامية العثمانية نظرة سلبية، كما كانت السُّلطة الجديدة في الفترة الأولى من تركيا الجمهورية تنظر إلى الأقاليم العثمانية السابقة في الشرق الأوسط باعتبارها عبئًا أعاق النمو القومي للأتراك وأثقل كاهل الدولة، كما كانت ذكريات التمرُّد المستمِر للعرب ضد الحكومة العثمانية في كلٍّ من مصر وسوريا والعراق وبلدان المغرب ما تزال ماثلة في الأذهان. وقد وصف عدد من الكتَّاب الأتراك النضال من أجل وحدة الإمبراطورية العثمانية من وجهة نظر معادية للعرب، الذين كانوا يؤيدون الإنجليز ضد الأتراك، لا سيما في سنوات الحرب العالمية الأولى، أملًا في إقامة خلافة عربية جديدة. أما بالنِّسبة للحركة الصهيونية، فقد كان الأتراك يَنظُرون إليها باعتبارها حركة هدَّامة بكل تأكيد للدولة العثمانية. كانت السلطات العثمانية تضع العراقيل على جميع المستويات أمام الهجرة اليهودية إلى فلسطين. على أيِّ حال فقد كان الأتراك يرون في الحركة الصهيونية حركة هامشية، ولم يضعوها في اعتبارهم بوصفها سببًا لانهيار الدولة العثمانية ثم تفكُّكها، بل قيَّموها باعتبارها نتيجة لهذه العمليات.

أعطى التقارب مع الدول العربية، الذي أصبح ملحوظًا منذ ستينيات القرن العشرين، فضلًا عن مشاركة تركيا في تأسيس «المؤتمر الإسلامي»؛ دَفعةً لإعادة النظر في العلاقات التركية العربية في الماضي. وقد بدأ المؤرخان التركيان ت. أطاييف، س. أتيلخان، وغيرهما، من أصحاب الرؤية المُدافِعة عن الماضي العثماني، الأمر الذي لم يكن موجودًا في عصر أتاتورك، في تكرار بعض الكتَّاب العرب. وبعد ذلك راح المؤرِّخون الأتراك يفسرون الصهيونية لا باعتبارها مجرَّد شيء ما هدَّام للإمبراطورية العثمانية فحسب، وإنما باعتبارها مؤامَرة سيئة الطوية من جانب الماسونيِّين والدونمة (اليهود الذين اعتنقوا الإسلام)، واليهود العثمانيين وأعضاء حزب تركيا الفتاة. كل ذلك جرى إعادة إنتاجه جنبًا إلى جنب مع الدفاع عن ماضي الإمبراطورية، وعن الإسلام بطبيعة الحال، باعتباره أساس هذه الإمبراطورية. هذه الأفكار بعينها هي التي دخلت في لغة حزب النظام الوطني الإسلامي الذي أسَّسه نجم الدين أربكان (١٩٢٦–٢٠١١م) في عام ١٩٧٠م. بعد ذلك انتقلت هذه الأفكار للحزب الذي خلفه، وهو حزب السلامة الوطني، الذي حُظر نشاطه كسابقه.

لا يوجد في الواقع اتِّفاق بين الباحثين الأتراك على هذا التفسير للماضي. وهناك أعمال لعدد من بينهم تتميَّز بأنها أكثر موضوعية واتزانًا، ولكن بعض الأبحاث التاريخية، مع ذلك، تضع في اعتبارها، في المقام الأول للأسف، التغيُّرات في أيديولوجية الدولة وسياساتها، ثم مطالب المجتمع في النهاية.

اهتمَّ المؤرخون العرب بالأبحاث التاريخية بعد قيام دولهم المستقلة في الشرق الأوسط، وقد تحمَّسوا في المقام الأول، بطبيعة الحال، للقومية العربية ذات الطابع الإسلامي، فيما بعدُ راح معظمهم يصف الإمبراطورية العثمانية باعتبارها، أولًا وقبل كل شيء، دولة إسلامية عثمانية عربية تسير وفقًا لمعايير الشريعة؛ أي إنها ليست دولة غريبة على العرب، على الرغم من أنها تركية أساسًا. وهؤلاء لم يولوا أي أهمية تقريبًا لحركات التمرُّد المستمرة المعادية لتركيا من جانب العشائر العربية المحلية ضد السلطة المركزية وممثليها المحليِّين.

ويرى العديد من المؤرخين العرب أن انهيار الإمبراطورية العثمانية لم يكن وليدًا للعمليات الداخلية، كما لم يكن كامنًا في طابع التعدُّد القَبَلي فيها، والذي نشأ بقوة سلاح الدولة، التي حافظت على هذه القوة على مدى عدة قرون. وهؤلاء المؤرِّخون لديهم إيمان عميق بأن انهيار هذه الدولة الإسلامية جاء نتيجة للأفكار الغربية العلمانية وللنزعة القومية وللديمقراطية. ويتناول العديد من المؤرِّخين العرب الأحداث التاريخية باعتبارهم مسلمين؛ أي من منظور ديني؛ فالحفاظ على وحدة الدولة بالقوة هو المعيار بالنسبة لهم، ما دام القرآن لا يُدين، وإنما يُشجِّع على غزو أراضي غير المسلمين، كما أنه لا يَستنكِر الاستيلاء على السلطة بالقوة. هؤلاء المؤرخون ينظرون إلى سنوات حكم السلطان عبد الحميد الثاني (١٨٧٦–١٩٠٨م)، نصير الخلافة والجامعة الإسلامية Panaislamism، نظرة إيجابية، وكان هذا السلطان محاطًا دائمًا بعدد غير قليل من رجال الدين العرب، وقد رأى فيه بعض المؤرِّخين رجلًا صالحًا وحاكمًا مُسلمًا بكل معنى الكلمة، لكن قيمته الكبرى تمثَّلت، على حدِّ زعمهم، في أنه كان عدوًّا لدودًا للصهيونية. ووفقًا لآرائهم فإن بريطانيا هي التي وقفت وراء خلع السلطان؛ لأنه كان نصيرًا لألمانيا، وأنها شاركت الصهاينة «المنتشرين في كل مكان» في المؤامرة التي حيكت ضد «السلطان الصالح»؛ إذ إنه كان يضع العراقيل أمام نشاطهم. وقد أسهمت هذه المؤامرة في استفزاز العداوة بين العرب والأتراك، الأمر الذي أسهم في نجاح الحركة الصهيونية.

يتعامَل بعض المؤرخين العرب مع العملية التاريخية تعاملهم مع شيء ساكن، دون أن ينظروا إلى التحولات التي تفرضها عوامل كثيرة شديدة التباين. وقد راحوا يَستخدمون مُصطلحات من نوع «الإمبريالية الغربية»، «الصهيونية»، وما إلى ذلك من مصطلحات بشكل مختلف من كتاب إلى آخر دون أن يُحمِّلوها مضمونًا تاريخيًّا محددًا. وقد جرى بالتأكيد بحث ظهور الوعي العربي الذاتي والقومية العربية والحركات القومية تحت راية الإسلام برؤية إيجابية.

ويرى هؤلاء المؤرخون أيضًا أن معاداة السامية هي سياسة خَطَّطت لها الدول العظمى مسبقًا، بغرض نفي السكان اليهود إلى فلسطين وإخراج العرب منها. بينما تتبنى الباحثة الإنجليزية س. جراهام براون تفسيرًا آخر للأحداث التي دفعت اليهود إلى الهجرة حيث تقول: «إن الصهيونية هي ثمرة للأحداث التي وقعت في أوروبا في القرن التاسع عشر؛ فقد جاءت ردًّا على المشكلات التي تعرض لها اليهود في وسط أوروبا وشرقها بما فيها روسيا. لقد آمَن قطاع كبير جدًّا من الأوروبيِّين بمعاداة السامية باعتبارها نزعة ما، مُكوِّنًا حتميًّا للحركات القومية والقومية العالمية، التي أشعلت موجات من المذابح وملاحقة اليهود في نهاية ذلك القرن.

أصرَّ الصهاينة على أن هجرة اليهود من أوروبا ليست لها سوى هدف وحيد هو إقامة دولتهم الخاصة؛ إذ سيتمكَّن اليهود عندئذ من تفادي الذوَبان التام وأن يُصبحوا أصحاب مصائرهم. لقد رفض مُنظِّرو الصهيونية رفضًا قاطعًا فكرة الذوبان، ومِن ثمَّ رفضوا هجرة اليهود إلى أي مكان باستثناء فلسطين.»١

هناك أيضًا أسباب أخرى لهذا التوجه كان لها دورها أيضًا؛ موجة المعاداة للسامية، فضلًا عن المذابح التي تعرَّض لها اليهود في بلدان أوروبا الشرقية، وخاصة في روسيا، في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، دعا إليها قطاع من الصفوة الروسية سرعان ما تلقَّفتها تنظيمات تتميز بكراهية اليهود بشكل تقليدي. صحيح أيضًا أن الصهاينة رأوا أن الهجرة إلى فلسطين هي المخرج، لكن هذه الحقائق لا تمثل وحدها كل سياسات الدول الأوروبية المتنوِّعة والمعقَّدة، والتي راحت تتصادم بالتناقضات صعبة الحل، والتي خلقت في بعض الأحيان مآزق لا مخرَج منها. وقد استغلَّ الساسة الأوروبيُّون في سنوات مختلفة، وعلى نحو مُتنوع، المسألة اليهودية، التي كانت تمسُّ سكان فلسطين أيضًا، والتي كانت ما تزال تُمثِّل جزءًا من الدولة العثمانية إلى أن وضعت الحرب العالَمية الأولى أوزارها. من المعروف أن وعد بلفور في ١٩١٧م، حول إنشاء وطن لليهود في فلسطين، لم يلقَ ترحيبًا في صفوف عدد من الدول الأوروبية على الإطلاق.

يَطرح المؤرِّخ الفلسطيني خضير بيحارا التفسير التالي للصهيونية، التي يرى فيها مكوِّنات ثلاثة: «المعاداة الأوروبية للسامية، القومية الأوروبية، والاستعمار الغربي.»٢

إنَّ مُؤيِّدي هذه الصياغة البسيطة الساذجة يُعرِّفون الأحداث التي سبقت الحرب العالمية الأولى بأنها مؤامرة سرية قامت بها الدول العظمى مع الصهاينة بوساطة من حزب تركيا الفتاة، وأن هذه المؤامرة موجهة ضد العالم الإسلامي بأسره، وفلسطين بصفة خاصة.

في الواقع فإن «تركيا الفتاة» لم يسع على الإطلاق لانهيار الإمبراطورية لتحقيق أي مصلحة من أي نوع كان لأي جهة، ولكنَّه كان حريصًا على وضع العراقيل أمام نشاط الصهاينة، ولكن موارده كانت محدودة ووضعه غير مُستقر.

أما خارج فلسطين، في الأقاليم العثمانية الأخرى، فقد كان أنصار الصهاينة بين الطوائف اليهودية قليلين للغاية. وكان غالبية المواطنين اليهود العثمانيين لا يُؤمنون بإمكانية نجاح الخطط الصهيونية، كما لم تكن ترغب في توتر العلاقات مع الحكومة، التي كانت تسعى لكبح أي دعوات انفصالية من جانب أي جماعة مهما كانت أصولها.

لم يكن باستطاعة «تركيا الفتاة» الاعتماد في سياستها على العرب، الذين هم من نفس ديانتها، بسبب اندلاع التمرُّد بشكل دائم، وخاصة في الأقاليم العربية، تحت شعار الإسلام وغيره من الشعارات. لقد انتشرَت في هذه البلاد وعلى نطاق واسع فكرة القومية العربية وانتشَرَت معها الروح المعادية للأتراك. ينبغي ألا نتجاهَل، بطبيعة الحال، النشاط المؤثِّر لقطاع من الطبقة العليا العثمانية، وإن لم يكن كبيرًا؛ إذ لم يكن هذا القطاع مؤيدًا للتضامن الإسلامي، وإنَّما كان يُفضل الاعتراف بفكرة القومية التركية المدمِّرة لبقايا الإمبراطورية.

الأمر الوحيد الذي اتَّفق عليه المؤرخون الإسرائيليون والعرب هو مواعيد نهاية الحكم العثماني في فلسطين والحماية الإنجليزية، وبعدها إعلان دولة إسرائيل، الذي رآه العرب باعتباره كارثة، بينما اعتبره الإسرائيليُّون بداية لبعث الدولة اليهودية والاستقلال القومي.

تتَّسم الكتابات التاريخية الأوروبية لبلدان الشرق الأوسط بأنها أقل تسييسًا بشكل ملحوظ، لكنها تعكس أيضًا انحيازًا سياسيًّا من جانب بعض المؤرخين، وخاصة المؤيِّدين للعرب.

أما فيما يتعلَّق بالأعمال التي صدرت مؤخرًا للمؤرِّخين السوفييت حول إشكالية الشرق الأوسط، فقد ظلَّت تخدم لفترة طويلة موقف الحكومة الرسمي المؤيد للعرب في الصراع في الشرق الأوسط.

ظهرت مدرسة الاستشراق الروسي إلى الوجود منذ حوالي قرنين من الزمان. لكن الأبحاث الخاصة بالمشكلات الإثنودينية لمجتمعات الشرق الأوسط لم تكن تُمثِّل أولوية لمدة طويلة، على الرغم من أنَّ دورها في التاريخ كان مُهمًّا دائمًا. وقد بدأ الاستشراق الروسي، وكذلك الأوروبي، بدراسة اللغات والآداب والتاريخ والديانات لدى الأعراق المكوِّنة للدولة، وهو أمر مفهوم تمامًا. كان عدد المتخصِّصين في بداية الاستشراق السوفييتي قليلًا. الذي حدث أن الأرمن أساسًا كانوا يعملون على دراسة تاريخ الأرمن في فترة الإمبراطورية العثمانية بشكلٍ أساسي، بينما راح ج. جريتس وأ. جالانتي يَدرسان الطوائف اليهودية كما ذكرنا من قبل، واليونانيون يَكتبون عن اليونانيين في الأغلب. وتحظى أعمال المؤرِّخ ستيفان إييراسيموس حول الجاليات غير المسلمة، اليونانية أساسًا، بشهرة واسعة. وهناك العديد من الأبحاث المنهجية في تاريخ السلافيين وغيرهم من الجماعات العرقية في البلقان، بمَن فيهم اليهود، تُجرى في بلغاريا وصربيا ورومانيا وغيرها من البلاد منذ النصف الثاني من القرن العشرين بشكلٍ أساسي، وهذه الأبحاث تُمثِّل جزءًا مهمًّا من التاريخ القومي.

فيما يتعلق بالأبحاث الروسية في هذه الإشكالية، نجد أن العرض الموجز للكتابات الأوروبية الغربية عن الدولة العثمانية، الذي أصدره المستشرق الرُّوسي الشهير فاسيلي ديمترييفيتش سميرنوف في عام ١٨٩٥م، يُعدُّ واحدًا من الأعمال الأولى التي تتضمَّن وصفًا لحياة اليهود. وقد أضاف هذا الموجز نشر نصٍّ مصحوب بتعليقات للفرمان السلطاني حول الامتيازات التي أُعطيت لامرأة يهودية تُدعى كيرا هي وذريتها.

مع مَطلع القرن العشرين بدأت الدورية اليهودية الأسبوعية «راسسيفيت» (الفجر)، والتي أخذت في الظهور منذ عام ١٩٠٨م في سان بطرسبورج، في نشر موادِّها التي ألقت بالضوء على إقليم فلسطين العثماني، وقد وصَفت هذه الدَّورية الوضع في فلسطين عقب قيام نظام الانتداب البريطاني هناك.

لم يتوفَّر في الحقبة السوفييتية مناخ مشجع لإنتاج أي أبحاث في التاريخ القومي، وقد أصبحت هذه البحوث مُسيَّسة؛ فضلًا عن أنها اتَّسمت بالتزييف بدرجة ملحوظة.

وعلى الرغم من أنَّ قيم الأممية ظلَّت هي القيم المُعلنة طوال هذه الحقبة، فقد مُورست في الوقت نفسه سياسة الاضطهاد ضد بعض الفئات الاجتماعية والأقليات القومية، وأيضًا ضد المدارس العِلمية، وقد عانى من هذا الاضطهاد أفضل المؤرِّخين، ومن بينهم المستشرقون في كل من موسكو وليننجراد.

لقد تغيَّر الوضع في العقود الأخيرة من القرن الماضي؛ إذ ظهرت إمكانية إجراء بحوث أكثر إنسانية وحرية في تناول موضوعات كانت من قبل إما مُهملة وإما مصحوبة بأوضاع أيديولوجية قاسية.

في عام ٢٠٠١م جرى نشر ترجمة عن الفرنسية لكتاب المؤرِّخين إستر بنباس وهارون رودريج «يهود المشرق … الجالية السفرديمية … في الفترة من القرن السادس عشر وحتى القرن العشرين.» وقد استند هذا المرجع إلى مواد غزيرة من أرشيف الاتحاد اليهودي العام.

وفي عام ٢٠٠٥م صدر مرجع آخر اتَّسم بالموضوعية لمجموعة من المؤرخين: إ. ف. زفياجيلسكايا، ت. أ. كاراسكوفا وأ. ف. فيدوروتشينكو بعنوان «دولة إسرائيل»، ويتضمَّن البحث الخاص بتاريخ فلسطين، والذي كتبَتْه إ. د. زفياجيلسكايا، معلومات عن الفترة العثمانية أيضًا.

في الفترة من ١٩٩٦م وحتى ١٩٩٨م صدر باللغة الرُّوسية في كل من أورشليم القدس وتل أبيب كتاب مارينا فريدينبرج، وهي مؤرِّخة هاجَرَت من الاتحاد السوفييتي، وتَتناول بحُوثها بشكلٍ أساسي تاريخ يهود بلدان البلقان، الذين عاشوا في المملكة النمساوية المجَرية، كما تَشمل أحيانًا اليهود الذين عاشوا في الأراضي العثمانية.

يُعدُّ كتابنا هذا هو المحاولة الأولى لتصنيف وفهم المواد المتاحة لتطور الطوائف اليهودية، سواء في تبعيتهم للتطور الداخلي لمؤسسات الدولة العثمانية، أو للطابع الذي أصابه التغيير في العلاقات المتبادلة بين الحكومة العثمانية والدول الأوروبية.

وقد نشرت بعض من فصوله في مجلة «ليخايم» (من أجل الحياة)، وفي الدورية الأسبوعية «يفرييسكوي سلوفا» (الكلمة اليهودية) في الفترة من ٢٠٠٣م وحتى ٢٠١١م.

أتوجَّه بالشُّكر للببليوجرافيَّة يفجينيا ناعوموفنا نازاروفا، ولكبير المُحرِّرين في الدورية الأسبوعية «يفرييسكوي سلوفا» فلاديمير ناتانوفيتش دينكين، للدَّعم الذي قدماه لي في عملي هذا.

وردَت كتابة الأسماء في الكتاب وفقًا للمصدر الذي أخذتها عنه؛ ومن ثَمَّ فمن المحتمل أن ترد الأسماء على نحو مُختلف.

١  Grahm-Brown S. Palestinians and their Society 1880–1946. L.-Melbourne – N. Y., 1980. p. 24.
٢  Khader B. Histoire de la Palestine. T. 1. Maison Tunisienn de l’Edition. 1976. pp. 130–138.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤