الفصل الثاني

اليهود في البلاط العثماني

تفيد المصادر العثمانية واليهودية والأوروبية أن أكثر الفترات التي عاشها اليهود في ازدهار تقع بين القرن الخامس عشر والقرن السابع عشر تقريبًا؛ وذلك عندما نجح بعض منهم في تولي مناصب رفيعة وحصلوا على نفوذ داخل البلاط العثماني. لم يكن العثمانيون هم أول الحكام المسلمين الذين استخدموا أناسًا من غير المسلمين. وفي هذا الصدد يُؤكِّد المؤرخون العرب وجود أشخاص غير مسلمين في الجهاز الحكومي الإسلامي، وهم يقصدون بوضوح لا قطاعًا من صغار الموظفين المحليين، الذين كانوا يتولون إمساك دفاتر الضرائب باللغات القبطية واليونانية والسريانية وغيرها من اللغات، وإنما الأشخاص المقربين من السلطة العليا الذين يشغلون مناصب حكومية أو أصحاب العلاقات الشخصية، ومِن بين هؤلاء، القائمون بأعمال السكرتارية وخبراء المال والأطباء الخصوصيُّون للخلفاء، الأمر الذي كان يثير استياء العرب المسلمين. وقد اتفق أن كان الخصوصيون بين المقربين إلى الخلفاء يهودًا، تمامًا كما حدث قبل ذلك في بلاط الخليفة معاوية.١ فكبير أطباء (حكيم باشي) مراد الثاني (١٤٢١–١٤٥١م) كان اليهودي إسحاق باشا، وهو من أوائل يهود البلاط ذوي النفوذ الواسع. وتشهد واحدة من وثائق عهد محمد الثاني، فاتح القسطنطينية، بالحرفية الرفيعة للأطباء اليهود. وتضمُّ الوثيقة قائمة بأسماء لعلماء، سبعة منهم أطباء؛ أربعة إيرانيون والثلاثة الآخرون تركي وعربي ويهودي. ويذكر كاتب الوثيقة اسم الأخير وهو الحكيم يعقوب، وكان يعمل دفتردار (أمين خزانة) قبل أن يعتنق الإسلام ليصبح بعد ذلك وزيرًا. ويضيف كاتب الوثيقة بعد ذلك قائلًا: «إنَّ خبرته (الحكيم يعقوب) كانت تفوق على نحو كبير خبرة ومعارف رفاقه، ومن الجائز أن أيام السلطان في الدنيا كانت ستطُول لو لم يُقنع الوزير الأعظم محمد كرماني محمدًا الثاني بأن يَلتزم بوصفة الطبيب لارا الفارسي منافس يعقوب،٢ وهي حادثة نادرة للغاية حيث لم يضمر كاتب الوثيقة العثماني سوء النية تجاه اليهودي، وهو ما كان يُميِّز العديد من المصادر الأوروبية في العصور الوسطى.

في القرن السادس عشر كانت التجارة العثمانية الضخمة وتحصيل الرسوم الجُمركية في يد اليهود بدرجة كبيرة. كان اليهود يعملون أيضًا بالملاحة البحرية التجارية وقد حقَّقوا فيها نجاحًا باهرًا على منافسيهم من أبناء البندقية، الذين كانوا يَملكون أسطولًا قويًّا وتقاليد تجارية عريقة.

يشير مؤرخو المذكرات الأوروبيون حول الإمبراطورية العثمانية إلى نفوذ اليهود في البلاط، فضلًا عن ثرواتهم المثيرة للانتباه. يقول أحد هؤلاء المؤرخين: «لم يكن من الأمور الاستثنائية أن تجد بينهم (اليهود) أشخاصًا يَملك الواحد منهم ثروة تصل إلى مائتي ألف دوكاتية.»٣،٤ وهو مبلغ هائل بمقاييس ذلك الزمن! ولمَّا كانت حياة أي شخص وممتلكاته في الشرق غير مضمونة (كان هذا يخصُّ اليهود فقط داخل بلدان أوروبا)، فقد كان على اليهودي على وجه الخصوص أن يجد وراءه مَن يَحميه، ومع ذلك لم يكن ذلك ليضمن له النجاة دائمًا. وحتى هؤلاء اليهود، الذين كانت لهم أهمية ما في البلاط، كانوا يَعيشون دائمًا تحت التهديد المستمر للمؤامرات والقمع. بالمناسبة، لم تكن القوانين لتوفُّر أية ضمانات للأتراك أو حتى أعضاء العائلة السلطانية تجاه هذه التهديدات.
لعب المدعو يوسف ناسي دورًا كبيرًا في عهود السلاطين سليمان الأول الأعظم، الذي كان الأتراك يطلقون عليه اسم سليمان القانوني، وابنه سليم الثاني (١٥٦٦–١٥٧٤م) ومراد الثالث. واستنادًا إلى ما تورده إحدى التراجم فقد كان ناسي ينتسب إلى الماران (العائلات اليهودية الإسبانية التي أُجبرت على اعتناق المسيحية)، لكنه عاد إلى عقيدة آبائه مرة أخرى. وقد ظهر في إسطنبول في حوالي عام ١٥٥٠م. ويَرجع نفوذه في بلاط سليم الأول إلى معرفته بأحوال السياسة الأوروبية التي كانت معلوماته عنها تصله من إخوته في العقيدة. كانت الظروف على درجة كبيرة من الأهمية؛ فالسلطان كان يريد أن يبدأ الحرب ضد إسبانيا، وأن يرسل قواته إلى السواحل الأفريقية؛ فالمسلمون هناك كانوا يُعانون من هجمات الإسبان عليهم. وتؤكد المصادر التركية أن يوسف ناسي كان مدينًا (لما يتمتَّع به من نفوذ) للأمير سليم بن سليمان الأعظم الذي كان يُمدُّه بالمال. كان ناسي آنذاك يشغل وظيفة رسول، وهي وظيفة لم تكن من الوظائف المرموقة. بينما تُؤكِّد المصادر الأوروبية أنه كان يشغل مكانة رائعة في بلاط سليمان الأول، وأنه كان يحظى بثقة السلطان الكبيرة. أيًّا كان الأمر؛ فالمصادر جميعها تتَّفق على أن نفوذ يوسف ناسي بلغ ذروته في عهد السلطان سليم الثاني، فقد أصبح مسئولًا عن الخزانة، وكان يقوم على تحصيل الواردات من اثنتي عشرة جزيرة من جزر الأرخبيل،٥ إلى جانب جبايته للضرائب على الخمور بشروط ميسرة. يُشير المؤرخ جالانتي إلى أن دخله السنوي بلغ ٦٠٠٠ دوكاتية وأصبح يعرف باسم دوق جزيرة تاكسوس. وهذا اللقب تحديدًا أشير إليه في عقد الهبة باسم الإسباني فرانسيسكو كورونيللو (هناك معلومة تفيد أن هذا النبيل كان له جد يهودي هو أفرام سنيور). كان كورونيللو يُدير شئون الأراضي الزراعية التي يَملكها ناسي، وقد وهبه الأخير قطعة أرض في الجزيرة. لم يكن لدى الأتراك توارث للأصول الأرستقراطية أو للألقاب؛ فمن البديهي في هذه الحالة أن يوسف ناسي نفسه هو أول من قام بهذه المبادرة؛ إذ إن هذا اللقب لم تكن له قيمة كبرى إلا لدى الأوروبيِّين فقط. وفي هذا السياق فإنَّ البلاط التركي لم يكن يُشبه الهيراركية الإقطاعية الأوروبية. كان السلطان يُعدُّ ظلَّ الله على الأرض، وجميع المواطنين كانوا عبيدًا له، تمامًا، بالمناسبة، كما كان الحال في بلاط القيصر الروسي إيفان الرابع.

كان ملوك أوروبا المسيحيون، الذين كانوا يَسعون للحصول على مكاسب ما داخل البلاط العثماني، مُضطرِّين للجوء إلى يوسف ناسي.

وبعد استيلاء الأتراك على أراضٍ تابعة للبندقية وصلت إلى إسطنبول في عام ١٥٦٧م سفارة فرديناند الأول إمبراطور الإمبراطورية الرومانية المقدسة لعقد معاهدة سلام. وقد قدَّم أعضاء السفارة عرضًا إلى الدون يوسف، كما كانوا يُسمونه، يحصل بمقتضاه على مبلغ سنوي مقداره ٢٠٠٠ طالر.٦ إنَّ حقيقة أن ملوك أوروبا لجئوا في اتصالاتهم الدبلوماسية مع السلطان للحصول على خدمات هذا الرجل الحاذق أثارت غضب الصدر الأعظم محمد صوكولو.٧ وكان أكثر ما أثار حنقه أن النبيل النمساوي، الذي أصبح فيما بعد مكسيميليان الثاني إمبراطور الإمبراطورية الرومانية المقدسة، كان يُرسل بالخطابات إلى السلطان وإلى الدون يوسف في الوقت نفسه، بينما كان الصدر الأعظم لا يعتبره إلا مُستأجرًا، لكن غضب الوزير الأعظم ذهب أدراج الرياح. في كتابه «البحر المتوسط وعالم البحر المتوسط في عصر فيليب الثاني»، يأتي المؤرخ الشهير للقرن العشرين فرنان بروديل على ذكر يوسف ناسي بقوله: «إلى جانب السلطان، كان هناك شخصان لهما نفوذ كبير؛ أحدهما كانتا كوزين، وهو يوناني، والآخر ميكا (يواو ميكيس في المصادر اليهودية – إ. ل) وكان يهوديًّا.»٨ أما جالانتي فيتحدَّث عن مشهد شارك فيه يوسف ناسي باعتباره شخصية نافذة في الجالية اليهودية في إسطنبول. كان الأرستقراطي الفرنسي رويري، وهو صاحب ثلاث قلاع في ضواحي ليون، معجبًا بأسُس اليهودية إلى درجة أنه اعتنق هذه الديانة في البندقية ومعه ابناه. وقد جاء إلى إسطنبول بعد ذلك حيث التقى فيها بيوسف ناسي. لم يفهم كبار التجار الفرنسيِّين في هذه المدينة كيف لشخص من أصول عريقة استطاع أن يترك كل ما كان يملكه من قبل ليشارك هذا الشعب المُضطهَد مصيره؛ فكان جوابه موجزًا: «لقد جئت إلى هنا لا بحثًا عن اليهود، وإنما بحثًا عن إله اليهود وشريعتهم.»٩

كان يوسف يشعر بالثِّقة والاستقلال داخل البلاط، إلى حدِّ أنه عزم على مقاضاة الملوك الفرنسيين بسبب الديون التي له لديهم، والتي قرَّر هنري الثاني، ومن بعده كارل الرابع، بعد تتويجه، ألَّا يرداها. وقد تذرَّعا في قرارهما بزعم أن القانون والدين يحظران على ملك فرنسا أن يُعيد الديون إلى الدائن اليهودي؛ حيث إنَّ اليهود ليس مسموحًا لهم بأن يعملوا في فرنسا، وإنَّ أملاكهم تخضع للمُصادَرة.

وعندما اقتنع يوسف ناسي بأنه لن يَنجح في تسوية أموره بالحسنى، حصل من السلطان على تصريح بمُصادَرة كل سفن الأسطول الفرنسي التي تبين أنها موجودة في الموانئ التركية. وقد بدأت مطاردة السفن الفرنسية في جميع السواحل حتى في الجزائر نفسها، كما تم الاستيلاء على عدد من السفن الفرنسية في الإسكندرية وبيعت البضائع المصادرة لتذهب الأموال المحصلة لسداد الديون. حدث ذلك في عام ١٥٦٩م، وعندها احتجَّ البلاط الفرنسي، ولكن غضبه لم يُؤدِّ إلى أية نتائج، الأمر الذي أسفر عن فتور العلاقات بين البلاطين الفرنسي والتركي، وهو ما زاد من كراهية الفرنسيِّين تجاه يوسف.

لقد تمَّ تكليف السفير الفرنسي لدى البلاط العثماني، دي جرانشان، على نحوٍ سرِّي، للعمل على التشهير بهذا اليهودي وإقصائه عن البلاط، وكما كان يحدث للأسف في أغلب الأحوال؛ فقد فوَّض الفرنسيون يهوديًّا للتعامل مع يهودي، وهو واحد من اليهود الذين كان يوسف يشملهم برعايته، وكان يعمل طبيبًا في البلاط العثماني في خدمة صاحب المقام الكبير. كان حكيم باشي، ويُدعى دافيد أو داود، وقد شارك، بتفويض من يوسف، في عملية احتجاز السفن الفرنسية في الإسكندرية، لكن داود أحسَّ أنه قد غرر به (جرى تجاوزه)، وعندئذ ساءت العلاقة بينهما. وما لبث السفير الفرنسي أن استغلَّ هذا الأمر لصالحه؛ فوعد داود بمبلغ مالي ضخم مقابل تخليه عن ولي نعمته، إلى جانب تعيين داود في وظيفة مترجم في السفارة الفرنسية مقابل راتب سنوي ضخم. استغلَّ داود الفرصة ليتخلص من ناسي، وفي سَورة غضب أذاع ضده عددًا من التُّهم الملفَّقة، وبعدها قطع ﻟ «دي جرانشان» وعدًا بأن يُقدِّم له ما يثبت أن الديون التي طالب ناسي الحكومة الفرنسية بسدادها تُعدُّ تزييفًا، وأن يوسف خدع كلًّا من السلطان سليمان الأول والسلطان سليمان الثاني، ناهيك عن أنه كان يمارس الجاسوسية لصالح أعدائهما. اعتزم داود أن يبلغ الفرنسيين معلومات تفيد أن يوسف ناسي كان يقوم بصفة مُستمرَّة بإبلاغ البابا وملك إسبانيا ودوق فلورنسا وجمهورية جنوة بكل ما يجري داخل البلاط العثماني.

وبناءً على الخطط التي وضعها داود، قام دي جرانشان على الفور بإرسال رسالتَين مُشفرتين، إحداهما إلى الملك والأخرى إلى الملكة كاترينا ميديتشي التي ترمَّلت، تتضمنان تأكيدات بسرعة القضاء على ناسي الكريه، وخاصة مع وجود عدو جبار ليوسف في البلاط هو الصدر الأعظم محمد صوكولو.

حاول دي جرانشان أن يحافظ على سرية خيوط المؤامرة، إلى أن يتمكن داود من جمع المستندات الضرورية. على أنه، وعلى الرغم من اتخاذ جميع الاحتياطات، فقد علم يوسف ناسي بالمؤامرة، واستطاع أن يسبق أعداءه. نجح ناسي في إقناع السلطان بأنَّ الفرنسيين يُدبِّرون مكائد جديدة ضد الدولة العثمانية وضد السلطان نفسه، ونجح في استصدار فرمان ينصُّ على نفي الطبيب داود مدى الحياة إلى جزيرة رودس؛ حيث يُنفى المجرمون الأتراك. وقد قرَّرت الجاليات اليهودية في إسطنبول التبرؤ من داود واثنين من مُساعديه، وانضمَّ إلى هذا الإجراء الحاخامات وغيرهم من كبار يهود الجالية في الإمبراطورية العثمانية.١٠

لم تُغيِّر هذه الأحداث على الإطلاق من مشاعر يوسف تجاه فرنسا، الأمر الذي كانت له نتائجه المناسبة. على أيِّ حال، فمن البديهي أن الحكومة الفرنسية قد وصلت إلى استنتاجاتٍ ما تخصها.

لا يُمكننا، إذا ما عدنا إلى تاريخ يوسف ناسي، إلا أن نطرح سؤالًا عما إذا كان من الممكن أن يكون الرجل متورطًا في واقع الأمر في واحد من الاتهامات التي حاول داود أن يُلصقها به. هيهات أن يكون الأمر كذلك. لقد ظل يوسف زمنًا طويلًا للغاية يشغل مكانة بارزة في البلاط على امتداد عهود ثلاثة سلاطين، ولو أنه كان قد مارس عملًا كالجاسوسية لاكتُشف ولو بفضل أعداء آخرين، لكن ذلك لم يحدث، وإنه لمن المستبعد أن يكون لناسي أثر كبير في تحديد السياسة الخارجية للسلاطين، كما يُؤكد ذلك عدد من المؤرِّخين اليهود. لقد أنزلت الغزوات التركية للبَلقان في القرنين الرابع عشر والخامس عشر خسائر فادحة بالدول الأوروبية. إن التقدم الكاسح للأتراك قد هدد أوروبا بأكملها، ولذلك فقد قامت أساطيل كل من فرنسا وإسبانيا وغيرهما من الدول بدعم البندقية في حروبها مع الإمبراطورية العثمانية. لم يكن ليوسف ناسي ولا لطموحاته دور كبير في ظل منطق التوسع العثماني. بداهة فقد قدَّر العثمانيون له معلوماته عن القضايا الأوروبية، التي لم تكن مطلقًا محلَّ شك، وشكروا له قدرته على إدارة الأمور المالية. ومن البديهي أيضًا أن عمله الطويل في البلاط كان مُتوقفًا على التزامه بالعمل في حدود الأطر التي رسمت له. وهناك معلومات تفيد أن يوسف ناسي كان يعتزم إعادة إعمار طبرية باعتبارها مركزًا يهوديًّا رغم المقاومة الشَّرِسة من جانب المسلمين والمسيحيين المحليين. وتمت إحاطة المدينة بأسوار عام ١٥٦٤م.

غير معروف ما إذا كان يوسف ناسي قد عزم على إقامة منطقة حكم ذاتي ذات طابع ديني قومي في فلسطين، أم أنه أراد أن يجعل منها ملجأً للمَنفيِّين الإسبان. لقد أصبحت طبرية، بعد إعمارها، بناءً على مُبادرة من ناسي، مركزًا لإنتاج المنسوجات الحريرية والصوفية، وتحوَّلت إلى مدينة مزدهرة جاذبة لليهود من مختلف الأماكن، كما توفَّرت فيها الظروف الملائمة لدراسة التوراة. على أنه، وكما ذكرنا من قبل، كان كل شيء في الدول الآسيوية يَرتبط ارتباطًا وثيقًا بالعلاقات الشخصية لزعماء الجاليات بالسُّلطة العليا. وقد جاءت وفاة السلطان سليم الثاني، راعي يوسف ناسي، لتضع نهاية لنفوذه ونشاطه الكبير في طبرية.

بالرغم من أن سولومون أشكينازي (شلومو بن يائيش)، الذي وصَل إلى منزلة رفيعة في بلاط مراد الثالث، قد استأجَر طبرية من السلطان ليُواصل ابنه يعقوب تعميرها، إلا أنَّ الفكرة الأساسية التي طرحها ناسي لم تتحقَّق فيما بعد لأسباب عديدة.١١

باءت كل المحاولات التي بُذلت لإسقاط اليهودي صاحب النفوذ بالفشل. ومن المعروف أن أحد أمناء الخزانة السلطانية حاول أن يُقنع مرادًا الثالث مرارًا بأن يَنزع من يوسف ولو ضريبة الخمور. على أن السلطان سليم الثاني، الذي وافته المنية في هذا الوقت، كان قد ترك في وصيته أمرًا بعدم المساس بجميع موارد يوسف ما دام على قيد الحياة، وجاء خليفة سليم الثاني، ببُخله وجشعه، ليُقرِّر ألا يخالف إرادة والده. وقد جرت المحاولة الثانية للعدوان على يوسف بعد وفاته في الثاني من أغسطس عام ١٥٧٩ ميلادية، عندما اعتزم المشاركون في جرد ممتلكات يوسف، وهم محمد أوتشكي زاده كبير الدفتردار، ومُحيي أفندي (من ألبانيا) دفتردار الأناضول، وأرناءوط سنان أفندي دفتردار من الطبقة الثانية، اعتزموا جميعًا استغلال الوضع والخروج بشيء ما، فسرقوا خاتمًا ذهبيًّا ثمينًا وعددًا من الحليِّ القيِّمة. على أنَّ السرقة اكتُشفت، فتم القبض عليهم وتفتيش منازلهم وإعفاؤهم من الخدمة وصودرت أملاكهم.

استردت زوجة يوسف — راينا ناسي — بعد ترمُّلها، صداقها البالغ تسعين ألف دوكاتية بشقِّ الأنفس، وسعت لطبع التلمود، ولكن مساعيها فشلت.

بعد وفاة يوسف ناسي ازداد نفوذ سولومون أشكينازي، وبعد عدة رحلات طويلة قام بها، استطاع أن يُكوِّن ثروة طائلة، بعدها عمل بالسياسة والتحقَ بخدمة الحاكم العثماني بوصفه مستشارًا له، بعد أن نظَّم شبكة لإدارة المعلومات الضرورية له. كان عملاؤه يُبلغونه بكل شيء يدور في الدول الأوروبية، وقد مهَّد سولومون أشكينازي بنفسه التُّربة لعقد تحالف إنجليزي تركي ضد ملك إسبانيا فيليب الثاني عدو إنجلترا، الذي حاول بدوره تشكيل اتحاد مضاد. وهناك معلومات تفيد أن الملكة إليزابيث الأولى ملكة إنجلترا (١٥٥٨–١٦٠٣م) كتبَت خطابًا للسلطان مراد الثالث أوصَت فيه باستخدام سولومون بوصفه رجلًا ماهرًا وأهلًا للثقة ويجب حمايته من الأعداء.١٢

كان الحديث يدور عن سولومون في التقارير السرية والرسائل العاجلة لسفارات البندقية في القرن السادس عشر، وكانت هذه التقارير والرسائل تُطلق عليه في مراسلاتها أحيانًا اسم الحاخام ناتان. كان سولومون أشكينازي (وهو من اليهود الألمان) يتمتَّع بنفوذ كبير في بلاط السلطان سليم الثاني. وقد كتب السفير تيوبولو، سفير البندقية، يقول: «لقد سيطرَ الطبيب على عقل الصدر الأعظم محمد صوكولو، وهو مطَّلع على كل أسرار الديوان.»

كان أشكينازي قد نال أيضًا شهرة واسعة بوصفة طبيبًا ناجحًا في ديوان ملك بولندا، بعد أن أصبح كبير أطبائه (حكيم باشي). وبعد أن انتقل ليُقيم في إسطنبول بوصفه مواطنًا من جمهورية البندقية، ظل إلى حين تحت حمايتها؛ إذ إن السلطان سليم الأول قدَّم في عام ١٤٥٤م للبندقية التسهيلات التجارية الضرورية للمواطنين غير المسلمين في دولة مُسلمة، وقد عرفت هذه التسهيلات بالامتيازات، وتمثَّلت في منح الحصانة للمواطنين الأجانب، وكذلك حق الإقامة داخل الحدود العثمانية، فضلًا عن حصانتهم هم وممتلكاتهم وعدم خضوعهم للمحاكم المحلية (القضاء القنصلي) ومنحهم التسهيلات الضريبية والجمركية.

من المعروف أن سولومون أشكينازي كان عليمًا بالتلمود، لكنه نال شهرة واسعة لكفاءته في إدارة المفاوضات الدبلوماسية شديدة الحساسية، وفي حل أصعب المشاكل، وفي أعمال الوساطة والتصالح والتسويات. كان الأتراك يُقدرونه تقديرًا كبيرًا وكذلك عملاء البندقية: براجادين وسورانزو وباربارو، الذين تولوا العمل تباعًا في إسطنبول. وفي أثناء الحرب التي دارت رحاها بين الإمبراطورية العثمانية والحلف المقدس (إسبانيا، البندقية، جنوة، مالطة) عندما نجح الأتراك في الاستيلاء على قبرص من البندقية، خاطر سولومون بحياته سرًّا ليقدم خدماته لباربارو. وهؤلاء استطاعوا على أفضل نحو أن يُوصوا به لدى الصدر الأعظم محمد صوكولو باشا باعتباره طبيبًا ودبلوماسيًّا أيضًا. لم يَخذل أشكينازي راعيه الجديد العظيم، على الرغم من أن مهمته بدت عويصة: أن يخدم طرفين متصارعين. وعندما أرسله الصدر الأعظم إلى مقر إقامة السلطان في أدرنة، حامت الشكوك حوله، برغم الحجَّة المناسبة التي استخدمها، واتُّهم بالتجسُّس وتعرض للاستجواب، لكنه استطاع بصعوبة بالغة أن يتخلَّص من هذا الموقف الخطير.

تصاعدت الأحداث فيما بعد على نحو مختلف، حتى إن الباب العالي فوَّض سولومون أشكينازي في عقد اتفاقية سلام مع البندقية كان قد قام على إعدادها منذ زمن بعيد. وقد أُرسل أشكينازي إلى البندقية بوصفه ممثلًا تُركيًّا رسميًّا. لقد أدهش وصول هذا اليهودي، باعتباره سفيرًا لدولة عُظمى، العالم المسيحي، الذي اعتاد على طرد وإهانة ونهب اليهود وإبادتهم بشكل جماعي. وفي مجلس الشيوخ في البندقية حميَ وطيس النقاش دون طائل حول مسألة قبول هذا السفير أو رفضه، الأمر الذي لم تكن الحكومة راغبة في التصالح بشأنه.

وفي عام ١٥٧٣م، وبموجب القرار المؤرخ الرابع عشر من ديسمبر عام ١٥٧١م، استعدَّت البندقية لطرد اليهود. وفي هذا الوقت وصل من إسطنبول سورانزو، الذي كان يقوم هناك بمهام البايلو.١٣ كانت حججُه تقوم على أن اليهود المطرودين من البندقية سيجدون حتمًا مأوًى لهم في تركيا؛ حيث سيعملون في نفس الوظائف التي عمل بها أبناء عقيدتهم السابقون، الذين أُخرجوا من إسبانيا والبرتغال.
وهؤلاء كانوا يصنعون المدافع والذخائر للجيش التركي. وعلى الرغم من أن الأسطول التركي كان قد هُزم في أكتوبر عام ١٥٧١م على يد القوات البحرية الإسبانية–البندقية عند ليبانتو، فقد ظل الجيش التركي واحدًا من أقوى الجيوش في العالم. يتلخَّص جوهر حجج سورانزو الذي عُرض في مجلس العشرة فيما يلي: «إن قراركم بطرد اليهود أمر سوف يُؤدِّي بالبندقية إلى نتائج وخيمة. فكروا، كم سيكلف هذا البندقية. من الذي أعطى الأتراك هذه القوة؟ ومِن أين لهم بمثل هؤلاء الحرفيِّين المهرة في صناعة المدافع والقنابل والسيوف والسهام والدروع الكبير منها والصغير، وأن تحظى بقوة تُضاهي قوة الشعوب الأخرى؟ مَن الذي أعطاهم كل ذلك إن لم يكونوا هم اليهود الذين طهَّر الملوك الإسبان بلادهم منهم؟»١٤
وردَت نفس هذه المعلومات في وصف لإسطنبول في مُنتصَف القرن السادس عشر، تركه أحد الرحَّالة الفرنسيين: «لقد علَّموا الأتراك (المارانو-إ.ف) الأسلوب الفعَّال للتجارة، ونقلوا لهم الخبرات التي نستخدمها في الإنتاج الآلي.»١٥

لقد بدا المَوقف شديد الحساسية، ومع ذلك فقد كان هناك اعتباران مالا بالقضية لصالح سولومون؛ الأول: قرار المسئولين في البندقية ألَّا يُغضبوا الصدر الأعظم برفضهم استقبال سفيره. الثاني: استطاع القنصل مارك أنطوني باربارو بعد عودته من إسطنبول أن يقنع مجلس الشيوخ أنَّ الحاخام سولومون أشكينازي مفيد لجمهورية البندقية، وفي نهاية الأمر اضطر الدوق والشيوخ، الذين وافقوا على قبول السفير أن يُقيموا له جميع المراسم والاحتفالات الرسمية التي كان البلاط العثماني شديد الحساسية تجاهها. آنذاك وفي عام ١٥٧٣م، وقَّع الطرفان معاهدة السلام. وقد تمَّ تكليف سولومون أيضًا بعقد تحالف دفاعي وهجومي ضد إسبانيا، لكنَّ جهوده في هذا المجال لم تكلل بالنجاح.

خلَّفت بعثة سولومون أشكينازي نتائج طيبة وباهرة لأبناء عقيدته في البندقية؛ فقد استطاع أن يُلغي القرار الذي تم اتخاذه بطرد اليهود من المدينة، وقد ساعده في هذا المبعوث البندقي في إسطنبول جاكومو سورانزو؛ فقد نبَّه مواطنيه أن من العبث الاعتماد على البابا أو على إسبانيا، ولهذا فإنَّ من الحكمة دعم العلاقات الطيبة مع الباب العالي، وألَّا يُثيروا غضب اليهود الأتراك، الذين لديهم وسائل للنفاذ إلى السلطة. بدَت هذه الحُجج التي قدمها سورانزو دامغة عند الدوق (Doge) ومجلس العَشرة. أما الفرمان الخاص بطرد اليهود فقد تمَّ سحبه وإبلاغ سولومون بأن اليهود لن يتعرَّضوا لاحقًا إطلاقًا للتهديد بالطرد. عاد سولومون إلى إسطنبول، بعد أن تسلَّم هدية مقدارها عشرة جنيهات ذهبية. ومن ثم فقد دعم ذلك مركزه أكثر فأكثر، وأصبح ناتان الذي تربى في فينيسيا يتمتَّع بحماية الدوق.

الآن جاء الوقت الذي يعمل فيه الملوك الأوربيون الكارهون لليهود الأتراك ألف حساب لهم، واضطرَّ الملك المتطرف فيليب الثاني، الذي دأب على قمع اليهود والمجدفين كلما استطاع، اضطر في مفاوضاته مع الباب العالي إلى عقد الهدنة إلى أن يُوافق على وساطة اليهودي.

فُوِّض سولومون أشكينازي بإجراء المفاوضات المحفوفة بالمصاعب الخاصة بالسلام مع إسبانيا، والتي استمرت من عام ١٥٧٨م وحتى عام ١٥٨٦م. كانت هذه المفاوضات تتوقف تارة لتعود لنشاطها تارة أخرى. وقد حاول الإسبان رشوة مفوَّض السلطان مراد الثالث لكي يَحصُلوا على أفضل الشروط. وقد وقع سولومون مع المترجم الأول خُريم اتفاقًا مبدئيًّا للسلام بالشروط التي أملاها الباب العالي.١٦ كوفئ سولومون بسخاء بالغ نظيرَ ما قدمه من خدمات. وقد منحه السلطان واردات جزيرة ميتلين. شرع سولومون في تنظيم عملية الإشراف على جباية الجمارك، وجنى من وراء ذلك أموالًا طائلة.

تسنى لسولومون أيضًا أن يقدم خدمات إلى علية القوم من العثمانيِّين، وعندما اتُّهم الصدر الأعظم فرحات باشا بزعم أنه أثار التمرد في صفوف قوات الجيش. كثيرًا ما كانت التمردات تقع في الجيش العثماني مهدِّدة الصدر الأعظم بالإعدام، حتى اضطر للهرب. وهنا نجح سولومون في استمالة السلطان نحو فرحات باشا بفضل هدية ثمينة قدمها له (عبارة عن خنجر مرصَّع بالجواهر) وأقنعه ببراءته من الوشاية التي لُفِّقت له. وهكذا حصل الوزير المغضوب عليه على نعمتي الحياة والعيش الآمن.

ظل سولومون لسنوات طويلة مستشارًا للعديد من الوزراء، الذين أصابهم التغيير كثيرًا بسبب نزوات الحكام ومؤامرات الحريم. ومع ذلك لم يكن سولومون محسوبًا على الوجهاء من العثمانيين، الأمر الذي كان يتمتَّع به يوسف ناسي بشكل رسمي، كما لم يكن لديه منفذ شخصي إلى السلطان، وإنما كان اتصاله به يتم عبر الوزراء، الذين استخدموه باعتباره وسيطًا وطبيبًا. آنذاك كان لدى العديد من الوزراء يهود يعملون بوصفهم سكرتارية وكتَبة (ومديري أعمال). بهذه الصفة عمل ناتان بن سولومون في بلاط السلطان أحمد الأول (١٦٠٣ – ١٦١٧م).١٧

يُمكن أن يتولَّد لدينا، استنادًا إلى أمثلة أخرى، انطباع عن ازدهار اليهود في الدولة العثمانية، الأمر الذي أورده بعض من المُراقبين اليهود، الذين كانوا على علم بالأمور بصورة شديدة السطحية. في الحقيقة فإنَّ اليهود الذين حقَّقوا قدرًا نسبيًّا من الثروات المادية كان عددهم قليلًا. وإلى جانب صفوة الجالية الثرية عاش أناس كان وضعهم المادي لا يختلف تقريبًا عن وضع الأغلبية الساحقة الفقيرة من المسلمين. كانوا جميعًا يعانون من شظف العيش وصعوبة الحياة. وبطبيعة الحال فإنه وفي ظل الاضطرابات والظروف التي لا يُمكن التنبؤ بها للتشتت، فقد كان للتماسك وتبادل المساعدة أهمية كبرى في ضمان بقاء الناس على قيد الحياة.

تشير بعض المصادر إلى دفاع أصحاب العقيدة الواحدة من ذوي النفوذ في إسطنبول عن مدينة صفد.

في عام ١٥١٦م غزا الأتراك منطقة الشرق الأوسط. آنذاك كانت جالية يهودية كبيرة تتمتَّع بالثراء تعيش في صفد. وهؤلاء بلغ عددهم في مُنتصَف القرن السادس عشر عشرة آلاف نسمة. وفي عام ١٥٧١م، استولى الأتراك على قبرص من البنادقة، وكعادتهم قاموا بترحيل الجزء الأكبر من السكان الأصليين وإحلال سكان جدد قسرًا من أجزاء أخرى من الإمبراطورية. هكذا كان من الأسهل إدارة المناطق التي تم ضمها حديثًا، دون خوف من قيام انتفاضات في الأراضي التي تم غزوها. وبالإضافة إلى ذلك، لم ينسَ الأتراك الموارد التي تُدرُّها هذه البلاد. ولكي يُعيدوا التجارة التي كانت مُزدهرة من قبل في هذه الجزيرة، قرَّر الأتراك نقل اليهود من صفد إلى قبرص، بدلًا من البنادقة الذين جرى طردهم. وقد أصدر السلطان أمرًا بنقل المسلمين والأرمن أيضًا إلى هناك بهدف خلق توازن سكاني فيها.

تحتفظ الأراشيف في هذا المجال بأوامر مكتوبة مؤرَّخة ١٥٧٦-١٥٧٧م. وهناك فرمان سلطاني مؤرخ الخامس عشر من رجب عام ٩٨٤ هجرية (٨ أكتوبر ١٥٧٦ ميلادية) موجَّه إلى سنجق بك (رئيس وحدة السنجاقية) وقاضي صفد يقضي بجمع ألف من يهود المدينة وضواحيها الأغنياء وإرسالهم مع عائلاتهم وأموالهم إلى ميناء فاما جوستا القبرصي، كما يقضي بإرسال اليهود الأغنياء تحديدًا ضمانًا لازدهار الجزيرة. وتحتوي هذه الوثيقة على وعيد عنيف لسلطات صفد لضبط النفس أمام أي إغراء أو رغبة في الاستيلاء على أي ربح يعود عليها، بأن يأخذوا رشوة من الأغنياء اليهود ويضعوا الفقراء مكانهم. تُوفي السلطان سليم الثاني في عام ١٥٧٤م، ونتيجة لذلك فقد يوسف ناسي نفوذه السابق كما ذكرنا من قبل.

بعد مرور بعض الوقت، وفي عام ١٥٧٧م، وللهدف نفسه، تم إرسال أمرين آخرين، يتعلقان بتوفير الحراسة للمنقولين بالدرجة الأولى. وفي العام نفسه كتب الشاعر اليهودي من دمشق إسرائيل نجارا إلى الحاخام الأكبر لإسطنبول شكوى مما يحدث في صفد. وقد ذكر الشاعر أن كثيرًا من سكان المدينة اضطرُّوا للفرار إلى دمشق تجنُّبًا للتهجير القسري.

لا يضم هذا المصدر أية معلومات عن وصول يهود إلى قبرص قادمين من صفد.١٨ ربما يكون شركاؤهم في العقيدة في إسطنبول قد تدخلوا بهمة في العملية – وبمساعدة شخص ما من أصحاب النفوذ نجحوا في الالتفاف حول المرسوم السلطاني المرعب.١٩

إنَّ اليهود، الذين حصلوا على ثقة السلطان والصدر الأعظم والسلطانات الأمهات، قد استطاعوا بالفعل تحقيق نفوذ كبير. تذكر المؤلَّفات التاريخية وقائع تفيد أن أتراكًا بعدما فقدوا مناصبهم في البلاط، عادوا من جديد ليحتلوها بعد أن تمكَّنوا من رشوة شخص ما من اليهود من أصحاب النفوذ. لكن هذه المؤلَّفات ذاتها تتضمن وصفًا لا يخلو من الشماتة في اليهود، الذين تعرَّضوا للتنكيل القاسي لجسارتهم وميلهم إلى المخاطرة.

وفي هذا السياق فإننا نجد أن المصادر التركية والغربية تورد أخبارًا عن تاريخ كيرا اليهودية (واسمها إستر في المصادر اليهودية). إنَّ الشهادة التي أنعم بها السلطان عثمان الثاني على أبنائها وأحفادها (١٦١٨–١٦٢٢م)، تمت ترجمتها في نهاية القرن التاسع عشر إلى اللغة الروسية ونَشَرها ف. د. سميرنوف. كانت هذه الشهادة موجودة آنذاك في متحف جمعية أوديسا للتاريخ والآثار. وقد اكتسب تاريخ هذه اللقية في حد ذاته أهمية كبيرة.

وقد توجَّه أعضاء هذه الجمعية إلى سكان روسيا القدامى بطلب إحضار المصادر القديمة المكتوبة لدراستها. وقد استجاب بعض الأعضاء لهذا الطلب وكان من بينهم سيما (سِمحه) بوبوفيتش رئيس جالية اليهود القرائين في يفباتوريا،٢٠ الذي أحضر إلى الجمعية العِلمية مرسومًا سلطانيًّا. لم يستطع سيما بوبوفيتش، الذي وُلد في يفباتوريا، مثله مثل أبيه وجده، أن يجيب عن سؤال ما إذا كان أحد من أسلافه القدامى قد عاش في القسطنطينية، وهو نفسه لم يُغادر تقريبا قريته جان-يافا (وتعني بالعبرية الحديقة الرائعة)، وحتى وفاته في عام ١٨٥٥م ظلَّ رئيسًا للجالية. لم يَحصل بوبوفيتش على أي تعليم (لعله حصل على أيِّ حال على قدر من التعليم الديني)، على أنَّ الطبيعة وهبته عقلًا راجحًا ومقدرة علمية، كما شهد بذلك من عرفوه. وقد حصل على ثقة وعطف الوجيه ذي النفوذ في المنطقة الأمير ميخائيل سيميونوفيتش فورونتسوف في الثلاثينيات من القرن التاسع عشر، وبمُناسبة وصول عائلة القيصر إلى القرم، كان من الضروري ترميم قصر بختشي سراي، وهنا سافر سيما بوبوفيتش بتفويض من الأمير إلى إسطنبول لكي يشتري هناك جميع المستلزمات الضرورية لأعمال الإنشاء. أما أين وعلى أي نحو حصل سيما على المرسوم السلطاني، فقد ظل ذلك أمرًا مبهمًا. ويبدو أنه أحضرها إبان هذه الرحلة تحديدًا، عندما اشترى من هناك أثاثًا شرفيًّا. لعله استطاع أن يجدها (الشهادة) في أسواق الصحَّافين (باعة الكتب المُستعمَلة)، وربما أخذها من إحدى الجاليات اليهودية هناك. آنذاك كان المرسوم السلطاني الذي أصدره عثمان الثاني قد فقد صلاحيته كوثيقة منذ زمن بعيد، ولكنه اكتسب قيمة المرجع التاريخي ١٤. لا يتضح من النص ما إذا كانت اليهودية كيرا على علاقة، على نحو أو آخر، بجالية اليهود القَرَّائين. كان الكثير من الأتراك يَنظرون إلى اليهود جميعهم نظرتهم إلى شيء واحد، على الرغم من أن جالية القَرَّائين كانت تتصرَّف على نحو انعزالي وكانت علاقتها باليهود الآخرين محل شُبهة.

فيما يتعلَّق بحكم السلطان عثمان الثاني، الذي صدرت الشهادة باسمه، فقد استمرَّ ما لا يزيد على ثلاث سنوات ونصف السنة ليتم خلعه بعدها وخنقه.

يُمكننا أن نعرف استنادًا إلى نص الشهادة المؤرَّخة عام ١٦١٨ ميلادية (١٠٢٧ هجرية)، أن اليهودية كيرا قدَّمت خدمات جليلة للسطانة أم سليمان الأول. في عام ١٥٤٨ ميلادية (مُنتصَف شهر رمضان من عام ٩٥٥ هجرية) حصلت اليهودية كيرا، التي ورَد ذكرها في موضوع آخر باسم فاطمة هانم (لا توجد، رغم هذه التسمية، أية معلومات تُشير إلى اعتناقها الإسلام)، حصلت على الشهادة هي وسلالتها (اليهود للمرة الأولى). وقد ورَد فيها أنها معفاة هي وسلالتها من الإتاوات الحكومية والابتزازات المالية، وكذلك من أي شكل من أشكال الاضطهاد والتعسف من جانب السلطات العثمانية أيًّا كانت صورة هذا الاضطهاد والتعسف. وعلى أساس هذه الوثيقة الأصلية أعطيت شهادات اعتماد أخرى إبان حكم السلاطين سليم الثاني ومراد الثالث ومحمد الثالث (١٥٩٥–١٦٠٣م) وأحمد الأول (١٦٠٣–١٦١٧م) حيث إن التسهيلات، كما ذكرنا من قبل، كانت سارية في فترة حكم السلطان الذي أنعم بها فقط.

وفي مرسوم السلطان عثمان الثاني يَرد ذكر تعداد هؤلاء الأشخاص الذين شملتهم الامتيازات: «… اليهودي كورد، وَلَدْ إيليا، حفيد المرحومة فاطمة خاتون (كيرا-إ.ف)، المرأة التي قدمت يومًا ما خدماتها للبلاط العالي، والذي قدَّم لنا أيضًا الخدمات.» إنَّ الامتيازات التي جرى تعدادها في «الفرمان السامي» شملت أيضًا ذرية اليهودي كورد: «… اليهوديان يهودا أجور وأخوه إيليا، وَلَدْ مناحم، بالإضافة إلى شبتاي،٢١ وَلَدْ يهودا أجور، أحضروا إلى عتبتِنا شهادات الاعتماد القديمة والجديدة وسألونا أن نُجدِّدها لهم.» ما الامتيازات التي يُمكن تحديدًا أن تحصل عليها ذرية اليهودية كيرا؟ لقد وردَت جميعها تفصيلًا: «فليتمَّ إعفاؤهم جميعًا هم وزوجاتهم، من ابن لابن، ومن ابنة لابنة، من ضريبة الأنفس، ومن الإتاوة على الأراضي، ومن ضرائب الحدائق ومزارع الكروم والحقول، من نقل الأحمال بالعربات، ومن ضرائب الصيد ومن أعمال بناء الحصون ومن ضرائب الصقور ومن دفع البدلية (التعويض) عن المجنَّدين الجدد٢٢ ومن المساكن الإجبارية، ومن الخدمة لدى النائب (نائب القاضي) والسوباشي (رئيس الشرطة)، ومن الخدمة في الحراسة والخدمة أمام أبواب الدور، ومن رعاية الخيول ومن أعمال الخدمات المعاونة في الجيش ومن ضرائب صرافة الذهب والفضة ومن الضرائب على تجارة الضأن والأبقار ومن جميع الضرائب الحكومية الأخرى.» تأتي بعد ذلك أوامر السلطان الصارمة:

«لن تكون هناك أي حُجَّة من الحجج أو ذريعة من الذرائع لدى أيٍّ من أبنائي الأمجاد أو أحفادي أو أحد من الوزراء والأمراء والقائمين على خزائن المال ومن خدم الباب العالي وغيرهم من الناس في وضع العقبات أو حرمان الناس والتعنت دون سبب أو التطاول أو أن يكونوا سببًا للإزعاج أو إثارة القلاقل أو ما يؤدي إلى اليأس … وإذا ما قام أحد ما مع ذلك بإثارة أمر من هذه الأمور، أو إذا ما رغب في إثارتها، فإنَّ لعنة الله وملائكته والناس أجمعين عليه وعلى ما ارتكبه!»

هذه الأوامر الصارمة التي أوصى بها السلطان لم تكن على الإطلاق نتيجة للأسلوب الرفيع. بل إنَّنا نجد فيما بعد في إحدى العبارات شرحًا مسهبًا: «خلافًا لإرادتكم السامية فإنَّ البعض يقومون بالتطاول ويُمارسون الاضطهاد، ولم يتوقَّفوا عن أن يكونوا سببًا في المصائب والكوارث.» تنتهي الشهادة بتكرار الوصية القديمة: «لا تكونوا سببًا في الكوارث. إن الحكام الحاليِّين لا يسمحون لأحد بالتطاول. لهذا يجب كتابة أسماء وألقاب كل مَن يَمتثِل لهذا الأمر وإرسالها إلى بابنا السعيد.»٢٣
تذكر المصادر اليهودية أنَّ كيرا التي أُنعم عليها بالعطف السلطاني قدمت لأبناء عقيدتها مُساعدات مالية سخية، وخاصة لأولئك الذين أُضيروا منهم من جراء الحرائق المدمرة التي كانت تجتاح إسطنبول بشكل مُتكرِّر. كما ساعدت في إصدار مؤلفات الكُتَّاب اليهود. ورد أيضًا في هذه المصادر أن هذه المرأة التي كان الأتراك يُطلقون عليها اسم كيرا٢٤ كانت تُدعى إستر، وأنها كانت أرملة لشخص يُدعى إيليا كاندالي، وأنها كانت تملك ثروة طائلة قُدِّرت عند مصادرتها (الأمر الذي كان يُعد، كما ذكرنا من قبل، قاعدةً لا استثناء) بمائة ألف دوكاتية.
كتب المؤرِّخون الأتراك عن تأثير كيرا على السلطانة الأم — صفية، التي أحيانًا ما كانت تُذكر باسمها البندقي — بافا، وكثيرًا ما كانوا يُلقِّبوها «ليولكا العظيمة» كنوع من التبجيل. وقد عرض كل من كياتب شلبي في كتابه «فذلكة» سنة ١٦٠٠ ميلادية (١٠٠٨ هجرية)، وسولاك زادي في كتابه «تاريخي»، ونايما في كتابه «تاريخي» تاريخ كيرا في حكايات مشابهة. وقد أورد الأخير تاريخها بتفاصيل كثيرة، معترفًا بتأثير كيرا في البلاط، بينما راح نايما يدينها دون أن يحمل تجاهها أي تعاطف: «بفضل وساطتها لدى النساء الحريم، حصلت كيرا على وظائف مرموقة (للراغبين)، وفتحت الطريق أمام الرشاوى وأفسدت سكان البلاط الداخلي وأربكت الدولة.» وبعد كتابَي كياتب شلبي وسولاك زادي يعود نايما مرة أخرى ليُكرِّر قصة مقتل كيرا: «تجمع زحام من السباهية٢٥ طالبوا بإعدام اليهودية كيرا، مُتَّهمين إياها بالتدخل في التعيينات في الوظائف. وعندما رفعوا هذا الطلب إلى القائمقام٢٦ خليل باشا شعر بالخوف، على أنه أرسل كبير الشاويشية٢٧ كازنجي زادي إلى عمر أغا بعد أن قال له: «أحضر المذكورة كيرا وسوف نُحقِّق في الأمر.» بعد أن اقتحم الشاويش عمر أغا منزل كيرا، أمسك بصاحبة البيت وأبنائها واقتادهم إلى مقر الخليل باشا. وفي أثناء صعودهم الدَّرَج إذا بجماعة السباهية تنقضُّ عليهم فجأةً بالخناجر وتَقتُل المرأة وأبناءها. شعرت السلطانة الأم بالحسرة الشديدة ونجحت في إحالة القائمقام إلى التقاعد.» ووفقًا لتصريح كياتب شلبي فقد حل محلَّه واحد من وزراء حافظ باشا. ويضيف نايما قائلًا إن المشاركين في القتل ذكروا اسم المفتي الأكبر (شيخ الإسلام)، الذي حرَّض هذا الحشد من السباهية سرًّا. وبناءً على رواية نايما؛ فإن أحد أبناء كيرا قد نجا من الموت وأنه اعتنق الإسلام واتخذ لنفسه اسم أكساك مصطفى تشاوش، وأنه مات في عهد السلطان إبراهيم الأول (١٦٤٠–١٦٤٨م).٢٨

وكما ذكرنا آنفًا فقد تمَّ إحصاء ثروة كيرا ومصادرتها لصالح الخزانة، أما أحفادُها فقد اضطرُّوا مرات عديدة لتقديم التماسات من أجل إعادة الامتيازات التي كانت السلطانة قد وهبتها لجدتهم ولجدة جدتهم من قبل. كان كلُّ مَن كانت له هذه أو تلك من الحقوق أو الامتيازات أو الوظائف مُضطرًّا لأن يفعل ذلك عند ارتقاء سلطانٍ جديد لسدَّة الحكم. كان اعتماد شهادات الامتيازات أو الحصول على المناصب عملًا يُدرُّ عائدًا ماديًّا كبيرًا على الباب العالي؛ حيث إن تجديد الشهادات يستند إلى إدخال مبالغ ضخمة في أغلب الأحوال. كان هناك مبلغ محدَّد يُطلب دَفعُه لاعتماد الشهادات من أجل الحصول على منصب الحاخام أو الأسقف أو أيِّ منصب ديني آخر.

قرَّر أحفاد كيرا أن يَطلُبوا تجديد الشهادة أيضًا؛ لأن رعاتهم الكبار كانوا ما يزالون أحياءً في البلاط، وعلى رأسهم بالطبع السلطانة العجوز من البندقية، بافا، التي كانت فيما مضى تَستخدم كيرا وسيطًا في علاقاتها السرية مع العملاء الأوروبيين. توفيت بافا في ١٦١٩م، أما الشهادة التي مُنحت لأحفاد كيرا فكانت موقعة بتاريخ ١٦١٨م؛ ومن ثم فقد كان ما يزال باستطاعتها أن تقدم لهم المساعدة.

هناك أيضًا بعض المصادر الأوروبية التي تُؤكد على علاقة الثقة من جانب السلطانة نحو كيرا؛ ففي عام ١٥٨٧م أرسلت كاترينا ميديتشي، والدة الملك هنري الثالث (١٥٧٤–١٥٨٩م) ملك فرنسا، أرسلت إلى بافا، وكانت آنذاك الزوجة الأولى للسلطان، خطابًا خاصًّا بخطِّ اليد هو التماسٌ منها من أجل قائد جيش فالاخيا، الذي تسلَّم هذا المنصب بدعم السفير الفرنسي. الخطاب مكتوب باللغة الإيطالية وملحق به ترجمة تركية. وقد أعطت الخطاب لقنصل البندقية لدى إسطنبول ليطَّلع عليه. وتمَّ تسليم الخطاب بوساطة من كيرا، التي تُسمى في المصادر الإيطالية La Chirazza (اليهودية كيراتسا من كيرا).

على أنه جدير بالملاحَظة أنَّ المصادر لا تتَّفق مع بعضها البعض في كل شيء عند إلقائها الضوء على الأحداث المذكورة. وهنا يُطرح سؤال على درجة كبيرة من الأهمية حول ما إذا كان الحديث يدور في جميع هذه المصادر حول الشخص نفسِه. يُمكن أن نبدأ ولو بسنِّ كيرا، منذ تلك الفترة التي حصلت فيها للمرة الأولى على الامتيازات في عهد السلطان سليم الأول القانوني في سنة ١٥٤٨ ميلادية (٩٥٥ هجرية)، بينما تُشير سنة وفاتها إلى ١٦٠٠ ميلادية (١٠٠٨ هجرية). مرَّت اثنتان وخمسون سنة، ومن ثمَّ فإن هذه المرأة، بداهة، كانت طاعنة في السن. عندئذ يُمكن أن نَفترض أن نشاطها في البلاط يدلُّ على أنها كانت في ذروة شبابها، إن لم تكن في مُقتبَل العمر.

في الشهادة الأخيرة التي أصدرها السلطان عثمان الثاني ورَد اسمها تارة كيرا وتارة فاطمة خاتون، وهو ما يعني أنها حصلت على الامتيازات قبل اعتناقها للإسلام، إذا كان هذا قد حدث فعلًا. على أنَّ عددًا من المصادر لا يَحتوي على مجرَّد إشارة إلى اعتناقها للإسلام، مع غياب اسم فاطمة، فضلًا عن ذلك فإنَّ أحفادها في شهادة عثمان الثاني يحملون جميعًا أسماءً يهودية.

هناك أيضًا خلاف بين المصادر اليهودية وشهادة السلطان؛ فالأولى تُشير إلى أنَّ كيرا (إستر) كانت أرملة إيليا كاندالي، بينما ورد اسمه في شهادة أبنائها إيليا بن موسى وياساف بن موسى. ربما يكون هناك خطأ قد وقع في الأسماء نتيجة سهو من جانب ديوان السلطان. لا تُوجد إجابات عن كل الأسئلة. وعلى أيِّ حال عند مقارنة مختلف المصادر نجد هناك أمرًا واحدًا مؤكدًا: أنَّ المرأة التي تكرر ذكرها على صفحاتها كانت شخصية واقعية، أما مصيرها فيبدو أنه كان مصيرًا مأساويًّا.

امتدَّت المنافسة الشرسة بين اليهود والإثنيات المسيحية (اليونانيُّون والأرمن) بضعة قرون من أجل الاستيلاء على مجال التجارة والمال. كان صراعًا حتى الموت من أجل الحياة. في القرن التاسع عشر في عهد السلطان الإصلاحي محمد الثاني (١٨٠٨–١٨٣٨م) تصارعت على النفوذ المالي في البلاط مع الأرمن أكثر ثلاث عائلات يهودية ثراءً: جاباي وأجيمان وكارمونا. وقد انتهَت حياة رؤساء هذه العائلات نهاية مؤسفة.

عاش يخزيكل جاباي، رجل الأعمال القادم من بغداد في عهد محمد الثاني. استقر في إسطنبول وحصل على حصانة خالد أفندي المقرب من السلطان. أصبح جاباي هو المسئول عن خزانة البلاط (صرَّاف باشا). وقد أدَّت المنافسة بينه وبين رجال المال والأعمال الأرمن في المرحلة الأولى إلى نفْي الأرمن كزاز أريتون (كازا أرتين في الوثائق الروسية)، وكان يَشغل منصبًا رفيعًا بوصفه مديرًا لدار سك العملة. وسرعان ما فقد خالد أفندي الحظوة، وهو ما كان يحدث كثيرًا، عندئذ عاد كازا أرتين من المنفى، واستطاع بواسطة مؤامرات البلاط المعتادة أن يَنفي جاباي، الذي سرعان ما وافته المنية والأرجح أنه قُتل. وبعد مذبحة الإنكشارية في عام ١٨٢٨م تم خنق إيساي أجيمان بأمرٍ سامٍ.

فيما بعد حكم كازا أرتين بالموت على شلبي بيخور كارمونا، ملتزم البلاط الملقَّب بسابتشي باشا (المُورِّد الرئيسي لحجر الشب).٢٩
وقد صاحب الإعدام مصادرة أملاك القتلى. في الثلث الأول من القرن العشرين، كما في مُنتصَف القرن، لم يكن هناك قانون يَضمن الملكية الخاصة من المصادر التعسُّفية والنهب السافر. كان أصحاب الأملاك يلتزمون الصمت إزاء حجم أملاكهم الحقيقية خوفًا من الابتزاز والتعرُّض لجميع أنواع البلطجة والمصادرة. كل ذلك كان مشهدًا عاديًّا من الحياة العثمانية، وكان أيُّ قدر من التراجع عن هذه الممارسات كفيلًا بإثارة التعجُّب ناهيك عن الدهشة. عن هذا المشهد تحديدًا والذي يتعلَّق بموت المذكور كازا أرتين، أبلغ السفير الروسي لدى إسطنبول ر. ريكمان القنصل ك. ف. نيسيليرودي: «مات مدير دار سك العملة الأرميني كازا أرتين بعد أن ترك ثروة طائلة. كان المدير يتمتَّع بثقة كبيرة من جانب السلطان، وخوفًا من أن تئول تركته، كما يحدث عادةً، إلى خزانة الدولة على حساب ورثته المباشرين، نجح في أن يُرسل إلى محمد الثاني قبل فترة قصيرة من موته قائمة بأملاكه. وجزاءً على ثقة المرحوم ودوافعه النبيلة، قرر السلطان أن يعطي نصف تركة كازا أرتين لأقاربه. هذا التصرُّف نال تقديرًا رفيعًا من المحيطين باعتباره نموذجًا للنُّبل والكرم اللذين يتمتع بهما السلطان.»٣٠ ظلَّ السلطان، كما كان الأمر في العصور الوسطى، هو من بيده حياة الرعايا وأملاكهم، بيد أنه كثيرًا ما كان هو نفسه على الرغم من كل شيء، ضحية للمُؤامرات.

في القرن التاسع عشر حقَّقت الإمبراطورية العثمانية عددًا من الإصلاحات استهدفت تحديث المؤسَّسات السياسية والاجتماعية والاقتصادية. كان الإصلاحيون يأمُلون بهذه الطريقة في تلافي الانهيار المنتظَر للدولة. لكن بؤر الإنتاج الرأسمالي التي دخلت إلى البِنية الآسيوية التقليدية على يد رأس المال الأجنبي أو القومي (المحلي)، ظلَّت لمدة طويلة للنظام كله عوامل عزل غريبة، وابتلعت هذه البؤر فائض إنتاج البِنية المحلية غير الرأسمالية، على أنها لم تُؤثِّر عليها بشكل إصلاحي. الأمر الرئيسي أنه لم تكن هناك معايير قانونية، أو أفراد مُستعدُّون ومؤهلون للعمل في ظروف اقتصادية مختلفة تمامًا. كانت البنى الإسلامية المحلية ترفض الأشكال الأجنبية للنشاط الاقتصادي. وهذه الخبرة، بعد مرور العديد من العقود، عندما كانت الظروف أكثر ملاءمة في ظل الجمهورية التركية، كانت ما تزال تتأقَلم بصعوبة بالغة مع الظروف المحلية، وكذلك مع المؤسسات السياسية المستعارة من أوروبا. لم يستطع اليهود، بالرغم من كل نشاطهم الاقتصادي، أن يُصبحوا بأي شكل من الأشكال أصحاب المبادرة أو شركاء فاعلين في هذه العمليات. نظام الدولة لم يسمح لهم بذلك.

قَدَّم الصدر الأعظم للسلطان محمد الثاني، وهو مصطفى باشا بيراقدار (حامل اللواء)، الذي جاء به إلى العرش، قَدَّم مبادرة للإصلاح المالي والنظام العسكري من أجل وقف انهيار الدولة وسقوطها. كان اليهودي ديلي تشليبون يعمل آنذاك لدى السلطان بوصفه مستشارًا ماليًّا. كان أيضًا صاحب بنك الأغا الإنكشاري، وكانت هذه الإصلاحات يمكن أن تمس بالدرجة الأولى هذه المؤسسة الضخمة التي تُقاوم جميع هذه المحاولات. ولهذا فعندما تلقى تشليبون أمرًا بمناقشة مشروع الإصلاحات وأن يدلي برأيه، أعطى ردًّا مراوغًا. هنا أمر البيراقدار الغاضب من هذا التأدُّب المُخاتل، الذي هو رفضٌ للإصلاحات في الحقيقة، أمر بشَنق تشليبون في فناء بيت المفتي الأكبر (شيخ الإسلام). وبعد ذلك، وبناءً على أمر السلطان، تمَّ إلغاء فرقة الإنكشارية وجرى ذبح الآلاف منهم.

لم تكن هذه المرة الأولى التي يجد فيها المستشار اليهودي نفسه بين المطرقة والسندان، فإذا ما قبل اقتراح الصدر الأعظم قتله الإنكشاريون. لم يكن باستطاعة اليهود، ولم يكونوا يريدون، تحمل مسئولية الإصلاحات الاقتصادية أيًّا كانت. في جميع الأحوال كانت جماعة ما من الجماعات الحاكمة ستُوجِّه لهم حتمًا الاتهامات.

وبالمناسبة فإن محمدًا الثاني نفسه سمح لليهود بعبور البوسفور بالقوارب (كاسيكا) ذات أربعة الأزواج من المجاديف، الأمر الذي اعتبره هو نفسه ليبرالية خيالية. قبل ذلك كانت الرعية (غير المسلمين في الإمبراطورية) والإفرنج (الأوروبيون)، وفقًا لقانون الرفاهية، باستطاعتهم استخدام ما لا يزيد على ثلاثة أزواج من المجاديف، ومنذ العهد الذي حكم فيه هذا السلطان، بدأ نفاذ المعايير الأوروبية في الدولة العثمانية شيئًا فشيئًا.٣١

عشية الانهيار التام للإمبراطورية العثمانية، عندما أصبحت سنوات وجود السلطان التركي معدودة، وأصبحت الأقلية الإثنودينية التي كانت تعيش على أراضيها مَوضعًا للشبهة، ظلَّ الجزء الأكبر من اليهود العثمانيين على ولائهم للسلطة العليا. وكما كان الأمر في الماضي، ظلَّ السلاطين يُولون ثقتهم للأطباء اليهود للعناية بصحتهم وحياتهم.

في عام ١٩١٥م، إبان الحرب العالمية الأولى، مرض السلطان محمد رشاد الخامس مرضًا عضالًا، فقد اكتشف الأطباء أن لديه ورمًا في المثانة، وأصبح إجراء جراحة له أمرًا لا مفر منه. عندئذ طلب السلطان من حليفه الإمبراطور الألماني أن يجد له جراحًا ماهرًا. وقد اختير البروفيسور إسرائيل للقيام بهذا العمل المعقَّد. وفي الثالث والعشرين من يونيو من العام نفسه قام الطبيب بإجراء الجراحة لمريضه صاحب المقام الرفيع. كان السلطان راضيًا عن النتيجة، أما البروفيسور فقد نال الوسام المجيدي من الرتبة (الطبقة) الأولى وصورة لمحمد رشاد عليها توقيعه، علاوة، بطبيعة الحال، على المكافأة المالية التي حصل عليها.

وفي تركيا الجمهورية كان طبيب الأسنان الخاص بأول رئيس جمهورية لتركيا، مصطفى كمال، كان الدكتور جينزبورج.٣٢
١  بولشاكوف أ.، تاريخ الخلافة، المجلد الثالث، بين حربين أهليتين … ٦٥٦–٦٩٦ﻫ، موسكو، ١٩٩٨م، ص٤٧٦.
٢  الاستشهاد من: Hommer J. Histoire de l’Empire Ottoman depuis son origine jusqu’à nos jours. T.III.P., 1936. pp. 334-335.
٣  دوكاتية: عملة أوروبية ذهبية. (المترجم)
٤  سميرنوف ف. د.، ملاحظات شرقية، سان بطرسبورج، ١٨٩٩م، ص٤٣.
٥  جزر بحر إيجه: أندروس، باروس، أنتيباروس، تاكسوس، ميلو، وغيرها، ويصل عددها جميعًا إلى اثنتي عشرة جزيرة تقع بين شبه جزيرة البلقان وسواحل آسيا الصغرى.
٦  طالر: عملة نقدية.
٧  محمد الصقلي في بعض المراجع الأخرى. (المترجم)
٨  بروديل ف.، البحر المتوسط وعالم البحر المتوسط في عصر فيليب الثاني، الجزء الثاني، ترجمة عن الفرنسية، م. يوسيم، موسكو، ٢٠٠٣م، ص٤٩٢.
٩  Galante A. Histoire des juifs d’istanbul … p. 10.
١٠  جريتس ج.، تاريخ اليهود من أقدم العصور إلى اليوم، المجلد ١٠، أوديسا، ١٩٠٨م، ص٣١٧–٣٢٠.
١١  الموسوعة اليهودية الميسرة، المجلد ٣، جمعية دراسة الجاليات اليهودية، أورشليم، ١٩٦٨م، ص١٧٢، ١٧٣.
١٢  Galante A. Histoire des juifs d’istanbul … pp. 13-14.
١٣  البايلو: مبعوث البندقية في البلاط العثماني.
١٤  بروديل ف، البحر المتوسط …، الجزء الثاني، ص٦٥٠.
١٥  Poliakov L. Histoire de l’antisémitisme. T. I. Du Christ aux Juifs de Cour. p. 1955. p. 247.
١٦  Charriere E. Neqociations de la France dans Ie Levant. T. III. P., 1850. p. 832.
١٧  جريتس ج.، تاريخ اليهود …، المجلد ١٠، ص٣٥٧.
١٨  تقول الموسوعة اليهودية الميسرة (المجلد٣، ص١٧٣، ص١٧٤) إنَّ هذا المرسوم السلطاني قد تمَّ إلغاؤه بعد ذلك.
١٩  Notes and documents from the Turkish Archives … pp. 28–31.
٢٠  مدينة في القرم تقع على البحر الأسود. (المترجم)
٢١  وردت هذه الأسماء وغيرها والتي تمَّ الاستشهاد بها من ترجمة ف. د سميرنوف.
٢٢  غير المسلمين لا يخدمون في الجيش، وإنما يدفعون ضريبة نقدية (التعويض).
٢٣  سميرنوف ف. د.، ملاحظات شرقية …، ص٧٨.
٢٤  يشير كلٌّ من إ. بنباس وأ. رودريج إلى أنَّ الاسم يرجع إلى «كيورا» اليوناني، ويعني السيدة.
٢٥  فرق الخيالة في الجيش العثماني كانت تَحصُل على حصص من الأراضي مقابل الخدمة.
٢٦  رتبة عسكرية في الطبقة الوسطى تُعادل رتبة العقيد.
٢٧  كبير الشاويشية: إحدى الرتب البسيطة تُعادل رتبة الرقيب.
٢٨  Tarih-i Näma. I. Istanbul. 1967.
٢٩  Galanté A. Histoire des juif’s d’istanbul … p. 27.
٣٠  أرشيف السياسة الخارجية الروسية، القسطنطينية، ١٨٣٤م، وثيقة ٣٣، ٨ / ٢٠ يناير، رقم ٢١. ر. ريكمان – ك. ف. نيسيليرودي، صفحة ١٥٨، غلاف ١٥٨.
٣١  Galanté A. Histoire des juifs d’istanbul … pp. 25-26.
٣٢  Idem, p. 40.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤