الفصل السابع

باشاليك١ بودا٢

اليهود في الجزء العثماني من المجر في القرنين السادس عشر والسابع عشر٣

إنَّ السيادة التركية على الأراضي المجَرية، في القرنين السادس عشر والسابع عشر، في رأي المؤرخين الأوروبيين (بما في ذلك السوفييت) كانت تشكل عقبة أمام تطور هذا الجزء من أوروبا، والمقصود بذلك طبعًا هي المجر. وتعد نفس هذه الفترة، في مختلف المصادر سواء اليهودية أو المسيحية، هي أفضل الفترات بالنسبة ليهود المجر. لم تكن السلطات المجرية تقل في اضطهادها لليهود عن غيرها من حكام البلدان الأوروبية الأخرى. كان اليهود يُطردون من كثير من مدن المملكة المجَرية، التي كانوا يعيشون فيها منذ أيام أوائل ملوك أسرة أرباد (في القرنين السابع والعاشر الميلاديَّين). وطبقًا للتقاليد كانوا يَعملون أطباءً في البلاط الملكي، ومُستشارين ماليين، كما كانوا يعملون في دار سك العملة.

في القرن السادس عشر أصبحت بودا تحت سيطرة الأتراك، وحينذاك أصبح اليهود، طبقًا لشهادة يوسف حاكوهين، يتمتَّعون بحماية السلطات. وتَصِف المصادِر اليهودية طائفة بودا في هذه الفترة بأنها واحدة من أكثر الطوائف ازدهارًا، ومع ذلك فإنها تتحدَّث عن تدهورها، لفترة زمنية قصيرة بدءًا من عام ١٥٢٦م، عندما نقل السلطان سليمان الأول القانوني التجار والحرفيِّين اليهود إلى إسطنبول. ورغم توطينهم في إسطنبول وغيرها من المدن العثمانية، إلا أنهم استمروا لعشرات السنين يحافظون على تقاليد الطائفة التي جاءوا منها.

أدَّت الانتصارات العسكرية للأتراك في المجر إلى تدهور المملكة، الذي كان من أعراضه انهيار الزراعة، والنزاعات الداخلية، وانخفاض القدرة القتالية لقوات المملكة.

بعد هزيمة القوات المجرية التشيكية في موخاتشي عام ١٥٢٦م سقط شرق ووسط المجر تحت حكم الأتراك، ودخل جزء صغير من هذه الأراضي ضمن إمارة ترانسفاليا أما الجزء الغربي ومعه التشيك وكرواتيا فقد استولت عليه القوات النمساوية، وقام السلطان بوضع يانوش زابوليا على العرش المجري في ترانسفاليا، أما هو فقد عاد إلى إسطنبول محمَّلًا بالغنائم.

توحَّدت حول الإمبراطور النمساوي كل القوى المعادية للأتراك. ومنذ عام ١٥٢٦م حتى نهاية القرن السابع عشر دار صراع متواصل بين الأتراك والنمسا للاستحواذ على كل أراضي المجر.

وفيما يتعلق بصراع قوات المملكة والأتراك على بودا (عام ١٥٢٦م) فإن المصادر التاريخية تقدم أحيانًا شهادات متناقضة. لقد دارت هذه الموقعة بعد معركة موخاتشي، فبعد أن انتصر السلطان سليمان الأول القانوني في المعركة، قام بإرسال القوات إلى الشمال نحو بودا، وبقي السكان اليهود في المدينة آملين في تسامح الأتراك.٤ كما أنه لم يكن لليهود، في واقع الأمر، مكان يَلجئون إليه؛ حيث إن المجريين قد طردوهم من المناطق الغربية، ومن هناك جاءوا إلى بودا. وفيما يلي نورد كيف يَشرح مُؤرِّخ تركي الوضع: «هنا في قلعة بودا لم يبقَ سوى الفقراء واليهود، وعندما تلألأت أعلامنا كالشمس وأضاء نورها المدينة، قام اليهود المذكورون بوضع أكفان حول رقابهم وخرَجوا لاستقبال الجيش المنتصر برءوس منحنية يطلبون الرحمة.»

تتحدَّث المصادر اليهودية عن وصول السلطان إلى المدينة وتورد كلماته: «لديَّ اليوم ٢٠٠٠٠٠ جندي. هل تجرءون على التصدي لي؟» وفر سكان بودا فزعين. أما اليهود فبقوا ودعوا الله أن يرحمهم، وخرج نَفَرٌ من اليهود لمقابلة السلطان وانحنوا له وقدموا له مفتاح المدينة وهدايا.

ويقدم كتاب الحوليات المسيحية الأحداث المُرتبطة بالاستيلاء على المدينة بشكلٍ مُختلف. ويقول أحدهم إنَّ الأتراك بعد أن حطموا البوابات اندفعوا داخل المدينة، وبدأ القتل والنهب، ولكن الأتراك لم يكونوا يهاجمون اليهود.

ويرسم كاتب مسيحي آخر صورة مغايرة؛ فهو يؤكد أن القوات التركية كانت تسرق وتحرق كل شيء وكل شخص دون تمييز، ووصلوا أيضًا حتى الحي اليهودي حيث قتلوا، على حد قوله، حوالي ٣٥٠٠ شخص، ولم يتمكَّن من النجاة سوى ٢٠ فقط من سكان الحي. وتوجد رواية أخرى مفادها أن السلطان، فيما يبدو، قد سأل اليهود عما إذا كانوا يرغبون في الذهاب معه إلى آسيا الصغرى؟ وعندما أجابوا بأنهم يفضلون البقاء، أمر بقتل الشيوخ، أما النساء والأطفال والشباب فقد أخذهم معه كأسرى.

ومع تضارب جميع الأقوال فإن كثيرًا من النصوص المسيحية، التي جاء فيها إحصاء لقتلى اليهود عند الاستيلاء على بودا، تتفق في شيء واحد هو أن الأتراك، حسب رأيهم، كانوا يعتبرون اليهود أعداءً لذلك فإنهم يستحقون الموت، ولكن الباحثين المجريين المتأخرين، الذين عثروا على هذه الوثائق، يعتقدون أنه يجب عدم أخذ استنتاج المسيحيين باعتباره حقيقة مطلقة. وأغلب الظن أنها دعاية هدفها تصوير الأتراك بأنهم مُتعطشون للدماء لا يرحمون الناس. ولم يكن موقف الكتاب المسيحيين نابعًا من تعاطُفهم مع اليهود على الإطلاق؛ فهؤلاء الكتاب كانوا يَسعون فقط إلى إثارة الرعب لدى الأوروبيِّين وتوحيد القرى المعادية للأتراك.

في بعض المصادر المسيحية لا يوجد ذكر لأيِّ خسائر بشرية ولكنها تذكر أن «الإمبراطور التركي أمر بوضع اليهود على السفن وإرسالهم إلى مدن الإمبراطورية العثمانية.»٥ ويبدو أنَّ السلطان قد وعد بأن يرحم أولئك الذين يُوافقون على الإبحار معه إلى آسيا الصغرى. وهذه الرواية تؤكدها أيضًا بعض المصادر الأخرى. وتَنسب إلى السلطان هذه العبارة: «بعد الاستيلاء على بودا أمسكت باليهود وشحنتهم على السفن.» وتُقيِّم كل المصادر التركية هذا الأمر باعتباره عملًا خيِّرًا، أنقذ اليهود من الفقر، ويقولون إنه بعد الاستيلاء على موخاتشي تمَّ نقل أكثر من ٢٠٠٠ أسرة إلى الإمبراطورية العثمانية، ولكن لا يوجد ذكر لأية مذابح. على أيِّ حال فإن كاتبًا عثمانيًّا آخر وصف الاستيلاء على بودا عام ١٥٢٦م يشكُّ في أن اليهود قد تم تهجيرهم بالفعل من المدينة. وعلى حد قوله فإن رئيس الطائفة يوسف بن شلومو تسلم من السلطان سليمان مرسومًا يعطي امتيازات خاصَّة له ولأبنائه من بعده. وقد أكَّد هذا خلفاء سليمان، وخاصة عبد العزيز، الذي مدَّ العمل بالامتيازات عام ١٨٦٨م.

ويؤكد أحد المسيحيين، الذي يقول عن نفسه إنه شاهد عيان للأحداث المذكورة، أن القوات التركية تكبَّدت، خلال ثلاثة أيام من الحصار، خسائر ضخمة لدرجة أنه لم يكن هناك مكان لدفن الموتى، واضطر الأتراك لاستخدام المقبرة اليهودية لدفن جنودهم. وقد كتب هذا بعد مرور ثلاث سنوات على الاستيلاء على المدينة، ولكنه لم يذكر تاريخًا محددًا، لذلك فإنه من الصعوبة بمكان تحديد درجة الثقة في كتاباته. استردَّت القوات النمساوية والمجرية المدينة من الأتراك عدة مرات لفترات قصيرة، وفي عام ١٥٤١م فقط تمكن الأتراك من الاستيلاء النهائي على بودا، وحوَّلوا الأراضي المستولى عليها إلى ولاية تركية عادية (باشاليك بودا). وعند ذلك فقط أصبحت المدينة مركزًا إداريًّا وتجاريًّا كبيرًا للأملاك الغربية للسلطان. لذلك فإن النجاح السريع ولكن غير المستمر للأتراك عام ١٥٢٦م لا يمكن أن يكون مصحوبًا بمثل هذا القدر من الخسائر.

وربما كان المؤلِّف قد أراد إقناع القراء بأن القوات التركية لم تكن تُقهر وأن نجاحها هو نتيجة مُؤامرة مع اليهود. وإذا لم يكن الأمر كذلك فهل كان يُمكن لهم أن يَدفنوا قتلاهم في المقبرة اليهودية؟ وبذلك فهو يَخلُص إلى استنتاج واحد: إذا كان الأتراك أعداء فاليهود أيضًا أعداء.٦

انطلاقًا من هذه الآراء والحقائق المُتباينة يمكن القول بأنه طبقًا للمُمارسة العملية لدى الأتراك فإن السلطان سليمان يمكن أن يكون بالفعل قد أرسل جزءًا من السكان اليهود إلى عمق الأراضي العثمانية. ومن المستبعد أن يكون اليهود قد طلبوا شيئًا ما، ومن المستبعد أنه كان لديهم أي خيار. إنَّ التهجير القسري لجماعات صغيرة أو كبيرة، من سكان الأراضي التي تمَّ غزوها، كان أمرًا معروفًا منذ أقدم العصور، وكان حكام البلدان المنتصرة يقومون بتوزيع المهزومين في أراضيهم من أجل إنعاش النشاط الاقتصادي أو من أجل الحيلولة دون حدوث انتفاضات محتملة. وكان الحكام العثمانيون عمومًا، في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، يمارسون التهجير. وفي عام ١٥١٤م تم نقل مجموعة من الحرفيين من الأراضي الإيرانية المحتلة إلى إسطنبول، وفي عام ١٥٧٢م تمَّ نقل عشرة في المائة منهم، مع أسرهم، من هناك إلى قبرص من أجل زيادة عدد العاملين بالزراعة.

ومن المعروف أنه بعد استيلاء الأتراك على القسطنطينية عام ١٤٥٣م تم إرسال يهود أيضًا مع الجماعات الإثنية المسيحية، إلى العاصمة العثمانية الجديدة، وكان عليهم العمل لإعادة تعمير المدينة. كانت الإمبراطورية العثمانية بحاجة إلى الحرفيين والتجار. ويخلو كثير من الوثائق العثمانية من أي ذكر لأسماء المنقولين من مكان لآخر. ولا تذكر الوثائق سوى عددهم وعقيدتهم الدينية. وجدير بالذكر أن اليهود المهجَّرين لم يُرغَموا على اعتناق الإسلام، كما لم يُنتزع أطفالهم منهم من أجل إعدادهم للخدمة في فرقة الإنكشارية، وهو الأمر الذي كان يُعاني منه المسيحيون من سكان البلقان.

وكان الرحالة هانز ديرنشفام مُندهشًا عندما رأى أن الأتراك لا يعاملون اليهود معاملة العبيد، وأنهم لا يَبيعونهم في سوق النخاسة كما كان يحدث غالبًا مع الأسرى. على أيِّ حال فقد كان من عادة اليهود أن يَفتدوا أبناء عقيدتهم من الأسر.٧

كانت غالبية الطائفة اليهودية في بودا من الأشكيناز، بينما كانت الأغلبية في كثير من المدن العثمانية الأخرى من السفارديم. وكان على اليهود القادمين إلى أماكن المعيشة الجديدة أن يتبعوا العادات السائدة هناك، لكن يهود بودا تمكَّنوا من المحافظة على نظمهم. بالطبع كانت التعاليم الدينية والأعياد واحدة لكل الطوائف، ولكن أوقات الصلاة وأحيانًا النصوص، باستثناء مزامير التوراة لم تكن متوافِقة في بعض الأحيان، وكانت هناك اختلافات في أسلوب المعيشة أيضًا. وتوجد دلائل تُشير إلى أن تعدد الزوجات الذي كان ممنوعًا في طوائف الأشكيناز كان موجودًا في بعض طوائف السفارديم حتى القرن العشرين.

كان يهود بودا يُسمَّون في الأماكن الجديدة «حاجار» و«أونجوروس» و«بودون»، وكان كلامهم يختلف عن لغة الأشكيناز الآخرين، وتمكَّنوا من الاستقرار في إسطنبول بشكلٍ جيد، وكانوا يعملون أساسًا بالتجارة، وفي عام ١٥٥٤م احترق المعبد الخاص بهم واضطرُّوا لارتياد معبد الأشكيناز الآخرين.

في عام ١٥٥٤م سكنت اثنتا عشرة أسرة من يهود المجر في تسفات. وبحلول عام ١٥٦٤م أصبح عدد هذه الأسر خمس عشرة أسرة، وقاموا بتأسيس مدرسة دينية (يشيفا) خاصة بهم، وكان يُموِّلها المدعو ر. ناحوم، وهو يهودي من بودا ورجل برٍّ كان يساعد الفقراء.٨
إن يهود بودا، الذين شاء القدر أن يستقروا في بعض مدن البلقان مثل صوفيا وفيدين وسالونيك وبليفن، كانوا أقرب إلى موطنهم. صحيح أن الحظ لم يُحالفهم في بليفن، فقد عامل يهود هذه المدينة القادمين إليهم بعداء وتحيُّز، ومنعوا أي تعامل معهم وتقديم أي عون لهم وكذلك منعوا تعليم أبنائهم مع أبناء بليفن. ولم يكن للمرفوضين من الطائفة الحق في اللجوء معها للحاكم عند الضرورة. ولم يتغيَّر الموقف إلا بعد تغيُّر الحاخامات، فقد قام زعيما الطائفة الجديدان يوسف ليفي وليفي إسحاق بن إياكوف، بإعلان أن قرارات أسلافهم «بلا أثر» أي أنها غير سارية، وكانوا يَلتزمون بمبدأ أن الطرد من الطائفة يُمكن أن يُعاقب به بعض الأشخاص نتيجة أخطاء محدَّدة، ولكن لا يمكن أن يتعرَّض له مجموعات كاملة من أبناء العقيدة.٩

عادة ما كان القادمون يتأقلَمون مع النُّظُم الجديدة، وبعد جيل أو جيلين كانوا يقيمون علاقات عائلية وعملية مع الطائفة المحلية، ويُصبح تمييز أصولهم عندئذ ممكنًا فقط من أسمائهم.

وقد تمكَّن بعض اليهود المرحَّلين من بودا عام ١٥٣٤م من العودة إليها، ولكن في ذلك الوقت كان السكان المحليُّون قد استولوا على بيوتهم مُستغلين عدم استقرار الأوضاع في تلك السنوات، عندما كانت المدينة تَنتقل من يد إلى يد. وأكد ملوك المجر «شرعية الاستيلاء على أملاك اليهود» بأنَّ اليهود كانوا، على حد زعمهم، متحدين مع الأتراك. ويتحدث بعض ما وصلنا من وثائق عن أمثلة لهذا «الاستيلاء».

ولكن حتى في سنوات عدم الاستقرار (١٥٢٦–١٥٤١م) استمر اليهود كعهدهم في ممارسة الوساطة وكانوا بهذا يَربطون مختلف أنحاء المجر. ورغم كراهية واحتقار النبلاء المجريِّين لهم، فإنهم لم يكونوا يستطيعون الاستغناء عنهم.

تمكن الأتراك من الاستيلاء على بودا والتمسك بها فقط في عام ١٥٤١م. وجاء في إحدى الحوليات المجرية أن اليهود كانوا ضمن المدافعين عن المدينة. ومن المستبعَد أن تكون هذه الشهادة الصحيحة، فمن المعروف أن نجاح الأتراك جاء نتيجة الانشقاق في أوساط المدافعين عن القلعة أكثر من كونه نتيجة لمعركة ضارية.

عادةً ما كان اليهود، فيما عدا استثناءات نادرة سيأتي ذكرها فيما يلي، لا يُشاركون في العمليات الحربية وكانوا سيحاولون ألا يؤيدوا هذا الطرف أو ذاك من الأطراف المتصارعة.

عندما استولى الأتراك على بودا عام ١٥٤١م لم يقوموا بملاحقة الطائفة اليهودية، ولم يسعوا لتحويل السكان المحليِّين إلى الإسلام، وكان هذا نتيجة لاعتبارات اقتصادية قبل كل شيء، فقد كان المسلمون يدفعون ضرائب وجمارك أقل بكثير من غيرهم.

نما دور اليهود في الحياة الاقتصادية للمدينة تحت حكم الأتراك. لم يكن الغزاة يحتفظون بحامية كبيرة في بودا، ولكنهم كانوا يسعون لتأمين رقابة دقيقة على الإيرادات من العبَّارات ومن الجمارك ومن الأسواق ومحلات الصرافة، التي كان الملاك الجدد يدفعونها على الأرباح.

في عام ١٥٤١م قام موسى بن بالكو بدفع مبلغ ٢١٣٠٠ آقجة١٠ مقابل توقيع عقد مع السلطات التركية لإيجار محل صرافة في بودا لمدة ثلاث سنوات. وكان الضامن لهذا العقد هو اليهودي الإسطنبولي زكريا دابوس.١١

وفي صفحات الوثائق المحفوظة في الأرشيفات المجرية تُوجد أسماء محصلي الضرائب والمبالغ التي جمعوها. وكان في المؤسسات المالية العثمانية عدد غير قليل من اليهود، وكانوا يعملون في ميناءَي بودا وبشت (في ذلك الوقت كانتا مدينتَين مختلفتَين على الضفتين اليمنى واليسرى لنهر الدانوب) ويعملون في تحصيل الجمارك والضرائب التجارية، وخاصة على بيع النبيذ، الذي كان ممنوعًا على المسلمين.

كثيرًا ما كانت العمليات التجارية المالية، التي يقوم بها اليهود، تربط المناطق العثمانية بالأراضي المجرية الأخرى غير الخاضعة لسيطرة الأتراك، كما كانت تربطها بمدن إمبراطورية هابسبورج المعادية للسلطان، وكانوا يأتون بالأقمشة من فيينا إلى إسطنبول ويرسلون القطن والغزل المصبوغ من الدولة العثمانية في الاتجاه المعاكس.

وكان الباشوات (عمال السلطان) يقومون بدورهم بمساعدة اليهود في تحصيل النقود من المدنيين في تيرنوفو١٢ وبريسبورج (براتسلافا الحالية)١٣ وغيرهما من مدن البلقان. ومن المعروف أن مصطفى باشا، نائب والي بودا، أمر قضاة تيرنوفو بإلزام المدعو دينيس فيكيتي بأن يرد على الفور ما عليه من ديون ليهوديَّين من بودا، هما موسى وإبراهام، ومقابل إعادة ولو نصف الدين وُعِد فيكيتي بتأجيل سداد الجزء الباقي لمدة عام.

وفي الحالات الأكثر تعقيدًا كان الباشا يعلن أن الملكية المتنازع عليها، أو الدين غير المدفوع، تصبح من أملاك السلطان. وفي هذه الأحوال فإنَّ نتيجة الأمر تصبح محسومة مقدمًا. ولكن علاقات اليهود بالسلطات الجديدة لم تكن تمرُّ دائمًا دون مشاكل. وتوجد شواهد على مبادئ شنيعة «للقضاء العثماني». فقد ذُكر، على سبيل المثال، إعدام طبيب يهودي متهم عام ١٥٤٧م بتسميم أتراك. وكان تنفيذ الحكم يتم عادة بسرعة بالغة، ولم يكن الطبيب البريء المتهم حيًّا حينما أصبح كذب التهمة الموجهة إليه واضحًا.

غير أنه كثيرًا ما كان يهود بودا، وخاصة التجار، يُصبحون ضحايا للقوات المجرية، التي تقوم بغارات على التحصينات الحدودية وتطلب فدية لإطلاق سراح الأسرى. وكان هذا، بالنسبة للجنود الذين يحصلون على مُرتبات ضئيلة، وسيلة معتادة للثراء. ولما كانوا يعلمون أن اليهود لا يتركون أبناء عقيدتهم في محنة، فإنَّ الجنود كانوا يطلبون من التجار، المأسورين في الطرق، مبالغ مالية ضخمة. وقد تم إبلاغ مصطفى باشا نفسه في سبتمبر عام ١٥٦٧م بأنَّ تاجرًا غنيًّا من بودا اسمه موسى وقع ضحية مُؤامَرة وهجوم. وكان من المشاركين في المؤامرة سيمون فورجاش من إجير.١٤ ولم تكن السلطات التركية تستطيع ملاحقة الخاطفين في أراضٍ غير خاضعة لها، فلم يكن مسموحًا بإجراء عمليات عسكرية في وقت السلم. وأرسل الباشا إلى الإمبراطور ماكسيميليان الثاني خطابًا، يطلب فيه تدخله وإطلاق سراح موسى. وطلبت السكرتارية الإمبراطورية من سلطات إجير إبلاغها بمكان وجود التاجر. وكذب الكابتن فورجاش وأجاب بأن موسى غير موجود في إجير. وفي التاسع من فبراير عام ١٥٦٩م أرسل الباشا، مرةً أخرى، خطابًا إلى فيينا أكد فيه أن موسى موجود في إجير. وفي نفس الوقت تمكن التاجر من إرسال رسالة إلى الإمبراطور من إجير، وصف فيها بالتفصيل عملية اختطافه ووضعه الفظيع. ومن فيينا تمَّ إيفاد عدد من الضباط المكلَّفين بأن يقوموا باستجواب فورجاش شخصيًّا. ولكن عندما وصلوا إلى إجير لم يكن الأسير موجودًا هناك، فقد قاموا بإرساله إلى مكان آخر. وفي نهاية الأمر عشية عيد ميلاد المسيح قام فورجاش بإطلاق سراح موسى بعد أن أخذ منه فدية ٩٠٠٠ عملة ذهبية. وحصل منظم عملية الاختطاف جيرجيلي على نصيبه من هذا المبلغ. وتعلم موسى من هذه القصة درسًا بليغًا فلم يغادر أسوار بودا بعد ذلك أبدًا. وكذلك استخلص الأتراك دروسًا مما حدث، وفي عام ١٥٨٢م قام المدعو إستفان نياري بإبلاغ الأسقف إرنو، أن الجنود المجريِّين أسروا ثلاثة يهود فقراء، وردًّا على هذا أمر الباشا باختطاف ثلاثة مسيحيِّين وهو الأمر الذي تمَّ فورًا. ولا توجد معلومات عما حدث بعد ذلك.١٥

كان وجود اليهود في الشتات دائمًا غير مأمون وخطرًا ومحفوفًا بالمآسي والهلاك. ورغم ذلك فإنَّ حياة طائفة بودا اليهودية لم تكن سيئة لهذه الدرجة في نظر كثيرين.

كان الدبلوماسي الدنماركي خريسلين بوسبيك، الذي أرسله الملك كريستيان الثالث إلى إسطنبول عام ١٥٥٣م عند سفره عبر بودا يتعجب من أن الإنكشاريين لا يميزون بين المسيحيِّين واليهود ويضعون عليهم رقابة متماثلة.

وكذلك السفير الألماني ستيفان ميرلاخ، الذي زار بودا عند مروره بها في يونيو ١٥٧٣م، لم يكن يشك في أنه سيرى مدينة متهالكة تحت حكم الأتراك، لكنه اقتنع بالعكس. كانت المدينة تزدهر على غير ما سبق، وتمكن كثير من سكانها من تحقيق نجاح في مجالات الحرف والتجارة. وفسر السفير كل هذا بوجود عدد كبير من السكان اليهود في بودا.

وتوجد وثيقة مؤرَّخة عام ١٥٨٧م، جاء فيها أن يهود بودا كانوا يعيشون في بيوت جميلة، وأنهم كانوا في عداد أثرياء بشت المجاورة. وكانت بيوتهم في بودا موجودة في داخل القلعة في الشارع اليهودي، أما غالبية أفراد الطائفة وهم الأفقر فكانوا يعيشون في الحي القائم على الشاطئ خارج القلعة وتحت أسوارها.١٦
كانت السلطات العثمانية تقوم بانتظام، في الأراضي الخاضعة لها، بعمل تعداد للسكان المفروض عليهم دفع الضرائب. وكانت الممتلكات تقسم حسب حجمها إلى ثلاث درجات تُحدد قيمة الضرائب، وكانت قيمة الفئة الدنيا ٥٠٠٠ آقجة وتبلغ الضريبة عليه ١٢ آقجة، أما من يملك ما لا يقلُّ عن ٥٠٠٠ ولا يزيد على ٤٠٠٠٠ فيدفع ٢٤ آقجة، وإذا كانت قيمة الأملاك تزيد على ٤٠٠٠٠ فإن مالكها يدفع ٤٨ آقجة.١٧ ونتيجة لتلف العملات ونقص قيمتها كانت قيمة الآقجة تقلُّ باستمرار، وكان مُحصِّلو الضرائب يسعون بكل الوسائل لتعويض الخسائر؛ فكانوا يجبرون كل دافع ضرائب على أن يقسم على الكتاب المقدَّس على أنه لا يُخفي جزءًا من أملاكه. ولكن التقاليد اليهودية كانت تحرم القسم لغير الله، ولذلك كان المُحصِّلون عند التعامل مع اليهود مضطرين لتجاوز هذه العملية. وفيما بعد قررت الإدارة التركية فرض ضريبة سنوية ثابتة.

كان رب الأسرة هو المسئول عن دفع الضرائب، وكان عدد من يدفعون الجزية في الحي اليهودي عام ١٥٤٦م خمسين شخصًا، وبعد عام أصبحوا ٤٨ شخصًا. وفي ذلك الوقت كان يعيش في المدينة ٢٤ مهاجرًا سفارديم. وفي عام ١٥٥٩م كان عدد المسجَّلين لدفع الجزية ٤٠ فردًا. وتشير إحصاءات التعداد إلى أسماء الموتى أو من غادروا المدينة، وفيما بعد تزايد عدد أفراد الطائفة اليهودية تدريجيًّا، وفي عام ١٥٩٠م وصَل عدد دافعي الضرائب إلى ١٠٣ أشخاص. وعند نهاية القرن بلغ عدد الطائفة حوالي ٧٠٠ شخص.

وكان أول حاخام مذكور في وثائق بودا عام ١٥٤٥م هو حاييم حاكمان بن إسحاق. وكان الحاخامان الآخران اللذان عيَّنهما عام ١٥٦٩م سمحا فريدمان بن حاييم ودافيد كوهين بن ياكوف عضوَين في المحكمة الدينية بيت دين. وكان كبير حاخامات بودا على اتصال بحاخام سالونيك وهي المركز الديني الأكبر حيث كانت السيطرة للسفارديم، الذين تزايد تأثيرهم في بودا بمرور الزمن. وكان رئيس طائفة بودا يعمل بالتنسيق أيضًا مع حاخامات فيينا وكراكوف وإسطنبول.١٨
تحدثنا فيما سبق عن أنه بين عامي ١٥٤١ و١٦٨٦م حاول المجريون والنمساويون أكثر من مرة استعادة بودا. وتوجد وثائق تتضمَّن وصفًا لحصار القوات المسيحية للمدينة عام ١٦٠٢م، وعند ذلك كان اليهود يدافعون عن بيوتهم وشاركوا في العمليات الحربية. وتمكن المهاجرون من اقتحام الحي اليهودي وبدأت أعمال النهب والحرق. ووصف أحد المؤرِّخين كيف كانت إحدى ساكنات الحي تُطلق النار بلا هوادة من مدفع ضخم على البوابات التي يَندفع خلالها المهاجرون، وتمكنت من إجبارهم على الفرار. وتحدث عن هذا المشهد أيضًا التركي أوليا جلبي مضيفًا أنه مُقابل المشاركة النشطة في الدفاع عن المدينة قام الأتراك بإعفاء اليهود من الضرائب التي كانوا يَدفعونها للباشا.١٩

وفيما يلي وصف للمعركة على لسان شاهد عيان يهودي: «كان الأتراك المُدافعين عن القلعة يَتراجعون أمام الهجوم الضاري للقوات الإمبراطورية. وعندما رأى اليهود أن الأمور تأخذ منعطفًا خطيرًا، توجهوا إلى القائد التركي: «اسمح لنا أن ندافع بأنفسنا عن أبنائنا ونسائنا وممتلكاتنا، وليقضِ الرب بما هو مكتوب علينا.» وقاتل اليهود بحماسة وشجاعة وتمكَّنوا من الدفاع عن أنفسهم وأجبروا العدو على الفرار المهين.

وجاء في أحد المصادر المسيحية أنه في أثناء الحصار تمكن المهاجرون خلال البوابات من دخول الحي اليهودي ولكن المدافعين عنه أعادوا إقامة التحصينات بسرعة. وأبدَت النساء صمودًا معنويًّا عظيمًا، وخرجن إلى الشوارع يُرتلن المزامير، وكان في أيديهن سم فئران وكن مستعدات للموت ولكن لا يستسلمن للأسْر.

ومن المعروف أنَّ المشاركين في الحصار، الذين لم يُحالفهم الحظ، قد انتقموا بقسوة من يهود المدن الأخرى على ما لاقوه في بودا من هزيمة، وكانوا يُهاجمون كل من يُغادر المدينة لسبب أو لآخر، ويقتلون الجميع دون تمييز، ولا يرحمون امرأة ولا طفلًا. وقام المقربون من الإمبراطور النمساوي بنصحه بالتنكيل باليهود الذين يعيشون في دولته، ولكن كان لديه من الحكمة ما منعه من ذلك.

بعد حصار بودا عام ١٦٠٢م تمكن اليهود من إقامة علاقات تجارية وعملية مع الجزء المستقل من المملكة المجرية وكذلك مع الإدارة العثمانية. وفي عام ١٦١٥م قام السلطان أحمد الأول بمنح ميزات خاصة ليوسف بن سالت وأخيه الامان إسرائيليس؛ لأنَّ جدهما، كما يقال، قد قام بنفسه بتقديم مفاتيح المدينة لسليمان القانوني وساعد الأتراك في احتلال المدينة عام ١٥٢٦م، وتمَّ إعفاء الأخوين وذريتهما من دفع الضرائب «من الآن فصاعدا».٢٠

لم تكن محاولة النمساويِّين الفاشلة للاستيلاء على بودا، سوى أحد المشاهد في الحرب النمساوية التركية الطويلة للسيطرة على المجر، والتي كانا يَتبادلان النجاح فيها، ولم يتمكَّن أي من الطرفين من تحقيق تفوق حاسم فيها. وفي ١١ نوفمبر عام ١٦٠٦م تم في سيفاتورك (المجر) توقيع مُعاهَدة سلام لمدة عشر سنوات. ولم تقم الإمبراطورية العثمانية ولا النمسا، في أثناء ذلك، باكتساب أراضٍ جديدة. وأصبحت ترانسلفانيا تحت سيطرة مزدوجة من الطرفين (كانت فيما سبق تحت سيطرة الأتراك فقط). وتنازل السلطان عن الجزية السنوية التي كانت النمسا تدفعها ومقدارها ٣٠٠٠٠ دوكاتية بموجب اتفاقية عام ١٥٦٨م. والتزمت النمسا بأن تدفع للسلطان ٢٠٠٠٠٠ دوكاتية لمرة واحدة. واعترف الطرفان بتساويهما في الحقوق. وللمرة الأولى أُطلق على الملك النمساوي في هذه المعاهدة لقب الإمبراطور، وليس «سيد فيينا» كما كان السلاطين يطلقون عليه حتى ذلك الحين.

وكان المؤرخ المعروف فيرنان بروديل يُقيِّم الأعمال الحربية للنمساويين ضد الأتراك وتأثيرها على الطائفة كما يلي: «أحداث مأساوية … في أثناء الهجوم النمساوي ١٥٩٣–١٦٠٦م أصبح يهود بودا بين نارين؛ النمساويِّين والأتراك …»٢١ وفي عام ١٦١٥م تمَّ في فيينا توقيع اتفاقيات جديدة، وقدمت الدولة العثمانية الواهنة تنازلات جديدة. ولكن بودا بقيت في حوزة الأتراك.

فيما بعد عاد اليهود، الذين غادروا المدينة في أثناء حصار ١٦٠١م إلى بيوتهم. وطبقًا للإحصاءات كان في الحي اليهودي عام ١٦٢٧م أحد عشر منزلًا، وفي عام ١٦٣٣م كان في بودا، بودا القديمة وبشت، عشرون منزلًا يهوديًّا. ولا يحتوي التعداد على إجمالي عدد السكان. وخارج الحي اليهودي كان اليهود يَستأجرُون أحيانًا بيوتًا مملوكة لأصحاب ملل أخرى. وتُوجد دلائل على أنه في عام ١٦٨٠م كانت الطائفة تضم ٨٠ فردًا. وكانت زيادة عدد السكان اليهود تأتي بشكلٍ أساسي نتيجة لقدوم آخرين إلى بودا من خارجها. كانت المدينة تتمتع بموقع جغرافي ممتاز على حدود العالمين الإسلامي والمسيحي في ذلك العصر. وكانت الأسر اليهودية في فيينا ترسل أبناءها إلى بودا لتعلم اللغة التركية والتعرف على أسلوب الحياة الشرقي. وكانت الأسر اليهودية في بودا، بدورها، ترسل أبناءها إلى فيينا لتعلم اللغة الألمانية وأسُس الثقافة الأوروبية.

كان المعاصرون يلاحظون أن اليهود العثمانيين عادة ما يجيدون الحديث بأربع أو خمس لغات، بل وكان بعضهم يصل إلى ١٠–١٢ لغة. وكانت العلاقات بين الطائفتين وثيقة. وعندما قام الإمبراطور النِّمساوي ليوبولد الأول بطرد اليهود من النمسا السفلى٢٢ انتقل كثير منهم للعيش في بودا.٢٣

كان سكان بودا اليهود يُمارسون التجارة والعمليات المالية، وكان اليهود يقرضون النقود بفائدة مرتفعة، ولكن لآجال طويلة أكثر من غيرهم من الدائنين، وهو أمر كان محفوفًا بمخاطرة كبيرة، وكانوا يعملون بالصرافة وأعمال المقايضة، وكان اليهود يقومون أيضًا بدور كبير في التجارة في الأراضي العثمانية، وكانوا يَجلبون من جنوب المجر إلى النمسا الملابس الجاهزة والجلود والمعادن، ومن فيينا إلى إسطنبول، وغيرها من المدن، ينقلون مختلف المصنوعات الجاهزة. ونجد على سبيل المثال في الحسابات المالية لبناء كنيسة، في مدينة نادكوروش عام ١٦٣٩م، أن موسى، وهو يهودي من بودا، كان يقوم بتوريد مقاعد ومسامير. وجاء في غيرها عن نفس تلك الفترة أنَّ المدعو بالاتس اشترى في بودا سجاجيد من اليهودي أوروسلان (اسم غريب وهو غالبًا تركي).

وكان الأتراك يَلجئون أحيانًا إلى اليهود لتوريد بعض البضائع أو يُكلِّفونهم بعمليات مالية. وفي عام ١٦٢٥م أرسل سليمان؛ باشا بودا، خطابًا إلى التاجر ساليك في مدينة إجير، يَطلب فيه إعطاء اليهودي حاروم قرضًا بمبلغ ٥٠٠٠–٦٠٠٠ آقجة نقدًا.

كان نشاط اليهود العملي مُقيدًا بالتحريم الديني لأي عمل يوم السبت. وكان الحاخامات يُصرُّون على هذا ولا يسمحون يوم السبت لا بالسفر ولا بالمشاركة في الأسواق ولا بإجراء مفاوضات ولا بعقد صفقات، رغم الطلبات المتكرِّرة من بعض الأفراد للسماح باستثناء من القاعدة. وكان التجار يُضطرون أحيانًا لمخالفة الحظر المفروض.٢٤

كان الطب هو المهنة التقليدية القديمة لليهود. وتوجد إشارات إلى أن طبيبًا يهوديًّا من بودا كان يعالج حاكم ترانسلفانيا دابور بيتلين. وفي عام ١٦٧٦م استقرَّ في بودا الجراح يوسف، الذي كان كما جاء في الوثائق، على صلة قرابة بطبيب اسمه آشر من بلغراد. وكان الطبيب إيليا بن يهودا، المقيم في بودا، على اتصال بالأطباء المسيحيِّين في فيينا. وقام أطباء بودا بدور كبير عام ١٦٧٠م عندما انتشر وباء الطاعون في المدينة.

وتتضمَّن وثائق الحاخام خاكوهين أفرايم ذِكرًا لحريق كبير في بودا عام ١٦٩٩م.٢٥

في مُنتصَف القرن السابع عشر كان حوالي نصف الطائفة اليهودية في بودا من الأشكيناز وكانوا يتحدَّثون باليديش. وكان الثلث من السفارديم الذين يستخدمون اللادينو (لهجة إسبانية) أو التركية. وكان الباقون من أصول شرق أوسطية، غالبًا من سوريا. ويذكر الحاخام أفرايم أن المدينة كان بها ثلاثة معابد طبقًا لتكوين الطائفة. ولم تكن المعابد في ذلك الوقت منشآت للعبادة فقط، بل كانت ملاجئ لإيواء الفقراء أيضًا. وكان الحاخامات المُسافرون من ألمانيا إلى الأراضي المقدسة يُقيمون في مبانٍ ملحقة بالمعبد، وكانوا يتوقَّفون أحيانًا لعام أو عامين في بودا، حيث كانوا يشاركون بنشاط في حياة الطائفة. ويذكر الرحالة التركي أوليا جلبي، الذي زار المدينة أعوام ١٦٠٢م و١٦٦٠م و١٦٦٤م، أنه شاهد حيَّين يهوديَّين ومعبدين، بينما ذكر إسحاق شولخوف وجود ثلاثة معابد. وربما كان سبب هذا الاختلاف أن أوليا جلبي لم يَعُد المعبد الموجود خارج أسوار القلعة.

وفي «حوليات بودا» يصف شولخوف حياة الطائفة اليهودية في النصف الثاني للقرن السابع عشر كما يلي: «كانت المدينة تحت سيطرة الإمبراطورية العثمانية ولكن أحوالنا في هذه الفترة كانت مزدهرة مثل شجرة زيتون خضراء. كنا نشعر بالأمان … كان الشعب يعيش في هدوء في ظلال كروم العنب وأشجار التين، وكان الطعام رخيصًا للغاية؛ فكان رطل اللحم يُساوي ٤ عملات صغيرة، ونصف لتر النبيذ يساوي نصف بنس …»، ولا يتحدث المؤرخ عن الفواكه والحلويات لرخص ثمنها. وفي بودا العثمانية، طبقًا لحوليات شولخوف، كان يجري تداول النقود التركية والنمساوية.٢٦

في عام ١٦٨٣م كانت الطائفة اليهودية في بودا تشارك في الحياة الاقتصادية والثقافية للمدينة، وتشعر بأنها محمية، وعلى اتصال بأبناء عقيدتها في المدن الأخرى، ويؤكد هذا ما جاء في وثائق بيت المقدس عن عام ١٦١٧م، فقد جاء فيها أن طائفة مدينة صفر كانت على اتصال دائم بتسع طوائف أخرى بما فيها طائفة بودا.

كانت الحياة الداخلية للطوائف اليهودية في الإمبراطورية العثمانية مُستقلَّة تمامًا، وكانت تنظيمات الطائفة تتولَّى رعاية أفرادها واحتياجاتها مثل: الأعمال الخيرية ورعاية المرضى وكبار السن ومن لا عائل لهم، وتنظيم الجنازات. وكانت هذه الأعمال كلها تجري في معابد المدينة الثلاثة. وبالإضافة إلى ذلك كان يتم توزيع ملابس على الفقراء في عيد حانوكا، وجمع الأموال لافتداء اليهود الذين يقعون في الأسر، وكذلك النقود لليهود المقيمين في الأراضي المقدسة ويُعانون من الفقر. وكانت هناك جمعيات تعليمية تقوم بدراسة وتفسير التوراة والتلمود. وتحتفظ وثائق المدينة بأجزاء من تعليقات على التلمود للحاخام المعروف آنذاك خاكوهين أفرايم، وتدلُّ آراؤه بشأن عدد من المسائل الخلافية، على التسامح النسبي لوجهات النظر السائدة في الطائفة؛ فقد كان للبنت، على سبيل المثال، الحق في رفض الزواج المفروض عليها، إذا كانت الخطوبة قد قام بها الوالدان عندما كانت ما تزال طفلة ولا تستطيع التعامل مع المراسم بوعي. وفي الطوائف اليهودية الأخرى كان مثل هذا التحرر مرفوضًا.

كان في طائفة بودا كثير من المتعلمين. كانت كل أسرة تحتفظ بنصوص الكتاب المقدس. وبالإضافة إلى التوراة كان في المعابد العديد من الكتب الأخرى. ومن المعروف أنه بعد حصار المدينة عام ١٦٨٦م، أمر شارل دي لورين بأخذ ٣٥ من لفائف التوراة بهدف الحصول على فدية مقابلها.٢٧

على مدى القرنين السادس عشر والسابع عشر استمرَّ الوضع في المجر صعبًا وغير مستقر، وكانت الحروب تنشب أحيانًا تحت رايات دينية أيضًا؛ فقد كانت النمسا الكاثوليكية تُواجه، بالإضافة إلى الأتراك المسلمين، البروتستانتية التي تَنتشِر بسرعة في أوروبا، والتي كان لها أنصار غير قليلين في المجر. وفي بداية الستينيات من القرن السابع عشر استغل الأتراك الصراع بين غرب المجر وأسرة هابسبورج وتمكَّنوا من السيطرة على ترانسلفانيا. وفي عام ١٦٨٣م حاصرت القوات التركية فيينا للمرة الثانية (كانت المرة الأولى عام ١٥٢٩م)، ولم ينقذ الموقف إلا الملك البولندي يان الثالث سولبيسكي الذي جاء لمساعدة النمساويين.

أدرك ملوك أوروبا، في نهاية الأمر، أنَّ أحدًا منهم لن يتمكن من مواجهة الأتراك بمفرده، وأن خطر التوسع التركي المستمر واضح للغاية. وفي عام ١٦٨٤م تكوَّن تحالف الدول الأوروبية ضد تركيا وهو الحلف المقدس Holy League، وضم الحلف النمسا وبولندا وفينيسيا ومالطا، وفي عام ١٦٨٦م انضمت إليهم روسيا، وفي ذلك الوقت كان الوضع العسكري لتركيا قد ساء بشدة. كان الأتراك الآن قد تخلَّفوا بشكل واضح عن الأوروبيين فلم يتمكنوا، في الوقت المناسب، لا من تحديث الجيش ولا من تحديث مؤسسات الدولة الأخرى.
ترك الأمير مارسيلي، وهو فرنسي، مذكرات عن تاريخ الإمبراطورية العثمانية في نهاية القرن السابع عشر، ذكر فيها أن القوات البرية التركية طبقًا للحسابات كانت تزيد على ٢٣٢٠٠٠ نسمة، أما الأسطول البحري ووحدات الإنزال فتصل إلى أكثر من ٦٠٠٠٠ نسمة؛ أي إن مجموعها ٢٩٣٠٠٠ نسمة. وفي الواقع إذا لم نحسب العدد الهائل للوحدات المساعدة فإنَّ عدد القوات البرية هو ١٠٢٠٠٠ (أي النصف) أما الأسطول فحوالي ٦٠٠٠٠.٢٨ ومِن الواضح أن هذا لم يكن يكفي لمحاربة الدول الخمس الداخلة في الحلف. ويُمكن الاعتماد على شهادة مارسيلي؛ حيث إنه كان شاهد عيان للعديد من الأحداث. ولرغبته في دراسة حالة الجيش العثماني، التحق مارسيلي بالعمل لدى سفير جمهورية فينيسيا سكرتيرًا، وسافر معه إلى إسطنبول وأمضى هناك ١١ شهرًا، ثم انتقل إلى خدمة الإمبراطور النمساوي ليوبولد الأول وشارك في حربه ضد الأتراك ووقَع في الأسر لديهم، وتم بيعه كرقيق لأحد الباشاوات. وشارك مارسيلي مع الباشا التركي ضمن القوات التركية التي حاصرت فيينا عام ١٦٨٣م، وقام سفير فينيسيا بافتدائه وعتقه، وعاد الأمير بعد ذلك لخدمة الإمبراطور ليوبولد وشارك من جديد في المعارك ضد الأتراك، وحضر عقد المعاهدة السلمية في كارلوفتس عام ١٦٩٩م.

كان قواد جيش السلطان يسعون لبث الرعب في قلوب خصومهم بالعدد الكبير للقوات، ولهذا الهدف كانوا يضمُّون إلى الجيش الكل دون تمييز. ولكن هذا الإجراء لم يأت بنجاح عسكري.

اقتحمت القوات النمساوية شرق المجر. وقبل استيلائها على بودا انتشرت في المدينة الأقوال عن النذر السيئة: إنَّ أسراب الطيور تحلق فوق المدينة وهي تصرخ بشدة، وإنَّ الثعابين والعقارب ظهرت فجأة. وفي أثناء حصار الأتراك الفاشل لفيينا أظلمَت مدينة بودا وضربتها عواصف رعدية فظيعة، وضربت صاعقة إحدى كنائس المدينة وحطمتها وأصيب السكَّان بالفزع والاكتئاب.

وكان إسحاق شولخوف شاهِدَ عيان على استيلاء النمساويين على المدينة عام ١٦٨٩م ووصف هذا الحدث. رفضت الحامية التركية المحاصرة الاستسلام، واحتل المهاجمون أحياء بودا الواقعة خارج أسوار القلعة، واستولوا على بيوت اليهود الذين لم يتمكَّنوا من الهروب من المدينة. وطبقًا لتقديرات مهندس حربي إنجليزي كان عدد سكان بودا ٢١٠٠٠–٢٤٠٠٠ نسمة، واليهود حوالي ١٠٠٠ نسمة. ويورد الباحثون المجريون نفس هذه الأرقام تقريبًا، على أساس عدد الأسرى والقتلى في معركة عام ١٦٨٩م، وفي الثاني من سبتمبر اقتحم المهاجرون القلعة، وتعاملت القوات النمساوية بلا رحمة مع الأتراك وكذلك مع بقية سكان المدينة. وحاول اليهود الاحتماء في المعبد الكبير ولكن أحدًا منهم لم ينج، وتم قتل الناس المسالمين في بيت الرب.

وعد شولخوف الجنود أن يُعطيَهم كل ثروته مقابل حياته وحريته. وبعد أن دفع لهم الفدية هاجمه الفرسان. ولكن الجندي الذي حصل على النقود حافظ على وعده، وأُخذ شولخوف أسيرًا وبذلك أنقذ حياته. وفيما بعد تمكن الأسير من الفرار هو وأسرته ولكنه فقد زوجته بعد ذلك بقليل. وبعد مرور فترة من الزمن افترق عن ابنه سمسون وفقد بقية نقوده. وقام الجندي الذي حصل على الفدية بإخراج المسكين من القلعة، بل وساعده على الوصول إلى فيينا حيث توجه، بعد نجاته بمعجزة، إلى صمويل أوبينهيمر طالبًا العون.

وصلت إلينا شهادة طبيب عسكري عن حصار القلعة ومقتل كثير من اليهود. ولكن عدد الأسرى أيضًا لم يكن قليلًا؛ إذ إن الجنود كانوا يعرفون أن الطائفة تجمع النقود لافتداء أبناء عقيدتهم. وانسحب في عمق القلعة كلُّ مَن تمكن من الفرار، في أثناء المجزرة الجنونية، أو الاختباء (كان بعض المسيحيِّين حينذاك يُئوون اليهود في أثناء المذابح والحروب)، واستمر الحصار يومين آخرين. وتم إرسال الفتيات والأتراك ذوي النفوذ واليهود الأثرياء إلى برلين. ويقول أحد المصادر الألمانية إنَّ القتلى من أعضاء الطائفة اليهودية ٧٢ فردًا. وطبقًا لوثائق أخرى قُتل أكثر من ٥٠٠ شخص، وأحرق النمساويون المعبد الكبير بكلِّ من لجأ إليه (وكان عددهم حوالي مائة)، وتم نهب أملاك الطائفة.٢٩

وعندما علم يهود براج بحصار بودا ومأساة أبناء عقيدتهم، الذين كانوا على اتصال دائم بهم، حاوَلوا مساعدتهم. وقام أحد شهود العيان لحصار المدينة اليهودي تاوسك، بتأليف قصيدة عما شاهده. وكان الأمير دي لورين، الذي يقود القوات الموجودة تحت أسوار القلعة، يعرف تاوسك، واستجابة لطلب الرحمة باليهود، وعد بأن أحدًا لن يَمسَّهم بل وسمح حتى لتاوسك بدخول القلعة ليحمي أبناء عشيرته بنفسه. وصورت القصيدة الأمير دي لورين كقائد كريم، أمر فرسانه بجمع اليهود في المعبد ووضع حراسة عليهم. ولكن في الواقع لم يحدث شيء من هذا.

عندما دخل تاوسك القلعة شاهد آثار مذبحة رهيبة وأنهارًا من الدماء. لم يرحم المُنتصرون لا الأتراك ولا اليهود. وفي الحي اليهودي حاول تاوسك أن يهدئ من روع أولئك الذين بقوا سالمين، وتمكن من تحرير جزء من الأسرى وقرر إرسالهم إلى بريسبورج. وفي أثناء عبور النهر هاجمهم عدد من اللصوص وقُتل كثيرون من بين ٢٤٧ فردًا كان قد حررهم. وحاول تاوسك حماية باقي المساكين الذين فقدوا أقاربهم. ولم يَصِل إلى بريسبورج سوى ٧٠ شخصًا. وتوجه إلى فيينا مبعوث ليطلب العون من أوبينهيمر الثري ذي النفوذ.

تمكَّن تاوسك من الحصول على خطاب توصية من إمبراطور النمسا وتصريح مرور موقع من ملك بولندا، وعاد معه إلى بريسبورج ٦٢ يهوديًّا آخرين تم تحريرهم من الأسر. ولكن هنا كانت في انتظاره عقبة غير متوقعة؛ إذ إن حراس المدينة الجشعين طلبوا من تاوسك ٢١٠٠٠ قطعة ذهبية كفدية، ولم يكن يمتلك هذا المبلغ، وقبضوا عليه بحجة سخيفة. وتطلب الأمر إرسال خطاب إلى طائفته وطلب المساعدة. وبعد قضاء ٣٩ أسبوعًا في المحبس تسلم تاوسك أخيرًا النقود وتحرر. وقد تمكن تاوسك من إخراج ٢٧٠ أسيرًا يهوديًّا و٣٥ لفافة توراة من بودا، لذلك حصل على شهادة شكر،٣٠ وكتب قصته ومغامراته في قصيدة شعر.
سرعان ما انتشرت في أوروبا الأقوال عن أنَّ اليهود كانوا يدافعون عن بودا كتفًا لكتف مع الأتراك، الأمر الذي أصبح مبررًا للمذابح في كثير من المدن بما في ذلك بادوا؛٣١ حيث قامت الجماهير الثائرة، التي تملكتها الرغبة في الانتقام، بتدمير الجيتو اليهودي. ومن المعروف أيضًا أن القوات النمساوية، التي استولت على بودا، نهبت المدينة بشكل لا يقل عما قام به الأتراك. وبعد طرد الأتراك من بودا اختفى اليهود لفترة طويلة من المدينة، ولم يظهروا من جديد إلا في نهاية القرن الثامن عشر.

وطبقًا لمعاهدة كارلوفتس السلمية عام ١٦٩٩م، الموقعة مع النمسا وبولندا وفينيسيا، حصلَت النمسا على ما يقرب من كل أراضي المجر التي كانت تابعة للإمبراطورية العثمانية وكذلك ترانسلفانيا وباتشكا وكل سلافونيا تقريبًا، وانضمَّ إلى بولندا الجزء الذي كان تحت سيطرة الأتراك من الشاطئ الأيمن لأوكرانيا وبودوليا، واحتفظت فينيسيا في البحر بست قلاع في دالماتسيا وعدة جزر في الأرخبيل.

١  باشاليك تعني أيَّالة أو ولاية بالتركية. (المترجم)
٢  بودا هي الجزء الغربي من العاصمة المجرية بودابست على الضفة اليمنى من نهر الدانوب. (المترجم)
٣  استخدمت في هذا الفصل وثائق الأرشيفات المجرية المنشورة في كتاب: Raj Tamas-Vasadi Peter. Jewish Life in Turkish Buda. Budapest, Makkabi, 2003.
٤  Galanti A. Türkler ve Yahudiler. S. 36.
٥  Nouvelle Revue de Hongrie. Budapest, 1944, mars, p. 114.
٦  Raj T. Vasadi P. Jewish life in Turkish Buda. pp. 16-17.
٧  Idem, p. 17.
٨  Idem, p. 19.
٩  Idem, p. 20.
١٠  عملة فضية تركية. (المترجم)
١١  Idem, pp. 24–26.
١٢  مدينة في بلغاريا. (المترجم)
١٣  عاصمة سلوفاكيا. (المترجم)
١٤  مدينة مجرية. (المترجم)
١٥  Idem, pp. 29–34.
١٦  Idem, pp. 32-33.
١٧  Idem, pp. 34-35.
١٨  Idem, pp. 36-37.
١٩  [Evlia Cselebi] Turkish Traveller Evliya Chelebi’s journey in Hungary 1660–1664. Budapest, 1985. pp. 69-70.
٢٠  Raj T. Vasadi P. Jewish life in Turkish Buda. p. 40.
٢١  Idem, p. 30.
٢٢  إحدى ولايات النمسا. (المترجم)
٢٣  Raj T. Vasadi P. Jewish life in Turkish Buda. p. 43.
٢٤  Idem, pp. 41-42.
٢٥  Idem, pp. 44-45.
٢٦  Idem, pp. 46–49.
٢٧  Idem, p. 53.
٢٨  مارسيلي، الوضع العسكري للإمبراطورية العثمانية من الصعود إلى الانهيار، كُتب بواسطة الأمير دي مارسيلي … الجزءان ١-٢، سان بطرسبورج، ١٧٣٧م، الجزء ٢، ص:١٤٠–١٤٤؛ ١٤٧–١٥١؛ ١٥٣.
٢٩  Raj T. Vasadi P. Jewish life in Turkish Buda. pp. 53–56.
٣٠  Idem, p. 58.
٣١  مدينة في شمال إيطاليا. (المترجم)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤