الفصل التاسع

الطوائف اليهودية في البلقان

إمارات الدانوب

تدلُّ معلومات علم الآثار على أن اليهود عاشوا في داتشيا في القرن الثاني الميلادي (وتعرف هذه المناطق في الوقت الحالي باسم ترانسلفانيا وفالاخيا وباناتا). وفي سياق الغزوات الرومانية في الأعوام من ١٠١ إلى ١٠٧ ميلادية تحت قيادة الإمبراطور ترايان تحولت داتشيا إلى ولاية رومانية تضمُّ سكانًا من أعراق مختلفة كما هو الحال في العديد من أقاليم الإمبراطورية الأخرى، فإذا ما تحدثنا عن المستوطنات اليهودية، التي كانت موجودة هنا في ذلك العصر، فإن بإمكاننا أن نستند في ذلك إلى النصوص التي عثر عليها علماء الآثار في رومانيا في سارميسيدجيوتس وخيرشوف، وكذلك إلى الكتابات اليهودية التي يعود تاريخها إلى عامي ١٣٣ و١٣٤ ميلادية.

وقد وصَل إلينا من المصادر الأكثر قدمًا وصف للطائفة اليهودية التي زارها اليهودي بنيامين من توديلا في عام ١١٦٥م. واستنادًا إلى عدد من الوثائق التجارية التي يعود تاريخها إلى القرن الثامن عشر، فقد كان اليهود يدعمون العلاقات التجارية مع بيزنطة والأراضي الروسية وبولندا. كانت الطرق التجارية تمتدُّ عبر بلغاريا والأراضي المتاخمة لنهر الدانوب. ويذكر المؤرخ نيكولاي يورجا أن اليهود استفادوا من عملية نقل البضائع عن طريق الترانزيت من القسطنطينية قبل عام ١٨٤٠م وهناك وثائق تؤكد وجود مستعمرة يهودية في أكيرمان في النصف الأول من القرن الرابع عشر الميلادي.

ويَذكُر المؤرخان ب. خاشديو وم. كوجالنيتشانو أن اليهود استقروا في الأراضي الرومانية بعد قيام الملك لودفيك الأول (١٣٤٢–١٣٨٢م) بنفيهم من المجر بزعم أن الطائفة رفضت اعتناق المذهب الكاثوليكي. وقد أضعف هذا الملك، الذي اشتهر بتطرفه الديني، فضلًا عن سياسته الخارجية العدوانية، إمكانات جيرانه من الشعوب السلافية في مقاومة التهديد التركي الذي بات قريبًا منهم.

من المعروف أن القائد العسكري لفالاخيا المدعو دان الأول (١٣٨٣–١٣٨٦م)، والذي كان يُشجِّع التجارة على أراضيه، قدَّم لليهود إمكانية الإقامة داخل حدود بلاده، وأنعم عليهم بميزات، من بينها حق استئجار الأرض لمدة عام واحد، يُمكنهم بعده أن يمدُّوا مدة الإيجار تبعًا لما تراه السلطات.

وهناك معلومات تُفيد أن المستوطنات اليهودية الصغيرة في مولدافيا ظلت كما هي في فترة حكم ستيفان الثالث (١٤٥٧–١٥٠٤م). كان اليهود يُتاجرون في الخضر والفواكه والأسماك والملح والمواد المتعلقة بالملابس وفراء الثعالب والسناجب والجلود والعسل وغيرها من السِّلع.

في الأوقات الصعبة التي عاشتها الإمارة إبان هجوم القوات البولندية والتركية، استقبل ستيفان الثالث مبعوثًا من بلاد فارس، هو اليهودي إسحاق بيج، الطبيب والدبلوماسي، وقد بحثا معًا إمكانية التحالف ضد الأتراك.١

من البديهي أن هذه المباحثات لم تُكلل بالنجاح؛ إذ إن القائد العسكري سرعان ما اضطر أن يُصبح تابعًا للإمبراطورية العثمانية. هذا القرار مكَّنه بدرجة ملحوظة من الوقوف في مواجهة عدوان ملك بولندا، الذي تمكنت قواته من إلحاق الهزيمة به في عام ١٤٩٧م بدعم من الأمير العظيم إيفان الثالث، أمير موسكو.

في عام ١٤٧٦م تمَّ إعلان فالاخيا منطقة تابعة للدولة العثمانية، وفي عام ١٥٠١م أصبحت مولدافيا أيضًا إمارة تابعة. كلتا الإمارتين الواقعتين على نهر الدانوب احتفظتا باستقلالهما فيما يخص شئونهما الداخلية؛ أي أنهما لم تتحوَّلا إلى باشاليك. لم توضع في هاتين الإمارتين أي حاميات تركية أو ممثلون عن الإدارة العثمانية، لكنهما كانتا ملتزمتَين بإرسال جزية سنوية إلى الخزانة السلطانية. وقد ازدادت قيمة هذه الجزية من ثلاثة آلاف إلى أربعة آلاف دوقية ذهبية مع نهاية القرن الخامس عشر ومن ستين ألفًا إلى ثمانين ألفًا مع نهاية القرن الرابع عشر.

في البداية كان القادة العسكريون في هذه الإمارات يُختارون من بين أصحاب الأراضي من العائلات الشهيرة، ثم يقوم السلطان باعتمادهم.٢

على أنه وبمرور وقت قصير تعرضت هذه المناصب الرفيعة للفساد الشامل، وهو نفس الفساد الذي أصاب الإدارة العثمانية بأكملها، والذي كان، وما يزال حتى الآن، عُرفًا في عدد من بلدان الشرق.

سرعان ما بدأ بيع وظائف القادة العسكريين للطامعين، الذين كانوا يدفعون فيها مبالغ كبيرة. وكثيرًا ما كان يتم تغيير القادة العسكريين، الأمر الذي انعكس على نحو سيئ، بطبيعة الحال، على الوضع الداخلي في هذه البلاد. كان كل قائد عسكري جديد يُحاول أن يَعتصر من السكان أقصى ما يُمكن ابتزازه، ثم يقوم بتسوية حسابه مع الأتراك، بحيث لا يُلحق ذلك به ضررًا. ومنذ عام ١٧١١م وحتى عام ١٧١٦م، ثم بعد مرور ردحٍ من الزمن حتى عام ١٨٢٢م، كان الأتراك يضعون على عرشي مولدافيا وفالاخيا حكامًا من اليونانيِّين الفناريين فقط.

وبالنسبة للسلاطين، فقد كانت مناطق إمارات الدانوب تمثل أهمية كبرى لهم، ليس فقط بسبب موقعها الجغرافي، وليس فقط بسبب التجنيد الإجباري للوحدات العسكرية المولدافية والفالاخية، التي كانت مُجبَرة على المشاركة في الحملات العسكرية التي كان الأتراك يقومون بها، وإنَّما لأن حكام الإمارات كانوا يقومون أيضًا، وعلى نحو كبير، بإمداد الحُصون التركية الموجودة في الجزء الأوروبي من الإمبراطورية العثمانية، بما في ذلك العاصمة، بالموادِّ الغذائية؛ فكانوا يُوردون لها اللحوم والأرز والملح والجبن والدهن والعسل وما إلى ذلك من مواد.٣

تُرجع بعض المصادر، بما في ذلك المصادر اليهودية، زمن تنشيط التجارة اليهودية في هذه الإمارات إلى منتصف القرن السادس عشر؛ أي إلى فترة السيادة التركية. ومن المعروف أن طائفة السفارديم، الذين فروا من إسبانيا والبرتغال قد تأسَّست في هذا الوقت في بوخارست. آنذاك تقريبًا وصل اليهود الأشكيناز إلى إسطنبول وسالونيك وإلى مدن مولدافيا قادمين من غرب أوروبا. هؤلاء كانوا مشاركين نشطاء في التجارة مع بولندا وغيرها من البلاد الأوروبية. كانت التجارة تسير عبر إمارات الدانوب، وكان اليهود يُتاجرون في الماشية والجلود والشمع والخمور والملابس، وفضلًا عن ذلك فقد كانوا في هذه الفترة يعملون بتجارة التجزئة في الملابس المنتجة في بولندا وفي تبادل العملة-الزلوطا البولندية والدوكاتية المجرية والإيطالية. كان لليهود المُقرضين وضع جيِّد لدى الباب العالي أيضًا، وكذلك لدى البلاط البولندي.

على أنَّ اليهود الذين استقرُّوا هنا وفي مناطق ممالك الدانوب لم يَنعموا بالسكينة والاستقرار. إن الأحداث التي وقعت في هذه البلاد، التي ساقتهم إليها الأقدار، قد انعكست، على نحو أو آخر، في المقام الأول على النازحين، الذين ظلوا غرباءً بالنسبة للسكان المحليين، فكانوا يتعرَّضون للسرقة والاضطهاد لمجرد اندلاع أية اضطرابات داخلية.

كان الباب العالي عندما يحتاج إلى المال يلجأ إلى الابتزاز، فيُرغم أمير مولدافيا على دفع ثمانين ألف زلوطا، بدلًا من الأربعين ألفًا المُعتادة، إلى الخزانة. وفي عام ١٥٧٢م دعا إيون ليوتي الشعب إلى الانتفاضة، وقد دعمه جزء من السكَّان وأصحاب الأراضي، وقد قام السلطان باتخاذ خطوته، بأن عيَّن الأمير بيتر خروموي (الأعرج) وأصدر أمره للسنجق بيه (القائد العسكري) نيكوبول وأميرَيْ ترانسلفانيا ومونتينيا (الجزء الجنوبي لفالاخيا المتاخم لبوخارست) بالقضاء على قوات إيون. على أن الأخير استطاع أن ينزل بأعدائه الهزيمة وأن يحتلَّ بوخارست. كان السلطان معرضًا لفقدان بيصاربيا-رأس الجسر الأهم الواقع شمال غربي البحر الأسود. وفي عام ١٥٧٤م وجَّه السلطان جيشه المكون من ١٣٠٠٠٠ فرد إلى بيصاربيا ثم أضاف إليهم ١٠٠ ألف آخرين من الجيش التتاري. وفي المعركة التي جرت عند بحيرة كاجول مُني إيون ليوتي بالهزيمة ليقع في الأسر وتتم الإطاحة برأسه.

وفي مرحلة أخرى من الحرب الدائرة بين الإمبراطورية العثمانية والنمسا، تم في عام ١٥٩٤م تنظيم انتفاضة جديدة ضد السلطان. قرر أمير ترانسلفانيا سيجيزموند باتوري وأمير فالاخيا ميخائيل طرابري (الشجاع) وحاكم مولدافيا أرون، القائد العسكري، الدخول في تحالف مع الإمبراطور رودولف الثاني إمبراطور النمسا (١٥٧٦–١٦١٢م).

جمع ميخائيل الشجاع دائنيه في قصره، من غير الأتراك أساسًا، وأحرق القصر. وكان ذلك هو المبرِّر للانتفاضة. على أن المتمرِّدين لم يتلقَّوا المساعدة، التي كانوا يتطلَّعون للحصول عليها، وتم سحقهم على يد الجيش التركي، الذي كان يتفوق عليهم على نحو كبير.

وقد استطاع ميخائيل الشجاع أن يحقق بعض النجاح في المعارك التي دارت بعد ذلك، على أن هذا النجاح لم يسفر عن تحرير إمارات الدانوب. كانت هناك عدة أسباب وراء هذا الفشل، من بينها الخلافات التي دبَّت في معسكر المتمردين، وسرعان ما قُتل الأمير.٤

في الربع الأخير من القرن السادس عشر الميلادي دارت لدى الباب العالي نقاشات حامية بشأن قضية تغيير الوضع في إمارات الدانوب، وعن تحويلها إلى باشاليك، مثلها مثل الأقاليم العثمانية الأخرى. وقد أيَّد هذا الاتجاه الصدر الأعظم سنان باشا. لكن هذه الفكرة لم يُكتب لها التحقُّق آنذاك؛ فقد كَفَّت الحروب الدائرة مع النمسا وإيران، والانتفاضات في الأناضول، وفي أجزاء أخرى من الإمبراطورية، يد السلطان، الذي لم تكن لديه الرغبة في التورط في صراع جديد والدخول في أعمال عسكرية جادة وخيمة العواقب.

ظلَّت منطقة إمارات الدانوب طوال القرنين السادس عشر والسابع عشر وما بعدهما سببًا للنزاع بين الإمبراطورية العثمانية والنمسا، ثم مع روسيا التي قويت شوكتها في مطلع القرن الثامن عشر. وفي ظروف الحروب والانتفاضات المتكرِّرة لم يكن أمام سكان هذه المناطق، بمن فيهم اليهود، إلا أن يفكروا في البقاء على قيد الحياة.

تراجعَت السلطات العثمانية عن فكرة وضع والٍ مسلم على هذه الإمارات وقرَّرت أن تعين عليها مباشرة ودون انتخابات حكامًا مسيحيِّين، وأن يكونوا من بين المواطنين اليونانيين الفناريين؛ أي من الذين يسكنون حي الفنار في إسطنبول، وهؤلاء كان من بينهم عائلات من الأرستقراطية البيزنطية، التي استقرت في هذا الحي. بدأت هذه العملية في عام ١٦٥٩م، وبدءًا من عام ١٧١١م أصبحت تُطبق بصفة دائمة. ومنذ ذلك الوقت وحتى عام ١٨٢٢م راح الأتراك يعينون اليونانيين فقط حكامًا على مولدافيا وفالاخيا؛ هؤلاء كانوا يَشغلون أيضًا مناصب رفيعة أخرى في هذه الإمارات.٥ وتصف المراجع التاريخية هذه الفترة بأنها كانت فترة شديدة القسوة بالنسبة للسكان المحليين. والأرجح أنه لم يكن هناك تغيير ملحوظ بالنسبة للسكان العاديِّين، فيمن يكون سيدًا عليهم من المعيَّنين من قِبَل السلطان سواء كانوا من الصفوة المحلية أو من الصفوة اليونانية؛ حيث إنَّ الحرب والانتفاضات، فضلًا عن الضرائب الضخمة المدفوعة للخزانة التركية، لم تُساعد في ازدهار المنطقة. لكن هناك معلومات تفيد أن أوضاع الصفوة المحلية إبان اليونانيين قد ساءت على نحو ملحوظ.
في القرن الثامن عشر تطورت الصناعة والتجارة في البلاد الأوروبية بسرعة، وكانت المواد الخام اللازمة يتم استجلابها من المستعمَرات. وقد ظهرت علاقات إنتاجية جديدة، وأدخلت البرجوازية قواعد قانونية ومعايير خاصة تنظم العمل في هذا المجال. وقد وصلت هذه العلاقات الجديدة إلى حدٍّ معين وعلى نحو غير مباشر إلى بلدان شرق أوروبا. وازدادت الهجرة اليهودية إلى إمارات الدانوب. وقد وصل إليها بصفة أساسية الحرفيون والتجار، الحالمون بالرخاء في بلاد أكثر استقلالًا من الرقابة التركية. وقد أسهم هؤلاء في تطور السوق الداخلية في هذه الأراضي، وكذلك في التكامل التدريجي لهذه السوق مع السوق الأوروبية. وفي زمن حكم الفناريين تحديدًا حصل اليهود على وضعٍ ضَمِن لهم حرياتهم الدينية، فضلًا عن الحكم الذاتي للطائفة. وقد أُطلق على الحاخام الأكبر لقب حاخام باشا كما هو معمول به في إسطنبول. وكان القائد العسكري للإمارة هو الذي يعتمد هذا اللقب. كان الحاخام الأكبر يتمتع بعدد من الامتيازات، تدل على عظم منزلته، أما الحاخامية الكبرى للطائفة فكانت تُمارس دور «مجلس وإدارة» الطائفة، وكانت تجمع الضرائب وترسلها إلى خزانة الإمارة. ومن المعروف، استنادًا إلى وثائق منتصف القرن السابع عشر الميلادي، أنه كانت هناك في إيشاي٦ طائفة يهودية ضاربة في القِدم، كان بها سيناجوجات ومقبرة يهودية قديمة. ومن المعروف أيضًا أن الحاخام ناتان خانوفير، الذي فر من أوكرانيا، من المذبحة التي أقامتها عصابات بوجدان خميلنيتسكي، لجأ إلى إيشاي، وكان لدى القائد العسكري فاسيلي لوبو موظَّف يُدعى كوهين وكان عضوًا في نفس الطائفة. تعود هذه المعلومات إلى عام ١٦٤٦م.٧

هناك وثائق من وثائق البلاط تعود إلى أزمنة أكثر قدمًا، ورد بها ما يفيد تقديم عروض على النازحين الجدد من اليهود للإقامة في عدد من المدن والقرى، وقد شكَّل هؤلاء عددًا كبيرًا من دافعي الضرائب وأنعشوا الحياة الاقتصادية. وقد حصل المُهاجرون على أرض مخصَّصة لبناء مساكن وسيناجوجات وبناء مستوطنات (ميكقاه) ومدارس وملاجئ ومُستشفيات وما إلى ذلك. وقد ظهرت هذه المستوطنات أساسًا في مولدافيا، وتُسمى المستوطنة «شتيتل» وهي عبارة عن مدينة صغيرة يسكنها اليهود بالدرجة الأولى.

كانت الطوائف تضمُّ الأشكيناز والسفارديم. كانت التقاليد الدينية هي التي تُشكِّل أساس معيشتهم.

وكما ذكرنا من قبل، فقد كان حكم الفناريين ملائمًا للغاية بالنسبة للطوائف اليهودية. فيما بعد فُرضت عليهم قيود على حق امتلاك الأراضي، ونزعت عنهم إمكانية الإدلاء بشهادتهم في المحاكم ضد المسيحيين الأرثوذوكس، وبعد ذلك بدأت عملية طردهم جميعًا من البلاد. وإذا كان اضطهاد هذه الطائفة المسيحية أو تلك قد جاء نتيجة استفزاز الحروب والصراع الديني بين كاثوليكيي الإمبراطورية النمساوية والأرثوذوكس، فقد عانى اليهود من هؤلاء وأولئك. وبالمقارنة مع التسامُح النسبي للباب العالي المسلم مع أصحاب العقائد الأخرى-المسيحيين واليهود، فإنَّ كاثوليكيي الإمبراطورية المسيحية قد تعاملوا مع المسيحيِّين الأرثوذوكس بقسوة متناهية. وبناءً على أمر من الجنرال أدولف بوكوف في عام ١٧٦١م جرى نهب وإحراق الأديرة الأرثوذوكسية في ترانسلفانيا، التي تضرر من جرائهما حوالي ١٥٠ ديرًا.

في نهاية القرن الثامن عشر أخذت الإمبراطورية العثمانية في فقدان أوضاعها أكثر فأكثر في ممالك الدانوب. وبناءً على اتفاقية كيتشوك كايناردجي، التي أنهت الحرب الروسية التركية التي استمرت في الفترة من عام ١٧٦٨م وحتى عام ١٧٧٤م، استعاد الأتراك بيصاربيا ومولدافيا وفالاخيا، التي كانت تحتلُّها روسيا. لكن الأتراك لم يُحقِّقوا هنا سوى نجاح مؤقت؛ مجرد مرحلة في الطريق نحو استقلال هذه الإمارات.

تدريجيًّا تم إلغاء القانون العثماني، الذي يُعطي للأتراك الأولوية في شراء البضائع المصدَّرة من الإمارات، التي كان يمكنها إرسال مندوبيها إلى إسطنبول. وفي عام ١٨٢٢م أعيد قانون انتخاب القائد العسكري في الإمارات من الصفوة المحلية بدلًا من الحكام اليونانيين، الذين كان الباب العالي يقوم بتعيينهم.

لقد حصل حكام مولدافيا وفالاخيا على سلطة أكبر على أراضيهم، الأمر الذي كان يُواكبه دائمًا تضييق على الطوائف اليهودية. في عام ١٨١٧م صدر في مولدافيا قانون كاليماخ، أما في فالاخيا فقد صدر قانون كاراج عام ١٨٨١م. تضمَّن القانون قواعد جديدة لإقامة الأجانب في هذه المناطق، وكذلك اليهود المُقيمين هناك. وبناءً على المادة ١٤٣٠ من قانون كاليماخ كان بإمكان اليهود شراء البيوت والمحال في مدن مولدافيا، على أنه كان محظورًا عليهم شراء الأراضي في الضواحى والريف.

بنهاية حكم الفناريِّين أصبح لليهود الحق في الإقامة في جميع أنحاء الأراضي المولدافية وفي الكثير من أقاليم فالاخيا. وقد قامت سلطات الإمارة بتقسيمهم إلى ثلاث فئات: اليهود المحليون؛ وهؤلاء هم الذين وصلوا إلى البلاد قبل زمن بعيد ليَذوبوا في اليهود الأصليِّين؛ أما الفئة الثانية فهم من يُعرفون باسم الخريزوفيليين، الذين أقاموا هنا منذ زمن غير بعيد بموجب مرسوم حكومي خاص؛ والفئة الثالثة وهم اليهود السوديت sudits (يهود رومانيا)، الذين كانوا يتمتَّعون بالحماية الأجنبية من الاستبداد الذي كان طاغيًا في هذا العصر. هذه الاختلافات في وضع السكان اليهود تجذرت بسرعة بسبب العادات المحلية في هذا الإقليم وفي غيره، أكثر من أي قانون جرى تثبيته. وقد استمرَّت هذه الاختلافات حتى أصدرت إمارات الدانوب وثيقة الدستور (١٨٣١-١٨٣٢م).

كفلت معاهدة أدريانوبول للسلام، التي أنهت الحرب الروسية التركية (١٨٢٨-١٨٢٩م)، التي مُنيت فيها تركيا بالهزيمة، الحكم الذاتي لمولدافيا وفالاخيا. وقد كان لهذه المعاهدة أيضًا نتائج على سكان الإمارات من اليهود. كانت إمارات الدانوب تُعتبر من الناحية الرسمية ضمن ممتلكات السلطان، الذي كان في واقع الأمر يحصل على الجزية السنوية فقط. وفي هذا السياق لم يكن لديه أي وسائل كافية لإلزام الحكام بدفعها في حالة رفضهم. ولم يكن باستطاعة الباب العالي، بناءً على هذه المعاهدة، التدخل في الشئون الداخلية للإمارات، كما لم يكن لديه الحق في توطين المسلمين في هذه الأراضي حسبما يرى.

حصلت كلٌّ من مولدافيا وفالاخيا على الحق في انتخاب أمرائهما على نحو مستقل. وقد أصبح حكمهم الآن مدى الحياة (وكان مقيدًا قبل ذلك بسبع سنوات). ازدادت حقوق الأمراء في الإدارة الداخلية على نحو ملحوظ، وأصبح باستطاعة الأمراء امتلاك جيش محلي وحماية وتقوية حدودهم الخاصة. وقد أخذت روسيا على عاتقها تأمين حقوق إمارات الدانوب، الأمر الذي زاد، بطبيعة الحال، من تأثيرها على مناطق البلقان.٨ وفي واقع الأمر كان هذا بمثابة نظام حماية روسي على الإمارات مع الحفاظ على التبعية الصورية للسلطان. وقد بدأت مولدافيا وفالاخيا تدريجيًّا في الخروج على سلطة الأتراك بينما زادَت مَواقف روسيا قوة. كما أن روسيا حصلت بموجب هذه المعاهدة على الأراضي الواقعة عند مصبٍّ نهر الدانوب.٩

جاء صدور وثيقة الدستور (١٨٣١-١٨٣٢م)، الذي ورَد ذكره سابقًا، نتيجة لوضع السياسة الخارجية، التي أصابها التغيير في الإمارات، وهذا الميثاق يعد دستورًا من نوع خاص، وضع بداية لعدد من الإصلاحات ذات الصبغة الأوروبية. وفي الوقت نفسه، ووفقًا لهذا الميثاق، بدأ في سريان القانون، الذي أفقد السكان غير المسيحيِّين حقوقهم المدنية والسياسية، وقد ورَد في المراسيم التي تمَّ إعدادها على أساس هذا القانون أن اليهودي، أيًّا كان، والذي لا يستطيع أن يثبت وجود مصدر ثابت لديه للعيش، فإنه يكون بذلك قد تساوى والمتشرَّدين، ومِن ثمَّ يكون مُعرَّضًا للنفي من البلاد في أي وقت. وفي الوقت نفسه ألغت هذه المراسيم الجديدة مؤسسة الحاخام الأكبر بكل امتيازاتها. تغير نظام علاقات التعاون بين الطائفة اليهودية والسلطات. تُرك لليهود الحق في الحصول على التعليم الحكومي الابتدائي، كما ظل الميثاق العضوي ساريًا مع بعض التعديلات التي أدخلت عليه إلى أن تمَّ توحيد الإمارات في عام ١٨٥٩م.

على أيِّ حال، رغم سياسة التقييد التي كانت تتبعها الدوائر الحاكمة للإمارات تجاه اليهود، فإنَّ عدد النازحين إلى هذه الأراضي ظلَّ في زيادة على امتداد القرن التاسع عشر، وخاصة بعد توقيع معاهدة أدريانوبول للسلام بين روسيا والإمبراطورية العثمانية في عام ١٨٢٩م. وكما ذكرنا من قبل فإن إمارات الدانوب فتحت أبوابها أمام رأس المال الغربي، ولم يكن اليهود ببعيدين عن هذه العملية. كانت سياسة الأمير ميخائيل ستوردزي موجهة نحو جذب اليهود إلى مولدافيا، على الرغم من اعتراض جزء كبير من الصفوة.

وبناءً على التعداد الذي جرى في مولدافيا عام ١٨٠٣م، وصَل عدد اليهود إلى حوالي ١٢ ألف نسمة، وبحلول عام ١٨٥٩م ازداد عددهم ليصل إلى ١٣٠ ألف نسمة؛ أي إلى ما يعادل ٣٪ من مجموع سكان الإمارة. كان نمو السكان اليهود في فالاخيا ملحوظًا؛ ففي عام ١٨٣٨م تم إحصاء ١٩٦٠ نسمة، وفي عام ١٨٥٩م وصل عددهم إلى ١٧ ألف نسمة.١٠ في هذه السنوات جرت في طوائف الإمارة عمليات بطيئة معقدة في التكامل الاجتماعي والاقتصادي وفي الاندماج الثقافي الجزئي لليهود في وسط مختلف عنهم قوميًّا. وقد واكب هذه العمليات بشكل حتمي تحديث للطوائف اليهودية في الشتات، وكثيرًا جدًّا ما انتهَت بانفجارات إثنودينية مقاومة وكراهية تجاه اليهود من جانب النُّخب المحلية. كان الإحساس الكامن بمعاداة السامية يزداد حدة نتيجة للشعور بالحسد تجاه النجاح المالي الذي حقَّقته بعض العائلات اليهودية، وقد استغلَّ ذلك من جانب السلطات باعتباره وسيلة فعالة لتضامن الجماهير وتجنيدها في الصراع مع الخصوم السياسيِّين. وقد رأى المناصرون السياسيون لمذهب معاداة السامية، الذين كانت لديهم أوهام باطلة كثيرة، رأوا في تكامل اليهود في المجتمعين المولدافي والفالاخي مأساة حقيقية، ومع ذلك فإن محاولاتهم لاستمالة المجتمع ضد اليهود لم تكن تُكلَّل دائمًا بالنجاح؛ إذ إن هذه المحاولات كانت تقف على النقيض من المصالح الاقتصادية العقلانية تمامًا للدولة. وعلى الرغم من المزاج الساخط المعادي للسامية لدى جزء كبير من المجتمع، فإن الحاجة الملحة للاقتصاد في رأس المال الأجنبي من أجل التحديث دفعت الحكومة إلى تخفيف القواعد القاسية المنظَّمة لإقامة اليهود في البلاد. لقد أسهم اليهود تحديدًا في قيام السوق وفي العلاقات الرأسمالية في هذه البلاد.
يُرجع رجل الاقتصاد فيرجيل مادجارو الفترة الأولى من تقدم الرأسمالية في الإمارات إلى وصول رجال البنوك اليهود الأوائل؛ ميخائيل دانييل خالفون في عام ١٨٢٠م والإخوة إلياس في عام ١٨٣٧م، وكذلك إلى خيليل مانواخ ويعقوب مارمورش في عام ١٨٤٨م. وكان الدكتور تسوكر قد قام ببناء مؤسسة لتصنيع الحديد في بوخارست في عام ١٨٣٦م.١١

وجدت الثورة في فرنسا وفي غيرها من دول أوروبا الغربية صدى لها في الأحداث السياسية، التي وقعت في إمارات الدانوب. وفي مارس عام ١٨٤٨م قام مُمثلو النبلاء والدوائر المعارضة في مولدافيا، الغاضبون من حكم الأمير ميخائيل ستوردزي، بكتابة عريضة أعربوا فيها عن احتجاجهم على الظلم الإداري، وطالبوا بإلغاء الرسوم الجمركية الداخلية وإجراء الإصلاحات، التي حان أوانها منذ زمن بعيد. وقبل الأمير جزءًا من هذه المطالب، التي كان النبلاء المعارضون مُهتمين بها. أما الحركة الثورية المتصاعدة في مولدافيا فقد تمَّ إخمادها على يد الحكومة الروسية، التي دفعت إلى أراضي مولدافيا بفيلق قوامه اثنا عشر ألف فرد.

ساهمت الأحداث الثورية في فالاخيا في وصول جزء من النبلاء المعارضين ومعهم مُمثلو البرجوازية إلى سدة الحكم، وإن حدث ذلك لفترة قصيرة. وفي الحادي والعشرين من يونيو عام ١٨٤٨م عقد أعضاء الجمعية السياسية؛ «العدالة والأخوة»، والتي كان من بينهم يهود أيضًا، اجتماعًا في قرية إيزلاز ضم فلاحين محليِّين وجنودًا وضباطًا من القوات المقيمة هناك. خرج الاجتماع بعدد من المطالب، التي جرى تلخيصها في بيان: الاستقلال التام لفالاخيا، حرية الصحافة، إقامة حرس وطني، دعوة المجلس التأسيسي لإعداد الدستور. وتضمَّن بيان إيزلاز أيضًا بنودًا كانت تتعلق بالأقليات القومية؛ الغجر واليهود. وطالب البند الحادي والعشرون من البيان المذكور بتحرير الأقليات المضطهدة والمُميزة عنصريًّا وتقديم الحقوق السياسية لكل أبناء الوطن، بغض النظر عن قوميتهم أو دينهم. وقد تم انتخاب رجل البنوك خيليل مانواخ، الذي ورَد ذكره من قبل، عضوًا في مجلس بلدية بوخارست.١٢

تدريجيًّا فُتِحَت إمكانية تطوير الصناعة والحرف المحلية، وتأسست حرية واسعة أمام المؤسسات المحلية، فتم إلغاء الرسوم الجمركية الداخلية، ومن ثمَّ بدأت المصانع والورش في الظهور، والتي لم تكن موجودة هنا من قبل. وقد جاءت مبادرة إنشائها للمرة الأولى من قبل الأجانب، الذين كان من بينهم عدد غير قليل من اليهود.

تمثَّلت العقبة الأولى أمام تطوير الصناعة في مولدافيا وفالاخيا في التركيبة الاجتماعية، التي تجمعت ضد المبادرة الاستثمارية. كان هناك عدد قليل للغاية في الإمارات، ممن لديهم القدرة على ضخِّ رءوس أموالهم في الصناعة، ومِن ثمَّ كان من بين المستثمرين جزء كبير من الأجانب، كان لديهم الاستعداد للمُخاطرة بأموالهم. كما كان من بين العوامل المُعرقِلة بشدة للتطور الاقتصادي أيضًا غياب العمال المؤهَّلين، ومحدودية أسواق الترويج، وهيمنة نظام المقايضة في أماكن عديدة، بالإضافة إلى قلة المدن ومنافسة البضائع الأجنبية الأفضل من ناحية نوعيتها، والتي تَراجع أمامها الإنتاج المحلي. فضلًا عن ذلك فكثيرًا ما كان الصدام يقع بين المستثمرين المولدافيين أو الفالاخيين. وفي مُنتصَف القرن التاسع عشر ظهر جدل بين مُصدِّري الماشية في الإمارتين حول بيع هذه الماشية إلى مصنع جولدنر للمعلبات في جالاتس؛ حيث إنَّ نقل الماشية من فالاخيا قد قلَّص من أسعار الماشية المولدافية بشكل ملحوظ.١٣
نظر كثير من المثقَّفين اليهود بإدراك وإحساس إلى أحداث عام ١٨٤٨م الثورية. هؤلاء كانوا يأمُلون أن تحصل الجماهير من أبناء عقيدتهم، الذين عانَوا الذل والفقر والنسيان، على حُقوقهم السياسية. وقد شارك في الحركة الثورية الفنانان باربو إيكوفيسكو ودانيال روزنتال، الذي أبدع لوحة «رومانيا الحرة». بينما ضحَّى عدد من رجال البنوك، من بينهم خيليل مانواخ ودافيون بالي، بأموالٍ ضخمة من أجل احتياجات الحركة الثورية. وهناك وثائق تدلُّ على اشتراك اليهود في القتال مع الأتراك.١٤

بعد هزيمة الحركة الثورية في الإمارات تعرَّض المقاتلون من أجل الحقوق المدنية لليهود لضربة، أما فكرة هذه الحقوق ذاتها فقد «تجمدت». كانت المحاولات الجديدة في هذا الاتجاه قد اتَّخذت بعد جمع مولدافيا وفالاخيا في دولة رومانيا الموحدة، والتي أصبح على رأسها ألكسندر كوزا (١٨٥٩–١٨٦٦م)، وكان يحكم البلاد تحت اسم ألكسندر يوان الأول. وفي البيان المنشور «إلى الرومانيين أتباع شريعة موسى»، أُشير إلى نيات الحكومة «السير في طريق تحرير الرومانيين أبناء العقيدة اليهودية.» على أنه وحتى الإصلاحات الصغيرة (توسيع مجال حقِّ الانتخاب وما إلى ذلك) أثارت مقاومة شرسة من جانب الدوائر ذات النفوذ. وفي عام ١٨٦٦م أُزيح ألكسندر موزا عن عرشه، وتم نفيه من رومانيا، وقد حلَّ محله كارل جوجنتسوليرن بدعم من فرنسا وإيطاليا ودول أخرى، على الرغم من اعتراض تركيا، التي لم تكن ترغب في انتخاب أمير أجنبي.

وفي عام ١٨٦٦م نفسه، تمَّ إصدار أول دستور روماني. وكان من بين مَن قاموا على إعداده المدعو إيون براتيانو، الذي وعد بإدخال بند في نصه يتعلَّق بمنح الجنسية لكلِّ السكان، على أن الوثيقة الختامية صادقت على عدم أحقية السكان اليهود في الحصول عليها. وقد ذكر أريستيد باسكال، أحد الذين قاموا بتحرير نصِّ الدستور، أنَّ النسخة الأولى من المادة السابعة كانت قد جرت صياغتها في البداية على النحو التالي: «لا يُمكن للدين أن يمثِّل عقبة أمام الحصول على الجنسية.» وقد أثارت هذه النسخة استياءً عامًّا من جانب جميع أعضاء لجنة الدستور تقريبًا، الذين لم يكونوا يَميلون لصالح اليهود الرومانيِّين. وفضلًا عن ذلك فقد كان للاحتجاجات الجماهيرية في الشارع المعادي للسامية دور كبير أيضًا. وفي النهاية فإن الفقرة الثانية من المادة السابعة قد تمَّ إقرارها بالصياغة التالية: «باستطاعة الأجانب المسيحيِّين فقط الحصول على الجنسية الرومانية.» أما بالنسبة لليهود المحليِّين والخريزيفيليين فقد ظلَّت الجنسية بالنسبة لهم بعيدة المنال، ليظلُّوا جماعة لا وضع قانونيًّا لها، على الرغم من أنهم، في واقع الأمر، كانوا يقومون بجميع الالتزامات التي يقوم بها المواطنون؛ فكانوا يخدمون في الجيش ويَدفعون الضرائب والرسوم ويلتزمون بقوانين البلاد الخاصة بالإقامة. كان اليهود الرومانيون يصنفون باعتبارهم أجانب غير مسيحيي الديانة؛ أي إلى عدد الأشخاص الذين تمَّ تمييزهم على أساس العرق.١٥ لقد أصبح الخطاب المعادي لليهود والمذابح التي جرت عام ١٨٧٦م مبررًا للاحتجاج النشط من جانب كل من إنجلترا وفرنسا وتركيا والولايات المتحدة الأمريكية على الحكومة الرومانية.١٦

بتطور الرأسمالية، إلى جانب الخرافات التقليدية والعداء الديني، فقد عانى اليهود بشدة من إجراءات تقييد أعمالهم أو التضييق عليها. كان هؤلاء المنافِسون الناجحون الغرباء يتم طردهم في أغلب الأحوال. لم يكن هناك أحد مهتمًّا بأن اليهود أسهموا في حرب الاستقلال عام ١٨٧٧م، وبأنهم شاركوا في العمليات العسكرية وأنه قد تمت الإشادة بشجاعتهم. وفي الأمر الذي أصدره الجنرال سيرنات، قائد الجيش الروماني، كان من بين الذين تمَّ تكريمهم لقاء ما أدوه من خدمات، الرقيب فلورين بيركوفيتش والملازم ثانٍ ماوريتشو بروسينر، اللذان شاركا في المعارك التي دارت أيام ٢٧، ٣٠، ٣١ أغسطس و٥ سبتمبر ١٨٧٧م. كان اليهود قد شكَّلوا لجانًا لدعم التشكيلات العسكرية وجمعوا مالًا وموادَّ غذائية من أجلها. وبمبادرة من واحدة من المنظمات اليهودية الأولى؛ «سيون»، التي أُنشئت في عام ١٨٧٢م، والتي دافعت عن مصالح يهود بوخارست، تمَّ افتتاح المُستشفى العسكري الروماني الإسرائيلي. وكان الدكتور أ. كوهين-كوسين مديرًا لها. تم تسليم المستشفى لتصبح تحت تصرف الإدارة الطبية العسكرية لتقديم المساعدة للمُشاركين في المعارك بالقرب من مدينتي بليفنا وفيدين إبان الحرب التركية الروسية عامي ١٨٧٧ و١٨٧٨م.

وفي مؤتمر برلين الذي عقد عام ١٨٧٨م، والذي وضع نهاية للحرب، طرحت دول الغرب الكبرى، على الحكومة الرومانية، قضية إعادة النظر في المادة السابعة من دستور ١٨٦٦م، المُميز عنصريًّا لليهود على نحو مشين. وقد جاء في الصياغة الجديدة لنص المادة السابعة أن الجنسية الرومانية يمكن أن تُقدم إلى سكان البلاد من غير أصحاب الديانة المسيحية أيضًا. على أنه وحتى في الصياغة الجديدة أيضًا فقد ورَد تفسير هو في جوهره يُؤدِّي إلى عدم سريان هذه المادة: «إن حق التجنس يُقدم فقط على أساسٍ فرديٍّ من جانب المؤسَّسة التشريعية.» على هذا النحو فإنَّ هذه القضية قد تمَّ تحويلها لاختصاص البرلمان، الذي رفض، بطريقة نظامية، طلب اليهود بشأن التجنُّس.

سرعان ما حصل ٨٨٨ يهوديًّا فقط، وهم من الذين شاركوا في حرب الاستقلال، على الجنسية الرومانية. أما الجزء الأكبر من السكان اليهود فقد أصبحوا مرة أخرى ضحية لقوانين التمييز العنصري. وبالنِّسبة للغالبية العظمى من اليهود فقد فرضت عليهم القيود في الوصول إلى عدد من المهن والأعمال التجارية، كما فقدوا الحق في التعليم في المؤسسات التعليمية الحكومية.

لم تتأخَّر نتائج مثل هذه السياسة في الظهور؛ ففي نهاية القرن التاسع عشر كانت ما تزال هناك إمكانية للهجرة الحرة. عشرات الآلاف من اليهود من المتخصِّصين المؤهلين بالدرجة الأولى غادَرُوا رومانيا. ووفقًا لإحصاء عام ١٨٩٩م بلغ عدد السكان اليهود ٢٩٩٩٦٧ نسمة، بينما تراجع عددهم في عام ١٩١٢م ليُصبح ٢٣٩٩٦٧ نسمة؛ أي ما يعادل ٣٫٤٪ من مجموع السكان.

انعكست المحاولات المستمرَّة بإبعاد اليهود عن الحياة الاجتماعية للبلاد أو فرض القيود على مشاركتهم بشكلٍ جوهري في مناحيها على التطوُّر السياسي والاقتصادي في رومانيا، التي أصبحت أهمية رءوس الأموال وخبرة اليهود الاحترافية والتنظيمية وكذلك مشاركتهم في التجارة وأعمال البنوك فيها شديدة الأهمية. يتضمَّن التقرير الإحصائي عن عام ١٩١٣م المؤشِّرات التالية لاشتراك اليهود في اقتصاد البلاد: ١٢٫٢٪ كانوا يعملون في الصناعة باعتبارهم عمالًا أُجَرَاء وموظَّفين؛ ١٢٫٢٪ يمتلكون مؤسسات خاصة، أي ما يربو على ثلاثة أضعاف النسبة في تعداد إجمالي السكان؛ ٣١٫٣٪ كانوا يعملون في التجارة والنقل، وهو ما يَزيد ثماني مرات على النسبة في إجمالي السكان؛ ٧٠٪ من موظفي البنوك ونظام التأمين الاجتماعي، أكثر من ٥٫٣٪ من العاملين بالمهن الحرة، وهو أيضًا ما يزيد على نصيبهم في التعداد العام للسكان.

في معرض تأمُّله لأهمية العنصر اليهودي في الحياتين الاقتصادية والثقافية للبلاد، أشار الاقتصادي جورج تاشكا إلى حيوية هذا العنصر واندماجه في وسط البرجوازيات الصغيرة والوسطى والكبيرة، وإلى انحياز اليهود في مُختلف مجالات الثقافة الرومانية، وخاصة في علمَي اللغة والآداب الرومانية.١٧
١  Benjamin L. The Jews in Romania. A Historical Outline.-Romania: A Historical Perspective. N.Y., 1998. pp. 533-534.
٢  Maxim M. The Romanian Principalities and the Ottoman Empire (1400–1878).-Romania … p. 115.
٣  Idem, p. 110.
٤  نوفوتشيف أ. د.، تاريخ تركيا، الجزء الأول … عصر الإقطاع (القرن الحادي عشر – القرن الثامن عشر) – رومانيا …، ص١١٥.
٥  Maxim M. Romanian Principalities … p. 111.
٦  إيشاي: منطقة تقع شرقي رومانيا. (المترجم)
٧  Benjamin L. The Jews in Romnia … p. 535.
٨  شيرميت ف. إ.، تركيا ومعاهدة أدريانوبول ١٨٢٩م، من تاريخ المسألة الشرقية، موسكو، ١٩٧٥م، ص١٥٤.
٩  جروسول ف. ي.، الإصلاحات في إمارات الدانوب وروسيا (العشرينيات والثلاثينيات من القرن التاسع عشر)، ١٩٦٦م، ص١٩٥–٢٠٠.
١٠  Benjamin L. The Jews in Romania … p. 537.
١١  Idem, p. 537 جروسول ف. ي.، الإصلاحات في إمارات الدانوب …، ص٣٤٦.
١٢  Benjamin L. The Jews in Romania … p. 537.
١٣  جروسول ف. ي.، تشيرتان ي. ي.، روسيا وتكوُّن الدولة الرومانية المستقلة، موسكو، ١٩٦٩م، ص٥٠.
١٤  Benjamin L. The Jews in Romania … p. 537.
١٥  Idem, p. 537-538.
١٦  جروسول ف. ي.، تشيرتان ي. ي.، روسيا وتَكَوُّنُ الدولة الرومانية المستقلة، موسكو، ١٩٦٩م، ص١٥٣.
١٧  Benjamin L. The Jews in Romania … pp. 538-539.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤