الخاتمة

في الفترة من القرن الخامس عشر وحتى القرن السادس عشر الميلادي وجد اليهود الفارون من الدول الأوروبية نتيجة للاضطهاد، وجدوا ملاذًا لهم في الإمبراطورية العثمانية، ومن ثم ازداد عدد الطوائف اليهودية، التي كانت موجودة بالفعل على أراضي الإمبراطورية. كان السلاطين في الفترة الأولى من تكوُّن الإمبراطورية يتميزون بالتسامح، أما المؤسسات الحكومية فكانت قد تشكلت لتوها. كان من الضروري تنظيم الاقتصاد بمساعدة اليهود والمسيحيين. وقد اختلف وضع الطوائف اليهودية في هذه الدولة عن ذلك الوضع الذي عاشوا فيه في الدول الأوروبية، والذي اضطرهم للفرار منها، ويمكن القول إنهم طردوا في الواقع منها. على أنهم لم يزدهروا سريعًا في الأراضي العثمانية أيضًا بطبيعة الحال.

وقد أشار هنريخ جريتس إلى المفارقة الخاصة بوجود اليهود في أوروبا العصور الوسطى بقوله: «من المدهش أن اليهود، على الرغم من العداء الذي كان المسيحيون يُكنونه لهم، أصبحوا يمثلون أهمية كبرى لهم … ما هي إلا سنوات قليلة بعد المأساة الرهيبة التي جاءت نتيجة للموت الأسود (وباء الطاعون-إ.ف) حتى وجد المواطنون الألمان هم ونوابهم أنفسهم أمام ضرورة الإسراع بدعوة اليهود من جديد، وسرعان ما نسوا قَسَمَهم بألا يعيش يهودي واحد داخل حدود بلادهم قبل مائة أو مائتي عام. في عام ١٣٥٠م تمَّت دعوة اليهود للمجيء إلى بريسلافل على وجه السرعة، وإلى ستراسبورج في عام ١٣٦٨م، وإلى نورمبرج في عام ١٣٥٢م. وبدءًا من عام ١٣٥٣م وحتى ١٣٥٧م جرى استقبالهم في كل من زيوريخ وفيينا وإيرفورت وبازل وغيرها من المدن. وفي عام ١٣٦٤م أعاد الملك كارل الخامس لليهود الامتيازات، التي كان أبوه يوحنا قد حرمهم منها، عندما كان بحاجة ماسة للنفوذ، لكنه عاد في عام ١٣٦٨م فأصدر مرة أخرى أمرًا بطردهم من فرنسا.»١

وقد استخدم الكاتبان والتر سكوت وليون فايختفانجر هذه الموضوعات وغيرها في رواياتهما.

شاركت الطبقات الدنيا في المذابح، بعد أن تغذت على الأساطير والخرافات الدينية، وبالإضافة إلى ذلك فقد أعطت هذه الأحداث الفرصة لهذه الطبقات لتصب ما بداخلها من غيظ بسبب ما تعانيه من فقر وإذلال على آخرين لا يملكون إطلاقًا أي حماية قانونية أو قضائية.

لم يكن مثل هذا الاضطهاد المنظم لليهود موجودًا في الدولة العثمانية، ولهذا فقد فضَّل العديد منهم حكم السلاطين على العيش تحت رعاية الحكام الأوروبيين.

على مدى ألف عام استطاع اليهود، المضطرون طوال الوقت للتنقل، اكتساب القدرة على استيعاب اللغات والثقافات الأجنبية، وأن يتأقلموا مع أصحاب الديانات الأخرى. كان اليهود يتميزون بمتانة العلاقات القائمة داخل الطائفة (على الرغم من وجود أمثلة أيضًا على وجود مظاهر للتعصب والتشرذم داخلها)، في الوقت نفسه كان اليهود يمتلكون قدرة مدهشة على المنافسة، تم اكتسابها أيضًا على امتداد عدة قرون باعتبارها وسيلة من وسائل الحياة. لا يمكننا إلا أن نتفق مع الملاحظة التي أبداها فرنان بروديل ومفادها «أن اليهود يقفون في مواجهة جميع الحضارات، ناهيك عن تفوقها العددي. لم يكن اليهود يملكون القوة أو الجماهيرية، وإنما كانوا يمثلون دائمًا أقلية تافهة. ولكننا سنجد أنه ما إن يبدأ أحد الحكام باضطهادهم، حتى نجد أن حاكمًا آخر يقدم لهم المساعدة، وأنهم إذا ما فقدوا القدرة على التأقلم في ظروف اقتصادية ما، فإنهم يشعرون في ظروف أخرى بأنهم في وطنهم …»٢

تغير الوضع تدريجيًّا في عدد من بلدان أوروبا الغربية؛ فازداد انتشار أفكار النزعة الإنسانية والمساواة الطبقية أمام القانون يومًا بعد الآخر، ومن بعدها انتشرت أفكار المساواة وحق الجميع في الجنسية دون قيود دينية أو إثنية. وفي نهاية القرنين الثامن عشر والتاسع عشر حصل اليهود المقيمون في هذه البلاد على حق الجنسية، الأمر الذي سرَّع، من جانب، من تكاملهم مع المجتمع الأوروبي، وأعطاهم، من جانب آخر، إمكانات أكبر للقيام بالنشاط الاقتصادي والسياسي، وكذلك في الحصول على ظروف أكثر عدلًا في المنافسة في أي مجال من مجالات العمل. وفي هذه البلاد ظهر مواطنون يهود مثقفون وأثرياء قدموا المساعدة لأبناء عقيدتهم من المحتاجين، ليس فقط في أوروبا، وإنما في أجزاء أخرى من العالم أيضًا. وقد قدَّم الاتحاد اليهودي العام، الذي تشكل في فرنسا، الدعم في إنشاء نظام جديد لتعليم اليهود العثمانيين وذلك منذ الثلث الأخير من القرن التاسع عشر وحتى بداية الحرب العالمية الأولى.

أصبح تطور التشريعات ومؤسسات الدولة في الإمبراطورية العثمانية ملحوظًا بصفة خاصة في القرن التاسع عشر في سياق إصلاحات التنظيمات، كما تغير وضع الشعوب التي استقر بها المقام في الدولة العثمانية. كان لهذه التغيرات أثر طفيف على اليهود، إذ كان وضعهم في الإمبراطورية مرتبطًا بالدرجة الأولى باستقرار السلطة المركزية. ظل اليهود محتفظين على مدى بضعة قرون باستقلال البنية الداخلية للطائفة (المحكمة الحاخامية، المدارس الدينية، المنظمات الخيرية، التوزيع الداخلي للضرائب، وهلم جرًّا).

في ظل كل هذه الظروف ظل اليهود مرتبطين أيضًا باستبداد الموظفين العثمانيين على جميع المستويات وكذلك بالسكان المحليين، الذين كانوا مسيطرين على محافظة عثمانية محددة: أتراك وسلاف ويونانيون وعرب ومجريون … وهلم جرًّا. وعلى الرغم من اضطرارهم للخضوع للغزاة الأتراك، إلا أنهم كانوا يعتبرون أن الأراضي المحتلة هي أرضهم كما كان الأمر قبل ذلك، وأن الباقين أغراب غير مرغوب فيهم. كثيرًا ما اضطر اليهود للدخول في صراع تنافسي حاد مع السكان المحليين، وأحيانًا ما كانوا يسعون للاعتماد على الموظفين العثمانيين.

منذ القرن الثامن عشر بدأت الطوائف اليهودية في الإمبراطورية العثمانية في الانهيار هي والدولة التي كانت تحتضنها منذ زمن قريب. ازدادت هذه الطوائف فقرًا وانحطاطًا وبدأت في تكبد الخسائر في صراعها التنافسي مع الإثنيات الأخرى. كانت إمكانات التطور الاقتصادي والثقافي للطوائف اليهودية في أوروبا والشرق مشروطة بمدى تغير التحضر في الدول التي كانوا يعيشون فيها. وفي نهاية القرنين الثامن عشر والتاسع عشر حصل يهود أوروبا الغربية على حق الجنسية، وحتى يحققوا النجاح في أعمالهم اضطر كثير منهم إلى قطع علاقاته مع بيئته وديانته، وقد ظهر بين اليهود المندمجين كثير من الشخصيات أغلبها بارزة في العلم والأدب والاقتصاد والفن.

لم تتح بنيات المجتمع الشرقي، التي تجمدت على مدى عدة قرون، والتي راحت تتطور على نحو أكثر بطئًا من المجتمعات الأوروبية في العصر الحديث، الفرصة لقيام نمو حر للشخصية ذاتها، سواء أكانت تركية أم عربية، يهودية أم من أي نوع آخر. على أنه يجب علينا ألا نضفي صورة مثالية على المجتمعات الأوروبية أيضًا؛ فكلما أظهر اليهود نجاحًا في أي مجال من المجالات، ازدادت قسوة وشكوك الأغلبية التي تشكل الدولة تجاههم، وهي أغلبية لا قدرة لديها على تحمل المنافسة الحرة إطلاقًا. وكان وجود استثناءات، مثل هولندا، أمرًا نادرًا.

وكما ذكرنا من قبل، فقد قدَّم يهود أوروبا دعمهم للطوائف اليهودية في الإمبراطورية العثمانية في أوقات الشدة التي مرت بهم. ومما لا شك فيه أن تجديد برامج التعليم ومواصفاته، وبناء مدارس جديدة، كانا خدمة أكيدة قدمها الاتحاد اليهودي العام، بالإضافة إلى ما قدمه رجال البر الأوروبيون، الذين تبرعوا بمبالغ ضخمة من أجل رفع مستوى معيشة السكان اليهود. لقد قدَّم اليهود من ذوي النفوذ في إنجلترا وفرنسا الكثير من أجل إنقاذ يهود دمشق وكريت من التنكيل الشامل بهم، عندما اتهموا، كذبًا واستفزازًا، في قضية «فرية الدم».

لم تتفق مصالح الشعوب التي اجتمعت في دولة عثمانية واحدة نتيجة الغزوات التركية، وعندما بلغت الإمبراطورية ذروة قوتها، تم قمع هذه المصالح في سبيل أهداف الإمبراطورية. وفي عصر الاضمحلال، ومن بعده انهيار الدولة العثمانية، فضلًا عن حركة النضال الوطني التحرري، ظهرت أيضًا التناقضات بين الشعوب التي نالت استقلالها، وهذه التناقضات هي التي أدت إلى اندلاع حربي البلقان.

ازداد وضع اليهود سوءًا على نحو ملحوظ، مقارنة بالوضع الذي كانوا عليه وهم تحت حكم الأتراك، وذلك بعدما أعيد تكوين دول البلقان من جديد. وفي السنوات التي سبقت الحرب العالمية الأولى وبعدها، ازدادت حركة الهجرة اليهودية إلى الولايات المتحدة الأمريكية ودول أوروبا الغربية وداخل الحدود التركية. لقد سادت الأيديولوجيا القومية عددًا من دول البلقان، وهنا بات ينظر إلى الأقليات الإثنودينية باعتبارها «طابورًا خامسًا»، وأصبحت معاداة السامية، التي راحت تزداد قوة، هي الوجه الآخر للنزعة القومية التي ظهرت آنذاك.

كان لموجة العداء للسامية في أوروبا والمذابح التي وقعت في روسيا ورومانيا وفي بلاد أخرى دور مهم في استجماع الأفكار الصهيونية لقوتها. ولم تجد هذه الأفكار دعمًا في العديد من أقاليم الإمبراطورية العثمانية خارج حدود فلسطين، مثلما وجدته في أوروبا. أغلبية اليهود العثمانيين لم تكن تؤمن بنجاح المخططات الصهيونية، وإنما كانت تفضل العلاقات المؤجلة لقرون طويلة مع السلطات التركية. كان يهود أوروبا بصورة أساسية، من بين الذين سعوا منذ البداية، بالحق أو بالباطل، للذهاب إلى فلسطين، وهم الذين قاموا بعد ذلك بالدفاع عن حقهم في هذه الأرض بالسلاح، ثم استصلحوها بعناد كبير متجاوزين ما قابلوه من صعاب كبيرة، وهؤلاء كان أغلبهم من الذين هاجروا من روسيا.

زادت الحرب العالمية الأولى من حدة الخلافات، التي استمرت زمنًا طويلًا في فلسطين، وقد حاول الأتراك، وهم يحاربون صفًّا واحدًا مع ألمانيا ضد دول التحالف، قمع الحركات القومية، سواء العربية أو اليهودية.

أما فيما يتعلق باليهود العثمانيين في الأقاليم الأخرى، فإن جزءًا صغيرًا منهم فقط هو الذي رَحَّب بقوات التحالف، عندما احتلت إسطنبول في عام ١٩١٨م، ودخلت القوات اليونانية إلى غرب الأناضول، أما الغالبية فقد وقفت إلى جانب الأتراك، ونتيجة لذلك قامت بدعم النضال الثوري القومي التحرري للكماليين في الفترة من عام ١٩١٨م إلى ١٩٢٣م. وقد أدت هزيمة الأتراك في الحرب العالمية الأولى إلى انهيار الإمبراطورية العثمانية لتخسر تركيا بلدان الشرق الأوسط كلها بما فيها فلسطين. وقد نجح الأتراك، بعد أن تكبدوا خسائر فادحة، في استرجاع أراضي آسيا الصغرى، التي تكونت داخل حدود الجمهورية التركية، واتبعت حكومة مصطفى كمال أتاتورك مبادئ جديدة في سياستها الداخلية أصبح من أهمها النزعة القومية التركية. وبناء على دستور عام ١٩١٤م فإن كل من وُلد داخل الحدود التركية، التي اعترفت بها معاهدة لوزان عام ١٩٣٧م، يُعد تركيًّا ومواطنًا كامل الأهلية للجمهورية التركية، بغض النظر عن انتمائه الإثني والديني. الحقيقة أنه قد جرى استبدال عدد من السكان مع اليونان قبل صدور الدستور بفترة قصيرة، وقد تم طرد سكان يونانيين من تركيا، مع بعض الاستثناءات القليلة، وكذلك طرد أتراك من اليونان. في تلك الفترة كان عدد الأرمن الذين بقوا في تركيا قليلًا للغاية، أما فيما يتعلق باليهود فقد طُلب منهم التكامل مع المجتمع التركي.

كان من الضروري عند شغل وظيفة في الحكومة إجادة اللغة التركية إجادة تامة وإعلان الولاء دون قيد أو شرط للسلطات الجديدة. وقد اعتُبرت هذه المطالب مطابقة تمامًا للمعايير الدستورية في الدول الأوروبية. كان الكماليون يفضلون رؤية الأعراق التركية في جميع الوظائف المهمة ولو بأعداد قليلة وحتى في الشركات الخاصة.

لم يتعرض اليهود للطرد، خلافًا للأرمن واليونانيين، على أنه في الثلث الأول من القرن العشرين تقلص عددهم نتيجة للهجرة الجماعية إبان سنوات الحرب العالمية الأولى وما تلاها من سنوات.

عشية الحرب العالمية الثانية وإبانها لم تحذ تركيا حذو معظم الدول الأوروبية ولم تُسلِّم النازيين مواطنيها من اليهود.

بعد قيام دولة إسرائيل، وإلى زمن قريب، عقدت السلطات التركية معها علاقات دبلوماسية وتجارية. وبمبادرة من رئيس الحكومة التركية أردوغان، تم تخفيض هذه العلاقات في الوقت الحالي إلى الحد الأدنى؛ فالمكون الإسلامي والعلاقات الوطيدة مع العالم العربي وطموح الحكومة الإسلامية لتَبَوُّء الزعامة في الشرق الأوسط تحظى بتأثير كبير على السياسة التركية.

ووفقًا للإحصاءات التركية، فقد بلغ عدد اليهود، الذين يعيشون الآن في تركيا، ٢٠ ألف يهودي تقريبًا،٣ وهو ما يعني أن عددهم قد تقلص منذ نهاية القرن التاسع عشر وحتى بداية القرن العشرين حوالي عشرين مرة.٤
١  جريتس ج.، تاريخ اليهود منذ أقدم العصور، الجزء ٩، ص٨–١٠.
٢  بروديل ف.، البحر المتوسط وعالم البحر المتوسط من عصر فيليب الثاني، الجزء ٢، ص٦٤٣-٦٤٤.
٣  بروديل ف.، البحر المتوسط وعالم البحر المتوسط من عصر فيليب الثاني، الجزء ٢، ص٦٤٣-٦٤٤.
٤  وفقًا لإحصاءات إ. بنباس وأ. رودريج فإن هذه الإحصاءات تتفق وإحصاءات معهد المؤتمر اليهودي العام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤