الفصل الثالث

سجن اللوكسمبورج – قاعة بها مساجين

شوميت – بين – مرسييه – هيرو دي سيشيل ومساجين آخرون
شوميت (يشد بين مِن كمه) : اسمع يا بين، قد يكون الأمر كما تقول، فهكذا تسلَّط عليَّ هذا الإحساس منذ قليل. أشعر اليوم بصداع. أرجوك أن تساعدني قليلًا بحُجَجك المنطقية. إنني أحسُّ بانقباضٍ فظيع.
بين : تعالَ إذن أيها الفيلسوف أناكساجوراس،١ سوف أعلِّمك على طريقة السؤال والجواب.٢ ليس هناك إله؛ لأنه إما أن يكون الإله قد خلق العالم أو لا يكون قد خلقه؛ فإن لم يكن قد خلقه، فالعالم يحمل علته في ذاته، وبذلك لا يكون هناك إله؛ لأن الإله لا يكون إلهًا حتى يحمل في ذاته علة الوجود كله، ولكن لا يمكن أن يكون الإله قد خلق العالم؛ لأنه إما أن تكون الخليقة أزلية مثل الإله، وإما أن تكون لها بداية؛ فإذا صح الفرض الأخير فلا بد أن يكون الإله قد خلقها في لحظة زمنية محدَّدة. يتحتم إذن أن يكون الإله قد أصبح في وقت من الأوقات فعَّالًا، بعد أن استراح زمنًا يمتدُّ كالأزل؛ أي يتحتم أن يكون قد عانى نوعًا من التغيير في ذاته يسمح بتطبيق فكرة الزمن عليه، وكلا الأمرَين مخالف لماهية الإله. لا يمكن إذن أن يكون الإله قد خلق العالم، وإلا ما كُنا نعلَم الآن بوضوحٍ تام أن العالم، أو أن ذاتنا على الأقل موجودة، وأنها بحسب ما تقدَّم لا بد أن تحمل علتها في ذاتها، أو شيء آخر ليس هو الإله؛ فلا يمكن تبعًا لذلك أن يكون هناك إله. وهو ما أردنا إثباته.٣
شوميت : صدقت. إن هذا يُضيء لي الطريق من جديد. أشكرك. أشكرك!
مرسييه : مهلًا يا بين! ولكن ما قولك إذا كانت الخليقة أزلية؟
بين : عندئذٍ لا تكون خليقة، عندئذٍ تكون هي والإله شيئًا واحدًا، أو تكون صفة من صفاته كما يقول اسبينوزا. بذلك يكون الإله قد حل في كل شيء؛ فيك، أيها المحترم، وفي الفيلسوف أناكساجوراس وفيَّ. لو حدث هذا فلن يكون الأمر سيئًا كما تتصور، ولكن لا بد أن تعترف بأنه لا يشرِّف الجلالةَ السماوية أن يحسَّ الإله في كل واحد منَّا بألم في الأسنان أو يُصاب بمرضٍ تناسلي أو يُدفن حيًّا، أو يتخيل على الأقل أفظع التصورات عنها.
مرسييه : ولكن لا بد مع ذلك أن تكون هناك علة.
بين : ومَن الذي يُنكِر هذا؟ ولكن مَن الذي يقول لك إن هذه العلة هي ما نتصور أنه هو الإله؛ أي ما نتصور أنه الموجود الكامل؟ هل تعتقد أن العالم كامل؟
مرسييه : لا.
بين : كيف تريد إذن أن تستدل من المعلول الناقص على وجود العلة الكاملة. إن فولتير لم يجسر على إفساد الأمر بينه وبين الإله ولا بينه وبين الملوك؛ ولذلك فقد فعلها. إن مَن لا يملك غير العقل ومع ذلك لا يعرف أو لا يجد الشجاعة التي تجعله يستخدمه استخدامًا منطقيًّا، فهو غشَّاش ومضلِّل.
مرسييه : أريد أن أسأل سؤالًا غير هذا: هل يمكن أن يكون للعلة الكاملة معلولٌ كامل؟ أعني هل يمكن لموجود كامل أن يخلق موجودًا كاملًا؟ أليس هذا مستحيلًا؛ لأن المخلوق لا يمكن أن يحمل علته في ذاته، وهو الأمر الذي يدل على الكمال كما قلت؟
شوميت : اسكت! اسكت!
بين : هدِّئ نفسك يا فيلسوف! إن الحق معك، ولكن إذا كان من الضروري أن يخلق الإله، وإذا لم يكن في استطاعته أن يخلق غير الموجودات الناقصة، فأولى به أن يترك كل شيء على ما هو عليه. أليس طبعًا بشريًّا خالصًا ألا نستطيع تصوُّر الإله إلا من جهة الخلق؟ ألِأنَّنا ننفعل دائمًا ونهذي لكي نقول لأنفسنا نحن موجودون، يتحتم علينا أيضًا أن نُلصِق هذه الحاجة التعيسة بالإله؟ هل يتحتم علينا حين تستغرق روحنا في حقيقة كائن سعيد أزلي مكتفٍ بنفسه ومنسجم مع نفسه، أن تفترض دائمًا أنه لا بد أن يمدَّ أصبعه ويجبل من العجين بشرًا صغارًا؟ عن حاجة مُفرِطة إلى الحب، كما نتهامس بذلك في آذان بعضنا البعض؟ هل من الضروري أن نفعل هذا كله لمجرد أن نجعل من أنفسنا أبناءً للآلهة؟ إنني أفضِّل أن أقنع بإلهٍ أضعف شأنًا؛ فأنا على أقل تقدير لن أستطيع أن أقول عنه إنه قد أنشأني في حظائر الخنازير أو بين عبيد الحرب المقيَّدين على أسطح السفن القديمة. تخلَّصوا من كل الموجودات الناقصة، وعندئذٍ تستطيعون أن تُثبِتوا وجود الإله. لقد حاول اسبينوزا ذلك. قد يستطيع الإنسان أن يُنكِر وجود الشر، ولكنه لن يستطيع أن يُنكِر وجود الألم. العقل وحده يمكنه أن يُبرهِن على وجود الإله، أما الشعور فيحتج عليه. انتبِه يا أناكساجوراس لماذا أتعذب؟ إن هذه هي صخرة الإلحاد. إن أقل رعشة ألم ولو كانت في ذرة ضئيلة، تُحدِث صدعًا في الخليقة من أعلاها إلى أسفلها.
مرسييه : والأخلاق؟
بين : إنكم تبدءون بإثبات وجود الإله عن طريق الأخلاق، ثم تُثبِتون وجود الأخلاق عن طريق الإله، فماذا تريدون إذن بأخلاقكم هذه؟ أنا لا أعرف إن كان هناك شر أو خير في ذاته، ولا أجد لذلك داعيًا لتغيير سلوكي. إنني أتصرف بما يوافق طبيعتي، فكل ما يتلاءم معها فهو عندي خير وأنا أفعله، وكل ما يتعارض معها فهو عندي شر ولا أقربه، بل أدفعه عن نفسي إذا وقف عقبةً في طريقي. إنك تستطيع، كما يقولون، أن تظل على أخلاقك الفاضلة، وأن تُدافع عن نفسك ضد الرذيلة، بغير أن يلزمك ذلك باحتقار خصومك، وهو كما تعلَم إحساسٌ مُؤسِف.
شوميت : صادق، عين الصدق!
هيرو : ونستطيع أيضًا، يا أيها الفيلسوف أناكساجوراس، أن نقول: لأجل أن يكون الإله كل شيء فلا بد كذلك أن يكون الضد من ذاته؛ أي أن يكون كاملًا وناقصًا، وخيِّرًا وشريرًا، وسعيدًا وشقيًّا، وستكون النتيجة بالطبع مساوية للصفر، وسيُلغي نفسه بنفسه، وسنصل في النهاية إلى العدم. افرح يا أناكساجوراس، فسوف تنجو بنفسك! إنك تستطيع وأنت مطمئنٌّ أن تتعبَّد في مدام مومورو٤ أنفس تحفة أخرجَتها الطبيعة؛ فهي على أقل تقدير قد تركت أكاليل الورد التي تُثبِت ذلك في جنبَيك.٥
شوميت : أشكركم من صميم قلبي، يا سادتي! (يخرج.)
بين : إنه لم يطمئنَّ بعد. سيطلب في النهاية حسن الختام، فيلتمس البَركة من الكنيسة، ويمدُّ قدمَيه ناحية القِبلة، ويُطاهر نفسه؛ لكيلا يفوته طريق واحد.

(يدخل الحراس دانتون، ولاكروا، وكاميل، وفيليبو.)

هيرو (يندفع إلى دانتون ويُعانقه) : صباح الخير! لا، بل يجب أن أقول مساء الخير، لا أستطيع أن أسألك كيف نمت، كيف سننام؟
دانتون : حسن. يجب على الإنسان أن يذهب إلى الفراش وهو يبتسم.
مرسييه (لبين) : هذه الكلمة التي تحمل أجنحة الحَمَام! إنه روح الثورة الشرير. لقد تجرَّأ على أمه، ولكنها كانت أقوى منه.
بين : إن حياته وموته كلاهما نكبةٌ فظيعة.
لاكروا (لدانتون) : لم أتصور أنك ستأتي بهذه السرعة.
دانتون : كنت أعلم، وقد حذَّروني.
لاكروا : ولم تقُل شيئًا.
دانتون : عن أي شيء؟ إن موت الفجأة هو أفضل أنواع الموت. هل كنت تريد أن تمرض قبله؟ ثم إنني لم أتصور أنهم يمكن أن يجرءوا على ذلك. (لهيرو) الأفضل أن يرقد الإنسان في جوف الأرض على أن يمشي فوقها بقدمَين متورِّمتَين، وأنا أحب أن تكون الأرض مخدتي على أن تكون الكرسيَّ الذي أجلس عليه.
هيرو : على الأقل لن تُداعِب خدي السيدة الجميلة التي يُسمُّونها «الفساد» بأصابع مشقَّقة.
كاميل (لدانتون) : لا تُتعِب نفسك! تستطيع أن تُخرِج لسانك إلى أقصى مسافة تشاء، فلن يمكنك أن تلعق عرق الموت الذي يتصبَّب على جبينك. آه يا لوسيل! هذه تعاسةٌ فظيعة!
دانتون (لبين) : إن ما قدَّمته لخير بلدك، قد حاولتُ أنا أيضًا أن أقدمه لبلدي. كنت أقلَّ منك حظًّا، وها هم يُرسِلونني إلى المقصلة؛ ليفعلوا ما يشاءون، فلن أتعثَّر.
مرسييه (لدانتون) : إن دم الاثنين والعشرين يُغرِقك.
سجين (لهيرو) : إن قوة الشعب وقوة العقل شيءٌ واحد.
سجين آخر (لكاميل) : والآن، يا مدَّعي الشنق العام، إن إصلاحك للإضاءة في الشوارع لم يزِد الأمور وضوحًا في فرنسا.٦
سجين آخر : دعُوه! فهاتان هما الشفتان اللتان نطقتا بكلمة «الرأفة». (يعانق كاميل، ويتبعه في ذلك عددٌ كبير من المساجين.)
فيليبو : نحن كهنةٌ صلَّينا مع أموات. لقد أصابتنا العدوى، وها نحن نموت بنفس الوباء.
بعض الأصوات : إن الضربة التي تُصيبكم ستقتلنا جميعًا.
كاميل : سادتي! إنني أرثي لجهودنا التي لم تؤتِ ثمرة. الآن أذهب إلى المقصلة؛ لأنني نظرت إلى مصير بعض الأشقياء فابتلَّت عيناي بالدموع.

حجرة

فوكييه-تينفيل – هرمان
فوكييه : هل أعددت كل شيء؟
هرمان : سيكون من الصعب تنفيذ خطتنا. لو لم يكن دانتون بينهم لتمَّ الأمر بسهولة.
فوكييه : يجب أن نبدأ به.
هرمان : سيبثُّ الرعب في قلوب المحلفين. إنه هو خيال الصحراء٧ الذي يُخيف الثورة. هناك وسيلة، ولكنها ستكون انتهاكًا للشكل القانوني.
فوكييه : هاتِ ما عندك!
هرمان : من رأيي ألا نختار بالقرعة، بل ننتقي المضمونين منهم.
فوكييه : يجب أن يتم هذا. يجب أن نُشعِل النار المطلوبة على الفور. إنهم تسعة عشر وهم خليطٌ ممتاز. المزيَّفون الأربعة، ثم بعض رجال البنوك والأجانب. ستكون محكمةً مُثيرة. الشعب دائمًا في حاجة إلى مثل هذا. علينا إذن بمن يعتمد عليها! من على سبيل المثال؟
هرمان : ليروا. إنه أصم ولا يسمع لذلك شيئًا من كل ما يقوله المتهمون. يستطيع دانتون أن يصرخ أمامه حتى يبحَّ صوته!
فوكييه : عظيم جدًّا، ومن غيره؟
هرمان : فيلات ولوميير؛ أحدهما يجلس دائمًا في الخمارة، والآخر ينام على الدوام، وكلاهما لا يفتح فمه إلا ليقول «مُذنِب»! وجيرار يسير على المبدأ القائل بأن من يُقدَّم للمحاكمة لا يجوز أن يُفلِت من العقاب. ورينوادان.
فوكييه : وهذا أيضًا؟ لقد ساعد مرةً بعض القسس على الإفلات من المقصلة.
هرمان : اطمئن. لقد جاء إليَّ منذ أيام وطالب بأن نفصد بعض الدماء من المحكوم عليهم قبل تنفيذ الإعدام فيهم؛ لكي يُصابوا قليلًا بالضعف والهمود. إنه ساخط على موقف العناد والتحدي من جانبهم.
فوكييه : آه، عظيم جدًّا؛ إذن فأستطيع الاعتماد عليك؟
هرمان : اترك لي حرية التصرف!

الكونسييرجيري – مَمر

لاكروا – دانتون – مرسييه وغيرهم من المساجين يقطعون الممر جيئةً وذهابًا
لاكروا (لأحد المساجين) : ماذا؟ كل هؤلاء التعساء، وفي مثل هذا البؤس؟
السجين : ألمْ تقُل لك العربات المسرعة إلى المقصلة إن باريس قد أصبحت مجزرة؟
مرسييه : ألست معي يا لاكروا؟ إن المساواة تهزُّ منجلها فوق كل الرءوس، وحُمَم الثورة تسيل، والمقصلة تنشر مبادئ الجمهورية! الجمهور يصفِّق، والرومان يفركون أيديهم، ولكنهم لا يدرون أن كل كلمة من هذه الكلمات هي حشرجة ضحية. ابحثوا وراء كلماتكم حيث تجسَّدت. انظروا حولكم. لقد نطقتم بهذا كله. إنه محاكاة لكلماتكم بالإيماءات وتعبيرات الوجوه. هؤلاء التعساء وجلَّادوهم والمقصلة التي ستقطع رءوسهم هي خُطَبكم التي دبَّت فيها الحياة. لقد بنيتم نُظُمكم كما بنى بايزيد٨ أهرامه من رءوس الناس.
دانتون : صدقت. إن كل الأعمال في هذه الأيام تُسجَّل على لحم البشر. هذه هي لعنة العصر، وسوف يستهلك جسدي أيضًا. لقد انقضت سنة على إنشاء محكمة الثورة. إنني أرجو من الله والناس أن يغفروا لي ذلك. أردت ألا تتكرر حوادث سبتمبر وما جرى فيها من جرائم القتل البشعة. رجوت أن أُنقِذ الأبرياء، ولكن هذا القتل البطيء بكل إجراءاته الشكلية أكثر بشاعةً، وهو مثله لا يمكن تلافيه. سادتي، لقد كنت أرجو أن أُخرِجكم جميعًا من هذا المكان.
مرسييه : آه! وسنخرج منه حتمًا.
دانتون : أنا الآن معكم. السماء وحدها تعلَم كيف سينتهي هذا كله.

محكمة الثورة

هرمان (لدانتون) : ما اسمك، أيها المواطن؟
دانتون : الثورة تعرف اسمي. عمَّا قريب سيكون سكني في بيت العدم واسمي في بانثيون٩ التاريخ.
هرمان : دانتون! المجلس يوجِّه إليك تهمة التآمر مع ميرابو وديمورييه وأورليانز والجيرونديين والأجانب وأتباع لويس السابع عشر.١٠
دانتون : إن صوتي الذي كثيرًا ما سمعتموه يدوِّي دفاعًا عن قضية الشعب سيردُّ هذا الافتراء بغير عناء. ليظهر هؤلاء التعساء الذين يتَّهمونني، وسوف ألطِّخهم بالعار. ليحضر أعضاء اللجان إلى هنا، فلن أرد على الأسئلة إلا أمامهم. إنني في حاجة إليهم كمتَّهَمين وشهود، فعليهم أن يظهروا.
ومع ذلك، فماذا يهمُّني منكم ومِن حكمكم؟ لقد سبق أن قلت لكم إن العدم سيكون عمَّا قريب ملجئي. لقد أصبحت الحياة عبئًا عليَّ، فلتنزعوها عني إن شئتم؛ لأني في شوق أن أنفضها عن نفسي.
هرمان : دانتون، إن الجسارة من طبيعة المُجرِم، والهدوء من طبع البريء.
دانتون : إن الجسارة الفردية تستحق اللوم بغير شك، أما تلك الجسارة الوطنية، التي طالما أبديتها وطالما كافحت بها في سبيل الحرية، فهي أرفع الفضائل وأعظمها شأنًا. إنها جسارتي أنا، وهي التي ألجأ الآن إليها لصالح الجمهورية ولمواجهة أولئك التعساء الذين يتَّهمونني. هل يمكن أن أضبط نفسي، بينما أراهم يفترون عليَّ هذا الافتراء الحقير؟ لا ينبغي أن ينتظر أحد من ثائر مثلي دفاعًا باردًا. إن الرجال من أمثالي لا يمكن تقديرهم بثمن. إن روح الحرية تطوف فوق جبينهم.

(علامات تصفيق وحماس بين جمهور المستمعين.)

إنهم يتَّهمونني بأنني تآمرت مع ميرابو وديمورييه وأورليانز، وأنني ركعت عند أقدام المستبِدِّين التعساء. إنهم يُطالبونني بأن أرد على العدالة الصارمة المحتومة. أنت يا سان جوست الحقير ستكون مسئولًا عن هذا التجديف أمام الأجيال المُقبِلة!
هرمان : إنني أُطالبك بالرد على الأسئلة الموجَّهة إليك في هدوء. تذكَّر «مارا» الذي وقف أمام قضاته في خشوع.
دانتون : لقد وضعتم أيديكم على حياتي كلها، فمِن حقها أن تشدَّ عزيمتها وتقف في وجهكم، وسأعرف كيف أدفن هذه الأيدي تحت ثقل الأعمال التي أدَّيتها. لست فخورًا بهذا، فالقدر هو الذي يسحبنا من أيدينا، ولكن أصحاب الطبائع الجبَّارة هم أدواته. لقد أعلنت الحرب على الملكية ونازلتها في الميدان. هزمتها في العاشر من أغسطس، وقتلتها في الواحد والعشرين من يناير، وألقيت في وجه الملوك برأس ملك كأنه قفاز المبارزة.

(تتكرر علامات الحماس والتأييد بين المستمعين. دانتون يُمسِك بوثائق الاتهام.)

كلما ألقيت نظرة على هذه الوثائق المُخزية شعرتُ بكياني كله يتزلزل. أين إذن هؤلاء الذين ألحُّوا على دانتون بالظهور في ذلك اليوم التاريخي؛ اليوم العاشر من أغسطس؟ أين إذن تلك الصفوة التي استمد منها قوته؟ فليظهر هؤلاء الذين يتَّهمونني! إنني أطلب هذا وأنا في كامل قواي العقلية. سوف أكشف الأوغاد السفلة وأقذف بهم في هاوية العدم، التي لن يُخرِجوا منها رءوسهم بعد اليوم.
هرمان (يدق الجرس) : ألا تسمع الجرس؟
دانتون : إن صوت إنسان يدافع عن شرفه وحياته لا بد أن يعلو على صوت جرسك. لقد أطعمت شباب الثورة بأجسام الأرستقراطيين الممزَّقة. إن صوتي هو الذي صنع الأسلحة للشعب مِن ذهب الأرستقراطيين والأغنياء، وصوتي هو العاصفة التي دفنت أتباع الطغيان تحت عباب البنادق. (تصفيق حاد.)
هرمان : دانتون، لقد أجهدت صوتك. إنك في غاية التأثر والانفعال. ستختم دفاعك في المرة القادمة. إنك في حاجة إلى الراحة. رُفعت الجلسة.
دانتون : عرفتم الآن من هو دانتون. لن تمر ساعات قليلة حتى ينام في أحضان المَجد.

سجن اللوكسمبورج

ديللون – لافلوت – حارس
ديللون : ولد! لا تسلِّط نور أنفك في وجهي هكذا.١١ ها! ها! ها!
لافلوت : أغلق فمك. إن هلالك يُرسِل الضوء حوله.١٢ ها! ها! ها!
الحارس : ها! ها! ها! هل تعتقد يا سيد أنك ستستطيع أن تقرأ على ضوئك؟

(يُشير إلى ورقة يحملها في يده.)

ديللون : هاتِ!
الحارس : سيدي، إن هلالي قد تسبَّب في حدوث الجزر عندي.١٣
لافلوت : يبدو من سراويلك كأن الفيضان قد وقع.١٤
الحارس : لا، إنها تجذب الماء فحسب.١٥(لديللون) لقد توارت يا سيدي أمام شمسكم يجب أن تُعطوني شيئًا؛ حتى تشتعل فيها النار من جديد، إذا كنتم تريدون أن تقرءوا على ضوئها.
ديللون : هاك يا ولد! وامسك نفسك! (يعطيه نقودًا فينصرف، ديللون يقرأ) أفزع دانتون المحكمة وترنَّح المحلفون وتذمَّر المستمعون. كان الزحام غير عادي. تَدافَع الشعب على قصر العدالة ووقف في صفوف بلغت إلى الجسور. حفنة من المال وذراع واحدة، هم! هم! (يذهب ويجيء ويصب في كأسه بين حين وحين من زجاجة خمر.) لو استطعت أن أضع قدمي على أرض الحارة! لن أتركهم يذبحونني بهذه الطريقة. نعم! أن أضع قدمي في الحارة فقط!
لافلوت : وفي العربات المُسرِعة إلى المقصلة، فكلاهما واحد.
ديللون : أهذا هو رأيك؟ بل إن بينهما بضع خطوات تكفي لكي تُقاس بجثث الرجال العشرة.١٦ لقد آن الأوان أخيرًا لكي يرفع الشرفاء رءوسهم.
لافلوت (لنفسه) : وهذا أفضل؛ لكي يسهل قطعها. استمِرَّ يا صديقي العجوز. بضعة كئوس أخرى ويعتدل مزاجي!
ديللون : هؤلاء الأوغاد، الحمقى، سيقطعون في النهاية رءوسهم بأنفسهم.

(يذرع المكان ذهابًا وإيابًا.)

لافلوت (يحدِّث نفسه على انفراد) : يستطيع الإنسان أن يحب الحياة حبًّا مُخلِصًا من جديد، كأنه طفله عندما وهبه الحياة. لا يتكرر كثيرًا أن يفجر الإنسان مع المصادفة ويصبح أبًا لنفسه. الأب والولد في نفس الوقت، يا له من أوديب مُريح!
ديللون : إن الشعب لا يعيش على الجثث، فلتلقى زوجتا دانتون وكاميل النقود على الناس؛ فذلك أفضل من إلقاء الرءوس عليهم.
لافلوت (لنفسه) : لن أنتزع عيني بعد ذلك من محجرَيهما؛ فربما احتجْتُ إليهما لكي أبكي على الجنرال.
ديللون : هل وضعوا أيديهم حقًّا على دانتون؟ ومَن يأمن بعد هذا على نفسه؟ إن الخوف سيوحِّد بينهم.
لافلوت (على انفراد) : لقد ضاع وانتهى. وما الضرر في أن أدوس على جثة لكي أخرج من القبر؟
ديللون : المهم أن أضع على أرض الحارة! سأجد العدد الكافي من الناس، جنودًا قدامى وجيرونديين، ونبلاء سابقين. سنقتحم السجون. لا بد من التفاهم مع المساجين.
لافلوت (لنفسه على انفراد) : المسألة تفوح منها طبعًا رائحة النذالة. وما الضرر في هذا؟ إن لديَّ الرغبة في تجربة ذلك أيضًا. لقد ظللت حتى الآن ضيِّق الأفق. سيُؤنِّبني ضميري وهذا نوع من التغيير. ليس مما يكدِّر النفس كثيرًا أن يشمَّ الإنسان رائحة نتانته بنفسه. لقد سئمت النظر إلى المقصلة، ومللت كل هذا الانتظار! جرَّبتها بخيالي عشرين مرة. لم يعُد فيها شيء يُثير الانتباه. لقد أصبحت شيئًا حقيرًا.
ديللون : يجب أن نُرسِل ورقة لزوجة دانتون.
لافلوت (لنفسه على انفراد) : ثم إنني لا أخاف من الموت، بل من الألم. ربما سبَّبت لي ألمًا، ومن الذي يستحق هذا؟ يقولون إنها لا تستغرق إلا لحظة واحدة، ولكن للألم مقياسًا زمنيًّا أدق. إنه يستطيع أن يقسم جزءًا على ستين من الثانية.
لا! إن الألم هو الخطيئة الوحيدة، والعذاب هو الرذيلة الوحيدة. سأظل محتفظًا بفضيلتي.
ديللون : اسمع يا لافلوت! أين ذهب الجوع؟ معي نقود. يجب أن ننجح. لا بد أن نصبَّ الحديد. إن خطتي جاهزة.
لافلوت : حالًا! حالًا! إنني أعرف السجان، وسأتكلم معه. يمكنك أن تعتمد عليَّ، يا جنرال. ستخرج من هذا الجحر. (لنفسه وهو ينصرف) لندخل في غيره. سأدخل أنا الجحر الأوسع؛ أي العالم، وسيدخل هو الجحر الأضيق؛ أي القبر.

لجنة الإصلاح

سان جوست – بارير – كوللو ديربوا – بيللو-فارين
بارير : ماذا يقول فوكييه في كتابه؟
سان جوست : مر الاستجواب الثاني. المساجين يُطالبون بظهور عدد كبير من أعضاء الجمعية ولجنة الإصلاح. إنهم يَهيبون بالشعب الامتناع عن الإدلاء بأقوالهم. يبدو أن المشاعر في هياج لا يُوصَف. ولقد هزأ دانتون بجوبيتر،١٧ وراح يهزُّ خصلات شعره.
كوللو : سيسهِّل هذا على شمشون أن يُمسِكه منه.
بارير : يجب أن نمتنع عن الظهور؛ فربما وجدت صيادات السمك وجامعو الخِرق أن شخصياتنا أضعف مما كانوا يظنون.
بيللو : إن الشعب يحبُّ بغريزته أن يستذل ويحتقر حتى ولو كان ذلك بالنظرات وحدها. مثل هذه الوجوه المُتعجرِفة تُعجِبه، ومثل هذه الجباه أسوأ من شعارات النبلاء؛ فأخبث أنواع الأرستقراطية التي تحتقر الإنسان تلتصق بها. إن كل من تُسيئه نظرة فاحصة من أعلى إلى أسفل يجب عليه أن يساعد في تحطيمها.
بارير : إنه أشبهُ بسيجفريد ذي القرون، وقد حصَّنته دماء المقتولين في سبتمبر١٨ من الجراح. ماذا يقول روبسبيير؟
سان جوست : إنه يتظاهر بأن لديه شيئًا يقوله. يجب أن يُعلِن المحلفون أنهم قد اطَّلعوا على المعلومات الكافية، ويجب أن يختموا المناقشات.
بارير : مستحيل. لا يمكن أن يتم هذا.
سان جوست : يجب أن نتخلص منهم بأي ثمن، ولو اضطررنا أن نخنقهم بأيدينا. تجرءوا! هذه هي الكلمة التي تعلَّمناها من دانتون ولا يصح أن تضيع عبثًا. إن الثورة لن تتعثر على جثثهم، ولكن إذا بقي دانتون حيًّا فسوف يشدُّها من ثيابها،١٩ وفي هيئته ما يُوحي بأنه يستطيع أن يغتصب الحرية إذا شاء.

(ينادي على سان جوست. يدخل أحد السجانين.)

السجَّان : هناك مساجين في سان بيلاجي٢٠ في النزع الأخير، وهم يطلبون طبيبًا.
بيللو : لا ضرورة لهذا؛ فهم يخفِّفون من عبء الجلَّاد.
السجَّان : بينهم نساء حوامل.
بيللو : من مصلحتهن؛ فلن يحتاج أطفالهن إلى توابيت.
بارير : إن السُّل الذي يُصيب أحد الأرستقراطيين يوفِّر على محكمة الثورة جلسة. كل دواء يُقدَّم إليهم هو ضربة موجَّهة إلى الثورة.
كوللو (يتناول ورقة) : التماس، باسم امرأة!
بارير : لا بد أنها واحدة من هؤلاء الذين يحبون أن يُخيَّروا بين خشبة المقصلة وفراش أحد اليعاقبة. إنهن يمُتنَ مثل لوكريتسيا٢١ بعد ضياع شرفهن، ولكنهن يتأخرن قليلًا عن تلك السيدة الرومانية؛ فيمُتن بعد الولادة أو يمُتن بالسرطان أو الشيخوخة. ربما لا يكود طرد تاركوينيوس من الجمهورية الفاضلة لإحدى العذارى أمرًا سخيفًا إلى هذا الحد.
كوللو : إنها عجوز جدًّا. المدام تطلب الموت وتُحسِن التعبير عن نفسها، فتقول إن السجن يخنق أنفاسها مثل غطاء التابوت. لقد قضَت فيه أربعة أسابيع. الجواب سهل (يكتب ثم يقرأ ما كتبه): «أيتها المواطنة، لم يمضِ عليك من الوقت ما يبرِّر طلبك للموت.»

(ينصرف السجان.)

بارير : أحسنت القول! ولكن لا يصح يا كوللو أن تبدأ المقصلة في الضحك، وإلا زال خوفهم منها. يجب ألا ترفع التكليف إلى هذا الحد. (سان جوست يعود.)
سان جوست : تلقَّيت الآن تقرير اتهام. إنهم يتآمرون في السجن، وقد استطاع شابٌّ اسمه لافلوت أن يكشف كل شيء. كان مع ديللون في نفس الحجرة، وقد شرب ديللون وبدأ يُثرثِر.
بارير : سيقطع رقبته بزجاجته. لقد حدث هذا أكثر من مرة.
سان جوست : دبَّرت الخطة بحيث توزِّع زوجتا دانتون وكاميل النقود على الشعب، ويهرب ديللون من السجن، ويحررون المساجين، وينسفون الجمعية الوطنية.
بارير : هذه حواديت عجائز.
سان جوست : ولكننا سنعرف كيف نحكي لهم هذه الحواديت ليناموا. إن البلاغ في يدي. أضِف إلى ذلك وقاحة المتهمين، وتذمُّر الشعب، وذهول المحلفين. سأكتب تقريرًا.
بارير : نعم يا سان جوست، هيَّا انظم عباراتك الرصينة التي تُشبِه كل شولة فيها شربة سيف، وكل نقطة رأسًا مفصولًا عن جسده!
سان جوست : يجب أن تُصدِر الجمعية قرارها، وتُواصل المحكمة نظر القضية، كما يجب أن يكون من حقها استبعاد كل متهم يُهين المحكمة أو يُزعجها من الاشتراك في المناقشة.
بارير : أنت ثوري بفطرتك. إن ما تقوله يبدو عليه الاعتدال، ومع ذلك فسوف يُحدِث أثره. إنك لا تستطيع أن تصمت. يجب أن يصرخ دانتون.
سان جوست : إنني أعتمد على تأييدكم. في الجمعية قومٌ مُصابون بمرض دانتون، وهم خائفون من العلاج المفتوح. لقد واتَتهم الشجاعة من جديد، وسوف يصرخون احتجاجًا على انتهاك حرمة الشكليات.
بارير (يقاطعه) : سوف أقول لهم لقد اتُّهم القنصل الروماني الذي اكتشف مؤامرة كاتيلينا وأعدم المجرمين على الفور بانتهاك حرمة الشكليات، فمن هم أولئك الذين وجَّهوا إليه هذه التهمة؟
كوللو (يتأثر) : اذهب يا سان جوست! إن حمم الثورة تسيل، وسوف تخنق الحرية أولئك الضعفاء الذين حاولوا أن يندسُّوا في حضنها الجبار ليُنجِبوا منها. سيظهر لهم جلال الشعب كما ظهر جوبيتر لسيميلي٢٢ بين الرعد والبرق، ويحوِّلهم إلى رماد. اذهب يا سان جوست، سوف نساعدك في إلقاء الصاعقة على رءوس الجبناء.

(يخرج سان جوست.)

بارير : هل سمعت كلمة العلاج؟ سيجعلون من المقصلة دواءً ناجعًا لوباء اللذة. إنهم لا يكافحون المعتدلين، بل يكافحون الرذيلة.
بيللو : طريقنا واحد حتى الآن.
بارير : إن روبسبيير يريد أن يجعل من الثورة قاعةَ محاضرات عن الأخلاق، ومن المقصلة منبرًا يعظُ من فوقه.
بيللو : أو كرسي اعتراف.
كوللو : سيكون عليه ألا يقف فوقه، بل يرقد عليه.
بارير : سيتم هذا بسهولة. إذا صح أن الأشرار المزعومين يشنقهم الشرفاء المزعومون فلا بد أن يسير العالم على رأسه.
كوللو (لبارير) : متى ترجع إلى كليشي؟
بارير : حين ينقطع الطبيب عن زيارتي.
كوللو : أليس كذلك؟ هناك علَّقت نجمة من الشعر يجفُّ نخاعك تحت أشعتها المُحرِقة.٢٣
بيللو : عمَّا قريب ستشدُّه أصابع ديمالي الساحرة من عموده الفقري، وتعلِّقه على الظهر كأنه خصلة من الشعر.٢٤
بارير (يهزُّ كتفَيه) : صه! لا يجب أن يعلم صاحب الفضيلة٢٥ عن ذلك شيئًا!
بيللو : إنه ماسونيٌّ عِنِّين.

(يخرج بيللو وكوللو.)

بارير (وحده) : هؤلاء الوحوش! لم يمضِ عليك في السجن ما يبرِّر طلبك للموت! كلمات كان ينبغي أن تجفِّف اللسان الذي نطق بها. وأنا؟ عندما اقتحم رجال سبتمبر السجون، أمسك سجين بسكين، واندسَّ بين صفوف القتلة، وطعن بها قسيسًا في صدره فأنقذوه! من يستطيع أن يعترض على هذا؟ وما الفرق بين أن أندسَّ بين صفوف القتلة، أو أجلس في لجنة الإصلاح، أو أمسك بسكين المقصلة أو بمطواة؟ إنها نفس الحالة، ولكن الظروف هي التي تتعقد بعض الشيء، وتظل الأوضاع الأساسية واحدة لا تتغير. وما دام قد اغتال واحدًا، ألمْ يكن من حقه أيضًا أن يغتال اثنين وثلاثة وأكثر، وأين الحد الذي يتوقف عنده؟ وتأتي حبات القمح! هل تصنع حبتان كومة، أم ثلاثة أم أربعة؟ كم حبة إذن؟ تعالَ يا ضميري، تعالَي يا دجاجتي، تعالَي، بي! بي! بي! هذا هو علفك!
ومع ذلك، فهل كنت سجينًا؟ لقد كنت مشبوهًا، وكلاهما في النهاية سيَّان، كان موتي مؤكَّدًا! (يخرج.)

الكونسييرجيري٢٦

لاكروا – دانتون – فيليبو – كاميل
لاكروا : أجدت الصراخ يا دانتون. لو أنك ناضلت من قبل من أجل حياتك لتغيَّرت أحوالنا الآن، ألست معي في هذا؟ إذن لَمَا اقترب الموت منَّا بوقاحته، ولما فاحت رائحته النتنة من رقابنا، ولا راح يُلحُّ علينا ويزداد على الدوام إلحاحًا؟
كاميل : ليته اغتصب الواحد منَّا بالقوة، وانتزع فريسته من الأعضاء الدافئة بالصراع والكفاح! أما أن يلجأ إلى كل هذه الشكليات كما يحدث في زفاف امرأة عجوز، فتُوقَّع العقود ويُستدعى الشاهد، ويُقال آمين، ويُرفَع اللحاف، وتتسلل العروس العجوز بأعضائها الباردة إلى الفراش!
دانتون : ليته كان صراعًا بالأذرع والأسنان! أما الآن فأُحسُّ كأنني سقطت في طاحونة، وأن قُوى الطبيعة الباردة تلوِّث أعضائي ببطء ونظام! ما أتعسَ أن يموت الإنسان هذه الميتة الآلية!
كاميل : ثم يرقد هناك وحيدًا، باردًا، مشدودًا، يتصاعد حوله بخار الفساد الرطب. ربما كان الموت ينتزع الحياة من الأنسجة بالتعذيب البطيء، وربما كان الإنسان يفسد شيئًا فشيئًا وهو يشعر بكل شيء!
فيليبو : اهدءوا يا أصدقائي! نحن كزهرة الخريف التي لا تحمل البذور إلا بعد أن ينقضي الشتاء، نحن لا نختلف عن الزهور التي تُنقَل من مكان إلى مكان إلا في أننا نُنتِن قليلًا.٢٧ أيُحزِنكم هذا إلى هذا الحد؟
دانتون : مستقبلٌ مطمئن! من كومة روث إلى كومة قمامة! أليست هذه هي نظرية الطبقات الإلهية من الدرجة الأولى إلى الثانية، ومن الثانية إلى الثالثة وهكذا؟ لقد سئمت الجلوس على مقاعد التلاميذ، وتورُّم فخذيَّ كالقرد من كثرة ما جلست عليهما.
فيليبو : ماذا تريد إذن؟
دانتون : الراحة.
فيليبو : إنها عند الله.
دانتون : بل في العدم. حاوِل أن تستغرق في شيء أكثر راحةً وهدوءًا من العدم، وإذا كانت الراحة القصوى هي الله، ألا يكون العدم هو الله؟ ولكنني ملحد. هذه الجملة الملعونة، يستحيل على الشيء أن يصبح عدمًا! وأنا شيء، وتلك هي الكارثة! لقد اتسعت الخليقة إلى حد أنه لم يبقَ فيها فراغ، بل امتلأ كل شيء وازدحم. قتل العدم نفسه والخليقة جرحٌ ونحن قطرات الدم التي تسيل منه. العالم هو القبر الذي نفسد فيه. كل هذا يبدو ككلام المجانين، ولكن فيه شيئًا من الحقيقة.
كاميل : العالم كاليهودي الأبدي والعدم هو الموت، ولكنه مستحيل. آه لو امتنع الموت، لو امتنع الموت، كما تقول الأغنية.
دانتون : نحن جميعًا قد دُفِنَّا أحياءً، ووُضعنا كما يُوضَع الملوك في توابيت مثلثَّة ومربَّعة، تحت قبة السماء، في بيوتنا، في ستراتنا وقمصاننا. ونظل خمسين عامًا بِطولها نخدش غطاء التابوت. أجل! من استطاع أن يؤمن بالفناء فربما أراح نفسه! لا أمل في الموت، فليس إلا فسادًا أبسط. أما الحياة فهي فساد أكثر تعقيدًا وتنظيمًا. هذا هو الفارق الوحيد بينهما! غير أنني قد تعوَّدت على هذا النوع من الفساد، ويعلم الشيطان وحده ماذا سأفعل مع نوع آخر! آه يا جولي! ماذا يحدث لي لو ذهبت وحدي! لو تركتني وحيدًا! ولو تحلَّلت تحلُّلًا كاملًا لأصبحت حفنة من التراب المعذَّب، ولما وجدت كلُّ ذرة من ذراتي الراحة إلا لديها. لا يمكنني أن أموت، لا، لا يمكنني أن أموت. عليهم أن ينتزعوا كل قطرة حياة من أعضائي انتزاعًا!

حجرة

فوكييه – آمار – فولان
فوكييه : ما عدت أدري كيف أرد عليهم. إنهم يطالبون بتأليف لجنة.
آمار : لقد جمعنا الأوغاد، هاك ما تطلبه.

(يُناول فوكييه ورقة.)

فولان : سيُرضيهم هذا.
فوكييه : حقًّا، لقد كُنا في حاجة إليه.
آمار : اجتهِد الآن أن تُزيح المسألة عنَّا وعنهم.

محكمة الثورة

دانتون : الجمهورية في خطر، ويقول إنه ليست لديه تعليمات! نحن نتجه بندائنا إلى الشعب. إن صوتي ما زال قادرًا على إلقاء خُطَب الوداع أمام جثث الرجال العشرة. إنني أكرِّر ما سبق أن قلته: نحن نُطالب بلجنة، سنكشف عن أسرار هامة. إنني سأعتصم بقلعة العقل، وسأخرج منها وفي يدي مدفع الحقيقة، وسأسحق أعدائي. (علامات تأييد.)

(يدخل فوكييه وآمار وفولان.)

فوكييه : باسم الجمهورية أُطالبكم بالهدوء واحترام القانون! لقد قرَّرت الجمعية ما يلي: نظرًا لما ظهر في السجون من علامات العصيان، ونظرًا لما ثبت من أن زوجتَي دانتون وكاميل ستقومان بتوزيع النقود على أفراد الشعب، وأن الجنرال ديللون يدبِّر الهروب من السجن وقيادة المتمردين لتحرير المتهمين، ونظرًا لأن هؤلاء قد حاولوا إثارة الشعب وإهانة المحكمة؛ فقد فوَّضت المحكمة بالاستمرار في نظر القضية واستبعاد كل متهم لا يحترم القوانين الاحترام الواجب.
دانتون : إنني أسأل الحاضرين: هل أهنَّا المحكمة أو الشعب أو الجمعية الوطنية؟
أصوات كثيرة : لا! لا!
كاميل : السفلة! يريدون أن يقتلوا زوجتي لوسيل!
دانتون : سيعلم الناس الحقيقة يومًا ما. إنني أرى كارثةً فظيعة تزحف على فرنسا. هذه هي الدكتاتورية. لقد مزَّقت قناعها، وهي الآن تشمخ بجبهتها وتخطو فوق جثثنا (مشيرًا إلى آمار وفولان) انظروا إلى القتَلة الجُبناء! انظروا غربان لجنة الإصلاح! أنا أتَّهم روبسبيير وسان جوست وجلَّاديهم بالخيانة العظمى. إنهم يريدون أن يُغرِقوا الجمهورية في بحر من الدماء. إن الآثار التي تتركها العربات المُسرِعة إلى المقصلة هي الطريق العريضة التي سينفذ منها الأجانب إلى قلب الوطن.
إلى متى تظل آثار أقدام الحرية قبورًا. إنكم تريدون الخبز، وهم يُلقون إليكم بالرءوس! إنكم تموتون من العطش وهم يطلبون منكم أن تلعقوا الدماء التي تسيل على درجات المقصلة!

(حركة عنيفة بين جمهور الحاضرين، صيحات تأييد.)

أصوات كثيرة : عاش دانتون! يسقط الرجال العشرة!

(الحراس يُخرِجون المساجين بالقوة.)

أمام قصر العدالة

مجموعة من أفراد الشعب
بعض الأصوات : يسقط العشرة! يحيا دانتون!
المواطن الأول : حقًّا! الرءوس بدل الخبز، والدم بدل النبيذ!
بعض النساء : المقصلة طاحونة سيئة، وشمشون خباز رديء. نريد الخبز! الخبز!
المواطن الثاني : خبزكم التهمه دانتون. رأسه ستعيد الخبز إليكم جميعًا. لقد كان معه الحق.
المواطن الأول : كان دانتون معنا في العاشر من أغسطس، وكان معنا في سبتمبر. أين كان هؤلاء الذين يتَّهمونه اليوم؟
المواطن الثاني : ولافاييت كان معكم في فرساي، وكان مع ذلك خائفًا.
المواطن الأول : من الذي يقول إن دانتون خائن؟
المواطن الثاني : روبسبيير.
المواطن الأول : وروبسبيير خائن أيضًا!
المواطن الثاني : من الذي يقول هذا؟
المواطن الأول : دانتون.
المواطن الثاني : دانتون يرتدي الثياب الجميلة، يسكن في بيت جميل، دانتون متزوِّج من امرأة جميلة، دانتون يستحم في نبيذ البرجوندر، ويأكل لحم الغزلان في أطباق فضية، وإذا سكِر نام مع زوجاتكم وبناتكم. كان دانتون فقيرًا مثلكم. لقد اشترى له الفيتو٢٨ كل هذا؛ لكي يُنقِذ تاجه. وأهداه أمير أورليانز كل هذا؛ لكي يسرق له التاج، وأعطاه الأجنبي كل هذا؛ لكي يخونكم جميعًا. ماذا يملك روبسبيير؟ روبسبيير العفيف. إنكم جميعًا تعرفونه.
الجميع : يحيا روبسبيير! يسقط دانتون! يسقط الخائن!
١  إشارة إلى أناكساجوراس (حوالَي ٤٢٧–٤٩٩ق.م) من كلازومنياي، فيلسوف وعالم طبيعي إغريقي كان صديقًا لبريكليس، فسَّر النشوء والفساد بأنهما تركيب وتحلُّل للعناصر الأولية غير المتناهية في العدد والصِّغر، وقال بالعقل «نوس» مبدأً أول للوجود.
٢  التعبير الأصلي هو «الكاتشية» Katschismus، وهي نوع من التعليم الديني على طريقة السؤال والجواب.
٣  هذه العبارة مكتوبة في الأصل باللاتينية Quod erat demonstrandum.
٤  هي زوجة الطباع مومورو الذي أُعدم مع هيبير، وكانت فاتنة الجمال إلى حدِّ أن شوميت صوَّرها في كتابه «عبد العقل» واحدةً من ربات الجمال.
٥  المقصود هو القروح التي تتركها الأمراض التناسلية في هذا الموضع من الجسم.
٦  يتلاعب المؤلف هنا بالكلمة التي تدل على المشنقة والمصباح في آنٍ واحد Lateme، كما سبقت الإشارة إلى ذلك.
٧  أو خيال المآتة (الناطور).
٨  سلطان تركي (١٣٤٧–١٤٠٣م) فتح آسيا الصغرى، وهزم المسيحيين في نيكوبوليس (١٣٩٦م). أمر بذبح ثلاثة آلاف أسير حرب تعبيرًا عن سخطه للخسائر التي فقدها في تلك المعركة.
٩  البانثيون: معبدٌ مُقام لجميع الآلهة، وبخاصة في روما القديمة، وفي باريس معبدٌ تذكاريٌّ مشهور بهذا الاسم، يضمُّ رفات العظماء والمشاهير.
١٠  هو لويس فيليب أمير أورليانز، وقد أصبح منذ عام ١٧٨٩م عضوًا في الجمعية الوطنية، ثم في المجلس الوطني تحت اسم فيليب إيجاليتيه (المساواة). صوَّت بالموافقة على إعدام لويس السادس عشر، ثم اتُّهم في عام ١٧٩٣م بالسعي إلى المُلك وأُعدم.
١١  أي لا تلتصق بي إلى هذا الحد. وفي العبارة إشارة جنسية.
١٢  أي إن على أنفك علامات مرض تناسلي. والصورة مشتقة من الهلال وحوله السُّحب.
١٣  أي بدَّد ماله على النساء أو الخمر.
١٤  إشارة إلى الاستثارة الجنسية.
١٥  إشارة أخرى إلى مرض تناسلي.
١٦  الديسمفير أو الرجال العشرة.
١٧  أكبر الإلهة عند الرومان، ويُقابِل زيوس عند الإغريق.
١٨  المقصود بهم ضحايا الثورة الذين سقطوا في سبتمبر ١٧٩٢م.
١٩  أي سيُوقِف تقدُّمها المحتوم.
٢٠  أحد السجون في باريس.
٢١  راجع الهامش الذي تقدَّم في المشهد الثاني من الفصل الأول.
٢٢  تشكَّل جوبيتر (أو زيوس عند اليونان) في صورة سحابة ليُعانق ابنة ملك طيبة.
٢٣  إشارة إلى المرض التناسلي أو الإثارة الجنسية.
٢٤  أي ستزيد من إثارته الجنسية. والمُلاحَظ أن هذه التعبيرات الغليظة مستمَدَّة من اللغة التي كانت سائدة في عهد الثورة الفرنسية، كما أنها غير مقصودة لذاتها، بل لتصوير الشخصيات.
٢٥  أي: روبسبيير.
٢٦  سجنٌ مشهور في باريس أُقيمَ في بناء قصر العدالة، كان يوضع فيه المساجين قبل اقتيادهم إلى المقصلة.
٢٧  في الشتاء تموت الحياة الطبيعية في أوروبا وتذبل. والإشارة هنا إلى الثُّوار الذين لا بد لهم أن يموتوا لكي تحيا أفكارهم بين الناس.
٢٨  كناية عن الملك الذي كان يملك وحده حق الاعتراض (الفيتو) كما تقدَّم. وفي العبارة غمزٌ بتآمر دانتون مع الملكيين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤