فلما كانت الليلة ٢٠٨

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن قمر الزمان لما فرغ من شعره واستراح، دخل باب المدينة وهو لا يعلم أين يتوجه، فمشى في المدينة جميعها، وقد كان دخل من باب البر، ولم يزل يمشي إلى أن خرج من باب البحر فلم يقابله أحد من أهلها، وكانت مدينة على جانب البحر، ثم إنه بعد أن خرج من باب البحر مشى، ولم يزل ماشيًا حتى وصل إلى بساتين المدينة، وشقَّ بين الأشجار فأتى إلى بستان ووقف على بابه، فخرج إليه الخولي ورحَّب به، وقال له: الحمد لله أنك أتيتَ سالمًا من أهل هذه المدينة، فادخل هذا البستان سريعًا قبل أن يراك أحد من أهلها. فعند ذلك دخل قمر الزمان ذلك البستان وهو ذاهل العقل، وقال للخولي: ما حكاية أهل هذه المدينة؟ وما خبرهم؟ فقال له: اعلم أن أهل هذه المدينة كلهم مجوس، فبالله عليك أخبرني كيف وصلت إلى هذا المكان؟ وما سبب دخولك في بلادنا؟ فعند ذلك أخبره قمر الزمان بجميع ما جرى له، فتعجب الخولي من ذلك غاية العجب، وقال له: اعلم يا ولدي أن بلاد الإسلام بعيدة من هنا، فبيننا وبينها أربعة أشهر في البحر، وأما في البر فسنة كاملة، وأن عندنا مركبًا تقلع وتسافر كل سنة ببضائع إلى أول بلاد الإسلام، وتسير من هنا إلى بحر جزائر الأبنوس، ومنه إلى جزائر خالدان، وملكها يقال له السلطان شهرمان. فعند ذلك تفكَّرَ قمر الزمان في نفسه ساعةً زمانية، وعلم أنه لا أوفق له من قعوده في البستان عند الخولي، ويعمل عنده مرابعًا، فقال للخولي: هل تقبلني عندك مرابعًا في هذا البستان؟ فقال له الخولي: سمعًا وطاعة. ثم علَّمه تحويل الماء بين الأشجار، فصار قمر الزمان يحول الماء ويقطع الحشيش بالفأس، وألبسه الخولي بشتًا قصيرًا أزرق يصل إلى ركبته، وصار يسقي الأشجار، ويبكي بالدموع الغزار، وينشد الأشعار بالليل والنهار في معشوقته بدور؛ فمن جملة ذلك هذه الأبيات:

لَنَا عِنْدَكُمْ وَعْدٌ فَهَلَّا وَفَيْتُمُ
وَقُلْتُمْ لَنَا قَوْلًا فَهَلَّا فَعَلْتُمُ
سَهِرْنَا عَلَى حُكْمِ الْغَرَامِ وَنِمْتُمُ
وَلَيْسَ سَوَاءً سَاهِرُونَ وَنُوَّمُ
وَكُنَّا عَهِدْنَا أَنَّنَا نَكْتُمُ الْهَوَى
فَأَغْرَاكُمُ الْوَاشِي وَقَالَ وَقُلْتُمُ
فَيَا أَيُّهَا الْأَحْبَابُ فِي السُّخْطِ وَالرِّضَا
عَلَى كُلِّ حَالٍ أَنْتُمُ الْقَصْدُ أَنْتُمُ
وَلِي عِنْدَ بَعْضِ النَّاسِ قَلْبٌ مُعَذَّبٌ
فَيَا لَيْتَهُ يَرْثِي لِحَالِي وَيَرْحَمُ
وَمَا كُلُّ عَيْنٍ مِثْلِ عَيْنِي قَرِيحَةٌ
وَلَا كُلُّ قَلْبٍ مِثْلِ قَلْبِي مُتَيَّمُ
ظَلَمْتُمْ وَقُلْتُمْ إِنَّمَا الْحُبُّ ظَالِمٌ
صَدَقْتُمْ كَذَا كَانَ الْحَدِيثُ صَدَقْتُمُ
سَلُوا مُغْرَمًا لَا يَنْقُضُ الدَّهْرَ عَهْدَهُ
وَلَوْ كَانَ فِي أَحْشَائِهِ النَّارُ تَضْرِمُ
إِذَا كَانَ خَصْمِي فِي الصَّبَابَةِ حَاكِمِي
لِمَنْ أَشْتَكِي خَصْمِي لِمَنْ أَتَظَلَّمُ
وَلَوْلَا افْتِقَارِي فِي الْهَوَى وَصَبَابَتِي
لَمَا كَانَ لِي فِي الْعِشْقِ قَلْبٌ مُتَيَّمُ

هذا ما كان من قمر الزمان ابن الملك شهرمان، وأما ما كان من أمر زوجته السيدة بدور بنت الملك الغيور؛ فإنها لما استيقظت من نومها طلبت زوجها قمر الزمان فلم تجده، ورأت سروالها محلولًا، فافتقدت العقدة فوجدتها محلولة، والفص معدومًا، فقالت في نفسها: يا لله العجب! أين معشوقي؟ كأنه أخذ الفص وراح وهو لا يعلم السر الذي هو فيه، فيا تُرَى أين راح؟ ولكن لا بد له من أمر عجيب اقتضى رواحه؛ فإنه لا يقدر أن يفارقني ساعة، فلعن الله الفص ولعن ساعته. ثم إن السيدة بدور تفكَّرت، وقالت في نفسها: إن خرجت إلى الحاشية وأعلمتهم بفقد زوجي يطمعوا فيَّ، ولكن لا بد من الحيلة. ثم إنها لبست ثياب قمر الزمان، ولبست عمامة كعمامته، وضربت لها لثامًا، وحطَّت في محفتها جارية، وخرجت من خيمتها وصرخت على الغلمان؛ فقدَّموا لها الجواد فركبت، وأمرت بشد الأحمال، فشدوا الأحمال وسافروا، وأخفت أمرها؛ لأنها كانت تشبه قمر الزمان، فما شك أحد أنها قمر الزمان بعينه. وما زالت مسافرة هي وأتباعها أيامًا ولياليَ حتى أشرفت على مدينة مطلَّة على البحر المالح فنزلت بظاهرها، وضربت خيامها في ذلك المكان لأجل الاستراحة، ثم سألت عن هذه المدينة فقيل لها: هذه مدينة الأبنوس، وملكها الملك أرمانوس، وله بنت اسمها حياة النفوس. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤