الفصل الأول

الوضع القانوني للطوائف اليهودية في الإمبراطورية العثمانية

(١) العصور الوسطى

عاشت الدياسبورا اليهودية في العديد من بلدان العالم منذ أقدم العصور في عزلة، مكوِّنة جاليات إثنودينية قائمة بذاتها. وكان وضعها القانوني في هذا المجتمع أو ذاك تُحدِّده الشرائع الدينية للبلد الذي تسكنه (والتي تميزت بالقسوة الشديدة، وخاصة في العصور الوسطى)، فضلًا عن درجة التسامح في هذا المجتمع ولدى الطبقة العُليا بصفة رئيسية، بوصفها الطبقة التي تُشكِّل السلطة في جميع المستويات. وحتى في أفضل العصور التي عاشها اليهود، وفي سياق أفضل صور ولائهم للحكام، كانوا جميعًا يُعَدُّونَ مواطنين من الدرجة الثانية. كان اليهود يتمتَّعون في ظل إدارة قرطبة، المزدهرة اقتصاديًّا، والتي أصبحت خلافة بعد ذلك (من القرن الثامن إلى القرن الثاني عشر)، بحرية العقيدة والتنقل (لم يكن هناك اضطهاد ديني أو مظاهر للمحاصرة)، بل كانت لهم الحرية في اختيار المهنة التي كانت تتحدَّد قبل ذلك في أغلب الأحوال تبعًا للمهن التقليدية للأسرة، الأمر الذي كان معمولًا به في كل مكان. على أنه، وفي سياق كل ذلك، فقد كانت حياتهم مقيَّدة بمعايير الدولة الإسلامية؛ ومن ثم لم يكن من الممكن اعتبار هذا الوجود مُستقرًّا. وقد لعبت العلاقات الشخصية لوجهاء اليهود وأثريائهم مع السلطة العليا دورًا كبيرًا في هذا النظام، على الرغم من أن هذه العلاقات اتخذت في بعض الأحيان طابعًا متناقضًا؛ إذ إنه كلما ازداد تأثير وعلاقات بعض اليهود لدى البلاط، أصبحت الطائفة بأكملها عرضة لمخاطر كبرى باعتبارها رهينة جماعية؛ فالمذبحة التي تعرَّض لها اليهود في عام ١٠٦٦م في غرناطة «الفاخرة» بدأت باعتبارها تمرُّدًا ضد الوزير اليهودي صاحب النفوذ الواسع.

كانت جموع من المسلمين في القاهرة وغيرها من مدن الشرق الأوسط تقوم من وقتٍ لآخر بهدم السيناجوجات والكنائس التي يَملكها اليهود والمسيحيُّون، مُستغلين سيطرة قوانينهم الدينية، التي تعتبر غير المسلمين مواطنين من الدرجة الثانية. ومع ذلك فيَنبغي علينا أن نُعطي مسلمي العصور الوسطى حقهم؛ فمثل هذه التجاوزات لم تكن تحمل على أيِّ حال طابع الاضطهاد والملاحقة المنظَّمَين، مثلما حدث على امتداد العصور الوسطى في أوروبا المسيحية، التي كانت أيديولوجيا الكنيسة تباركها.

كان التطرُّف في البلاد الإسلامية في ذلك الوقت لا يُقارن، بطبيعة الحال، بالمحارق في زنازين محاكم التفتيش التي أقيمت للمهرطقين اليهود والموريسكيين على يد الملكة إيزابيلا، والتي يُطلق عليها الإسبان الكاثوليك حتى اليوم اسم «القديسة»، بينما لم يَجد كارل ماركس، الذي لم يكن يتحلَّى باللياقة السياسية ولا بالانتماء إلى جذور قومية خاصة، تعريفًا أفضل لهذه المَلكة سوى «البهيمة الكاثوليكية».١
دفعت الأعمال التي قام بها «الملوك المسيحيون»؛ إيزابيلا (١٤٧٤–١٥٠٤م) وفرديناند الثاني (١٤٧٩–١٥١٦م)، زوجها، بآلاف اليهود والمسلمين إلى الفرار. وإذا كان لدى الموريسكيِّين ما يفرُّون إليه (حيث وجدوا ملاذًا لهم عند شركائهم في العقيدة في شمال أفريقيا)؛ فاليهود لم يجدوا أحدًا بانتظارهم في أي مكان. لا تُوجد أعداد دقيقة لليهود الذين تمَّ نفيهم من إسبانيا. الأرجح أن أعداد مَن غادَرُوها إلى البرتغال وفرنسا وإيطاليا وشمال أفريقيا قد بلغ نحو ٣٠٠ ألف نسمة، وهي بلاد لم تُرحِّب بهم مطلقًا آنذاك. لقد جرى اضطهاد اليهود في جميع أنحاء أوروبا، أما في شمال أفريقيا فقد تعرَّض هؤلاء الغرباء للسرقة والإهانة من القبائل المحلية. على أنه، وفي هذه السنوات القاسية على هذا الشعب، إذا به يجد فجأةً مأوًى له في الإمبراطورية العثمانية.٢
سمح السلاطين لليهود المطرودين من الدول الأوروبية، والذين تعرَّضوا للإبادة من جانب المسيحيين، حتى في أثناء محاولاتهم للهروب، بالدخول إلى بلادهم دون قيد أو شرط، وقد عومل اليهود المحليُّون المقيمون في الدولة العثمانية بتسامح أكثر مما كانوا يُعامَلُون به في بيزنطة. وهناك افتراض أن عدد اللاجئين اليهود الذين استقرَّ بهم المقام في الدولة العثمانية بلغ نحو ٤٠ ألف نسمة، لكن هذا العدد سرعان ما تضاعف بفضل اليهود الذين جاءوا فيما بعد من صقلية والبرتغال. وفي نهاية حكم محمد الثاني، ووفقًا لتعداد السكان الذي أُجري في عام ١٤٧٧م، بلغ عدد اليهود في إسطنبول ١٦٤٧ عائلة؛ أي ما يقرب من ٨٠٠٠ نسمة، وذلك بناءً على حسابات خليل إينالجيك.٣ وهكذا أصبحت الإمبراطورية العثمانية ملاذًا بالنِّسبة لعدد كبير من اليهود لعدة قرون. وهناك عبارة تنسب للسلطان بايزيد الثاني (١٤٨١–١٥١٢م) وردت في حديث له مع أحد الأوروبيين تقول: «هل تَعتبرون فرديناند ملكًا حكيمًا لأنه بذل جهودًا ضخمة، لكي يُفلس بلده ويُثري بلدنا؟»٤

على أي نحو كان وضع الطوائف اليهودية التي عاشت قبل ذلك في مناطق البلقان وآسيا الصُّغرى والشرق الأوسط، والقادمين الجدد فيما بين القرنين الخامس عشر والسادس عشر داخل حدود الدولة العثمانية؟

كان الإسلام، الذي حدَّد معايير خاصة لوجود الشعوب التي استقرَّت في الإمبراطورية العثمانية، يسمح، طبقًا للقرآن، بالعيش وحق الامتلاك، جزئيًّا، للمسيحيين واليهود، بشرط الالتزام بالقوانين الإسلامية المعمول بها، ودفع الضرائب المفروضة. وقد تعامَلَت السلطات بقدر من التسامح، تبعًا للقوانين الإسلامية، مع الذمِّيِّين (المسيحيين واليهود) الذين هم من «أهل الكتاب». لكن هذا الوضع لم يكن وضعًا مُستقرًّا؛ ففي ظلِّ الاستبداد الشرقي، الذي كانت الإمبراطورية العثمانية إحدى صوره، لم تكن حياة أي شخص، بما في ذلك حياة السلطان نفسه وأفراد عائلته، مأمونة بسبب تعسُّف وجود بعض الأفراد والجماعات التي كانت تَمتلك في وقت محدَّد تأثيرًا واسعًا. أما فيما يتعلق بمُمتلكات أي فرد من الرعية، سواء كان مسلمًا أو «كافرًا»، فهذه كانت، من وجهة النظر الإسلامية، مِلكًا لله ونائبه على الأرض: السلطان/الخليفة. كانت الثروات الكبيرة تتمُّ مُصادرتها عادةً بعد وفاة أصحابها لصالح خزانة الدولة، وكانت السلطات تَترك للورثة ما تراه ضروريًّا لهم.

كان مسموحًا لغير المسلمين في الإمبراطورية العثمانية بحُرِّية ممارسة العبادة والحياة في إطار الشرائع الدينية الخاصة بهم. وفي عهد محمد الثاني الفاتح الذي فتح القسطنطينية (استمرَّ حُكمه من ١٤٤٤م وحتى ١٤٤٦م، ثم من ١٤٥١م وحتى ١٤٨١م)، عاش أصحاب المِلَل المختلفة من الجاليات غير المسلمة وهم على النحو التالي: اليونانيون – الأرثوذوكس، اليهود (هناك معلومات تشير إلى أنهم نشئوا بشكلٍ رسمي بحلول عام ١٤٩٣م وربما بعد ذلك)، الأرمن – الجريجوريانيون. وقد ازداد أصحاب الملل الأخرى بمرور الوقت، وجميعهم بقوا حتى الانهيار النهائي للإمبراطورية في عام ١٩١٨م.

لم يكن النظام المِلِّي بدعة من جانب الحكام العثمانيين. فقد كان هناك عزل مُشابه للطوائف ذات الإثنيات الدينية في مختلف البلدان قبل تطبيق هذا النظام شمل مناطق آسيا الصغرى والبلقان والشرق الأوسط التي استولى عليها الأتراك. لقد ظلَّ الأتراك، في جوهر الأمر، طوال فترة وجود الدولة العثمانية شعبًا غازيًا، وكانت الحرب والإدارة موجودتين دائمًا في مجال اهتمامهم على نحو استثنائي. لقد بدا نظام الحكم الذاتي الداخلي للطوائف غير المسلمة نظامًا مقبولًا بالنسبة للأتراك أيضًا، وقد طُبِّقَ قبلهم في العديد من الدول الإسلامية، وخاصة أن السكان غير الأتراك كانوا يُمثلون أغلبية بين جميع السكان.

كانت حضارة مدن الشعوب المغلوبة تمتلك تجارة وحِرَفًا مُتطوِّرة أعطت مردودًا كبيرًا من الضرائب إلى الخزانة العثمانية، وإن لم يُشارك الأتراك أنفسهم في هذه الأعمال. أما الأحرار من الرجال غير المسلمين القادرين على العمل فكانوا يدفعون الجزية والضرائب على الأطيان (الخراج). وكانت الطائفة مُلزَمة بدفع الجزية المقدَّرة كما هي، أما الخراج فيُحدد بمقدار ما يملكون من أراضٍ.٥ يتمُّ تجميع الضرائب داخل الطائفة، وعادةً ما تتمُّ جبايتُها من كل فرد تبعًا لقُدرته على الدفع. وكان يجري عتق غير القادِرين على العمل من السكان من الضرائب المفروضة. أما الحاخامات فكانوا يدفعون نصف الجزية أو لا يدفعون، إلى جانب الجزية والخراج، ما يُعرف بالمساهمات المالية «الطارئة» في حالة قيام الحرب بالدرجة الأولى (وهي حالات لم تكن قليلة)؛ حيث إن «الكفار» لم يكونوا يُؤدُّون الخدمة في الجيش. كان من المطلوب أيضًا، سدًّا لاحتياجات الجيش، توريد الخيول وغيرها من الحيوانات لاستخدامها في أعمال النَّقل وفي جر العربات. كما أن غير المسلم الذي يَمتلك حصانًا عليه أن يُسلِّمه إلى الموظَّف أو إلى مبعوث لشخصية مهمة، إذا ما كان بحاجة للحصول على حصان. أما أكثر الأمور مشقَّة بالنِّسبة لغير المسلمين فكان توفير مكان المبيت، الذي كان الموظفون أنفسهم يستخدمونه في أثناء تنقلهم عبر البلاد وتناولهم الطعام فيه على نفقة صاحب النُّزُل.
كان غير المسلمين يُضطرُّون للعمل في بناء القلاع والجسور والطرق. وهؤلاء كانوا يقومون أيضًا بتنفيذ العديد من أعمال السخرة، وقد وصل الأمر إلى حدِّ أن الأشخاص الذين كانوا يتهرَّبون من هذه الأعمال كانوا يُمنعون من ممارسة حِرَفهم. على سبيل المثال، حظرت السلطات على ستة من اليهود بيع الدواء لهذا السبب؛ أي بزعم أنهم رفضوا التعاون مع الجيش. الأرجح أن هؤلاء لم يَرغبوا أن يتبعوا الجيش فيخسروا أعمالهم الخاصة، ولكي يحصلوا على حقِّهم في ممارسة مهنتهم، كان عليهم تنفيذ المطلب الأساسي، فضلًا عن عرضهم على القاضي الإسلامي، ومعهم الموظفون المفوَّضون خصيصى لهذه القضية، يُرافقهم اثنان من الشهود الأتراك لتقديم الاعتذار للسلطات.٦

كان اليهود والقرَّاءون يُجبَرُون على القيام بأعمال الحراسة والخدمة أمام الأبواب، كما كانوا يمارسون الأعمال الشاقة في جميع أنحاء الدولة العثمانية التي كانت تضم حتى الربع الأخير من القرن الثامن عشر القرم، فضلًا عن ليتوانيا وبولندا.

كان محظورًا على اليهود في الإمبراطورية العثمانية، كما في الإمبراطورية الروسية أيضًا، استخدام أشخاص من أيِّ ديانة أخرى. وقد حظر السلاطين أيضًا على غير المسلمين امتلاك عبيد لهم. ومن المعروف في هذا السياق الفرمان الذي أصدره السلطان مراد الثالث (١٥٧٤–١٥٩٥م) في عام ١٥٧٥م. على أنَّ غير المسلمين، بمن فيهم اليهود، كانوا يَمتلكون عبيدًا بشرط دفع الضريبة المقدرة، تشهد على ذلك وثائق الأراشيف اليهودية القضائية، وهو ما لم يَستحسنُه حاخامات اليهود باعتبار أن القانون ينبغي أن يكون نافذًا على الجميع. أما الأتراك فقد ظلُّوا على مدى عدة قرون من هيمنتهم على الإمبراطورية التي أسسوها يؤكدون أن «غير المسلمين لهم الحقوق والامتيازات نفسها وفقًا للقرآن، وأن المسلمين وحدهم هم سادتهم.»٧ كانت هناك تعليمات بارتداء اليهود ملابس وأحذية وأغطية رأس مميَّزة، إلى جانب فرض بعض القيود الأخرى.

يحقُّ للمسلم الزواج من امرأة ذمية، بينما لا يحق للمسلمة الزواج من رجل غير مسلم، كما لا يجوز أن تعمل في خدمته. ولهذا السبب يستطيع المسلم أن يمتلك عبدًا ذميًّا أو أَمَةً، بينما لا يحق للذمي أن يمتلك عبدًا مُسلمًا أو أَمَةً مسلمةً، ويحظر على اليهود والمسيحيين الإقامة في المدن المقدسة في الجزيرة العربية — مكة والمدينة.

عاش اليهود في المدن الأخرى في أحياء مُنفصلة معزولة، أما في الدولة العثمانية فلم يكن بها جيتو يهودي، كما لم تكن أمامهم موانع للسُّكنى في العديد من المدن والأراضي شأن أوروبا.

كان النظام الملِّي العثماني في جوهره نظامًا دينيًّا وسياسيًّا، وكان يُوفِّر لغير المسلمين إمكانية إدارة معظم شئونهم داخل الطوائف. أما رئيس الطائفة فيختاره أعضاء الملة باعتباره قائدًا دينيًّا ومدنيًّا، ويتمُّ اعتماده بعد الانتخاب من جانب السلطات ليُدير شئون الطائفة برعاية منه.

هناك معلومات تُفيد أن كبير الحاخامات في إسطنبول كان معتمدًا بمُبادرة من المهاجرين الإسبان في بداية القرن السادس عشر، وكانت سُلطة كبير الحاخامات في البداية مقيدة بالدرجة الأولى بحدود المدينة.

كان كبير الحاخامات (حاخام – باشي)، مثله مثل غيره من رؤساء الملل غير المسلمة، مسئولًا عن جمع الضرائب، وفي الحالات الاستثنائية يسعى لمصلحة الطائفة أمام السلطات العثمانية، وتتشابه وظائفه جزئيًّا مع تلك الوظائف المنوط بها ممثلو الدول الأجنبية. صحيح أنه كانت هناك حالات، وإن كانت نادرة، كان الباب العالي يتدخل فيها في اختيار رئيس الطائفة ويرفض اعتماد المرشح غير المستحب الذي جرى اختياره.

كان أعضاء الطائفة الدينية يتوجَّهون بشكاواهم وطلباتهم إلى رئيسهم أو إلى المجلس الملِّي، وبعد مُناقشتها في المجلس يقوم رئيس الملَّة بإرسال هذه الوثائق إلى الديوان السلطاني. وفي الأمور التي تمسُّ الزواج والطلاق والميراث والتعليم والأعمال الخيرية، وعند ظهور مشكلات مدنية أخرى، يكون لرئيس هذه الملَّة شرعية مستقلَّة. كان لليهود والمسيحيين مدارس خاصة ومُستشفيات ومحاكم ومصحات عقلية.

وبالرغم من أن شعوبًا مختلفة العقائد عاشت في دولة واحدة، فقد كانوا في واقع الأمر يخضعون لقوانين مختلفة داخل الطوائف، كما كانت لهم عاداتهم وتقاليدهم، الأمر الذي كان سببًا في ظهور خلافات مُستمرة بين هذه الطوائف، ولم تكن هناك طائفة واحدة، رغم ذلك، بإمكانها مخالفة القوانين والعادات التي فرضها الإسلام عليهم.

كان الأتراك يَستغلُّون التوتر القائم بين الطوائف لأغراضهم، على أنهم كانوا يُحاولون أن يُبقوا هذا التوتر تحت سيطرتهم تجنبًا لاندلاع اضطرابات يمكن أن تحدث في لحظة واحدة.

حتى مُنتصَف القرن التاسع عشر لم يكن بإمكان غير المسلم أن يشغل أي وظيفة في السلَّم الإداري؛ ومن ثم فإن الذين خرجوا من هذه الطوائف، بعد أن اعتنقُوا الإسلام، كان بإمكانهم الترقِّي في السلَّم الإداري حتى أعلى المناصب. بعض اليهود والمسيحيين استثنوا من ذلك نظرًا لانضمامهم للخدمة لدى السلطات، وهؤلاء شغلوا وظائفهم باعتبارهم مُترجمين وأطباء وجباة للضرائب ورسوم الجمارك وأحيانًا مُستشارين ودبلوماسيين.

ما ذكرناه سابقًا يُمكن أن يخلق انطباعًا، وكأن الأتراك كانوا يتعامَلُون مع غير المسلمين من السكان وكأنهم أجانب، وخاصة أن رئيس الكُتَّاب (وهو بمَثابة وزير الخارجية) كان هو الذي يُدير شئون أصحاب الملل. هنا نجد في الحقيقة قدرًا من التشابه؛ حيث إن قواعد الإسلام كانت تسمح بقدرٍ نِسبي من التسامح تجاه «الكفار» فقط بشرط خضوعهم التام، لكن هذه القواعد لم تَعترف مطلقًا بحقهم في المساواة مع المسلمين، سواء أكانوا رعايا للسلطات أم أجانب.

أصبحت هذه الدوجما التي طرحها الإسلام في القرنين التاسع عشر والعشرين تحديدًا تُمثِّل حجر عثرة في طريق إعادة إصلاح نظام الدولة الذي استشرى فيه الضعف إلى حدٍّ يُثير اليأس، وكذلك أمام المحاولات المتكرِّرة التي اتخذها النظام لتوحيد التنوع الإثنوديني لسكان الإمبراطورية. هكذا بدَت العقيدة العثمانية، عقيدة وطن واحد للمسلمين وغير المسلمين، عقيدة باطلة.

كانت جماعات السكان الذين عُرفوا بالذميين، «أهل الكتاب»، الرعية، الكفار (المسيحيون أساسًا) واليهود يتعرَّضون للتفرقة الدينية والسياسية والاجتماعية. ولذلك يعدُّ الاعتناق الجماعي للإسلام من جانب المسيحيين في بعض مناطق البلقان، في ألبانيا على سبيل المثال، واحدًا من المؤشرات الدالة على هذه التفرقة وعلى الضغوط السياسية والاقتصادية والاجتماعية. يُمكننا أن نجد بين اليهود أيضًا من عُرفوا بالدونمة (الذين اعتنقوا الإسلام)، وهؤلاء كانوا قلَّة نادرة. كان هناك قانون في الإمبراطورية العثمانية، وفي الدول الإسلامية الأخرى، يَقضي بإعدام كلِّ مسيحي أو يهودي يعتنق الإسلام ثم يرتدُّ عائدًا لدينه السابق من جديد. وقد أُلغي هذا القانون في منتصف القرن التاسع عشر فقط. وقد تبين أن السلاطين المتسامحين مع اليهود كانوا يُصدرون فرمانات عنصرية أيضًا؛ فالفرمان الذي أصدره السلطان محمد الثاني الفاتح كان يحظر ترميم وإعادة بناء السيناجوجات والكنائس المُهدَّمة، وقد ظل هذا الفرمان ساريًا على نحو صارم وقاسٍ حتى منتصف القرن السابع عشر، عندما بدأت السلطات التركية تغضُّ البصر عن الحالات المخالفة. على أن هذا التهاون جاء نتيجة الصراع الطويل والعنيد ورشوة السلطات، ومفاوضات زعماء الطوائف مع هذه السلطات. وقد كان محظورًا أيضًا على أثرياء اليهود ارتداء الحرير والمجوهرات، الأمر الذي كان يشكل بالمناسبة خطرًا على الحياة على وجه العموم في ذلك الزمن.٨

دفع أسلوب التعامل مع غير المسلمين في الإمبراطورية العثمانية الحكومات الأوروبية إلى فرض بنودٍ في بعض معاهدات الاستسلام تُعطي الحق لمواطنيها في عدم الخضوع للتشريعات المحلية، وكذلك امتيازات لم يكن ليحلم بها أصحاب المِلَل.

هذه الامتيازات أو تلك التي أعطيت للطوائف كانت تتوقَّف على نزوة السلطان، وكانت تُمثل تنازلًا من جانب واحد ولا تدخل في المعاهَدات الرسمية الثنائية التي استطاعت الدول الأوروبية أن تفرض فيها نظام الاستِسلام، خلافًا لأصحاب الملل مهضومي الحقوق.

كان من الممكن إلغاء الامتيازات أو التسهيلات التي تُقدَّم إلى هذه الطائفة أو تلك في أي وقت. ومن المعروف أن محمدًا الثاني أصدر لائحة خاصة أعفى بمقتضاها اليهود من بعض الضرائب على بيع اللحوم وتبادل النقود وغيرهما من الإعفاءات من هذا النوع؛ وذلك بغرض التخفيف على القادمين منهم في مكان إقامتهم الجديد. ظلت هذه التسهيلات، التي أنعم عليهم بها هذا السلطان سارية طوال عهده فقط، بعد ذلك كان من المُمكن للحاكم القادم أن يُجدِّدها أو يلغيها.

أدَّت توجُّهات الدولة العثمانية تجاه المواطنين غير المسلمين، والتي استمرَّت لعدة قرون، إلى أثر كبير في واقع الأمر في حماية هؤلاء المواطنين من أي عدوان خارجي، وأحيانًا من أي عدوان داخلي. لقد وضع المفهوم الإسلامي للدولة الذميين على هامش الحياة، وكانت القوانين الإسلامية تُوضع موجَّهة إلى «المؤمنين» وتتجاهَل كلَّ مَن لا يَنتمي إليهم. ولهذا تحديدًا لم تستطع هذه الإمبراطورية الإسلامية الكبرى، بسبب هذه القوانين الدينية وطريقة تفكيرها التي كانت تتماشى ومصالح الطبقة العليا فيها، توحيد السكان المُتنافِرين داخلها على أساس قيَم عامة ما، ومن ثَمَّ فقد باتت مَقضيًّا عليها بالانهيار والفناء.

على أنه، وحتى في غياب المساواة الدينية والاجتماعية، فسرعان ما أصبح وضع اليهود في الدولة العثمانية في القرنين الخامس عشر والسادس عشر أفضل قانونيًّا وأحيانًا عمليًّا، من وضع اليهود في معظم بلدان أوروبا، حيث تعرضوا هناك للاضطهاد الديني، بل وللإبادة الجسدية أيضًا في أحيان كثيرة. في النصف الأول من القرن الخامس عشر بدأت السلطات العثمانية في تسجيل سكان الإمبراطورية، ولكنَّ التعداد على نحو منتظم لم يبدأ إلا منذ النصف الثاني فقط من هذا القرن على فترات من عشرة إلى عشرين عامًا. وفي الحقيقة فإن هذه الإحصاءات لم تكن إحصاءات شاملة بالمعنى المعروف للكلمة اليوم.

لقد وضعت هذه السجلات العثمانية هدفها الأول جباية الضرائب من السكان، وكان التسجيل في الوحدة الإقليمية الإدارية (السنجق) يستمرُّ من عام إلى عامين، ولم يكن يجري في جميع المناطق دفعة واحدة، وإنما على نحو تدريجي، وفي كل إقليم على حدة. أما السجلات التي وصلت إلينا فهي غير مُكتملة بالمرة بحيث يمكن الاعتماد عليها في معرفة التعداد الدقيق للسكان في فترة محدَّدة. لقد لعبت المصادفات دورًا كبيرًا في القرنين الخامس عشر والسادس عشر في النمو المتواثب لبعض المدن، بينما أدَّت إلى تراجع كبير في أعداد السكان في مدن أخرى، وفي الوقت ذاته بدأت مدن أخرى في النمو من جديد، وهي المدن التي تحوَّلت بفضل الغزوات التركية الجامعة إلى مدن حدودية مؤقتة، لتتعرض هي نفسها أحيانًا للتدهور عند زحزحة الحدود. لم تكن وحدة الحساب آنذاك هي النسمة، وإنما البيت، الأسرة (الخان)، وكان يشار في السجلات إلى صاحب البيت ووضعه العائلي (أعزب، متزوِّج)، وإلى الديانة.٩

غزا الأتراك العثمانيون فلسطين وغيرها من أراضي الشرق الأوسط في عام ١٥١٦م، وتمَّ بناءً على أمر السلطان سليم الأول (١٥١٢–١٥٢٠م) تقسيم الأراضي التي تمَّ غزوها إلى سناجق، تشكل معًا جزءًا أكبر يعرف بالولاية. كان الكتبة يحسبون الجاليات اليهودية في صفد وأورشليم والخليل وغزة ونابلس والسامريين على حدة، فضلًا عن حسابهم للعائلات اليهودية القادمة من إسبانيا والبرتغال وإيطاليا وألمانيا والمجر وبلاد المغرب إضافة إلى اليهود الذين يتحدَّثون العربية. وقد بلغ عدد اليهود الذين كانوا يعيشون في الجليل حوالي ١٠٠٠٠ نسمة، بينما بلغ مجموع سكان فلسطين بين عامي ١٥٥٥م و١٥٥٦م حوالي ٣٠٠٠٠٠ نسمة.

من بين وثائق الأراشيف العثمانية سجلات تَحتوي على معلومات حول أعداد العائلات اليهودية والضرائب التي دفعوها في مختلف المراكز السكَّانية في سنوات معيَّنة. على أن هناك كثيرًا من الوثائق تحتوي أيضًا على معلومات حول العائلات المسلمة وغير المسلمة دونما تمييز ما للأخيرة. وهناك بعض المعلومات عن اليهود العثمانيين في أوراق إدارة الشئون المسيحية، ومن اللافت للاهتمام شكاوى الحرفيين اليهود والتجار بسبب الظلم الواقع عليهم وفساد الموظَّفين ومعلومات أخرى عن اليهود الذين يقومون على تنفيذ تكليفات الموظَّفين الأتراك لهم، وكذلك تقارير عن نزاعات نشبَت بين اليهود ورعايا الدول الأخرى في الإمبراطورية وخارج حدودها. وتشهَد السجلات السورية للقرن السادس عشر على أن اليهود عاشوا في حلب وطرابلس ودمشق وبيروت وصيدا وبعلبك وغيرها من مدن الشرق الأوسط.

يُوفِّر لنا سجلُّ دمشق معلومات دقيقة عن توزيع مختلف الطوائف اليهودية على الأحياء السكنية، وقد عاش اليهود المحليُّون جنبًا إلى جنب مع السامريين والقرَّائين واليهود المُنحدِرين من جزيرة صقلية وغرب أوروبا، وكان الأتراك يُطلقُون عليهم اليهود الإفرنج، أما باقي الأوروبيين فكانوا يُطلقون عليهم الإفرنج دون تمييز.

لم تكن هناك وجهة نظر واحدة لدى الطبقة الحاكمة العثمانية بشأن السياسة الإثنية الطائفية الداخلية، على أن معظم السلاطين كانوا يتبنَّون مع هذا مبدأ التسامح النِّسبي تجاه غير المسلمين؛ إذ إنَّ اقتصاد الدولة كان متوقفًا عليهم في واقع الأمر. وعندما ألحَّ الصدر الأعظم — وهو صهر السلطان — رستم باشا، في إقناع سليمان الأول (١٥٢٠–١٥٦٦م) بطرد جميع اليهود من حدود البلاد، مُعتبرًا أنَّ ضررهم أكبر من نفعهم، لم يُصغ السلطان إلى حُجَج الوزير، بل إنه قام بتقديم المساعدة، وفرَض حمايته على التجار اليهود، وكان قد أرسل خطابًا إلى البابا بولس الرابع أخبره فيه بأحداث محدَّدة تعرض فيها اليهود للظلم في الأملاك البابوية عندما سافروا إليها لقضاء أعمالهم.

في واحد من ملفات أراشيف القرن السادس عشر يوجد خطاب مُوجه من السلطات التركية إلى حاكم البندقية تطلب فيه منه سداد تعويضات لاثنين من التجار اليهود من إسطنبول: شلومو بن يوسف وشلومو بن يعقوب، اللذَين تعرضا للخداع من جانب قبطان إحدى السفن التجارية من البندقية. كان التاجران قد دفعا له ثمن نقل بضاعتهما حتى البندقية، لكنَّ القبطان نقلها إلى صقلية وباع البضاعة هناك واستولى على ثمنها.١٠
على أنَّ الأمور كانت تقع أحيانًا على نحو مُختلف تمامًا؛ حيث إنَّ نفوذ السلاطين لم يكن يلتزم بالشروط الإسلامية إلا في بعض الأحيان؛ ففي عام ١٥٧٩م قرَّر السلطان مُراد الثالث في سورة من سورات غضبه الإطاحة برءوس اليهود، غير أنَّ مبلغًا كبيرًا من الذهب قدَّمه أعضاء من الطائفة اليهودية إلى السلطانة الأم وإلى الأغا الإنكشاري حال دون وقوع الكارثة المُحدقة بهم. ووفقًا لرواية أخرى فإنَّ الذهب قد عُرِضَ على السلطان نفسه، الذي كان مشهورًا بالبُخل الشديد.١١ من المحتمَل أن مُؤامرة ما كانت وراء هذه الحكاية، وقد كانت المؤامرات تُمثل جزءًا كبيرًا من حياة البلاط.

وكما أسلفنا فإنَّ التنوع الإثنوديني لسكان الدولة العثمانية وتضارب مصالح الجماعات الإثنية لم يكن من الممكن إلا أن يخلق صراعات داخلية، لم تكن الحكومة العثمانية لتقف حيالها موقف الحكم فحسب، وإنما كان عليها أن تتصرف باعتبارها طرفًا يشارك على نحو فعَّال في صياغة قواعد التجارة وإنتاج الحرف. ولكي يتمكن غير المسلمين من إدارة أعمالهم بشكل ناجح، كان من الضروري عليهم في بعض الأحيان الالتفاف على هذه القواعد، وهو ما كان يتم بمهارة. وكان الموظفون كثيرًا ما يَلجئون لعقد صفقات قسرية وأعمال تتعلق، بالدرجة الأولى، بالأعمال العسكرية. لقد تميَّز الاقتصاد العثماني بشكل كبير بأنه اقتصاد إمبراطورية ظلَّت على مدى بضعة قرون تعتمد في وجودها على الجباية وجمع الضرائب من السكان في الأراضي الخاضعة لها، وكذلك على غزو ونهب أراضٍ جديدة. أما الأمر الجوهري الذي كان يُميز الحكومة الإسلامية في الماضي أو الحاضر فكان، وسيبقى، هو التدخل المباشر للسلطة المركزية في الحياة الاقتصادية عن طريق إصدار قوانين وفرض رقابة دائمة حتى على أبسط الأمور، الأمر الذي من شأنه أن يُؤدي، بطبيعة الحال، إلى إعاقة تنمية الاقتصاد والحد من ازدهاره.

وفي الوقت نفسه فقد كان من الضروري، نظرًا لأهمية النشاط الاقتصادي للسلطات العثمانية، تقديم امتيازات خاصة في بعض الأحيان للمُنتجين من الجماعات الإثنية، وكذلك إعطاؤهم الحق في احتكار تصدير المواد الخام ووضع قواعد مَضمونة لتسويق البضائع. وهكذا حصل يهود سالونيك، على سبيل المثال، على حق احتكار شراء الحديد؛ لأن الإنتاج الكُلي للمنسوجات الحريرية في هذه المدينة كان مُخصَّصًا للعاصمة، التي كانت تمتلك دائمًا وضعًا اقتصاديًّا مُتميزًا في الشرق، فضلًا عن وضعها السياسي. مثل هذه الخصوصية الاقتصادية لم تكن لتُسهم، حتى في وجود رءوس أموال كبيرة، في قيام سوق لعموم الدولة، سوق كانت أصولها قد تشكَّلت في القرنين السابع عشر والثامن عشر في إطار الدول الأوروبية.

وحتى في ظروف التنظيم الإداري الصارم داخل الطوائف غير المسلمة، بما فيها الطوائف اليهودية؛ فقد حدَث تراكم لرأس المال التجاري الربوي، والذي كانت مَصادرُه تتمثَّل في مجال التبادُل ونظام الالتزام والربا، وكلها أنشطة لم يكن الأتراك يمارسونها؛ فالقرآن يُحرِّم الفائدة الربوية؛ ومن ثم فقد استمر الأتراك زمنًا طويلًا يتعاملون مع التجارة والعمليات المالية باعتبارها أعمالًا مُتدنية. يُؤكد أحد المؤرِّخين الأتراك في القرن السابع عشر، واسمه كوتشيباي جيوميور دجينسكي (كوتشي مصطفى باي) هذا الأمر بقوله: «لا يُمكن للمرء أن يتغلَّب على هؤلاء التجار الثعالب.»١٢ على أنَّ التنافُس في أوجه النشاط التي ظلَّ الأتراك يَحتقرُونها بات شديد القسوة، ولعلَّ واحدًا من الأسباب الرئيسية للتوتُّر والصراعات التي استمرت عدة قرون بين الأرمن واليونانيين وغيرهم من الشعوب المسيحية من جانب وبين اليهود من جانب آخر يرجع إلى أن اليهود كانوا يَملكون خبرة ومهارة كبيرتين في مجال المال والأعمال.
وكما ذكرنا من قبل فقد تمَّ استبعاد غير المسلمين من الوظائف الحكومية والعسكرية، بسبب الموانع الدينية التي فرضت على غير المسلمين في دولة مسلمة، مع الاستثناءات القليلة التي ذكرناها. لكن هذه القيود كان لها وجه آخر. أولًا، كان الأتراك يَلقَون حتفَهم بشكلٍ جماعي في الحروب التي لا نهاية لها، وهكذا أصبحت أعدادهم تَتراجع تدريجيًّا، بينما راحت أعداد غير المسلمين في التزايد وخاصة بين المسيحيِّين. ثانيًا، كان باستطاعة غير المسلمين العمل بحرية هناك؛ حيث يغيب الأتراك بصورة تقليدية: في الملاحة والتجارة وإجراء الصفقات المالية … وهي المجالات التي حقَّق فيها غير المسلمين نجاحات كبيرة. وقد أشار عالم الاجتماع ماكس فيبر إلى هذه الظاهرة في بحثه الشهير «الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية» بقوله: «عادةً ما تركز الأقليات القومية والدينية «المقهورة» والتي تُواجه جماعة أخرى مهيمنة» جهودها، عن طيب خاطر أو قسرًا، في مجال الاستثمار تحديدًا، مُبتعدة عن التأثير والنشاط السياسيَّين. وبهذه الطريقة فإنَّ أكثر مُمثليها موهبة يسعون لتحقيق قدراتهم في هذا المجال؛ إذ لا يجدون سبيلًا لذلك في العمل الحكومي. هكذا كان الأمر مع البولنديِّين في روسيا وبروسيا الشرقية؛ حيث حقَّقوا فيها، بلا شك، تقدُّمًا اقتصاديًّا (خلافًا للبولنديِّين ذوي النفوذ في جاليتسيا). وقد أظهر البروتستانت الفرنسيُّون (الهوجونوت) في عهد الملك ليودفيك الرابع عشر، وكذلك المُنشقُّون والكويكرز في إنجلترا، وأخيرًا، وليس آخرًا، اليهود على امتداد ألفَي عام، أظهروا جميعًا مهارتهم في هذا المجال. على أيِّ حال لم يُبدِ الكاثوليكيون أيضًا فيما بعد، على سبيل المثال، أيَّ ميل للنشاط الاستثماري، وهؤلاء كانوا يُعدون أقلية مُضطهدة في كلٍّ من إنجلترا وهولندا. ويُشير فيبر إلى أنَّ سبب الاختلاف في سلوك مُمثلي مختلف العقائد لا يتوقَّف على الوضع التاريخي والسياسي الظاهري للأقليات، بقَدرِ ما يَعتمِد على الخصوصية الداخلية الراسخة في كل عقيدة من هذه العقائد.١٣ لقد اندمج اليهود في التنافُس الشديد في مجال المال والتجارة الذي يجيدونه تمامًا، غير أنهم كانوا يعملون وكان بإمكانهم الاستمرار في العمل في حدود هذا المجتمع فقط، بل وخارجه أيضًا، وإنما في إطار الحضارة التي وجدوا أنفسهم بداخلها. وعلى الرغم من كلِّ محاولاتهم وما امتلكوه من مهارة وحذق، فإنهم لم يستطيعوا الخروج من حدود مُستوى النمو في مجتمع بعينه. أصبح ذلك أمرًا بديهيًّا عند مقارنة إنجازات اليهود بشكلٍ خاصٍّ في المجتمعات الغربية والشرقية؛ ففي المجتمعات الإسلامية كانت الدوجمات الدينية، فضلًا عن خصوصية هذه المجتمعات ذاتها، تحُول دون طرق النمو المنهجي للرأسمالية المطبَّقة في أوروبا.

يُحرِّم القرآن الإقراض بالربا على نحو قاطع: وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا (البقرة: ٢٧٥)، ويَمْحَقُ اللهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ (البقرة: ٢٧٦) … إلخ. وقد حاول بعض التجار المسلمين فيما بعد الالتفاف حول هذا التحريم وذلك باللجوء إلى مختلف أشكال التلاعب. من ذلك أن تُعقد الصفقة دون ذكر الفائدة المتَّفق عليها في العلن. وهكذا تبدو، من الناحية الشكلية، صفقة غير ربوية؛ ومن ثم كانوا يعقدون كثيرًا من الصفقات التجارية الإضافية (إعادة البيع على سبيل المثال)، ويعتبرون الربا مكسبًا تجاريًّا، وهَلُمَّ جَرًّا. حتى الفقهاء في العصور الوسطى كان يفرقون أيضًا بين الفائدة الشرعية (ربا الفضل) والفائدة المحرَّمة (ربا النسيء). بيد أن كثيرًا من المسلمين لم يكونوا يَعترفون بشرعية هذه التَّفرقة ذاتها. لقد أصبح تحريم الربا عاملًا جوهريًّا في إعاقة عمل المؤسسات التي تقوم على الاعتمادات المالية في الشرق الإسلامي.

لم تكن التجارة وإدارة الأموال في الإمبراطورية العثمانية، التي قامت بقوة السلاح، من الأعمال التي تحظى بالاحترام والتوقير، الأمر الذي كان من المحتَّم أن يؤدي بالاقتصاد، بل وبالدولة نفسها، إلى الانهيار.

لقد بنى الأتراك العثمانيون، الذين كانوا بالأمس القريب قبائلَ رُحَّلًا، دولة على أراضٍ اغتصبوها، وراحت هذه الدول تقوم بشكل أساسي على جمع الإتاوات. ومِن هنا ظلَّت التجارة والحرف وتداول الأموال لمدة طويلة حِكرًا على الأقلية الإثنودينية: اليونانيون، والأرمن، واليهود.

ونظرًا للطابع العسكري المتفوِّق للدولة العثمانية، فقد اكتفت الزمرة الحاكمة فيها بجمع الضرائب الجمركية والاعتماد على الأموال التي يقوم بتحصيلها الولاة على الأقاليم (الأيَّالات). وهذه جميعها كانت ذات تأثير محدود في تنشيط التجارة العثمانية، وحتى أعمال الوساطة كان الدور الرئيسي فيها في يدِ غير الأتراك.

كان التجار الوسطاء يُوفِّرون للزمرة العثمانية الحاكمة جميع البضائع الفاخرة التي كانت تُستهلك وبكميات كبيرة مثل المنسوجات الحريرية والتوابل والعُطور واللؤلؤ والأحجار الكريمة والخزف الصيني. ولمَّا كان الأتراك هم مُشترون أساسًا، فقد كان من نتائج هذه العمليات التجارية خروج الذهب والفضة بشكلٍ مُتواصل إلى البلاد الأخرى. لم يكن هذا الأمر محسوسًا بشكلٍ قوي في القرن السادس عشر، ولكنه ظهر جليًّا في القرن السابع عشر، عندما أخذت واردات الخزانة العثمانية تتراجع بشكل ملموس. لقد تبين أن مجالات الاقتصاد كافة؛ التجارة وإلى جانبها جمع الضرائب ودخول كبار ملاك الأراضي، باتت في يد المسيحيين واليهود. في عام ١٥٠٠م كتب الفرنسي بيلون دومين، وكان منحازًا ضد اليهود مثله مثل غالبية الأوروبيِّين في ذلك الوقت، يقول: «إنهم (اليهود) يتحكمون في سوق التجارة التركية، إلى درجة أن ثروات وموارد الأتراك أصبحت كلها في أيديهم؛ لأنهم هم الذين يحددون السعر الأعلى عند تحصيل الضرائب ويحصلون على الإتاوة على الملْح ويجمعون ضرائب الموانئ وغيرها من الواردات.» لم يسلم هذا الفرنسي من استخدام التعبيرات اللاذعة المميزة لزمنه مثل: «إنهم أكثر الشعوب مكرًا وخبثًا على وجه الأرض.»١٤

من المعروف أنَّ الطوائف اليهودية بدأت منذ النصف الثاني من القرن السابع عشر تقريبًا تَعقد هذا الدور البارز الذي تقوم به في سالف الزمن في الاقتصاد العثماني، فإذا بها وقد أصابها الفقر وآلت إلى الانهيار. وفي الوقت ذاته تقريبًا ظهرت بوادر انهيار الدولة العثمانية، والذي تمثَّل أيضًا في الاقتصاد الذي وضعت الدولة الثيوقراطية المُستبدَّة سماته في عدد لا نهائي من التنظيمات الحكومية، فضلًا عن المحاذير والعقبات التي فرضتها على النشاط الاقتصادي والرقابة الشاملة من جانب الجهاز البيروقراطي، ناهيك عن المستوى المتدني، مقارنة بأوروبا، لتداول البضائع والأموال وغياب المناخ التنافُسي الطبيعي والفساد المقنَّن.

لقد تجمَّعت الأموال التي تمَّ تحصيلها من الضرائب في إسطنبول ومراكز الأقاليم في الإمبراطورية العثمانية، الأمر الذي أسهم، بطبيعة الحال، في نمو التجارتين الداخلية والخارجية. لكن النشاط التجاري، الغارق في المحلية، لم يكن من المُمكن أن يجد له مكانًا إلا في إطار أشكال الإنتاج القروسطي التي تشكلت منذ زمن بعيد، وهذا النشاط كان مرهونًا إلى جانب ذلك بالشروط والموانع، التي صيغت بصفة رئيسية وفقًا لمطالب الفئة المسيطرة. وهنا لا يُمكن الحديث عن أي تنمية اقتصادية مؤثِّرة في المستقبل.

لقد أتاحت المشاركة الفعالة في التجارة، سواء الداخلية أو الخارجية، وكذلك الالتزام بجباية الضرائب الحكومية، لبعض مُمثلي الأقليات الإثنودينية، ومن بينهم اليهود، الفُرصة للربح وجمع الأموال والثروات الطائلة. لكنَّ رءوس الأموال هذه، على الرغم من ضخامتها، لم تكن، ولم يكن من المُمكِن أن تَصبَّ لزمن طويل في مجال الإنتاج، سواء التِّجاري أو البنكي (لم تظهر البنوك إلا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر)؛ إذ إنَّ ميراثهم في دولة إسلامية كان يُمثِّل مشكلة كبيرة، فما إن يموت صاحب المال حتى تتمَّ مصادرة أملاكه عادةً لصالح خزانة الدولة، فهذه الثروة هي ملك لله وَفقًا للشرائع الإسلامية، والسلطان هو مُمثِّلُه على الأرض.

ما المعايير التي يُمكن استنادًا إليها تقييم العلاقات بين المسلمين وغير المسلمين في الإمبراطورية العثمانية؟ من الصعب تحديد هذه العلاقات ببساطة؛ فقد ظلَّت هذه المعايير تتغير على مدى العصور التاريخية المختلفة. فمن ناحية كان للوضع القانوني لكلِّ جماعة إثنية في الدولة أهميته، ومن ناحية أخرى كانت درجة ازدهار أو فقر هذه الجماعة أو تلك تمثل أحد المعايير المهمة أيضًا.

ظلَّت البلاد الإسلامية على مدى قرون طويلة تمتلك موارد مالية كبيرة، ومع ذلك لم تهتم، بالقدر الكافي من الحماس، بمسألة تنمية إنتاجها الخاص وتجارتها، خلافًا لأوروبا الغربية. بل لم يَخطُر ببال الحكومات الإسلامية، سواء في العصور الوسطى أو العصر الحديث، أن تُموِّل التجارة من فوائض البضائع المُنتَجة في داخل بلادها وتَضمن، على نحو أو آخر، تشغيل المنتجين لديها من أجل تحسين حياتهم، أو تسعى لخَلقِ توازُن بين الاستيراد والتصدير في البلاد.

لقد استمرَّت التجارة في الشرق الأوسط تَعتمِد لزمن طويل على بيع البضائع وشرائها، وكذلك جمع الضرائب على التجارة المارة عبر أراضيها (الترانزيت). وما إن نجح البرتغاليون والإسبان في اكتشاف طرق بحرية جديدة حتى أخذ عبور البضائع يفقد أهميته تدريجيًّا.

لقد لعب غير المسلمين من اليونانيِّين والأرمن واليهود الدور الأكبر في تجارة المشرق العربي. وقد توقَّفت علاقات المسلمين بغير المسلمين أيضًا على مستوى ثراء الفئة صاحبة النفوذ وعلى العِرق المهيمِن. ومنذ القرن الثامن عشر بدأ تأثير الدول الغربية يظهر على نحوٍ ملحوظ في السياستَين الخارجية والداخلية للباب العالي، نتيجة للهزائم العسكرية التي مُنِيَ بها الأخير، فضلًا عن الضعف الاقتصادي وعملية الانهيار السياسي التدريجي. لقد ظهرت، ثم ما لبثت أن تعاظمت، التوجهات نحو الحصول على حماية دول أوروبا الغربية وروسيا، وهم الأقرب من الجماعات الإثنودينية. واستمرَّ تأثير هذه العوامل، سواء في القرن التاسع عشر أو في مطلع القرن العشرين، إلى أن انهارت الإمبراطورية.١٥
في بداية وجود الدولة العثمانية، كانت العلاقات بين الأعراق غير المُسلمة والفئة المُسلمة صاحبة النفوذ خاضعة تمامًا لمسألة بدَهية تمامًا؛ فكلَّما ازداد ازدهار هذه الفئة نتيجة للغزوات الناجِحة التي تقوم بها، حسنت علاقاتها بالأعراق الأخرى. وقد استرشد الأتراك في القرون الأولى من وجود الإمبراطورية بفكرة الأبوية Paternalism القريبة من الإسلام على المذهب الحنفي السائد في دولتهم، أما الأعراق الخاضعة فكان عليها أن تَرضى بسماحة المنتصرين. وقد كان لانهيار الإمبراطورية أثره المباشِر على الزمرة الحاكمة، التي كانت تتكوَّن أساسًا من الأتراك أو غير الأتراك الذين اعتنقوا الإسلام.
تميَّزت علاقات هذه الفئة مع الأعراق الأخرى بالتقلُّب. لقد أثار نمو ثروات «غير المسلمين» إبان انهيار الإمبراطورية، قلق المسلمين وزاد من توتُّرهم وتعصُّبهم داخل المجتمع العثماني. على أيِّ حال فإنَّ هذه قاعدة عامة ليست موجودة في البلدان الإسلامية فحسب؛ إذ إنَّ كل الشعوب الأخرى أيضًا لا تتسامَح حتى اليوم مع ثراء الأجانب الذي يأتي على خلفية انهيار الدولة العُظمى. ولهذا فإنَّ الحكمة التي أطلقها المؤرِّخ اليوناني ستيفان إييراسيموس، والتي أخذت في اعتبارها المسيحيين العثمانيِّين، وعلى رأسهم اليونانيون، يجري تأويلها على نحو أكثر شمولًا. يقول إييراسيموس: «عندما لا يستطيع المسلم الوقوف في وجه «غير المسلم» بفضل ازدهاره وتفوُّقه المعيشي، فإنه يواجهه بكل حقد بالتديُّن المُفرط والمتشدِّد يوميًّا وبالنفاق.»١٦ وعندما كانت الأوضاع تتغيَّر فيُصبح المسيحيُّون هم من بيدهم الأمر، فإنهم لم يكونوا يتصرَّفون على نحو أفضل. على أنه مهما عملت الأجناس المهيمنة والإمبراطوريات القديمة والقروسطية، التي قامت بقوَّة السلاح، فقد كان مصيرها الانهيار. وحتى في ذروة عظمتها، فقد بدَت الهياكل الحكومية العثمانية قديمة مقارنة بنظائرها في عدد من دول أوروبا الغربية، التي أخذت عمليات التحديث فيها في استجماع قواها.
سعى الأتراك في محاولة منهم لتوحيد المساحات الشاسعة المأهولة بشعوب من شتى الحضارات والثقافات والديانات، لإخضاع جميع الأعراق لنظام بيروقراطي مركزي واحد، وكان هذا النظام قد مُنيَ بالضعف نتيجة لنفاد الموارد التي كانت تأتي من الغزو. وفي الوقت نفسه، وبعد اكتشاف أمريكا والطريق البحري إلى الهند، قامت الدول الغربية، التي توحَّدت على مبادئ الدولة القومية، باستغلال ونهبِ الأراضي الشاسعة التي قامت بغزوها واحتلالها منذ زمن غير بعيد. وقد أصبحت النتيجة المباشرة لهاتين العمليتَين المختلفتين تمامًا في أوروبا من ناحية وفي الإمبراطورية العثمانية من ناحية أخرى، واللتين تجلتا في نهاية القرن السابع عشر والقرن الثامن عشر، مُمثلة في تحوَّل المحاور الرئيسية للتجارة الشرقية نحو المحيطات؛ ومن ثم كانت المحصلة هي النضوب التدريجي وإنما على نحو مُطَّرد لموارد البحر المتوسط والشرق الأوسط. وعلى الرغم من أن الجماعات الإسلامية التركية الحاكمة في القرن السابع عشر كانت تمتلك بالفعل قطاعات تجارية خاصة ومُتطورة من الناحية الاقتصادية، فإنَّ هذه القطاعات قد قُضي عليها على يد عدوَّين رهيبين: البيروقراطية العثمانية التي كانت تُحصِّل بلا رحمة ولا حكمة مقدمًا ولصالحها فائض القيمة كله، دون أن تُولي أدنى اهتمام للربح أو الاستثمارات؛ أي إنها راحت تُعيد تقاليد النَّهب التي بدأت بها الإمبراطورية. بطبيعة الحال فإنه في مثل هذه الظروف لم يكن باستطاعة العرب أو الأتراك أو التجار العثمانيِّين المسلمين أن يصمدوا أمام منافَسة قوانين الامتيازات والحصانة الذاتية التي وضعها الأوروبيون. ولهذا فإن غير المسلمين في الإمبراطورية لم يبقَ أمامهم سوى السعي للحصول على الحماية، ثم ليلجئوا بعد ذلك للحصول على جنسيات الدول الأوروبية. من هنا نشأت فئة الكومبرادورات١٧ التي حاربها القوميون الأتراك بكل ضراوة فيما بعد.

وإلى جانب الفئات العاملة بالتجارة، والتي اهتزَّ وضعها في الإمبراطورية، ظهرت فئة أخرى كبيرة هي البيروقراطية العثمانية، وهذه كانت تضمُّ علية القوم في الإدارة المركزية (الصدر الأعظم، القادة العسكريون في الجيش والأسطول، كبار الموظفين في العاصمة، كبار رجال الدين)، كما كانت تضمُّ أيضًا كبار العاملين بالقصر، وهؤلاء كانوا يَحصُلون على رواتب ضخمة أكسبتهم وضعًا اجتماعيًّا مُميزًا، على الرغم من أن مصادر دخلهم لم تكن دائمًا مشروعة. كان هؤلاء يملكون بيوتًا فاخرة، كما أصبحوا هم أول المُستهلِكين للبضائع المستورَدة والمحلية، ومن ثم باتوا يُمثِّلون عنصرًا مهمًّا في تنشيط التجارة وعلى رأسها سلع الرفاهية.

كانت هناك أيضًا حلقة وسيطة في الإدارة تمثَّلت في طبقة مُستقرة إلى حدٍّ كبير من الموظفين، هم في غالبيتهم من الأتراك، إلى جانب بعض الوظائف الأخرى كان يَشغلها مُمثِّلو القوميات الأخرى: التراجمة، وهم من اليونانيِّين أساسًا، الأطباء العاملون في القصر وغالبيتهم من اليهود، أما جامعو الضرائب والجمارك فكانوا أيضًا من اليهود والمسيحيين (أو من وكلائهم). كل هذه الفئات من البيروقراطية العثمانية كانت هي التي تُحدِّد الطلب على سِلَع الرفاهية. وقد دخل أثرياء اليهود أيضًا ضمن مُستهلكي هذه السِّلع. وقد لعبت الأقليات الإثنية، بما فيها اليهود، دور الوسيط الرئيسي في الاتصال بين الأوروبيين وكبار الموظَّفين العثمانيين، وكانت هذه الصلات تكتسب أهمية أكبر كلما فقد الأتراك مكانتهم في التجارة العالمية.

كانت إنجلترا من أنشط الدول التجارية في البحر المتوسط في مُنتصَف القرن السابع عشر، وكان ميناء ليفورنو الإيطالي يحتل مكانة مهمة آنذاك. وكانت حركة الملاحة والتجارة تتمتَّعان بدعم ملحوظ من جانب اليهود، الذين كانوا على صلة دائمة بأبناء عقيدتهم في إسطنبول وفي غيرها من المدن العثمانية الكبرى، وبتجَّار مدن غرب المتوسط.١٨

أصبح ضعف القُدرة العسكرية للأتراك أمرًا ملموسًا منذ النصف الثاني من القرن السابع عشر، وهو ما أدَّى إلى انهيار هيبة الحكومة الإمبراطورية وتصاعد الفساد في جميع مفاصل الإدارة، ونتيجة لذلك ظهرت الأزمة المالية الطاحنة. في هذه الظروف بدأ الصراع الشرس بين الدول الأوروبية بهدف التأثير على الصدر الأعظم، الذي زادت أهميته، وخاصة إبان حكم عدد من السلاطين في القرنين السابع عشر والثامن عشر، تميَّزوا بضعف الإدارة وغياب القدرة على العمل وإدارة شئون الدولة. انهارت دخول المركز، بما في ذلك الدخول المتحصَّلة من التجارة الخارجية، كما انهارت الدخول الواردة من الأقاليم. الآن أصبح لزامًا على كل إقليم أن يَعتمِد بشكلٍ أكبر على قواه الذاتية؛ حيث بدأت الموارد المالية للإمبراطورية في التلاشي تدريجيًّا.

(٢) العصر الحديث

ما إن امتلكت الدول الأوروبية قدرة عسكرية واقتصادية أكبر مما كان لديها من قبل، حتى ألزمت الباب العالي بمبدأ حماية حقوق السكان المسيحيِّين، وأصرَّت روسيا على حقوق الشعوب التي تَعتنِق العقيدة الأرثوذوكسية، وهذا المبدأ تحديدًا كان وراء جميع حروبها في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وعلى مدى هذين القرنين راح الأتراك يَفقدُون جزءًا وراء الآخر من الأراضي. أما فيما يتعلَّق بالسكان اليهود، الذين كانوا غير مقبولين من الجميع، فإنَّ أيًّا من الدول الأوروبية لم يولهم أدنى اهتمام. الواقع أنه، وبعد اندلاع الثورة الفرنسية الكبرى في عام ١٧٨٩م، تخطَّى مختلف فئات السكان، الذين لم يكونوا يَمتلكون حقوقًا من قبل، بمَن فيهم اليهود، تخطَّوا كثيرًا من العقبات حتى حصلوا جميعًا بالتدريج على المساواة الرسمية أمام القانون، شأنهم شأن غيرهم من المواطنين.

وقد عثر المؤرخ أ. ل. فاينشتين، الذي كان يعمل في الأرشيف الوطني في باريس؛ حيث قام فيه على دراسة الصحافة الفرنسية في سنوات الثورة، عثر على وثائق تدلُّ على تعاطُف الأتراك اليهود مع الثورة الفرنسية التي «أعطَت حق الجنسية لإخوانهم». على أن شركات التجارة في المشرق العربي لم تُولِ أهمية خاصة لمثل هذه المعلومات. كانت باريس تخشى أي تعقيدات في علاقاتها بالباب العالي؛ فالإمبراطورية العثمانية كانت تَبيع القمح لفرنسا مما دفع السلطات الفرنسية لاتخاذ جانب الحذر، وإلا فقد كان من المُمكن أن تفقد فرنسا هذا القمح. أما الباب العالي فقد أحجم بدوره عن اتخاذ أي أعمال عدوانية تجاه فرنسا، على الرغم من عدم تعاطفه مع الأحداث الثورية في أوروبا.١٩
تحتوي الوثائق العُثمانية على معلومات تفيد أنه على الرغم من أن أفكار الثورة الفرنسية وأصداء أحداثها قد وصلت إلى إسطنبول، فإنَّ الفكرة الفلسفية التي أنجبَت هذه الثورة والحركات الثورية في البلدان الأخرى، لم تكن معروفة للغالبية العظمى من سكان الإمبراطورية العثمانية. جزء صغير فقط من أرستقراطيي مولدافيا وفالاخيا٢٠ ومن الأثرياء الفناريين (يونانيو إسطنبول الذين يسكنون حي الفنار)، الذين كانت لهم علاقات مع الأجانب وبعض المسيحيِّين واليهود الآخرين، الذين كانوا على معرفة باللغة الفرنسية، فضلًا عن علاقاتهم بأرباب السفن والتجارة اليونانيين، الذين كانوا يَدعمون العلاقات التجارية مع أوروبا، وأخيرًا الموظَّفون المسلمون، الذين كانت تَربطهم علاقات عمل مع الأجانب ومع الفناريِّين. هؤلاء كان لديهم تصور ما حول أفكار الثورة الفرنسية الكبرى. أما الجزء الأساسي من سكان الإمبراطورية، سواء من المسلمين، أو من غيرهم، فكانوا لا يعلمون إلا النَّزر اليسير عن الأحوال في أوروبا. كما أن الكثير من سكان إسطنبول لم يكونوا على دراية بما يحدث في السفارة الفرنسية في باي أوغلو؛ حيث علَّق أنصار الثورة شارة الزهرة الثلاثية بعد أن عرفوا بالاستيلاء على الباستيل، الأمر الذي أثار الترجمان النمساوي وراحوا يعبرون عن فرحتهم.٢١

على أثر الانهيار الواضح للإمبراطورية، قام أكثر كبار الموظفين العثمانيين ثقافةً في القرن التاسع عشر بالعمل على إجراء الإصلاحات في المجال العسكري بالدرجة الأولى، ثم في مجالات التشريع والتعليم وفي هياكل الدولة؛ وذلك بدعم من السلاطين، وليس بتأثير أفكار الثورة الفرنسية على الإطلاق. وقد تبيَّن آنذاك أن تحديث الدولة الإسلامية، الثيوقراطية في جوهرها، عمل معقَّد للغاية يَستلزم عقودًا طويلة. وكانت المحصلة هي تدهور الإمبراطورية، وقد وُوجه الإصلاحيون بمقاومة شديدة في المجتمع، وعندما سعى غير المسلمين (ما عدا اليهود) إلى الاستقلال التام، قامت الدول الأوروبية، وخاصة روسيا، بمُساعدتهم على ذلك بالطرق الدبلوماسية، فضلًا عن القوة العسكرية، ساعين إلى حصول اليونان ودول البلقان السلافية على حريتها.

لم تكن لدى الغالبية العظمى من الموظفين العثمانيين أية رغبة في الإصلاحات، بل راحت تعمل على مقاومتها سرًّا. كان رجال الدين، ومعهم جماهير السكان المسلمين، يرون في الإصلاحات ابتعادًا عن الدين الإسلامي، وخيانة، وهدمًا لأصول الدين والحياة. وقد اعتبَرُوا السلطان الإصلاحي محمود الثاني (١٨٠٨–١٨٣٩م)، وكان من أمٍّ من الكريوليين٢٢ من جزيرة مارتينيك، كافرًا، وكان من المُمكن، بطبيعة الحال، قتله، لولا أنَّ الأسرة العثمانية، التي ينتمي إليها، كانت تُعتبَر سلالة مقدسة بالنِّسبة لهم، وقد كان الرجل في هذه اللحظة لا يزال مُمثلها الوحيد.

لم يكن رجال الدولة العثمانيون في النِّصف الأول من القرن التاسع عشر يرون مسألة مساواة المسيحيِّين واليهود بالمسلمين أمرًا ذا أهمية كبرى، وإنما هو أمر يرتبط بإصلاح المؤسسات الحكومية، أضف إلى ذلك أنَّ هذه المسألة أصبحت فيما بعد جزءًا لا يتجزَّأ من السياسة الرسمية العثمانية، وذلك في سياق التدخُّل الدائم واللَّحوح من جانب الدول الأوروبية.

أما الجديد الذي جاء نتيجة الخبرة التي تراكَمَت عبر قرون طويلة في مجال الشئون الوظيفية فكان الأمر الصادم الخاص بإلغاء قيام السكان غير المُسلمين بدفع نفقات الموظفين ورواتبهم في أثناء تنقلاتهم عبر البلاد، وهي النَّفقات التي كانت مفروضة عليهم من قبل. وقد جاء في الفرمان الذي أصدره محمد الثاني في هذا الشأن: «أنَّ على جميع الشخصيات الرسمية أيًّا كانت مناصبهم: وزراء، ميرميرانات،٢٣ وهلمَّ جرًّا، الذين يتحتَّم عليهم السفر عبر الإمبراطورية، أن يشتروا حاجاتهم الضرورية من المؤن الغذائية من أموالهم الخاصة، أما الفقراء فليسوا مُلزمين بتموينهم بلا مقابل.» وقد انتهى الفرمان بالتوجُّه إلى السلطات من جميع الرُّتَب بطلب «تجنيب جميع مواطني السلطان، سواء المسلمين أو الرعية، الظلم والجور الذي ترسَّخ في المعاملات الإدارية، والذي يَتنافى في جميع العصور مع الشرائع الإسلامية المقدَّسة، ويتعارض وإرادة السلطان الشخصية.»٢٤
في يناير من عام ١٨٣٤م أعلن عن مرسوم آخر يحظر التعسُّف في جمع الأموال في المحاكم والمبالَغة في الضرائب التي نصَّ عليها القانون لدفع رواتب الموظَّفين وكذلك مبعوثي الحكومة.٢٥
وفي واقعة غير مسبوقة، من وجهة نظر المسلمين، اتخذ السلطان موقفًا مفاجئًا؛ ففي اليوم الأول من شهر رمضان دعا إليه كلًّا من بطريرك القسطنطينية والحاخام الأكبر واثنَين من البطاركة الأرمن (بطريرك الكاثوليك وبطريرك الأرمن الجريجوريانيين)، وأنعم عليهم بأوسمة الشرق المُزينة بالماس. عن هذا الموقف يتحدَّث أ. ب. لوتينيف، السفير الروسي لدى إسطنبول، قائلًا: «لقد أثار هذا الموقف دهشة الجميع … باعتباره دليلًا على نية السلطان في الأخذ بنظام يَكفُل التسامح والمساواة تجاه جميع رعاياه.»٢٦
إلى محمود الثاني تُنسب الكلمات التالية: «إنني أميز بين رعاياي؛ فالمسلمون في المسجد، والمسيحيون في الكنيسة، واليهود في السيناجوج، ولكنني، إلى جانب ذلك، لا أُفرِّق بينهم بأي شكل من الأشكال. إن علاقتي بهم وشعور العدالة موجود لديَّ تجاههم جميعًا وبالقوة نفسها، وهم جميعًا في الحقيقة أبنائي.»٢٧

في الثالث من نوفمبر عام ١٨٣٩م، إبان حكم السلطان عبد المجيد الأول (١٨٣٩–١٨٦١م)، صدر مرسوم جولخان (خطي شريف). وقد ضمن هذا المرسوم لغير المسلمين الحياة الكريمة وسمح لهم بالملكية، وهو ما لم يكن مُتاحًا لهم من قبل. إنَّ تطبيق قرارات على هذا النحو من الراديكالية بالنِّسبة لدولة إسلامية بدا آنذاك مهمَّة غير واقعية؛ إذ كانت تمس وبأكبر قدر من الحساسية التقاليد الدينية لدى المسلمين. على أنَّ الفصل بين المبادئ المدنية والدينية في الدولة كان ما يزال أمرًا بعيدًا. وعلى أيِّ حال فإن هذا المرسوم تحديدًا، على الرغم مما جاء في مقدمته التي تؤكِّد صحة أركان الإسلام الخالدة، كان بمثابة الصدمة بالنِّسبة للمسلمين. وقد تمَّ اعتماد مبادئ مرسوم جولخان وتطويرها في خط همايوني الصادر في عام ١٨٥٦م.

كان إعلان التسامح الديني هو أساس هذا المرسوم:

«سوف يتَّخذ الباب العالي إجراءات فعَّالة لكي يوفر لكل دين، مهما بلغ عدد أتباعه، الحرية الكاملة لإعلانه.

وإنَّ أيَّ تمييز أو وصف يُقصَد به إهانة جزء من رعاياي أمام الآخرين بسبب دينهم أو نعتهم أو أصولهم، سوف يتم حذفه إلى الأبد من جميع الوثائق الإدارية. وسوف تعاقب القوانين بكلِّ حزم على عادة السب أو الإهانة من جانب الأشخاص العاديِّين أو من أصحاب السلطة من جميع الرتب.

لكلِّ شخص الحق في مُمارسة شعائره الدينية بكل حرية، وألا يتعرَّض للاضطهاد بسبب عقيدته، وألا يُرغم على تغيير ديانته.

ولمَّا كان تعيين واختيار الموظَّفين وكذلك جميع المسئولين الآخرين يتوقَّف بشكل مُباشر على إدارتنا العليا في الإمبراطورية؛ فقد قرَّرنا السماح لكل رعايا إمبراطوريتنا، دون أي تَفرقة قومية، بالعمل بالوظائف العامة حسب ما يتمتَّعون به من مواهب واستحقاقات، وبناءً على القواعد المرعية المطبَّقة على الجميع على قدم المساواة.

سوف يُسمَح لجميع رعايا إمبراطوريتي دون تمييز بالالتحاق بالمدارس الحكومية والعسكرية؛ وذلك إذا ما انطبقت عليهم شروط السن واجتياز امتحانات القبول المحددة في نظم هذه المدارس.

إضافة إلى ذلك، سوف يُسمحَ لكل طائفة أن تؤسس مدارسها العِلمية والفنية والصناعية الخاصة بها، أما أساليب التدريس واختيار المدرسين لهذه المدارس فتتم تحت إشراف المجلس المختلط للتعليم الشعبي؛ يُعين أعضاؤه بواسطة سلطتنا العليا.»٢٨

وكما ذكرنا من قبل، فإن غالبية التصريحات التي وردت في المراسيم العليا لم تتحقق عمليًّا.

لم يجرؤ الأتراك على تسليح المسيحيين. لقد كان تأسيس وحدات عسكرية مستقلة على أساس التمييز الإثني الديني بالنسبة لهم عملًا انتحاريًّا، أما العمل تحت إمرة القادة المسلمين فأمر كان المسيحيُّون يرفضونه. أما اليهود فكانوا يُفضلون دفع بدل نقدي مقابل عدم الخدمة في الجيش العثماني، وهو أمر يَكفله القانون.

في عام ١٨٤٠م أصدرت الحكومة قانونًا جنائيًّا جديدًا مُسترشدة في معظم ما جاء فيه بالقواعد القانونية الأوروبية، على الرغم من أنَّ القواعد السابقة، سواء المسيحية أو اليهودية، ظلَّت سارية على أساسٍ طائفي.

في عامَي ١٨٦٢م و١٨٦٣م صدر ميثاق يُنظم الطوائف المسيحية، واستهدف هذا القانون الحد من نفوذ رجال الدين لدى هذه الطوائف وزيادة أهمية المؤسَّسات المدنية.

وقد حصل اليهود العثمانيون على ميثاق مُماثل في عام ١٨٦٥م، لكنه لم يُثِر أي حماس لدى طوائفهم. وكان مشروع إعادة التنظيم الداخلي للطوائف غير المسلمة قد أعلن أيضًا في خط همايوني في عام ١٨٥٦م. كانت الحكومة تستهدف القضاء على التناحر الديني والصراعات بين الطوائف من أجل ضمان الأخوَّة العثمانية والمساواة بين الرعايا وقد عاشت الحكومة بضعة عقود أسيرة لهذه الأوهام.

وفي عام ١٨٦٨م تمَّ تأسيس مجلس الدولة العثماني (شورى إي ديفليت) برئاسة الوزير-الرئيس، وذلك على نموذج مجلس الدولة الفرنسي. وقد اشتمل المجلس في عام ١٨٧٣م على أربعة أقسام: تشريعي، إداري، تحكيمي وآخر للشئون الاجتماعية (سرعان ما تم إغلاقه). من بين ستة عشر مستشارًا في هذا المجلس، كان هناك ثلاثة يُمثِّلون الطوائف غير المسلمة وهم اليونانيون واليهود والأرمن.

في العاشر من مايو ١٨٦٩م ألقى السلطان عبد العزيز (١٨٦١–١٨٧٦م) خطابًا في الاجتماع الأول للمجلس أكَّد فيه طبيعة هذه المؤسسة الجديدة بقوله: «أيًّا كانت العقيدة التي يَعتنقها رعايانا، فكلُّهم أبناء وطن واحد. إنَّ الاختلافات الدينية لا ينبغي أن تكون سببًا للشقاق بين الرعايا العثمانيين؛ حيث إنَّ لدينا حرية العقيدة.»٢٩

هذه التصريحات لم يَشُبها أي قصور، بينما لم تَصِل الحكومات المجاورة، في روسيا مثلًا، حتى إلى مستوى إصدار مثل هذه التصريحات.

على أنه سرعان ما دبت الخلافات في هذا المجلس ليتعرَّض للتعديل، حتى إنَّ بعضًا من الظرفاء أطلقوا عليه اسم «مجلس موافقون» (شورى إي إيفيت على وزن شورى إي ديفليت).

كان فؤاد باشا، أحد أكبر الإصلاحيِّين العثمانيين في القرن التاسع عشر، والذي شغل منصب الصدر الأعظم عدة مرات، كان مهتمًّا بشدة بالوضع المزري الذي تردَّت إليه الإمبراطورية. كان يرى أن مصالح الدولة فوق كل الدوجمات والخرافات التي عفا عليها الزمن. كتب فؤاد باشا يقول: «إذا قام أي باشا بالصلاة إلى الله وفقًا لشريعة موسى أو امتثالًا للعهود المسيحية، فإنَّ هذا لا يُعد سببًا لكي نَحرم أنفسنا من الفائدة التي تعود علينا نتيجة عمله. أما إذا كان هذا الباشا نفسه يحلم بالإمبراطورية البيزنطية أو يسعى لخدمة مملكة كيليكيا، غير مُعترِف بوحدة وطننا، فإنه يكون عندئذ قد توقَّف عن أن يصبح خادمًا مخلصًا وينبغي أن يتم إقصاؤه.»٣٠

وقد أولى زميله ورفيق فكرِه عالي باشا الاهتمام نفسه لمبدأ المساواة الذي رُفع إبان الثورة الفرنسية – «كل فرد حر ويقف على قدم المساواة مع أي فرد آخر.» وفي هذا السياق يُؤكِّد عالي باشا على أن أوروبا ليس لديها تَفرقة دينية على أساس قانوني.

في القرن التاسع عشر عمل كثير من المسيحيِّين، غالبهم من اليونانيين والأرمن، في خدمة الباب العالي، وقد شغل بعضهم منصب الوزير. أما اليهود فقد ظلُّوا في هذه الفترة، في واقع الأمر، بمنأى عن عملية تحديث الطوائف غير المسلمة، تلك العملية التي راحت تَستجمع قوتها.

وكانت علامات انهيار الطوائف اليهودية داخل الإمبراطورية العثمانية قد لوحظت منذ القرن السابع عشر على خلفية نهوض وتعاظم قوة الوحدة المسيحية التي تجمعها أفكار الاستقلال القومي. ومن بين أسباب التدهور التدريجي للسكان اليهود يُمكن أن نذكر الضرائب الباهظة التي فُرضت عليهم في تلك الفترة، والهجوم الدائم عليهم من قبل الإنكشارية (بالنَّهب والحرق)، ناهيك عن غياب زعماء لهم من ذوي النفوذ. لقد تخلى اليهود عن مكانتهم في الاقتصاد للأرمن واليونانيِّين، وخسروا في معركة المنافسة الحامية.

لقد وقفت الاضطرابات الداخلية في الإمبراطورية العثمانية حجر عثرة في طريق تحديث الحياة الطائفية. على أيِّ حال فقد أسهمت الدعوات إلى التضامن من اليهود الشامل بعض الشيء في التخفيف من حدة التباعُد الذي دام طويلًا بين طائفتي السفارديم والأشكيناز.

لقد بدأ اليهود في تعلم اللغة التركية لكي يتمكَّنوا من شغل الوظائف الحكومية طبقًا للمَراسيم السلطانية.

ظلَّت الفجوة الاجتماعية الثقافية بين اليهود العثمانيين والمسيحيين قائمة إلى قيام ثورة تركيا الفتاة في عام ١٩٠٨م، بالرغم من عدم وجود أي تمييز قانوني لليهود. وقد أكَّد أول دستور تركي صدر في عام ١٨٧٦م على المساواة بين جميع الرعايا العثمانيين. ومن بين أعضاء أول برلمان عثماني كان هناك بعض اليهود، كما دخل اثنان من اليهود إلى مجلس الشيوخ، واثنان آخران إلى مجلس الدولة، وبالمناسبة، تمَّ تعيين أحد اليهود أيضًا سكرتيرًا بالمجلس. على أن المسيحيين العاملين بالجهاز الحكومي كانوا، بطبيعة الحال، أكثر بكثير. نظرة إلى الجدول الذي يُبيِّن النسبة بين أعداد المسلمين وغير المسلمين في الوظائف الحكومية في الفترة العثمانية المتأخِّرة تكشف لنا أن اليهود كانوا يشغلون فيها منزلة مُتواضعة، وكذلك كانت أوضاعهم في المراتب الدنيا من البيروقراطية العثمانية.٣١
رُتب الموظفين مسلمون تقليديون مسلمون إصلاحيون يونانيون
رتبة الوزير ١ ١٢ ٣
الرتبة العليا ٤ ٩ ٧
الرتبة الأولى للطبقة الأولى ١٣ ٢٣ ١٣
الرتبة الأولى للطبقة الثانية ١٨ ٢٠ ١٧
الرتبة الثانية للطبقة الأولى ٢٢ ١٥ ١٣
الرتبة الثانية للطبقة الثانية ١٦ ٥ ١٧
الرتبة الثالثة ١٠ ٩ ١٠
رُتب الموظفين أرمن يهود عرب مسيحيون أوروبيون
رتبة الوزير ٤ ١٧
الرتبة العليا ٦ ٢٩ ٣٣
الرتبة الأولى للطبقة الأولى ١٥ ١٤ ١٧
الرتبة الأولى للطبقة الثانية ٢٣ ١٧ ١٤
الرتبة الثانية للطبقة الأولى ١٥ ١٧
الرتبة الثانية للطبقة الثانية ١٢ ٢٥
الرتبة الثالثة ١٢ ٨ ٤٣ ١٧
كان الأرمن في زمن السلطان عبد الحميد الثاني (١٨٧٦–١٩٠٩م) يعملون بصفة أساسية بوصفهم خبراء في إدارة القصر وفي أعمال الخزانة، بينما بلغ اليهود في القرن السادس عشر في البلاط عددًا لا يستهان به. وفي وزارة الخارجية كان هناك ١٠٧ من غير المسلمين: ٣٠ يونانيًّا، ٥٢ أرمينيًّا، ١٢ يهوديًّا (سفارديم وأشكيناز وقرَّاءون)، ٧ عرب مسيحيين من لبنان وسوريا. علاوة على ذلك كان هناك ستة أوروبيين، لا يحملون الجنسية العثمانية؛ أي يُعدُّون من الأجانب، من بينهم كاثوليكيُّون من المشرق العربي.٣٢
وفي نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين بلغ عدد الطوائف اليهودية في الإمبراطورية العثمانية حوالي ٤٠٠ ألف فرد.٣٣ في تلك الفترة بدأت هجرة اليهود إلى الولايات المتحدة الأمريكية وغيرها من الدول، وفي الوقت نفسه بدأت هجرتهم أيضًا من روسيا ورومانيا وبلدان البلقان الأخرى؛ حيث كان اليهود يُعانون من المذابح والنهب، ومن جراء القوانين المناهضة لهم. انتشرت الأفكار المُعادية للسامية على نطاق واسع بين اليونانيين، فضلًا عن انتشارها أيضًا بين الأرمن وأبناء البلقان والسلاف.

وكثيرًا ما كان العداء يدبُّ لأسباب مختلفة بين أبناء هذه الشعوب على أنه بمجرَّد نشوب خلاف بين أحد منها وبين اليهود كان الجميع يَتضامَن مع أعداء الأمس، تمامًا كما يفعل العرب في أيامنا هذه. إنَّ العرب يُكرِّرون الوشايات نفسها المعادية لليهود، ويستخدمون تكتيك الهجمات، التي استعاروها من المسيحيِّين؛ فقد كانوا يسعون للاستفزاز وارتكاب المذابح في توقيت أعياد اليهود أو المسيحيِّين.

وكما ذكرنا من قبل فإنَّ المغزى الأكبر للكراهية المتبادلة بين اليهود والمسيحيِّين، إلى جانب الأفكار الدينية التي راجت لدى المسيحيِّين، إنما تعود أسبابها إلى المنافسة التجارية وخاصة في مقدونيا وغرب الأناضول؛ حيث عاش عدد كبير من اليونانيِّين.

كان المسيحيون يتَّهمون اليهود بالسحر والفساد ونشر الأمراض، التي كان اليهود أنفسهم يُعانون منها بطبيعة الحال بدرجة لا تقلُّ عن الآخرين. وكان من الأمور المُعتادة تمامًا بالنسبة للمسيحيين قيامهم باحتقار اليهود والسخرية منهم ومقاطعة التجار اليهود ووضع العوائق أمام النشاط الاستثماري لهم والتمييز العنصري (كان المسيحيون يُحاولون عدم قبول اليهود في العمل بحُجة أنهم يُحرِّمون العمل يوم السبت، وهلمَّ جرًّا).

كانت العلاقة بين اليهود والأتراك أكثر هدوءًا. وعلى الرغم من أنَّ فكرة «فرية الدم»٣٤ كانت منتشرة أيضًا بين الأتراك، فإننا نجد في وثائق التحالف اليهودي المشترك معلومات تُفيد أن السلطان عبد الحميد نفسه لم يكن مُقتنعًا تمامًا بأن اتِّهام شعب كامل باستخدام دم الأطفال المسيحيين هو فرية مُطلَقة. على أن الحوادث في الأوساط التركية، وكذلك الصدامات التي كانت تقع على أرضية الاقتصاد والسياسة، كانت نادرة للغاية.٣٥

على أنَّ الأمور في شرق الأناضول، حيث عاش الأكراد بشكلٍ مكثَّف، قد سارت على نحو مُغاير. في ديار بكر وأورفا وماردين وغيرها، وفي بعض المدن الأخرى، راح الأكراد يَضطهدون الطوائف اليهودية، واضطرُّوهم إلى دفع ضرائب تفوق ما كانوا يَدفعونه من ضرائب للسلطات التركية. وكانت مُحاولات الاحتجاج يتمُّ إخمادها على الفور وبكلِّ قسوة. كان البلطجية يتصرَّفون بوقاحة أكثر، مُعتمدين على إفلاتهم من العقوبة.

مع نهاية القرن التاسع عشر، تعرَّضت الطوائف اليهودية في ولاية ديار بكر للتدمير، وراحت أعدادهم تتناقص عامًا وراء الآخر على نحو ملحوظ.

لم تكن الأحوال في ماردين تسير على نحو أفضل، فبحُلول عام ١٩٠٦م لم يتبقَّ من الجالية اليهودية الصغيرة المكوَّنة، بناءً على الإحصاءات التي أجريت في مطلع القرن العشرين، من خمسمائة شخص، سوى يهودي واحد كان يقوم على حراسة السيناجوج. لم يمسَّه أحد بسوء، والفضل في ذلك يرجع إلى أنَّ سكان المدينة كانوا يُقدِّرونه باعتباره عَرَّافًا. العديد من اليهود، الذين غادَروا شرق الأناضول، توجَّهوا إلى فلسطين والموصل وإلى غرب الأناضول، حيث لم تُواجههم فيها مشاكل كبيرة. لم يَنتقِل اليهود من العديد من المناطق الأوروبية والآسيوية في تركيا بسبب الملاحقة والاضطهاد فحسب، وإنَّما لأسباب أخرى أيضًا. ففي الفترة من عام ١٨٨٩م وحتى عام ١٩١٢م، بلغ عدد المهاجرين من تركيا الأوروبية ٤٦٠٤ يهود متجهين إلى الولايات المتحدة الأمريكية، بينما بلغ عدد المهاجرين منهم من تركيا الآسيوية ٣٢٣٠ نسمة.٣٦
إذا ما تناولنا على نحوٍ إجمالي مسألة تعايُش اليهود مع المسلمين على الأراضي التركية في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين فسنَجد أنه اتَّسم بطابع أكثر سلمية من التعايش على هذه الأراضي نفسها بين المسلمين والمسيحيين. وهناك من يقول إنَّ الازدهار النِّسبي للمسلمين قد خفَّف بدرجة ما من حدة العداء بين المجتمعَين، على أنه ما أن اختلَّ التوازن الاقتصادي حتى راحت السلطات نفسها تُبادر في أحيان كثيرة بمُمارسة النهب والقتل في الأحياء المسيحية. وعندئذٍ كان المسيحيون، الذين كانوا يُشكِّلون النسبة الأعلى من السكان، يتجنَّبون الدخول في صراع مفتوح مع المسلمين، الذين كانوا في الواقع هم سادة الأراضي العثمانية كافة، بما فيها بلدان الشرق الأوسط، وكان المسيحيُّون يستعيدون خسائرهم آنذاك على حساب اليهود. ومن ثم فاليهود لم يتعاطَفُوا مُطلقًا مع المسيحيِّين ولم يَدعموهم بأيِّ حال في حربهم مع المسلمين، على الرغم من أنهم هم أنفسهم أصبحوا في بعض الأحيان ضحايا للمسلمين. إجمالًا فإن علاقة مسلمي سوريا ومصر وغيرهما من بلدان الشرق الأوسط لم تتغيَّر تجاه اليهود بعد الإصلاحات (التنظيمات)؛ فاليهود لم يُطالبوا بالحصول على الحقوق الجديدة التي منحتها لهم اللوائح السلطانية التي صدرت عامي ١٨٣٩م و١٨٥٦م. في عام ١٨٤٠م كتب الباحث الشهير أوبيتشيني عن اليهود قائلًا: «كان خُضوعهم للحكم العثماني يقف على النقيض بشكل مُدهش مع الاضطرابات وحركات التمرُّد التي كان يقوم بها الرعايا الآخرون … الأمر الذي يمكن تفسيره جزئيًّا بجنوحهم إلى عاداتهم السلمية وحرصهم على وضعهم بحيث لا يُثيرون شكوك الباب العالي نحوهم … وحيث إنهم كانوا يتميزون بالصبر والمثابرة والرضا بقدرهم، فقد كانوا يخلقون انطباعًا بالذلة، على الرغم من وجود عدد من القوانين القديمة (منعهم، على سبيل المثال، من إبداء مَظاهر الترف)، التي كانت تُميزهم على أساس العرق.»٣٧

ظلَّ اليهود يدفعون للسلطات المحلية الضرائب السابقة، التي كانت تَحمي حياتهم وأملاكهم بدرجة كبيرة من السرقة والنهب. وعلى الرغم من أنَّ هذا «التنازل» لم يكن يُعوَّل عليه دائمًا، فقد كان له أثره في نجاة الكثيرين في أوقات التمرُّد والعصيان. لقد سعى اليهود ألا يستفزوا عداء المسلمين نحوهم في المسائل السياسية؛ إذ إنهم لم يكونوا سعداء كثيرًا ﺑ «المساواة العامة»، التي أعلنت في سنوات التنظيمات. كانت المزايا الدينية والاقتصادية التي حظوا بها إبان الدولة العثمانية مناسبة لهم؛ فلم يولوا اهتمامهم للحقوق السياسية الوهمية؛ إذ كانوا يتصوَّرون أن هذه القوانين يستحيل تطبيقها في الواقع.

بعد أن أعلن اليهود ولاءهم للسلطات العثمانية، حازوا عطف المسلمين عندما توتَّرت العلاقات بينهم وبين المسيحيين. وعندما هبَّ اليونانيون ونشبَت الحرب من أجل الاستقلال كان اليهود يَنحازون إلى جانب الأتراك سواء باتخاذ مواقف سلبية أو أحيانًا إيجابية، وهو ما فعلوه بالضبط إبان حرب القرم (١٨٥٣–١٨٥٦م)، وكذلك عند تمرُّد المسيحيِّين في دمشق. لقد استمر العداء الاقتصادي والديني بين مسيحيِّي ويهود الشرق الأوسط مئات الأعوام، وكان انتصار أحدهما على الآخر يَجري سجالًا. خذ مثلًا، في نهاية القرن الثامن عشر ومطلع القرن التاسع عشر، استطاع يهود دمشق وعكا تحقيق انتصار كبير على المسيحيِّين في سياق التنافس الاقتصادي القائم بينهما. كانت عائلة فرخي هي المسيطرة على الشئون المالية والإدارية في أيَّالتيْ دمشق وصيدا (الأيَّالة: وحدة إدارية كبرى)، على أنه في عام ١٨٢٠م تمَّ إعدام حاييم فرخي وصودرت أملاكه. خسر اليهود كثيرًا من مكانتهم في دمشق وعكا، أما عائلة بخري (وهم يونانيون كاثوليكيون)، التي كسبت هذه الجولة، فقد تصاعد نفوذها بقوة. وكان مُمثلها حنا بخري سكرتيرًا مُتواضعًا لدى إحدى المؤسسات الإقليمية إبان احتلال مصر لسوريا، وقد عيَّنه إبراهيم باشا مباشرًا (مديرًا) على المالية لعموم سوريا ورئيسًا للمجلس الاستشاري الذي شكَّله في دمشق. قام بخري بدعم إدارته بموظفين مسيحيين وأزاح بكلِّ الطرق اليهود المنافسين.٣٨
مثَّلت حادثة دمشق٣٩ التي وقعت في عام ١٨٤٠م ذروة المواجَهة مع اليهود، وقد جرَت بمُبادَرة من القساوسة اليونانيين هناك بدعم من القنصل الفرنسي المعادي لليهود. لقد فشلَت مساعي أصحاب الاتهام، ومن جديد يقيم المسلمون واليهود تحالفًا ضد المسيحيِّين. الآن استطاع اليهود على نحو أكثر نجاحًا الدِّفاع عن أنفسهم في مواجهة هجمات المسيحيِّين عليهم وخاصة ضد الاتهامات الخاصة بما يعرف ﺑ «فرية الدم». لقد تميَّز الوضع إجمالًا في الشرق الأوسط، سواء في القرن التاسع عشر أو القرن العشرين، بالاضطراب، الذي أخذ في التصاعُد بداية من مُنتصَف القرن التاسع عشر. لقد ازداد أوار العداء بين المسلمين والمسيحيِّين بسبب الفرمانات السلطانية الصادرة في عامي ١٨٣٩م و١٨٥٦م بشأن المساواة بين الرعايا العثمانيين ممَّا أدى إلى وقوع أحداث دراماتيكية. لقد ارتكبت في دمشق في عام ١٨٦٠م مذابح عديدة ضد المسيحيين أدَّت إلى تدخل الدول الأوروبية، وإلى احتجاج السفراء لدى إسطنبول.
في العراق عاشت الجاليات اليهودية في يُسر ودعة، وخاصة في بغداد، حيث بلغ تعدادهم في عام ١٨٨٠م حوالي ٣٠ ألف نسمة ليُصبحوا ٤٥ ألفًا بحلول عام ١٩٠٨م. وبداية من النصف الثاني من القرن التاسع عشر، شغلت بغداد والبصرة من جديد مكانة متميزة في تجارة آسيا. ظلَّ اليهود مدة طويلة من الزمن مُبعدين عن التجارة الدولية من قبل المسيحيين المحليين والمسلمين، بل ومن التجار الأوروبيين أيضًا بمَن فيهم البريطانيون المُقيمون في العراق. لكن النزاعات بين المسيحيِّين والمسلمين فتحت الطريق أمام اليهود للدخول في العمليات التجارية. وفي هذه الظروف الجديدة دخل البريطانيون في منافسة صعبة مع التجار الأوروبيين المحليين والمسلمين فاضطرُّوا للتعامل مع اليهود باعتبارهم شركاء في التجارة نظرًا لمعرفتهم الجيدة بالظروف المحلية.٤٠

لم يكن للأفكار الصهيونية التي راحت تَستجمِع قواها، والتي ظهرت وتطورت بنجاح في أوروبا الشرقية في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، سوى أثر طفيف على اليهود العثمانيين، ولذلك أسباب شتى؛ فالإمبراطورية العثمانية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر بدأت في التكامل تدريجيًّا مع النظام الاقتصادي العالمي باعتبارها شبه مُستعمرة. وقد دفع التحالف الاقتصادي والانهيار السياسي بالأتراك إلى إجراء الإصلاحات (التنظيمات)، لكن المسلمين لم يستفيدوا منها شيئًا.

ازدادت الأعراق غير المسلمة، وخاصة اليونانيين والأرمن، قوة من الناحية الاقتصادية، لكنَّ اليهود استفادوا أيضًا من الإصلاحات. وخلافًا للمسيحيين، الذين لم تكن لديهم الرغبة في دعم الحفاظ على الإمبراطورية حتى بعد الإصلاحات؛ فقد قبل اليهود الاشتراك في الحركة الدستورية في نهاية القرن التاسع عشر ومطلَع القرن العشرين، وخاصة في نشاط اللجنة الثورية لتركيا الفتاة «الاتحاد والترقي». كان اليهود يُعوِّلون على إضفاء الصبغة الليبرالية على النظام ولا مركزية الإدارة وحرية المُبادَرات الفردية. هذه المزايا تحديدًا تدخل في البرنامج الذي وعَد به واحد من أشهر الإصلاحيِّين الأتراك هو الأمير صباح الدين. آنذاك لم يكن هناك سوى عدد قليل يُؤمن بنجاح الصهاينة؛ فاليهود العثمانيون رأوا أنَّ عصفورًا في اليد خير من عشرة على الشجرة.

خلاصة القول، أنَّ اليهود قد دعموا تركيا الفتاة، التي قبلت برضًا تعاوُنَهم معها؛ فاليونانيون والأرمن قد تخلوا عنها بالفعل. وهؤلاء وأولئك حصلوا على الاستقلال التام عن الأراضي العثمانية، كما أن خطط تركيا الفتاة، التي كانت تسعى إلى وحدة الإمبراطورية والسيطرة على الإدارة والقضاء على تدخل الدول الأجنبية في الشئون العثمانية، لم تكن تُناسبهم. لقد بدأت تركيا الفتاة نضالها من أجل إلغاء الامتيازات الأجنبية وامتيازات الحصانة التي يتمتَّع بها رعايا الدول الأجنبية؛ فالعدد الأكبر من غير مُسلمي الإمبراطورية كانوا يسعون بالحق والباطل للحصول على الجنسية الأجنبية التي تُوفر لحاملها، بفضل هذه الامتيازات، تسهيلات كبيرة.

وقد حصلت روسيا، بمُوجب مُعاهَدة كيوتشوك كانياردجه٤١ الموقَّعة عام ١٧٧٤م، على حق حماية المواطنين الأرثوذوكس، بينما أيَّدت فرنسا، على نحوٍ تقليدي، الكاثوليكيِّين فقط، واستطاعت أن تفرض الحماية على رجال المال اليهود الأثرياء، بشكلٍ استثنائي – مثل أبراهام كاموندو عضو مجلس بلدية إسطنبول. أما الجاليات اليهودية جميعها فإنها وبرغم البيانات التي أصدرتها الحكومة فإنها لم تَنعم من أيِّ جهة ومن أي شخص بالحماية من الجور والعسف، سواء من المسلمين أو المسيحيين.

الحقيقة أن بعض اليهود الأكثر مبادرة حصلوا بعد عام ١٨٧١م على الجنسية الإيطالية. ولكن لمَّا كانت إيطاليا قد تأخرت بشدة في الاتحاد كدولة، فإنَّ قدراتها الاقتصادية كانت أقل من المكانة المتينة والقديمة التي كانت تشغلها كل من إنجلترا وفرنسا.

لقد فضَّلت الغالبية العظمى من اليهود وَهْمَ النهضة وإصلاحات الدولة التركية على الحياة في دول مسيحية جديدة، سواء حصلت على استقلالها أو تسعى للحصول عليه في البلقان، وعلى الكفاح دون أمل. هكذا كان اليهود يتصوَّرون، من أجل الحصول على وطن قومي لهم في فلسطين. كان لخوف اليهود من أن تفقد تركيا في المستقبل القريب الأراضي الغربية في اليونان أو بلغاريا أثر كبير عليهم، ومِن ثمَّ فقد تناقصت أعدادهم فيها على نحو ملحوظ.

كان الخوف من إمكانية الملاحقة هو السبب وراء الهجرة الجماعية لليهود من الأراضي التي بدأ الباب العالي في فقدانها تدريجيًّا في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، وفي سياق حروب البلقان على وجه الخصوص (١٩١٢-١٩١٣م). وقد رأى اليهود أن الولاء لتركيا الفتاة، التي وصلت إلى السلطة نتيجة لثورة ١٩٠٨م، بعد أن ظلَّت لمدة طويلة حركة سرِّية معارضة للنظام السلطاني، كان يُمثل بالنِّسبة لهم الدفاع الأفضل ضد العداء القومي من جانب الرعايا العثمانيين السابقين، المعادين تاريخيًّا للسامية. وخلافًا للمسيحيين، فإن اليهود العثمانيين لم تكن لديهم أية أهداف سياسية تتعارَض مع مصالح الأتراك، كما لم تكن لديهم أيضًا أية منظَّمات سياسية مُستقلة. وحتى عندما نجح الصهاينة في فتح «مكتب» خاص بهم في إسطنبول، لم يجدوا تأييدًا من أبناء عقيدتهم المحليين. وقد استطاع الصهاينة بصعوبة بالغة أن يَعثُروا على نائب يهودي وافق على عرض المذهب الصهيوني في البرلمان العثماني. هذا العضو هو الاشتراكي من سالونيك المدعو فلاخوف أفندي. وفي فلسطين ذاتها لم يجد الصهاينة في البداية سوى عدد قليل من المؤيِّدين لهم بين اليهود المحليين.

وبعد تبني تركيا الفتاة لدستور ١٩٠٨م نشرت بعض الصحف الصادرة بالفرنسية والإسبانية موادَّ عن الحركة الصهيونية وجرى إلقاء الضوء على أفكار تيودور هرتزل. على أنه وكما أفاد أ. جالانتي فقد استقبلها الجمهور دون اهتمام مُفترضين أن هذه الحركة لا مُستقبل لها في تركيا بسبب الموقف الصارم من الحكومة، التي كانت فلسطين تقع آنذاك تحت إدارتها. وقد حاول بعض قادة الجالية اليهودية، الذين كانوا في نزاع داخلي، استغلال الصهيونية ولكنَّهم لم يُحقِّقوا في ذلك نجاحًا يُذكر.٤٢
على وجه العموم، فقد كان اليهود فقط، خلافًا لجميع الأقليات القومية، هم أكثر المُتضامنين مع تركيا الفتاة على نحوٍ كبير ومُستمر. ومع ذلك، فعلى النقيض من آراء العديد من رجال السياسة اليهود في هذا العصر، وخاصة البريطانيِّين، الذين راحوا يُؤكِّدون أن ثورة تركيا الفتاة عام ١٩٠٨م تمَّ تنظيمها لصالح الأهداف الخاصة باليهود الماسونيِّين، وأن لجنة «الاتحاد والترقي» ما هي إلا ستار لإخفاء المصالح اليهودية الخالصة؛ فاليهود لم يشغلوا، لا في عام ١٩٠٨م ولا بعده، أيَّة مناصب بارزة في الحكومة الجديدة. لقد لعب اليهود العثمانيون دورًا ملحوظًا في حركة تركيا الفتاة، ولكنهم لم يكونوا مطلقًا ولم يستطيعوا، برغم رغبتهم الشديدة، أن يكونوا قوة قادرة على استغلال هذه الحركة لصالح أهدافهم. الأمر ببساطة أن مصالح عرقين مختلفين قد التقيا مؤقتًا. من المؤكد، مع ذلك، أن دعم اللجنة قد لبَّى مصالح الجاليات اليهودية. ورغم هذا فإنَّ أسطورة المؤامرة الماسونية التي كانت مصدر ثورة تركيا الفتاة ما تزال حية حتى يومنا هذا، وما يزال بعض المؤرخين الأتراك المعاصرين يُكرِّرونها، مثل البروفيسور حكمت تانيو.٤٣
أما اليهود الذين شغلوا، بدرجة أو بأخرى، مناصب مهمَّة في البرلمان وفي حكومة تركيا الفتاة، فكانوا يُؤيِّدونها بكل إخلاص، وهؤلاء كانوا يؤيدون داخل البرلمان السياسة العثمانية، التي كان يُعارضها بشدة النواب المسيحيُّون. وقد لعب إيمانويل كاراسو دورًا بارزًا في سياسة تركيا الفتاة قبل ثورة ١٩٠٨م وبعدها. كان كاراسو واحدًا من النواب الذين جاءوا إلى القصر للمطالبة بتنازل السلطان عبد الحميد عن العرش. وفي عام ١٩٠٨م دخل إلى البرلمان، نتيجة للانتخابات، أربعة يهود، بعدها دخله نائب خامس من اليمن. أما كاراسو، الذي اختير نائبًا عن سالونيك فكان مُحاميًا ذا خبرة، شارك في جلسات البرلمان التي عُقدت عامَي ١٩١٢م و١٩١٤م، وكان أكثر المتعاونين نشاطًا في حكومة الرجال الثلاثة لتركيا الفتاة مع طلعت، الذي دافع عن حقوق اليهود العثمانيِّين. وهاجر إيمانويل كاراسو إلى إيطاليا بعد هزيمة تركيا في الحرب العالمية الأولى على يدِ دول الوفاق الثلاثي (بريطانيا، فرنسا، روسيا القيصرية) Entente.

في عام ١٩١٢م تمَّ اختيار فيتالي فرجي رئيسًا للجنة الميزانية في البرلمان، بينما تولَّى إيمانويل سالم المشاركة في إعداد مشروعات القوانين. أما النائب عن بغداد إيحيز يُقيل ساسون فكان عمله في البرلمان هو تولي مشكلات الزراعة والتجارة، نسيم روسو خدم في وزارة المالية، فيتالي سترومسا كان عضوًا في المجلس الأعلى للإصلاحات المالية، صمويل إسرائيل شغل منصب رئيس القسم السياسي لبوليس العاصمة، وقد أزيح عن منصبه فيما بعد إبان انقلاب يوليو ١٩١٢م، ومعه قادة تركيا الفتاة. أغلب هؤلاء السياسيِّين والموظَّفين كانوا قد تلقوا تعليمهم في مدارس الائتلاف اليهودي العام.

يتَّضح لنا، استنادًا إلى القائمة غير المُكتملة التي أوردناها عاليه، أنه بالمقارنة مع القرون الثلاثة الماضية التي عانت فيها الإمبراطورية من الركود فإن اليهود في السنوات الأخيرة للإمبراطورية قد انغمسوا في الحياة السياسية وتحسَّنت أحوالهم الاقتصادية. وبدأ التجار اليهود، الذين ظلُّوا زمنًا طويلًا يُعانون من الاضطهاد والمزاحمة على يد اليونانيين والأرمن، الذين كانوا يشغلون في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر المواقع الحاكمة في الاقتصاد العثماني، بدءوا في تحقيق المكاسب والأرباح بفضل النزاعات التي نشبت بين المسلمين والمسيحيين، والتي تلقَّى فيها الأتراك الهزيمة تلو الأخرى. وعلى غرار الدول الأوروبية، راح الأتراك يطبقون سياسة المقاطعة الاقتصادية باعتبارها سلاحًا فاعلًا في النضال السياسي. جرت أول مقاطعة في عام ١٩٠٨م وكانت موجهة ضد البضائع النمساوية. وفي عام ١٩٠٩م جرت مقاطعة دكاكين اليونانيين وتجارتهم نتيجة تفاقم الوضع في جزيرة كريت، التي حصلت في عام ١٨٩٧م على الحكم الذاتي بفضل الضغوط الشديدة التي مارستها الدول الأوروبية على الرغم من الانتصار العسكري الذي حققه الأتراك آنذاك. واستمر تمرد اليونانيين في الجزيرة حتى عام ١٩١٣م، عندما انضمت كريت إلى اليونان. وقد كتبت صحيفة The Orient الصادرة في إسطنبول عن مقاطعة البضائع اليونانية في مارس ١٩١٤م، وذكرت الصحيفة أنه في أثناء حروب البلقان وما بعدها امتدَّت المقاطعة لتشمل تجارة المسيحيين كلها، لكنها لم تتعرَّض مطلقًا لتجارة اليهود.٤٤

عَمِلَ أعضاء اللجان الإقليمية لتركيا الفتاة على دفع الأتراك واليهود إلى مُكافحة الهيمنة الاقتصادية للمسيحيين، وقد دعَت اللجنة المركزية أيضًا هذه المجموعات من السكان إلى محارَبة المواقع الحاكمة في مجال الأعمال. وفي عام ١٩١٢م شرعت تركيا الفتاة في مناقشة مناهج تنظيم الاقتصاد القومي، مُستلهمة مفهومه من أعمال الاقتصادي الألماني فريدريخ ليست. وقد روَّج لهذا المفهوم موسى كوهين، اليهودي من سالونيك، الذي استقر به المقام في إسطنبول في عام ١٩١٢م، وكان معجبًا أساسًا بأفكار إحياء الوعي اليهودي والهوية اليهودية. لكن نجاحه الحقيقي تحقَّق مؤخرًا إبان عمله على صياغة مذهب الأصالة التركية والنزعة القومية. ولإعجابه الشديد بالفكرة الجديدة اتخذ لنفسه اسمًا تركيًّا هو تيكينالب وتحت هذا الاسم راح ينشر مؤلفاته.

كانت تركيا الفتاة تُولي ثقتها لليهود العثمانيين، وقامت بتوظيفهم. على أن هؤلاء أصبحوا الضحية الأولى في أثناء أعمال التمرد التي قامت ضد اللجنة. في أكتوبر عام ١٩٠٨م هاجم المُتمرِّدون يهود بغداد باعتبارهم أنصارًا لتركيا الفتاة. وفي أثناء حرب البلقان وبعدها تعرض اليهود، شأنهم في ذلك شأن المسلمين بالمناسبة، للاضطهاد على يد المسيحيين في فراكيا ومقدونيا. عندها اضطرَّ الكثير منهم إلى الفرار إلى الأناضول. وفي مطلع عام ١٩١٣م، عندما ظهر تهديد حقيقي بانزال قوات يونانية غرب الأناضول، قامت تركيا الفتاة بتسليح الفلاحين الأتراك، فضلًا عن تسليح السكان اليهود.

استولَت تركيا الفتاة على السلطة، عندما دخلت عملية انهيار الإمبراطورية مرحلتها النهائية. وبدأت الدول الأوروبية، التي كانت قد قسَّمت تركة «الرجل المريض» منذ زمن بعيد، في إدارة المفاوضات بشأن مصير الأراضي العثمانية.

دعَّمت إنجلترا القوميِّين العرب في نضالهم ضد سلطة إسطنبول، بعد أن وعدتهم بمساعدتهم في إقامة الخلافة العربية الجديدة في الشرق الأوسط.

لم يَستطِع جمال باشا، أحد رؤساء تركيا الفتاة الثلاثة والقائد الأعلى للجيش في سوريا ولبنان وفلسطين، أن يستميل إلى صفه الثوار العرب.

دخلت تركيا الحرب العالمية الأولى إلى جانب ألمانيا وأعلنت الجهاد ضد دول الوفاق الثلاثي. بيد أنَّ العرب، «إخوة العقيدة»، لم يُؤيِّدوا هذا الجهاد؛ إذ كانوا على علم بعلاقات التحالف بين تركيا الفتاة والألمان «الكفار». وهنا بدأ فرار الجنود والضباط العرب من صفوف الجيش العثماني. وبأمر من جمال باشا تم في عام ١٩١٥م إغلاق الصحف المعارضة في سوريا وجرى حظر تدريس اللغة العربية في المدارس. أما شيعة العراق فقد أخذوا موقفًا معاديًا من الأتراك ولم يَعترفوا بالمكانة الروحية للسلطان. لكن تصاعُد حركتَي التمرد والقومية العربية قوبلتا بالتنكيل الجماعي على يد جمال باشا. وقد جرى إعدام العديد من القادة العرب ثم بدأت حركة النفي الإجباري للمسيحيِّين السوريين، ليلحق بهم المسلمون بعد ذلك، إلى المناطق الصحراوية في شمال العراق وآسيا الصُّغرى، كما أُقصي أيضًا كبار رجال الدين المسلمين في المناطق العربية. وفي عام ١٩١٧م طال الاضطهاد والتنكيل المنظَّمات الصهيونية أيضًا في فلسطين. وفي يافا، وبأمر من جمال باشا، جرى تدمير الوكالة اليهودية، التي كانت ترعى شئون اليهود المهاجرين في فلسطين، وتمَّ نفي زعماء الصهاينة وكذلك اليهود الذين لا يحملون الجنسية؛ أي الذين وصلوا إلى فلسطين من بلاد أخرى. لم تُنزل أعمال جمال باشا ضربة كبرى بحركة القومية العربية فحسب، بل تسبَّبت في خسارة فادحة في صفوف المستوطنين اليهود بشكل حاد. وهنا وجدت دول الوفاق الثلاثي والولايات المتحدة الأمريكية مُبرَّرًا مناسبًا للدفاع عن المسيحيين واليهود، وكذلك للادعاء المُدعَّم بالحجج في الاستيلاء على الممتلكات العربية لتركيا. وعلى الفور بدأت في البرلمانات وفي الصحف الإنجليزية والفرنسية حملة من أجل طرد الأتراك من الشرق الأوسط على وجه السرعة وتسكين «الأوروبيين المتحضرين» فيه.٤٥
وقد لفتَت الحكومة الأمريكية مرارًا وتكرارًا انتباه السلطات التركية إلى وضع غير حاملي الجنسية وكذلك لأوضاع المسيحيين واليهود في سوريا وفلسطين. وقد أعلنت الحكومة التركية أنها لا تُعاقب سوى المذنبين. وفي سنوات الحرب العالمية الأولى قام سفير الولايات المتحدة الأمريكية لدى إسطنبول، مورجينتاو، بتقديم الدعم والحماية للصهاينة، وكذلك فعل السياسيون الألمان. وقد بذَل الألمان إبان الحرب عدة محاولات لاستعادة المبادرة من الإنجليز بشأن القضية الفلسطينية، حتى يتسنَّى لهم استغلال سياسة الصهاينة لأغراضهم. وفي عام ١٩١٦م دعت الأركان العامة الألمانية الحكومة التركية لتلبية طلبات الصهاينة في فلسطين. وبعد إعلان وزير خارجية بريطانيا بلفور (نوفمبر ١٩١٧م) عن تأييد الإنجليز لخطة إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، اضطرَّت الحكومة التركية إلى تغيير موقفها من المسألة الفلسطينية. وفي الحادي والثلاثين من ديسمبر عام ١٩١٦م، صرَّح طلعت باشا لأحد مراسلي الصحف الألمانية بالموافقة على منح اليهود الألمان الحق في الهجرة إلى إسرائيل وإقامة الحكم الذاتي المحدود هناك. ونتيجة لذلك تم في برلين تأسيس «اتحاد المنظَّمات اليهودية الألمانية للدفاع عن حقوق يهوديي الشرق.»٤٦

إضافةً إلى ذلك فقد وعَدت الحكومة التركية بعمل تشريع اجتماعي خاصٍّ يَحفظ حقوق اليهود في فلسطين. وفي يوليو ١٩١٨م حصلت السلطات الألمانية على امتيازات ضخمة في فلسطين لإنشاء مستعمرة لليهود الألمان، لكن الوضع على جبهات القتال الألمانية والتركية ساء إلى حدِّ أنَّ أية مخطَّطات بدت ضربًا من الخيال. وقد فجَّر وعد بلفور الذي عرضه في خطابه إلى لورد لايونيل والتر روتشيلد الغضب في العالم العربي، الذي ساند الإنجليز على أمل أن يُنفِّذوا وعودهم. في هذا الوقت كانت إنجلترا مُستمرة في مناوراتها. في الواقع كان الشرق الأوسط إبان الحرب العالمية الأولى ميدانًا لصراع الجميع ضد الجميع. أما التنافُس القديم بين إنجلترا وفرنسا والذي كانت ساحته هذا الإقليم فقد كان في أثناء الحرب يُخفف فقط منه أحيانًا. الحكومة الإنجليزية علَّلت إعلان بلفور بضرورة حصولها على دعم اليهود في حربها مع ألمانيا. حلفاء إنجلترا، وخاصة فرنسا، لم يُسعدهم وعد بلفور، ولكنهم اضطرُّوا على أيِّ حال لقبوله.

الإخفاق في سياسته في الشرق الأوسط وهزيمته على الجبهة دفَعا بأحمد جمال باشا للاستقالة من منصبه كقائد عسكري ومحافظ.

من الصعب القول ما إذا كان جمال باشا قد أدرك بعد ذلك مسئوليته عن الأحداث التي بادر هو بدرجة ملحوظة بإشعالها والتي كان شريكًا فيها. على أنه، وقد نفى الاتهامات التي كالها له الدبلوماسي الروسي ماندلشتام والسفير الأمريكي مورجينتاو لدى إسطنبول آنذاك في تحريض السكان المحليين في فلسطين ضد اليهود والمسيحيين، راح يُعلِّل مواقفه في مذكراته بقوله: «لقد أعلن خليفة المسلمين الحرب المقدسة على الإنجليز والفرنسيِّين والروس فقط باعتبارهم أعداءً للدين. إن الحرب المقدَّسة كانت موجهة بشكلٍ استثنائي ضد أولئك الذين رفعوا السلاح علينا، ولهذا فإنني سوف أعاقب وبقسوة كل من أضمر الشر ضد جاره غير المسلم والذي تَربطه بنا مصالح وطننا المشترك.» وأضاف قائلًا: «إن مسيحيِّي ويهود سوريا لم يتعرَّضوا طوال فترة الحرب لأية مُضايقات لا من جانب المسلمين ولا من جانب الدروز نتيجةً لما قمت به من نشاط.»٤٧ وعند حديثه بالتفصيل عن العمليات العسكرية التي قام بها في الشرق الأوسط، لم يذكر جمال باشا كلمة واحدة عن نفيه لليهود من يافا وتل أبيب.

مُنيت الإمبراطورية العثمانية وحليفتها ألمانيا بالهزيمة في الحرب العالمية الأولى.

وفي نهاية أكتوبر من عام ١٩١٨م قسَّمت دول الوفاق الثلاثي كلًّا من سوريا ولبنان وفلسطين إلى مناطق ثلاث؛ الجنوبية الإنجليزية، وتضمُّ صنجاقيات أورشليم ونابلس وعكا، والشمالية الفرنسية، وتضمُّ بيروت وطرابلس واللاذقية ومعها أيضًا حسبية ورشِّية وبعلبك وأنطاليا والإسكندرونة وجسر الشعور وغيرها، أما باقي المناطق وحتى الحدود الشمالية لمناطق الجبل وسمان والباب فقد تشكَّلت منها المنطقة الشَّرقية العربية، التي نزلت فيها قوات إنجليزية. زِدْ على ذلك أن حاميات إنجليزية كانت تقيم في المناطق الثلاث جميعها.

تمَّ إنشاء الإدارة العربية في الحجاز ووسط الجزيرة العربية، وإن ظلَّ التأثير الاقتصادي لإنجلترا قويًّا في تلك المنطقة.

بانتهاء الحرب العالمية الأولى انتهى تاريخ الجاليات اليهودية في الإمبراطورية العثمانية وبدأت مرحلة جديدة في تركيا الجمهورية وفي أراضي الشرق الأوسط الواقعة تحت الحماية. أما يهود البلقان فقد كانوا قبل ذلك الحين يعيشون في دول مستقلة: في اليونان وصربيا وبلغاريا.

١  ماركس. ك.، أرشيف ماركس وإنجلز. – ماركس ك. وإنجلز ف.، المؤلَّفات، الطبعة الأولى، المجلد ٧، موسكو، ١٩٤٠م، ص١٠١.
٢  استطاعت القبائل التركية بقيادة أرطغرول، ومن بعده ابنه عثمان، الاستيلاء على الأراضي الواقعة في شمال غرب الأناضول والاستقرار فيها في العقود الأخيرة من القرن الثالث عشر، ومن هناك واصل الأتراك غزواتهم على جيرانهم، ونجحوا خلال قرنين في الاستيلاء على أراضٍ شاسعة. وقد أُطلق اسم العثمانيين على الأسرة الحاكمة، وعلى الإمبراطورية، وعلى الأتراك أنفسهم، والأوروبيين أيضًا.
٣  Loeb J. Le nombre des juifs de Castille et d’Espagne au Moyen Age. –Revue des Etudes Juives, No 141887., pp. 160-161; Franco M. Essai sur I’histoire des Israelites de l’Empire Ottoman. P., 1897. pp. 21–23, 29–31; Christians and Jews in the Ottoman Empire: the Functioning of a Plural Society. Ed. by Braude B. and Lewis B. N. Y.-L., 1982. V. 1. p. 123 .
٤  Galante A. Histoire des juifs d’Istanbul depuis la prise de cette ville en 1453 par Fatih Mehmed II jusqu’a nos jours. V. 1. Istanbul, 1941. p. 7 .
٥  «تعزو التقاليد التاريخية العربية إلى عمر (بن الخطاب) إنشاء كل نُظُم الضرائب في الخلافة، التي تأسست على نوعين من الضرائب: الخراج والجزية من غير المسلمين … لم يُذكر في القرآن أو السنة المحمَّدية أي أنظمة محدَّدة لفرض الضرائب على غير المسلمين. كان قائد الجيش يتَّفق مع المغلوبين، في كل حالة على حدة، حول مقدار الجزية وتوريد المواد الغذائية لقُوَّاته»، بولشاكوف أ. ج، تاريخ الخلافة، الجزء الثاني، عصر الفتوحات الكبرى، ٦٣٣–٦٥٦م، موسكو، ١٩٩٣م، ص١٣٩، ١٤٠.
٦  تودوروف ن.، المدينة البلقانية في القرون من الخامس عشر وحتى التاسع عشر: التطور الاجتماعي الاقتصادي والديموجرافي، موسكو، ١٩٧٦م، ص١٢٣.
٧  Le Courrier de Smyrne, 15.01.1831.
٨  Documents officiels turcs concernant les Juif de Turquie (recueil de 1141ois, reqlernents, firmans, berats, ordres et decisions de tribunaux). Istanbul, 1931. pp. 112–114.
٩  تودوروف ن.، المدينة البلقانية …، ص٤٣.
١٠  Notes and Documents from the Turkish Archives. A contribution to the history of the Jews in the Ottoman Empire by Bernard Lewis. Jerusalem. 1952. pp. 5–10.
١١  Idem, p. 35.
١٢  سميرنوف ف.، شهادة السلطان عثمان الثاني إلى عائلة اليهودية كيرا، ملاحظات شرقية، سان بطرسبورج، ١٨٩٥م، ص٤٣-٤٤.
١٣  سميرنوف ف.، كوتشيباي جيوميور دجينسكي وكُتَّاب آخرون من القرن السابع عشر يتحدَّثون عن انهيار تركيا، سان بطرسبورج، ١٨٧٣م، ص١٣٧.
١٤  فيبير م.، الأخلاق البروتستانتية والروح الرأسمالية، مؤلفات مختارة، موسكو، ١٩٩٠م، ص٩٠–٩٧.
١٥  Belon P. Les observations de plusieurs sinqularites et choses memorables trouvees en Grece, Asie, Judee, Egyptey Arabie et autres pays estranges. P., 1553. pp. 180-181.
١٦  Yerasimos S. Ethnies et minorites en Turquie: quelques reflexions sur un probleme insoluble. -Les Temps Modernes. P., 1984. No 456–467. p. 101.
١٧  الكومبرادور: وكيل أو مستشار محلِّي تَستخدمه مؤسسة أجنبية للإشراف على شئون مستخدميها. (المترجم)
١٨  Mantran R. L’Empire Ottoman du XVle au XVllle stècle. Administration, économie, société. P., 1984, V. pp. 134-135.
١٩  فاينشتين أ.، الثورة البرجوازية الفرنسية نهاية القرن الثامن عشر والشرق التركي، المذكرات العلمية لجامعة ليننجراد، ١٩٤٠م، العدد ٥٢، سلسلة «العلوم التاريخية»، الإصدار السادس، ص٢٢٣.
٢٠  فالاخيا: إقليم تاريخي يقع في جنوب رومانيا بين جبال الكاربات ونهر الدانوب. (المترجم)
٢١  Akçura Y. Osmanli lmparalortuğunun dağilma devri (XVlII ve XIX asirlarda). Istanbul. 1940. s. 54.
٢٢  الكريوليون: مواليد جزر الهند الغربية أو أمريكا اللاتينية المنحدرون من أصل أوروبي أو من أصل إسباني بصفة خاصة. (المترجم)
٢٣  الميرميران: حاكم مدينة صغيرة. في وقت السلم يقود حامية، وفي وقت الحرب يتبع الوزير. (ملحوظة للناشر)
٢٤  Le Moniteur Ottoman, 26.10.1833.
٢٥  Le Moniteur Ottoman, 22.01.1834.
٢٦  أرشيف السياسة الروسية الخارجية (أ س ر خ)، القسطنطينية، ١٨٣٥م، الوثيقة ٤٧، ٢١ ديسمبر–٢ نوفمبر، أ. ب. بوتينيف – ك. ف. نيسيليرودي، الصحيفتان ٧٨-٧٩، غلاف، ١٨٢.
٢٧  Kaynar R. Mustafa Paşa ve Tanzimat, Ankara, 1954. s. 100.
٢٨  Tanzimat, Istanbul. 1940. s. 56.
٢٩  Karal E. Osmanli tarihi. C. 7, Ankara, 1956. s. 148.
٣٠  Farley I. The Decline of Turkey. L. 1875. p. 37.
٣١  [Mordtmann] Stambul und das Moderne Türkenthurn. Bd. 1-2. Lpz., 1876-1877. s. 83.
٣٢  Christians and Jews in the Ottoman Empire … pp. 361, 344.
٣٣  Zürcher E. Turkey. A Modern History. L. -N.Y. 1998. p. 351.
٣٤  فرية الدم: تهمة أُطلقت على اليهود خلال فترات تاريخية متفرِّقة على أساس قيامهم بالتضحية بأطفال مسيحيين خلال عيد الفصح اليهودي. أدَّت هذه التهمة التي يتَّفق المؤرِّخون على عدم صحتها إلى حدوث مذابح استهدفت اليهود في غرب أوروبا وفي مناطق مختلفة من أوروبا الشرقية وفي العالم العربي أيضًا. (المترجم)
٣٥  Christians and Jews in the Ottoman Empire … pp. 224-225.
٣٦  Idem, p. 213.
٣٧  Ubicini M. Letters on Turkey. Vol. 2. L. 1856. p. 346.
٣٨  Inalcik H. Social and Economic History of Turkey (1071–1920). Ankara, 1980. pp. 205–210.
٣٩  وقعَت في مدينة دمشق في عام ١٨٤٠م أيام حكم محمد علي؛ فقد اتهم يهود دمشق بقتل راهب من الفرنسيسكان يُدعى الأب توماس الكبوتشي وخادمه المسلم إبراهيم عمارة لاستخدام دمائهما في أغراض شعائرية وفي صنع فطيرة عيد الفصح. (المترجم)
٤٠  Cohen H. The Jews of the Middle East 1860–1972. N.Y. 1973. p. 90.
٤١  معاهدة كيوتشوك كانياردجه (تقع على نهر الدانوب) وضَعَت في ٢١ / ٧ / ١٧٧٤م خاتمة للحرب الروسية التركية التي بدأت في عام ١٧٦٨م، واعترفت تركيا بموجبها باستقلال خانية القرم، وفتح البحر الأسود أمام الملاحة التجارية الروسية، وضم آزوف وكيرتشي وغيرهما لتصبح تحت الحماية الروسية مع مولدافيا وفالاخيا. (المترجم)
٤٢  Galante A. Histoire des juifs d’istanbul … pp. 87-88.
٤٣  Tanyu H. TürkçüIük ve Ziya Gokalp. Istanbul, 1962.
٤٤  The Orient, 1914, NQ 3.
٤٥  Emin A. Turkey in the World War. New-Haven-L. Oxford, 1930. p. 211.
٤٦  لازاريف م.، انهيار الهيمنة التركية على الشرق العربي، موسكو، ١٩٦٠م، ص١٩٩.
٤٧  جمال باشا، مذكرات جمال باشا، ١٩١٣–١٩١٩م، ترجمة عن الإنجليزية، ب. ت. رودينكو، تفليس، ١٩٢٣م، ص١٦٢، ١٦٣.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤