فلما كانت الليلة ٣٠٨

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الخليفة المأمون استحسن كلامه وأمر أن يرفع ذلك المكان إلى أعلى منه، فلما وصلَتْ إليه المسألةُ الثانية أجاب بجواب أحسن من الجواب الأول، فأمر المأمون أن يُرفَع إلى أعلى من تلك الرتبة، فلما دارت المسألة الثالثة أجاب بجواب أحسن وأصوب من الجوابين الأولين، فأمر المأمون أن يجلس قريبًا منه، فلما انقضت المناظرة، أحضروا الماء وغسلوا أيديهم وأحضروا الطعام فأكلوا، ثم نهض الفقهاء فخرجوا ومنع المأمون ذلك الشخص من الخروج معهم، وأدناه منه ولاطَفَه ووعده بالإحسان إليه والإنعام عليه، ثم تهيَّأ مجلس الشراب وحضر الندماء الملاح ودارت الراح، فلما وصل الدور إلى ذلك الرجل وثَبَ قائمًا على قدميه وقال: إنْ أذن لي أمير المؤمنين تكلَّمْتُ كلمة واحدة. قال له: قل ما تشاء. فقال: قد علم الرأي العالي زاده الله علوًّا أن العبد كان اليومَ في هذا المجلس الشريف من مجاهيل الناس ووضعاء الجلَّاس، وأن أمير المؤمنين قرَّبَه وأدناه بيسيرٍ من العقل الذي أبداه، وجعله مرفوعًا على درجة غيره، وبلغ به الغايةَ التي لم تسمُ إليها همتُه، والآن يريد أن يفرِّق بينه وبين ذلك القدر اليسير من العقل الذي أعَزَّه بعد الذلة، وكثَّرَه بعد القلة، وحاشا وكلا أن يحسده أمير المؤمنين على هذا القدر الذي معه من العقل والنباهة والفضل؛ لأن العبد إذا شرب الشراب تباعَدَ عنه العقل، وقَرُب منه الجهلُ، وسُلِب أدبه، وعاد إلى تلك الدرجة الحقيرة كما كان، وصار في أعين الناس حقيرًا مجهولًا، فأرجو من الرأي العالي أنه لا يسلب منه هذه الجوهرة بفضله وكرمه وسيادته وحُسْن شِيَمه. فلما سمع الخليفة المأمون منه هذا القول، مدحه وشكره وأجلسه في رتبته ووقَّرَه وأمر له بمائة ألف درهم، وحمله على فرس وأعطاه ثيابًا فاخرة، وكان في كل مجلس يرفعه ويقرُّ به على جماعة الفقهاء حتى صار أرفع منهم درجةً وأعلى مرتبةً، والله أعلم.

حكاية علي شار وزمرد

وحُكِي أنه كان في قديم الزمان، وسالف العصر والأوان، تاجر من التجار في بلاد خراسان اسمه مجد الدين، وله مال كثير، وعبيد ومماليك وغلمان، إلا أنه بلغ من العمر ستين سنة، ولم يُرزَق ولدًا، وبعد ذلك رزقه الله تعالى ولدًا فسمَّاه عليًّا. فلما نشأ ذلك الغلام صار كالبدر ليلة التمام، ولما بلغ مبلغ الرجال، وحاز صفات الكمال، ضعف والده بمرض الموت، فدعا بولده وقال له: يا ولدي، إنه قد قرب وقت المنية، وأريد أن أوصيك وصية. فقال له: وما هي يا والدي؟ فقال له: أوصيك أنك لا تعاشِر أحدًا من الناس، وتجتنب ما يجلب الضرَّ والبأس، وإياك وجليس السوء، فإنه كالحدَّاد إن لم تحرقك ناره يضرك دخانه، وما أحسن قول الشاعر:

مَا فِي زَمَانِكَ مَنْ تَرْجُو مَوَدَّتَهُ
وَلَا صَدِيقٌ إِذَا خَانَ الزَّمَانُ وَفَى
فَعِشْ فَرِيدًا وَلَا تَرْكَنْ إِلَى أَحَدٍ
هَا قَدْ نَصَحْتُكَ فِيمَا قُلْتُهُ وَكَفَى

وقول الآخر:

النَّاسُ دَاءٌ دَفِينٌ
لَا تَرْكُنَنَّ إِلَيْهِمْ
فِيهِمْ خِدَاعٌ وَمَكْرٌ
لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ

وقول الآخر:

لِقَاءُ النَّاسِ لَيْسَ يُفِيدُ شَيْئًا
سِوَى الْهَذَيَانِ مِنْ قِيلٍ وَقَالِ
فَأَقْلِلْ مِنْ لِقَاءِ النَّاسِ إِلَّا
لِأَخْذِ الْعِلْمِ أَوْ إِصْلَاحِ حَالِ

وقول الآخر:

إِذَا مَا النَّاسُ جَرَّبَهُمْ لَبِيبٌ
فَإِنِّي قَدْ أَكَلْتُهُمُ ذَوَاقَا
فَلَمْ أَرَ وُدَّهُمْ إِلَّا خِدَاعًا
وَلَمْ أَرَ دِينَهُمْ إِلَّا نِفَاقَا

فقال: يا أبي، سمعتُ وأطعتُ، ثم ماذا أفعل؟ فقال: افعل الخير إذا قدرتَ عليه، ودُمْ على صنع الجميل مع الناس، واغتنم بذل المعروف، فما في كل وقت ينجح الطلب، وما أحسن قول الشاعر:

لَيْسَ فِي كُلِّ سَاعَةٍ وَأَوَانِ
تَتَأَتَّى صَنَائِعُ الْإِحْسَانِ
فَإِذَا أَمْكَنَتْكَ بَادِرْ إِلَيْهَا
حَذَرًا مِنْ تَعَذُّرِ الْإِمْكَانِ

فقال: سمعت وأطعت. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤