شجرة التنُّوب

في مكان بعيد في الغابة حيث هيَّأَت الشمس الدافئة والهواء المنعش مكانًا جميلًا للراحة، نبتَت شجرةُ تَنُّوب قصيرةٌ جميلة. ورغم أن الوضع كان أجمل ما يكون، فالشجرة لم تكن سعيدة؛ فقد تمنَّت بشدة أن تكون مثل رفيقاتها الطويلات، أشجار الصَّنَوبر والتنُّوب النابتة حولها.

كانت الشمس تسطع، ونسمات الهواء الرقيقة تُداعب أوراقها، والأطفال المزارعون الصغار يمرون بها، وهم يُثرثِرون جذلين؛ إلا أن الشجرة لم تكن تأبَهُ لهم.

كان الأطفال أحيانًا يأتون بسلَّة كبيرة مليئة بتوت العُلَّيق أو الفراولة المرصوصة على قش، ويجلسون بجانب شجرة التَّنوب ويقولون: «أليست هذه الشجرةُ قصيرة جميلة؟» وهو ما كان يَزيدها تعاسةً عما قبل.

لكن الشجرة كانت طوال هذه الفترة تزداد طولًا بمقدار ثُلْمة أو عُقدة كل عام؛ إذ يمكننا معرفة عمر شجرة التنوب من عدد العُقَد في ساقها.

إلا أنها ظلت حتى وهي تنمو تشتكي وتقول: «آه! كم أتمنى أن أكون في طول الأشجار الأخرى؛ ساعتها كنت سأمد فروعي في كل جهة، وكان رأسي سيطل على العالم الفسيح حولي. ولا بد أن الطيور كانت ستبني أعشاشها على أغصاني، وحين تهبُّ الرياح، لا بد أنني كنت سأنحني بشمَم مَهيب مثل رفيقاتي السامقات.»

كانت الشجرة في غاية السخط، حتى إنها لم تكن تجد سعادة في أشعة الشمس الدافئة، أو الطيور أو السحاب الوردي الذي كان يطوف فوقها بُكرةً وأصيلًا.

أحيانًا في الشتاء حين كان الثلج ينبسط على الأرض بلونه الأبيض اللامع، كان هناك أرنبٌ صغير يأتي واثبًا إليها، ويقفز فوق قمة الشجرة القصيرة، وكم كانت تشعر بالضيق حينذاك!

مر على الشجرة فصلَا شتاء، وحين حل الثالث، كانت قد زادت طولًا حتى إن الأرنب كان يُضطَر إلى الركض حولها. إلا أنها ظلت غير راضية وكانت تصيح: «أوه! أريد أن أكبر وأكبر؛ ليتني أظل أنمو طولًا وأزداد عمرًا! فلا يوجد في الحياة شيء آخرُ جدير بالاهتمام.»

جاء الحطَّابون في الخريف كالعادة، وقطعوا العديد من الأشجار الباسقة؛ أما شجرة التنُّوب القصيرة التي كانت حينذاك بلغَت طولًا مناسبًا يعدُّ أقصى طولٍ لها، فارتعدَت حين هوَت الأشجار الهائلة على الأرض مُحدِثة صوتَ ارتطامٍ كبيرًا.

وبعد قطع الفروع، بدَت الجذوع نحيلة وعارية للغاية، حتى إنه صار من الصعب التعرُّفُ عليها. ووُضِعَت على عربات، الواحدة فوق الأخرى، وجرَّتها الخيول لتخرج بها من الغابة. إلى أين كان يُمكِن أن تذهب؟ وماذا سيحل بها؟ تاقت شجرة التنوب الصغيرة بشدة إلى أن تعرف.

لذا، في الربيع، حين جاءت طيور السَّنَوْنو واللَّقْلَق، سألتها شجرة التنوب: «هل تعلمون إلى أين أُخِذَت تلك الأشجار؟ هل قابلتموها؟»

لم تكن طيور السَّنونو تعلم شيئًا؛ لكن أحد طيور اللقلق، بعد القليل من التفكير، أومأَ برأسه وقال: «نعم، أعتقد أنني أعرف. حين طِرْت من مصر، لاحظتُ العديد من السفن الجديدة، وكان لها صَوارٍ رائعةٌ تفوح منها رائحةٌ تُشبِه رائحة أشجار التنوب. لا بد أن هذه كانت الأشجار؛ وأؤكِّد لكِ أنها كانت فخمة وتُبحِر في أبهة شديدة!»

قالت شجرة التنوب: «أوه، كم أتمنَّى لو كان طولي كافيًا للذَّهاب إلى البحر. فلتُخبِرني ما هو هذا البحر، وكيف يبدو؟»

قال طائر اللَّقلَق وهو يُحلِّق بعيدًا على عجَل: «هذا الأمر شرحُه يطول؛ يطول جدًّا.»

قال شعاعُ الشمس: «فلتبتهجي بشبابك، ولتَنعمي بأغصانكِ الغضَّة وبالحياة الشابة الكامنة فيكِ.»

وقبَّلَت الرياحُ الشجرة، وسقاها الندى بالدموع، لكن شجرة التنُّوب لم تأبَهْ لهم.

•••

اقترب وقت الكريسماس، وقُطِع العديد من الأشجار الشابة، ومنها ما كان أصغرَ طولًا وعمرًا من شجرة التنوب، التي لم تنعم براحة أو سلام لتلهُّفها إلى مغادرة غابتها. الأشجار الشابة التي اختِيرَت لجمالها، احتفظت بفروعها، ووُضِعت هي الأخرى على عربات وجرَّتها الخيول بعيدًا خارج الغابة.

تساءلت شجرة التنوب: «إلى أين ستذهب؟ إنها لا تَزيد عني طولًا؛ وإحداها ليست طويلة جدًّا قطعًا. ولماذا احتفظوا بكل فروعها؟ إلى أين هي ذاهبة؟»

شدت طيور السنونو قائلة: «نحن نعرف، نحن نعرف، لقد نظرنا من خلال نوافذ المنازل في البلدة، وعرَفْنا ما يحدث لها. أوه، لا يمكنكِ أن تتخيَّلي ما تَلْقاه من شرف وعظمة. فهي تتأنَّق بأسلوب غايةٍ في الروعة. لقد رأيناها واقفة في منتصف غرفة دافئة، تُزيِّنها أشياء جميلة من شتى الأنواع؛ كعك العسل، والتفاح الذهبي، واللُّعب، ومئاتٌ عديدة من الشموع.»

سألتها شجرة التنوب وكل فروعها ترتجف: «وماذا بعد؟ ماذا يحدث بعد ذلك؟»

قالت طيور السنونو: «لم نرَ غير ذلك، لكنه كان كافيًا لنا.»

حدَّثَت شجرة التنُّوب نفسها قائلة: «أتساءل ما إن كان سيحدث لي أي شيء بهذه الروعة على الإطلاق؛ فهذا سيكون أفضلَ حتى من عبور البحر. إنني أتحرَّق شوقًا إلى هذا. أوه، متى يحل الكريسماس هنا؟ فقد صرتُ الآن في طول وعمر تلك التي أُخِذَت العام الماضي. ليتني كنت الآن موضوعةً على العربة، أو واقفة في الغرفة الدافئة تُحيط بي كل تلك الأضواء والروعة! لا بد أن شيئًا أفضل وأجمل يحدث بعد ذلك، وإلا ما كانت الأشجار زُيِّنَت هكذا. نعم، سيتبع هذا شيءٌ أعظمُ وأروع. ماذا عساه يكون؟ إن الشغف يُضنيني، وبالكاد أدرك ما هذا الذي يعتريني.»

قال الهواء وضوء الشمس: «فلتبتهجي بحبنا. فلتستمتعي بحياتك السعيدة في الهواء الطلق.»

لكن الشجرة لم تكن تبتهج، مع أنها كانت تزداد طولًا كل يوم، وحين كان المارة يرَون أوراقها ذات اللون الأخضر الداكن صيفًا وشتاءً، كانوا يقولون: «يا لها من شجرة جميلة!»

قبل الكريسماس التالي بفترة قصيرة كانت شجرة التنوب الساخطة أولَ ما سقط من الأشجار. حين قطعت البلطة الجذع بحدة وشقَّت اللُّب، سقطت الشجرة على الأرض متأوهة، شاعرة بالألم والإعياء وناسية كل أحلامها بالسعادة في حزنها على مغادرة وطنها في الغابة. فقد أدركَت أنها لن ترى رفيقاتِها القدامى الأشجارَ ثانيةً أبدًا، ولا الشجيرات الصغيرة ولا الزهور المتعددة الألوان التي كانت تنمو إلى جانبها؛ بل ربما ولا الطيور حتى. كما أن الرحلة لم تكن ممتعة على الإطلاق.

استعادت الشجرة عافيتها لأول مرة حين أُخرِجَت في فناء منزل، مع العديد من الأشجار الأخرى؛ وسمعت رجلًا يقول: «نريد واحدة فقط، وهذه أجملها. هذه بديعة!»

ثم جاء خادمان في زي فخم، وحملا شجرة التنوب إلى غرفةٍ فسيحة وجميلة. هناك، كانت الصور معلَّقة على الجدران، وبجانب المدفأة العالية المغطاة بالقرميد وقفَت زهريات خزفية ضخمة ذات رسوم سوداء على أغطيتها. وكان هناك كَراسٍ هزَّازة، وأرائكُ حريرية، وطاولاتٌ كبيرة مغطَّاة بصور؛ وكان هناك كتب، ولعب بمئات مئات الدولارات — على الأقل — هكذا كان يقول الأطفال.

ثم وُضِعَت شجرة التنوب في دلوٍ كبير مليء بالرمال — لكنه لُفَّ بجوخ أخضر حتى لا يستطيع أحدٌ ملاحظةَ أنه كان دلوًا — ووُضِعت على بساط فاخر جدًّا. أوه، كم كانت شجرة التنوب مرتعدة! فما الذي سيحدث لها الآن؟ ثم جاءت بعض السيدات الشابات، وساعدَهن الخدم في تزيين الشجرة.

علقوا على أحد الفروع أكياسًا صغيرة من الورق الملون، وكان كل كيس مليئًا بالحلوى. وتدلَّى من فروعٍ أخرى تفاحاتٌ ذهبية وحباتُ جوز، كأنها قد نبتت هناك؛ وكان فوقها وفي كل مكان حولها مئاتُ الشموع الحمراء والزرقاء والبيضاء المثبتة على الفروع. ووُضِع أسفل الأوراق الخضراء دُمًى تبدو تمامًا كأنها رجالٌ ونساء بحق؛ وهي أشياء لم ترَ الشجرةُ مثيلًا لها من قبل قط، وفي قمتها ثُبِّتَت نجمة لامعة مصنوعة من زينة ذهبية. أوه، لقد كانت في غاية الجمال. وإذا بالجميع يهتفون: «كم ستكون مبهرة هذا المساء!»

تفكرَت الشجرة قائلة في نفسها: «ليت المساء يأتي وتُشعَل الشموع! فساعتها سأعرف ماذا سيحدث غير هذا. هل ستأتي أشجار الغابة لرؤيتي؟ تُرى هل ستختلس طيور السنَوْنو النظرَ من النوافذ وهي تطير؟ هل سيكون نموي هنا أسرعَ مما كان في الغابة، وهل سأحتفظ بكل هذه الزينة في الصيف والشتاء؟» لكن لم يكن التخمين ذا جدوى كبيرة؛ فقد أحسَّت بألمٍ في ظهرها من التفكير، وهذا الألم كريهٌ بالنسبة لشجرة تنوب قصيرة مثل الصداع لنا.

وأخيرًا أُشعِلَت الشموع، فتألَّقَت الشجرة في هالة من النور والروعة! وكانت كل فروعها ترتجف بشدَّة من الفرحة، حتى إن إحدى الشموع سقطت بين الأوراق الخضراء وأحرقَت بعضًا منها. صرخت السيدات الشابات: «النجدة! النجدة!» لكن لم يقع ضرر؛ فقد أطفَئوا النار سريعًا.

حاولت الشجرة بعد ذلك ألا ترتجف على الإطلاق، ورغم أن النار كانت تُخيفها، فقد كانت حريصة على ألا يُصيب الضررُ أيًّا من قِطَع الزينة الجميلة، حتى إن كان تألقها يبهرها.

ثم فُتِحَت الأبواب القابلة للطي، وأُهرِعَت مجموعة من الأطفال كما لو كانوا يقصدون إزعاج الشجرة، وتبعهم على مهَلٍ أكثرُ ذويهم الكبار. وقف الصغار للحظة في صمت مشدوهين، ثم أخذوا يصيحون في مرح حتى تردد صدَى صيحاتهم في الغرفة، وأخذوا يرقصون فرحين حول الشجرة والهدايا تُؤخَذ واحدةً بعد الأخرى من فوقها.

قالت الشجرة في نفسها: «ماذا يفعلون؟ ماذا سيحدث بعد ذلك؟» وفي النهاية، تضاءلت الشموع على الفروع وانطفأت. ثم أخذ الأطفال الإذن لاغتنام ما على الشجرة من زينة.

أوه، كم اندفعوا إليها وتكالبوا عليها! ساد هرج شديد حتى إن فروعها شُرِخت، ولولا أنها كانت مثبَّتة إلى السقف بالنجمة اللامعة، لكانت ستسقط أرضًا.

ثم رقص الأطفال بألعابهم الجميلة في أنحاء الحجرة، ولم ينتبه أحدٌ إلى الشجرة إلا مربية الأطفال، التي جاءت وجالت ببصرها بين الفروع لترى ما إن كان قد نُسِيَت تفاحة أو تينة.

•••

صاح الأطفال وهم يشدون رَجلًا قصيرًا بدينًا ناحية الشجرة قائلين: «قصة، قصة.»

قال الرجل وهو يجلس تحتها: «لنجلس الآن في الظل الأخضر، وهكذا ستستمتع الشجرة هي الأخرى بسماع القصة؛ لكنني سأحكي قصة واحدة فقط. يا ترى، ماذا ستكون؟ إيفيد أفيد أم هامتي دامتي الذي سقط على الدرج، لكنه نهض سريعًا مرة أخرى، وتزوج من أميرة في النهاية؟»

هتف البعض: «إيفيد أفيد»، وصاح آخرون: «هامتي دامتي»؛ وتعالت الصيحات. لكن شجرة التنوب ظلت ساكنة تمامًا وحدَّثت نفسها قائلة: «هل لي أي علاقة بكل هذا؟ هل عليَّ أن أصيح أنا أيضًا؟» لكنها كانت قد أبهجتهم بالفعل بقدر ما أرادوا، فلم يأبَهوا لها.

بعد ذلك حكى لهم الرجل العجوز قصة هامتي دامتي؛ كيف سقط، وكيف نهض ثانيةً، وكيف تزوج أميرة. صفق الأطفال بأيديهم وصاحوا: «فلتحكِ واحدة أخرى، فلتحكِ واحدة أخرى»؛ فقد أرادوا سماع قصة إيفيد أفيد، لكنهم لم يسمعوا هذه المرةَ سوى قصةِ هامتي دامتي. بعد هذا لاذت الشجرة بالصمت التام واستغرقت في التفكير. إن الطيور في الغابة لم تحكِ قط قصصًا مثل قصة هامتي دامتي، الذي سقط من فوق الدرج، لكن تزوج من أميرة.

ثم قالت الشجرة في نفسها: «أوه، أجل! هذا يحدث في العالم!» وصدقت القصة برمتها لأن من حكاها كان رجلًا لطيف الطباع.

قالت الشجرة في نفسها: «أوه، حسنًا! من يدري؟ ربما أسقط أنا أيضًا وأتزوج من أمير.» وتطلعت للمساء التالي في فرح، متوقعة أن تُزيَّن مرة أخرى بالأنوار والألعاب والذهب والفاكهة. وتحدثت إلى نفسها قائلة: «غدًا لن أرتجف، وسوف أستمتع بكل بهائي، وسوف أسمع قصة هامتي دامتي مرة أخرى، وربما قصة إيفيد أفيد.» وظلت الشجرة صامتة تفكر طوال الليل.

figure

في الصباح دخل الخدم. وقالت الشجرة في نفسها: «الآن سيعود لي كل بهائي مرة أخرى.» إلا أنهم جرُّوها خارج الحجرة وصعدوا بها إلى العِلية حيث ألقوها على الأرض في زاوية معتمة لا يظهر فيها ضوء النهار، وهناك تركوها. فتساءلت الشجرة في نفسها: «ما معنى هذا؟ ماذا سأفعل هنا؟ لا أستطيع سماع أي شيء في مكان كهذا.» ثم استندت إلى الحائط وراحت تفكر وتفكر.

وقد كان لديها وقت كافٍ للتفكير؛ فقد مضت أيام وليالٍ دون أن يقترب منها أحد؛ وحين جاء أحد الأشخاص أخيرًا، كان فقط ليضع بعض الصناديق الكبيرة في إحدى الزوايا. وهكذا توارت الشجرة تمامًا عن الأنظار، كأنها لم تكن موجودة قط.

قالت الشجرة في نفسها: «ها قد جاء الشتاء، وصارت الأرض صلبة ومغطاة بالجليد، وبهذا لن يستطيع الناس أن يزرعوني. أعتقد أنني سأبقى هنا حتى يأتي الربيع. كم يهتم بي الجميع ويرفقون لحالي! لكن ليت هذا المكان لم يكن معتمًا هكذا وموحشًا بشكل مخيف هكذا، دون حتى أرنب صغير لأراه. كم كانت الحياة ممتعة في الغابة حين كان الثلج يغطي الأرض، وكان الأرنب يجري عليه، نعم، ويقفز فوقي أيضًا، وإن كنت لم أحب ذلك آنذاك. أوه! كم أشعر بوحدة فظيعة هنا.»

صرَّ فأر صغير وهو يتسلل بحرص ناحية الشجرة؛ ثم جاء فأر آخر، وأخذ الاثنان يتشممان شجرة التنوب ويتسللان داخلَين خارجَين بين فروعها.

قال الفأر الصغير: «أوه، البرد شديد. لولا ذلك لشملتنا راحة كبرى هنا، أليس كذلك يا شجرة التنوب العجوز؟»

قالت شجرة التنوب: «لست عجوزًا؛ فهناك كثيرون أكبر مني عمرًا.»

سألها الفأران وقد ملأهما الفضول: «من أين أتيتِ؟ وماذا تعرفين؟ هل رأيتِ أجمل الأماكن في العالم، وهل تستطيعين أن تحكي لنا عنها؟ وهل ذهبتِ إلى غرفة التخزين، حيث الأجبان موضوعة على الرف واللحم يتدلى من السقف؟ توجد هناك شموع من الشحم يمكن الجري عليها؛ ومن الممكن أن يدخلها أحدنا نحيفًا ويخرج منها بدينًا.»

قالت شجرة التنوب: «لا أعلم شيئًا عن ذلك، لكنني أعرف الغابة حيث تسطع الشمس وتشدو الطيور.» وأخبرَت الشجرة الفأرَين الصغيرَين بكل ما جرى في أيام شبابها. ولم يكونا قد سمعا بمثل تلك الأشياء في حياتهما؛ حتى إنهما بعد أن أصغَيا إليها باهتمام قالا لها: «كم شاهدتِ من أشياء عديدة! لا بد أنكِ كنتِ سعيدة جدًّا!»

صاحت الشجرة: «سعيدة؟!» ثم قالت وهي تتأمل ما كانت تحكيه لهما: «أوه، نعم! فقد كانت تلك أيامًا سعيدة على كل حال.» لكن حين واصلت الكلام وحكَت كل ما حدث في عشية الكريسماس، وكيف زُيِّنَت بالكعك والأنوار، قال الفأران: «كم كنتِ سعيدة حتمًا يا شجرة التنوب العجوز!»

أجابت الشجرة: «لست عجوزًا على الإطلاق؛ فقد جئت من الغابة هذا الشتاء. والآن قد توقف نموي.»

قال الفأران الصغيران: «يا لها من قصص رائعة تلك التي تستطيعين حكيها!» وفي الليلة التالية جاء أربعة فئران أخرى معهما لسماع ما لدى الشجرة من قصص. وكانت كلما تحدثت عاودها المزيد من الذكريات، فحدثت نفسها قائلة: «صحيح، تلك كانت أيامًا سعيدة؛ لكن ربما تعود مرة أخرى. فرغم أن هامتي دامتي سقط على الدرج فإنه تزوج الأميرة. ربما أتزوج أنا أيضًا أميرًا.» ثم أخذت شجرة التنوب تُفكر في شجرة البتولا القصيرة الجميلة التي كانت في الغابة؛ لقد كانت بالنسبة لها أشبه بأمير بحق، أمير وسيم.

سألتها الفئران الصغيرة: «من هو هامتي دامتي؟» فقصت عليهم الشجرة الحكاية بأكملها؛ إذ استطاعت أن تتذكر كل كلمة. وقد سُرَّت الفئران الصغيرة بها للغاية حتى إنها كانت على استعداد للقفز أعلى الشجرة. وفي الليلة التالية ظهر العديد من الفئران الأخرى، وفي يوم الأحد جاء معها اثنان من الجرذان؛ لكنَّ الجرذَين قالا إنها لم تكن قصة حلوة على الإطلاق، وشعرت الفئران الصغيرة بأسفٍ بالغ؛ فقد جعلها هذا تنبذها هي الأخرى.

ثم سألها الجرذان: «هل تعرفين هذه القصة فقط؟»

أجابتهما شجرة التنوب: «أعرف هذه القصة فقط، وقد سمعتُها في أسعدِ أمسية في حياتي؛ غير أنني لم أعلم أنني كنت سعيدة جدًّا في ذلك الوقت.»

قال الجرذان: «نرى أنها قصة بائسة جدًّا. ألا تعرفين أي قصص عن اللحم أو الشحم الذي في غرفة التخزين؟»

أجابتهما الشجرة: «لا.»

فرد عليها الجرذان: «شكرًا جزيلًا لكِ إذن.» ثم ذهبا إلى حال سبيلهما.

كذلك ابتعدت الفئران الصغيرة بعد ذلك، وتنهدت الشجرة وقالت: «كان الوقت ممتعًا جدًّا حين كانت الفئران الصغيرة المرحة تجلس حولي وتُنصت لي وأنا أتحدث. الآن صار كل هذا ماضيًا أيضًا. لكنني سوف أصير سعيدة حين يأتي أحد ليُخرِجني من هذا المكان.»

لكن هل سيحدث هذا أبدًا؟ نعم؛ فقد جاء أناس ذات صباح لتنظيف العِلية؛ حيث خُزِّنَت الصناديق، وأُخرِجَت الشجرة من الزاوية وأُلقِيَت بقسوة على الأرض؛ ثم جرَّها الخادمان على الدرج حيث كان ضوء النهار ساطعًا.

قالت الشجرة مبتهجة بأشعة الشمس والهواء المنعش: «الآن بدأَت الحياة مرة أخرى.» ثم حُمِلت إلى أسفل وأُخِذت إلى الفِناء سريعًا جدًّا حتى إنها نسيت أن تُفكر في نفسها، ولم يسَعْها إلا النظر حولها؛ فقد كان هناك الكثير لتطالعه.

كان الفِناء على مَقرُبة من حديقة، بدا كلُّ ما فيها متألقًا؛ فقد تدلَّت ورود نضرة وذكية فوق السياج القصير. وكانت أشجار الزَّيْزفون مُزهِرة، فيما حلقت طيور السنونو هنا وهناك وهي تُغرد قائلة: «سيأتي خليلي»، لكنها لم تكن تقصد شجرة التنوب.

صاحت الشجرة فرحة، وهي تمد فروعها: «الآن سوف أحيا»، لكن وا حسرتاه! كانت كلها ذابلة وصفراء، ووُضِعَت الشجرة في زاوية بين الحشائش ونباتات القراص. كانت النجمة المصنوعة من الورق الذهبي ما زالت مثبتة في قمة الشجرة، وراحت تلمع في ضوء الشمس.

كان يلعب في الفناء نفسه اثنان من الأطفال المرحين الذين رقصوا حول الشجرة في الكريسماس، وكانوا في غاية السعادة آنذاك. رأى أصغرهما النجمة اللامعة، فهُرِع وشدَّها من فوق الشجرة، وقال وهو يمشي على الفروع حتى تشرَّخَت أسفل حذائه: «انظر ماذا وجدتُ على شجرة التنوب العجوز القبيحة.»

وشاهدَت الشجرة كل الزهور النضرة اليانعة في الحديقة، ثم نظرت إلى حالها، وتمنت لو كانت ظلت في الزاوية المظلمة في العِلية. وتذكرت شبابها الغضَّ في الغابة، وعشية الكريسماس السعيدة، والفئران الصغيرة التي أنصتت إلى قصة هامتي دامتي.

قالت الشجرة المسكينة: «كل هذا انتهى! انتهى! أوه، ليتني استمتعت بحياتي حين كان يتسنَّى لي ذلك! لكن فات الأوان الآن!»

ثم جاء خادمٌ وقطع الشجرة قطعًا صغيرة، حتى تكومت في حُزمة كبيرة على الأرض. ووُضِعت القطع في نار، فاشتعلت سريعًا متوهجة، في حين راحت الشجرة تتنهد بعمق بالغ حتى كانت كل تنهيدة بمثابة طلقة من مسدس صغير. ثم جاء الطفلان اللذان كانا يلهوان، وجلسا أمام النار، وتطلعا إليها وصاحا: «طق، طق.» لكن مع كل «طقطقة»، وهي التي كانت تنهيدة عميقة، كانت الشجرة تُفكر في يوم من أيام الصيف في الغابة أو إحدى ليالي الشتاء حين كان بريق النجوم ساطعًا، وفي عشية الكريسماس، وفي هامتي دامتي — القصة الوحيدة التي سمعتها أو عرَفَت كيف تحكيها على الإطلاق — حتى فنيت أخيرًا.

ظل الطفلان يلعبان في الحديقة، ووضع أصغرهما على صدره النجمة الذهبية التي زُيِّنت بها الشجرة في أسعد أمسية في حياتها. انتهى الآن كل شيء؛ انتهت حياة الشجرة وكذلك القصة؛ فكل القصص لا بد لها من نهاية في وقت ما.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤