تصدير وتصوير

ليس هذا الكتاب ترجمة حياة؛ لأن البطل الذي تناول بطولتَه بالبحث، والزعيم الذي شمله بالتحليل والدراسة — حيٌّ بيننا، نرجو بقاءه، وندعو الله أن يطيل في فُسْحة عمره ليخدم الأمة أكثر مما خدمها، ويفيض عليها بأغزر مما أفاض. ولا تكون التراجم ومدوَّنات الأعمال وإقامة أدق الموازين، إلا بعد أن ينتقل الأفراد الخُلقاء بها إلى ذمة التاريخ، ولا يزال لهذا البطل الذي انتوينا دراسته غد مرقوب، وحياة قادمة مرجوة الخير، وعمل عظيم طيب الغرس، حسن المجتنَى، منتظر القطاف، موعود الثمر.

وإنما النية في هذه الفصول المحدودة، والأبواب المتعددة، تصوير البطولة من المعالم، ورسم الزعامة من الخطوط التقريبية، وتعيين النبوغ الوطنيِّ من ناحية رفعة مادته، وصدق معدنه وخاصيته، على ضياء ما ظهر من مزاياه وجملة موهبته، وبسبيل النجاح الأخير لجهوده في قضية الحرية والاستقلال.

ونحن فيما نصفه من عمل هذه البطولة وجهدها، إنما نصف الجيل الحاضر المندمج فيها، ونسجِّل آثار الماضي المشتمل عليها، الدافع إليها، وندوِّن المزايا والمواهب التي اجتمعت لديها؛ ليكون هذا الكتاب فاصلًا بين الترجمة والتاريخ، ووسطًا بين التقرير والتسجيل والتدوين.

وما هو في الحق إلا تحية للفوز المكسوب، والنجاح المربوح، وتصوير للتقدير العام، والإيمان الشامل بالزعامة التي بلغت بالأمة هذا النصر المبين.

وقد جرينا فيه على نمط من التناول جعلنَا مفتاحه البحث في معاني الزعامة وحدود البطولة، ثم تطبيق موجباتها ومطالبها على زعامتنا، والتماس نواحيها في أبطالنا وقادتنا، جلاءً لحقائق البطولة عامة، وتصويرًا لمظاهرها ومظانِّها ومواقفها في بطولتنا الوطنية خاصة، حتى يكون الكتاب درسًا وتطبيقًا، وبحثًا وتحقيقًا، وتعريفًا وتصديقًا، ومعالم ومقتضيات، وعبرًا مواثل وعظات، ومرشدًا للمستهدين والمسترشدين.

وقد جعلنا شخصية مصطفى النحاس ومبلغ بطولته ومحل زعامته من الزعامات، مقدمةَ الدرس ونظريته، والتمهيد للبحث ونقطته؛ لأنه الشخصية التي استحوذت على إعجاب الجيل ومحبته، والعظمة الصادقة التي وجدت الملايين من الناس بها مؤمنين.

وفي الحق إن عظماء الأمة وزعماءها هم المرائي البِلَّورِية التي يرى الناس على صفحاتها الشَّفَّافة وزجاجاتها الصقيلة الملتمعة، خواطر أذهانهم، وحقائق أنفسهم، وأطياف أخيلتهم، بل إن كل فرد منا مدفوع بفطرته إلى التماس العظمة عند غيره ليرقد تحت ظلالها، ويستريح من همِّ الحياة ومتاعبها تحت شجرتها، والناس من قديم الزمان عشاق البطولة، رواد الفضيلة، منتجعو نجعات النبوغ والتفرد والاستباق، فكلما جاءتهم نباغة أكبروها، فإذا ارتفعت مراتبها إلى الدرجات العليا احتشدوا حولها، وأسلموا أنفسهم إليها حيارى من أمرها، معجبين بقوة تركيبها، مبهوتين يتساءلون كيف تهيأ لها أن تبلغ هذا الأفق البعيد، وهم يتحاملون ليصعدوا، وتلهث أنفاسهم وهم لها طالبون.

ولكن البطل العظيم إنما يفتح عينيه فيرى الأشياء على حقائقها، منكشفة على أنواره المسلطة عليها، ظاهرة الأسباب، واضحة المعالم، مجلوَّة الأجزاء والدقائق والمفردات، على حين يذهبون هم يلتمسون رؤيتها فلا يبصرونها، ويفتحون أعينهم على سعة أحداقها فلا يرونها، ثم هم لا يسلمون من الخطأ وإن حرصوا؛ لأنهم يحاولون كل شيء، والعظمة لا تحاول شيئًا، كما لا يحاول السُّكَّر أن يكون حلوًا، ولا الملح أن يكون أجاجًا؛ ولأن العظيم هو الذي خرج من مصنع الطبيعة جاهزًا مفصلًا على قَدِّ الزمن الذي ظهر فيه، ووفق مطالب العصر الذي احتاج إليه.

وكذلك كان مصطفى النحاس فينا عظيمًا، بل كذلك اتصل هو بنا واتصلنا نحن به، إذ وجدنا عنده شرح حياتنا، وبلاغ آمالنا، وبيان ما يعتمل في نفوسنا، ونحن فقد لا نعرف كيف نتحدث إلى الدنيا بما نريد، ولا نبِينُ عما نقصد، ولا نجيد شرح ما يضطرب في أعماقنا، ولكن العظيم لا يلبث أن ينبري ليكفينا متعبة الإبلاغ، ويريحنا من مشقة التأدية، ويغني عنا مجهدة التفسير والبيان؛ لأنه قريب من نفوسنا، متصل بدقائق شعورنا، محتل موضعه من إحساسنا ووجداننا، وكل الذي هو طيب بفطرته، كبير في تأثيره، حسن في تقديره، واجد مكانه، مصيب موضعه، مقتعد مُطْمَأنَّه، وإن التفاحة الصالحة لتُخرِج بذورها، وأما الفاسدة فلا تخرج شيئًا؛ وإنما تخدم مع ذلك التفاح الطيب الصالح؛ لأنها تدل عليه، وتشير إلى الفارق بينها وبينه، ويوم يجلس الرجل منا في رحاب الحياة مكانه، ويقعد مقعد الصدق الذي أعد له؛ يروح الخصيب، ويمضي الباني المنشئ، ويغدو المُحدث الفاعل المنتج، وإذا كان النهر العظيم هو الذي يخط بمجراه ضفافه، ويقيم شاطئيه، فإن طيبة الرجل العظيم هي التي تجد مَصَبَّها إلى النفوس، وتشق عباب الحياة إلى القلوب والأفئدة، ويوم تبلغ الغاية، ويرتفع منها المد، ويتعالى النوء والموج والفيض، هنالك الخصيب العميم، والحقل الناضر، والحراث الشاكر، والمستثمر العريف للصنيع.
figure

ولقد أفاض علينا مصطفى النحاس من طيبة نفسه؛ فطابت به نفوسنا، وجرى إلى أعماقنا مجرى النيل إلى أرضنا، فكان فينا كوثر خير نحن الأعزة به، وكان فيضًا روحيًّا عميقًا، نحن به ناعمون.

لقد جاءنا مصطفى بطيبة مخلصة طاهرة، لا تتكلف صنعة ولا تزويرًا ولا خبًّا، فلم نتكلف نحن لها رضًى ولم نصطنع لها حبًّا، هو أعطانا كل نفسه، فأعطيناه نحن صفوة أنفسنا؛ وهو عظمة صُرَاح متجلية على نورها، ظاهرة الجزئيات والكليات من صقل جوهرها، ونحن نبادلها المصارحة في المودة، والمودة في القربى، وكلما اشتد عليه الخَطْبُ، اشتد له عندنا الحب، وكلما أصاب النصر في المعركة، التفَّت حوله الأفئدة صافَّة مشتبكة، كأن كل فؤاد قد انتصر، وكل إحساس بالفوز ظفر؛ بل إن الشدائد لا تقع عنده جديدة عليه، وإنما هي الجديدة علينا، المباغتة لنا، وقد يفرح هو بها، ونحن نجزع عليه منها، ويوم يخرج منها الفائز المنتصر؛ يعطينا مع الفرحة بانتصاره أبلغ الدروس وأروع العبر.

ولسنا نعلم في نزاهة الزعامة صورة صريحة المعالم، صادقة الأجزاء، خالية من المحسنات، بادية بطبيعة ألوانها، هي أروع من نزاهة زعامة مصطفى وطهارتها، ومن كان للحياة واهبًا، فلن يكون العَرَض الزائل موهوبًا، ومن ترك شأن نفسه، مُؤثرًا شأن الناس عليه، فلن يكون آخذًا وهو المعطي، ولن يستطيع أحد في هذا العالم أن يكون عليه متفضلًا وهو المانح أعز شيء يملك: روحه التي بين جنبيه، وذلكم هو أكبر العطاء، وأعظم جلاله أنه النزيه الخالص الموهوب لا يسأل عليه أجرًا ولا جزاءً.

وما مصطفى إلا منحة من الله لمصر، ومن يأتِ من عند الله للناس منحة، يأتِ صفيًّا من الشائبة، لا يجدي عليه ممنوح، ولا تمتد إليه كف بموهبة. ولقد قيل في إبَّان العهود الغابرة: لقد «ثبتت» بحكم القضاء نزاهته، وما درى الذين قالوا ذلك أن هذه النزاهة نزلت إلى الدنيا بحكم الله «ثابتة» …

وأعجب ما في هذه الزعامة التي نحن بسبيل تقديرها أنها بناء شاهق من جلال الخلق، وأن قوة الخلق في جلالها وطبيعة خواصها كالحرارة والضياء والشمس والهواء، وعناصر الكون والقضاء، والسر في أنك تحس وجود أحد الناس، ولا تستشعر وجود سواه، كامنٌ في سر الجاذبية، مبثوث في طبيعة المغناطيس، والحق هو قمة الحياة، وأسمى ذروة الوجود، والصدق في القول والإحسان في العمل هما التطبيق للحق، والمعراج إلى قمته، والإسراء إلى ذروته، وإن الطباع البشرية لتتفاوت في درجات هذين العنصرين ومبالغهما، فمن خلصت طبيعته وتطهرت فطرته، جرى من منابعه في أعلى جبال الحق، منصبًا في طباع الناس وفِطَرهم انصباب الماء من الآنية العالية إلى الأوعية المنخفضة، ولن يستطيع في العالم شيء أن يقاوم هذه القوة المكينة في بناء الرجل العظيم؛ لأنه أبدًا القوي الغالب، وأنت فقد تُلقي بحجر في الفضاء فيرتفع لحظة في الطباق، ولكنه لا يلبث أن يرتد إلى الأرض لا محالة، وكذلك أنت العاجز حيال الشخصية القوية الغالبة، فمهما حاولت أن تحيلها عن طبعها وخيمها، أيأستك من محاولتك، وظلت على طبعها الذي فُطرت عليه، بل إنها لتسري في كل من حولها، وتتغلغل خفية إلى أعماق أصحابها وأهلها، وترسل الحياة تدب في أفقها ووسطها، وتشع بنورها على محيطها، وتغمر الفضاء الرحيب بإحساسها، وتتخذ الوادي كله مجالًا لروعتها، ومظهرًا لآيتها وعظمتها. وإن النفس القوية النقية من أدران الحياة لتتَّحد مع الحق وتمتزج بالعدل اتحاد المغناطيس مع القطب، وتروح إزاء الذين يبصرونها أشبه شيء بجسم شفاف، صقيل الأديم، رائق الزجاجة، قائم بينهم وبين الشمس؛ فمن أراد منهم إلى الشمس سفرًا، اتَّخذ ذلك الأديم الشفاف إليها مجازًا ومَعْبَرًا.

وكذلك كان مصطفى النحاس الواسطة بيننا وبين أشرف الغايات، وكان الضمير الحي الذي به نشعر، والوجدان العام الذي به نرتبط.

وأحسب الميزان الصادق لقياس الرجل العظيم على حقيقته، وقوة شخصيته، وخطر رسالته في هذا العالم ومهمته، هو مبلغ مناوأته للحوادث، ومحاربته للزمان، واستقباله للخطوب، واضطلاعه بالنوب والمحن والشدائد، ففي ذلك جميعًا يرتفع الرجل العظيم عن مستوى عامة الناس وأمثالهم؛ لأن أخوف ما يخافونه هو الزمن، وأعدى أعدائهم الدهر، وأكبر دعائهم لله النجاة من المحن، والخلاص من الأحداث الشداد، وأما العظيم فذلكم هو الذي يتخذ ظروف الزمان حاشية له تمشي في ركابه، ويرغم الأحداث على أن تُظهِر للناس ما بطن من خلقه وسر نفسه ولبه ومبلغ سخريته من المشاق والصعاب والعقبات.
figure

ولقد عرفنا مصطفى النحاس يُمْتحَن بالمحنة وهو الصابر، ويُرمَى بالخطب المفاجئ، وتحيط به الأزمة المباغتة؛ فلا يني يخرج منا جميعًا بفوز، ولا يزال يجالدها حتى يعود من المجالدة بانتصار.

ونحن جميعًا في مصر المؤمنون بحقنا، ولكن مصطفى النحاس ظل على الخطوب المترادفة أشدنا به إيمانًا، حتى لقد جعل حقوق بلاده في الحرية والاستقلال فكرته التي يقضي عليها نهاره، ويسهد لها زُلَفًا من ليله، وينام بها لمشاهدة أحلامه ومعارض رؤياه، بل لقد ظلت عنده اللغة التي يعطيها أكثر كلامه، والموضوع الذي يحشد له أكبر اعتزامه، بل لقد عاش هذه السنين كلها من أجلها ولها بكُليَّته، ونحن قد عشنا لها بكل جزئياتنا؛ وكانت لها نفسه جميعًا، ولنا بجانبها آمال نفوسنا، ومشاغل عيشنا، وهَمَاهِمُ حياتنا وأطماعنا.

وكذلك أعطى الزعامة مواهبها، وأدَّى لها واجبها، وحشد لها مطالبها، ورفرفت من فوقه روح سعد الذي اصطفاه، يطالعنا منها ومنه بقوتين: قوة الذكرى، وقوة الإيمان … حتى أدى رسالته، وبلغ طِلْبته، وحقق لبلاده ما كانت تصبو إليه.

ولا يزال أمامه عمل عظيم، ومهمة خطيرة، وشأن جليل، هو استثمار ما استعاد لوطنه، وحسن القيام على ما استرد لقومه، وإنفاذ وجوه الإصلاح الذي يحتاج إليه العصر، وتوفير مقتضيات الحياة للجيل الحاضر، والبناء للأجيال القادمة، وترك أغنى التراث للمستقبل والذراري المنحدرة في مواكب الزمن وقافلة الأبد ومسيرة الحياة.

وقد يحسن أن نقدم لهذا الكتاب بفصول في تعريف الزعامة وكشف أسرار الشخصية القائدة، وتعيين مطالب العظمة وقيادة الأمم والجماهير؛ لنسير على ضياء هذه المعاني في فهم هذه الشخصية العظيمة التي يحيط بها تاريخ مصر الحديث في مرحلة الجهاد لحريتها المقدسة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤