مصطفى النحاس في عهد الثورة

في أواخر هذا الدور جعلت العناية الإلهية تمهد فيه للغد القادم، وتعد معدات اليوم المحتجب وراء أستار الغيب، فأخذ مصطفى النحاس يظهر في الساحة العامة، ولكن على قَدَر، ويختلط بالمشتغلين بالمسائل السياسية، ولكن في حزم واتزان، وكان لا بد من التعرف للشباب، والبروز في ندواتهم، والظهور في أوساطهم؛ لأنهم في حساب الطبيعة كانوا عدة الثورة وجهازها، ومواكبهم ستروح غدًا مهرجان زفافها وأعراسها؛ فاتصل بطلبة المدارس العالية، وكان وكيلًا لناديهم، وهو يومئذٍ مجتمع الشباب المتحمس ومهطع الوطنية الشابة الفتية، وأتون العاطفة العامة المتقدة، ومركز المجتمع الذي تحتشد لديه جميع قوات الغد القريب.

وفي الوقت الذي كان فيه سعد يتأهب للخروج من عزلته، ويتحفز للوثوب من عرينه، على دَوِيِّ صوت ويلسون في مؤتمر السلام عقب الهدنة، وهو الشيخ الحكيم المجرب — كان مصطفى، ممثل عنصر الشباب، تحت تأثير العامل ذاته، وفي الحماسة نفسها للفكرة في مثل أُهْبَة الشيخ وتحَفُّزه، على بعد ما بينهما، وفي غير تكاشف بما يختلج فيهما، وكأنَّما مهدت الطبيعة يومئذٍ لقيادة البلاد في الثورة زعامتين: زعامة الرجولة في سعد، وزعامة الشباب في مصطفى، ثم راحت تقدم زعامة الشيخ؛ لأن معها الحكمة والروية والأناة والتدبير، وأخرت زعامة الشباب حتى تكتسب أولئك جميعًا من المستبقة المتقدمة؛ لتكون أنفع وأفضل وأزكى وهي الخالفة الآتية من بعدها في دورها الطَّبَعِيِّ عَبْرَ السنين، وبينما كان الشيوخ يجتمعون عند سعد ليتشاوروا في أمر بلادهم، كان الشباب يتلاقون في طنطا عند الشاب مصطفى النحاس القاضي، وكل جمع يفكر في أي المسالك يسلك للنهوض لحق بلاده، والبروز للإهابة بوطنه، وإعلان الدنيا عن حقوق مصر الطبيعية في الحرية والاستقلال.

فيا له من اتفاق غريب، ومصادفة عجيبة، كأن قلب سعد النابض الخفاق، قد لقي على بعد المزار قلبًا يلتقط نبضاته، ويهتز بصدى خفقاته، أو كأن الطبيعة أعدت العدة اللازمة واحتياطيَّها، والقوة ورديفَها، والزعامة وخلافتها من أول تصميم، ومن بداية التجهيز والتهيئة والاستعداد؛ إذ ما كادت مبادئ ويلسون تذيع في العالم وتشتهر، حتى فكر مصطفى النحاس بك قاضي طنطا مع بعض صحب له وجملة من أصدقائه في القيام بعمل يسمع العالم كله صوت مصر عاليًا، وصرختها المستغيثة في جنبات الأرض داوية.

وبعد أن تشاوروا فيما بينهم وعجموا عيدانهم وأجمعوا نيتهم، راحوا يفكرون في نوع العمل وأحسن وسائله وأكفلها بتحقيق النتيجة المنشودة، فما لبثوا أن رأوا أن أي عمل قد يقومون به هم وحدهم، قد لا يجدي نفعًا، ولا يؤدي نتيجة؛ لأنهم شباب لا يعرفهم الشعب، ومُحْدَثُون غير مسموعي الكلمة في الناس.

واجتمع يومئذٍ رأيهم على أن ليس لهذا العمل العظيم والمهمة الخطيرة غير رجال كبار، ومراجيح ذوي أخطار، وشخصيات بارزة ملء الأسماع وقبلة الأبصار، فيكون لحركتهم تأثيرها المطلوب في أوروبا ووقعها المرغوب في البلاد.

لقد كان ذلك أول مظاهر الإخلاص للفكرة، وصدق الإحساس للوطن، إذ كان شعورًا رفيعًا نقيًّا، متجردًا من الأنانية، بعيدًا من حب الذات، خليًّا من دوافع الغرور ومغريات الزهو، لا ينظر إلى العمل وحده، ولا يبالي الفكرة بمفردها، ولكن ينظر كذلك إلى موجبات نجاحها، ويتعرض وسائل فوزها، ويدرس ما لها وما عليها؛ ليستوثق من قيمتها وما يحتمل من خطرها، ويتثبت من الطريق قبل المسير فيه.

كان ذلك وطنية حازمة، بقدر ما هي وطنية صادقة، بل كان تفكيرًا سديدًا، وبحثًا مدققًا، ووزنًا للأمور صحيحًا راجحًا، خلص من النزق، وتجنب وساوس الأنانية وهمسات الأثرة، وخُدَع الاعتداد غير الناضج، والثقة العَجْلى المتهورة. ولم يكن ذلك كله عجيبًا من أولئك الشباب الذين اجتمعوا لبحث الفكرة ودراستها؛ لأنهم كانوا جميعًا بين قاضٍ ومحامٍ وموظف كبير، ممن عُرِفوا في محيطهم بالاتزان والنضوج وحسن الرأي وسلامة التقدير.

ورأى مصطفى النحاس بك يومئذٍ هو وأصحابه الذين اجتمعوا على تلك الفكرة أن السلطات العسكرية لن تسكت عن أولئك الذين سوف يتولون تنفيذها، ولن تخلي بينهم وبين القيام بها، بل هي حتمًا مطاردتهم، عاملة على قمعهم وتعقب آثارهم، وقد تعمد إلى اعتقالهم في المحابس، أو تنفيهم من الأرض، وتشردهم كل مُشَرَّد، ولا تتركهم حتى تدرك ثأرها منهم، وتنتقم شر انتقام.
figure
مصطفى النحاس.

في هذا كله فكر مصطفى وأصحابه، وعرضوه على أخيلتهم، وتصوروه في أخلادهم، لا من خوف ولا من رهبة، ولا تقديرًا لمعاني الانزواء، وتبريرًا لنية الإحجام؛ ولكن عن حزم الشجاعة، وفي أروع مظهر من مظاهر الشجاعة الحازمة.

لقد فكروا في ذلك كله لتجتمع نيتهم على أمر خطير؛ هو مهمة الشباب، وبطولة الوطنية الحكيمة، ومظهر الإيثار المتفاني في المجموع، وهو أن ينزلوا يومئذٍ إلى الحومة، فيحتلوا مكان الغائبين، ويتولوا العمل عنهم، وينهجوا النهج ذاته، وينشروا الرسالة الجديدة في كل مكان.

ولما اتفقت الآراء بينهم على هذه الخطة الحازمة والتصميم الحكيم، بدءوا يفكرون في الشخصية البارزة ذات السمعة الذائعة التي يصح أن يكاشفوا صاحبها بما قد جاش في صدورهم، واختلج في جوانحهم، وسرى في أخلادهم من أفكار وخطط وتصميمات، فاجتمعوا على أن سعد زغلول هو الرجل الأوحد للفكرة، وبطل الساعة المرتقب، وصاحب تلك الشخصية الخليقة بالاعتزام والإقدام.

فكروا يومئذٍ في سعد، بينما كان سعد نفسه يفكر تفكيرهم، ويجيش في صدره ما كان يجيش في صدورهم، وكأنما تلاقت نفس مصطفى ونفس سعد في موجة من موجات الإلهام الروحي والوحي النفسي، وكأنما تجاوبا واتحدا في مسرى تيار واحد وسيَّال خفي عظيم الخطر، بالغ القوة، شديد الهزات، وكأنما تعارفا في الوطنية الصادقة قبل أن يتعارفا ويتصلا في حقيقة الحياة.

وشرع الجمع يبحثون في الخطة المثلى للوصول إلى سعد وإقناعه حتى لا يردهم خائبين إذا هو ظنهم شبابًا إخوان سذاجة، وحسب أفكارهم مجرد أحلام مما يختلج في الأخلاد الصغيرة، وصور وهمية من خُدَع الأذهان.

فقال مصطفى إنه يعرف سعدًا منذ كان وزيرًا للحقانية، ولكنها معرفة رسمية سطحية، لا تمكنه من مفاتحته في أمر خطير كهذا الذي ائتمروا له واجتمعوا عليه، وقال أحدهم — وكان موظفًا كبيرًا — إنه يعرف عبد العزيز فهمي بك معرفة وثيقة تبيحه الحديث إليه في الموضوع، وإنه يرجو إذا تمكن من إقناعه واكتساب عطفه أن يحمله على مفاتحة سعد باشا بدوره، فوافق الجمع على العمل بهذا الرأي، وعهدوا إلى زميلهم بزيارة عبد العزيز فهمي بك، والبحث معه في هذا الشأن العظيم.

وفي اليوم التالي عاد إليهم الزميل، فنبأهم بأنه قد ذهب للقاء عبد العزيز فهمي بك، وخاطبه في شأن المهمة التي ذهب إليه من أجلها، ولكنه ما كاد يبدأ الحديث حتى قاطعة وأبى الإصغاء إليه قائلًا: «إنه من العبث التفكير في هذا الموضوع، ولا فائدة من الاهتمام به؛ لأن مصر ضعيفة لا حول لها ولا قوة حتى تستطيع تحرير نفسها، مهما نادت، ومهما صاحت، ومهما احتجت وبذلت من تضحية …»
figure
سعد ومصطفى.

فلما سمع مصطفى ذلك غضب وثارت ثائرته، وجاشت حماسته، وقال لصاحبه: إنك يا عزيزي لم تعرف كيف تقنعه وتثير حميته، فدعني أزُرْهُ معك لعل مجهودي يعزز مجهودك فنفوز بغايتنا، ووافق الجميع على هذا الرأي، واعتزم مصطفى تنفيذه من الغداة.

ولقي مصطفى عبد العزيز فهمي بك، فأعاد عليه الكرَّة هو وصاحبه الذي ذهب معه؛ فأبدى لهما ما كان قد أبدى من قبل من التردد قائلًا إنه لا يظن أن حركة كهذه يمكن أن تؤدي إلى نتيجة عملية، فقال له مصطفى: «نحن نعلم أنكم بإقدامكم على هذه الحركة ستضحون تضحية غالية، وأن الإنكليز حتمًا عامدون يومئذٍ إلى القبض عليكم ونفيكم، بل قد يصنعون بكم شرًّا من هذا وأعظم بلاءً، ولكن تضحيتكم هذه ستضرم نار الحماسة في قلوب أبناء الوطن وشبابه، فنخوض نحن الميدان من بعدكم، ستذهبون أنتم ونقوم نحن على آثاركم.»

هذه أول صيحة من صيحات التفدية انبعثت من أعماق مصطفى النحاس قبل مشتَعَل الثورة، بل لقد كانت هذه هي الثورة في كل جلالها قد اضطرمت في نفس رجل وقلبه، وجاشت في أعماقه وأغوار روحه صيحة الوطني الصادق الذي لا يتردد في بذل كل شيء مهما عز من أجل وطنه، وأي رجل هو يومئذٍ وليس يملك غير راتبه، ولا هو معتمد إلا على ربه، ولا مستند إلا إلى قواه ومشيئة الله فيه؟! رجل محدود الموارد، مجهول الغد، أعزب، ولكنه في التبعات أكثر من متزوج؛ لأن أبناء أخته عنده في معزة الابن والولد، وفي التشبيه قطع أو أفلاذ من الكبد، وله في بقية من أسرته برٌّ وتعهد، وحنان غير مقطوع أبدًا ولا ممنون.

ولكن كل هذا لا شيء، وسناده فيه هو الله قبل كل سند؛ بل ليس في العالم حائل ولا رادٌّ مهما عظم واشتد، كان يمكن أن يقعد بهذا الرجل يومئذٍ عن النَّهْدَة للبلد، والوثبة للوطن الراسف في القيد، فقد جاشت بالوطنية روحه، واشتعل بنارها خاطره وصدره، وانبعثت مع دافع العناية الإلهية عزمته وقوته؛ فاعتزم ثم تقدَّم وهو يعلم أن من ورائه الفاقة والشظف والبأساء والضر والحرمان، وأن من أمامه المعتقل والمحبس والمشُرَّد والمنفى والإعدام …

وإزاء تلك الصيحة الصادقة المنبعثة من أغوار الصدر، لا عجب إذا تطلَّق وجه محدثه وأبرقت أساريره، وأنشأ يقول لمصطفى وصاحبه: «الآن لقد اطمأننت إليكما»، فقال مصطفى في دهشة: «وماذا تعني وأي اطمئنان تريد؟!»، فقال محدثهما مخافتًا بصوته: «اسمعا! لقد فكرنا نحن فيما فكرتم فيه أنتم، ونفذنا الفكرة»؛ فازداد عجب مصطفى وراح يقول: «نفذتم الفكرة؟! وكيف كان ذلك؟!»، قال محدثهما: «إني أنا وسعد باشا، وعلي شعراوي باشا، ومحمد محمود باشا، وأحمد لطفي السيد بك نوالي الاجتماعات منذ أيام لتأليف وفد يشخص إلى أوروبا لبسط قضية مصر أمام ساستها، هذا سر بيني وبينكما، فاكتماه في أعماق قلبيكما، والزما أنتما وصحبكما كل هدوء الآن، ولا تكثرا الترداد علينا حتى لا نلفت الأنظار وتحوم الشكوك حولنا، أستودعكما الله …!»

وانصرف مصطفى مفعم الصدر جَذَلًا، ممتلئ الخاطر فرحًا واغتباطًا؛ فإن فكرته وجدت مستجابًا خفيًّا من إلهامات النفوس وإيحاءات الأرواح قبل أن تتلاقى عندها الأذهان، ويتلقفها المنطق والشرح والبيان، نعم، لقد فرح مصطفى واغتبط في موقف رهيب تُسائِل النفس فيه قبل كل شيء: وماذا في الغد المنتظر؟ وترمي الأرواح بإحساسها عَبْرَ ظلمات الغيب لتخترق الأستار مخافة المجهول وخشية المُحجَّب. وقد تنزوي إزاء هذا الظلام المترامي من فَرَقٍ ورعب، ولكن مصطفى يومئذٍ كان قد فرغ من أمر نفسه فلم يعد يستمع إلى الخوف أو وسواسه، وأقبل على أمر عظيم يقتضي إنكار ذاته، فوجب أن يكون لها أشد المنكرين.

تقدم مصطفى ليضحي فلم يتراجع، ونهض ليكافح ويجاهد فلم يتراوح ولم يَتَشَكَّك ولم يتردد، وحَسْبه أنه اعتزم، فما يبالي غدًا على أي جانب مصرعه، ولا يحفل في الخطر اكتنافه ولا مدفعه، ويوم تتقدم النفوس الصادقة إلى عمل عظيم كهذا، ورسالة خطيرة من رسالات الحب والواجب والإيمان، يُنزِل الله عليها سكينة رهيبة، ويُفرِغ عليها صبرًا جليلًا، ويمدها بروح من عنده فتبتسم للمخاطر، وتسخر من الأهوال، وتضحك من المكاره، وتتصور لها المخاوف والأهوال على الطريق في صورٍ صغارٍ دقاق، فلا تنزوي حيال صورها، ولا تحس من الخشية ظلًّا واهنًا من أثرها، وإنما تدفع بها من الداخل، حافز كبير وباعث روحي عظيم، فلا تبالي ماذا هي صانعة، ولا تعبأ ماذا في القدر مخبأ، ولا تحفل ماذا يحمل الغد في أطوائه؛ لأن شجاعتها هي عدتها، واعتمادها على الله هو سندها العظيم.

تقدم مصطفى النحاس القاضي الشاب بالفكرة ذاتها التي اختلجت في نفس الوقت في صدر سعد زغلول الشيخ ليكون للفكرة عنصرا الحياة نفسها: الشباب والشيخوخة، والقوة والحكمة، والنشاط والتؤدة، والسرعة والأناة، والصياح والسكون، والجيل القادم والجيل الذاهب؛ وليكون للفكرة كذلك قطباها المتلاقيان، وزعيماها المنتظران، وقائداها المتتابعان ليقود أحدهما؛ لأنه المجرب، ولكي يكون للشباب المعنويِّ في شيخوخته عَجَب، ويظل الآخر بجانبه، وموضع سره، ومحل إيثاره وحبه، وفي مجال مرانته وتدريبه، حتى يتولى الأمر عقب ذهابه، جامعًا إلى حكمة الشيخ الذي اشترك معه قوةَ الرجل الذي أعدته الأقدار من بداية الرسالة الوطنية ليكون زعيمًا احتياطيًّا ريثما يحل أوانه، ويؤذن زمنه، ويأتي دوره المطلوب.

لقد أراد الله أن تكون الحركة المصرية موفقة من أولها، فاختار لها الترتيب الكفيل بنجاحها، ووضع لها النظام المنسق الضروري لحسن مسيرها، وتعاقب أدوارها، ومختلف مراحلها، وسيق بسعد لقيادتها، حتى يتحقق به معنيان، ويبرز به عاملان خطيران: وهو أن يكون في الحياة محركًا عظيمًا، وأن يروح في الممات أعظم منه حيًّا؛ إذ يستحيل بموته قوة غير منظورة، وسلطانًا روحيًّا خفيًّا، وفكرة خالدة غير فانية، وعقيدة هي في تركيبها الخطير مزاج من تعاليم دنيا ودين.

فَرِح مصطفى النحاس يومئذٍ أصدق الفرح؛ لأنه متقدم إلى جهاد محفوف دون شك بأكبر الخطر، وقد يكون هذا الإحساس قد اختلج يومئذٍ في صدر سعد الأكبر، ولكن أمر سعد لم يكن كأمره، فقد كان سعد وزيرًا سابقًا برز خطره، وارتفع شأنه، وخُشِيَ جانبه، وعنده ما يعتمد عليه، وفي ملكيته ما يستند إليه، وله جلال الشيخوخة التي يحسب حسابها، مهما كان العنف عند السلطات العسكرية هو أداتها وأسلوبها، على حين لم يكن مصطفى يومئذٍ سوى قاضٍ في المحاكم الابتدائية لا يملك غير راتبه، ولم تسبق له في معارك السياسة سابقة، ولم تعرف الجماهير عنه شيئًا خارج ساحة المحكمة وما بين المتقاضين، ثم هو إلى ذلك كله شاب لم يتقدم طويلًا في مراحل الحياة، وليس للشباب عند بطش الباطشين كبير تقدير ولا عظيم حساب.
figure
مصطفى النحاس.

فرح مصطفى بالفكرة، ولكنه أمسك بفرحه في صدره مخافة عليها من الخطر، قبل خيفته هو على نفسه، فقد كان كل خشيته يومئذٍ أن ينكشف خبرها فيعاجلها الفشل، وهو يطوي الجوانح على أكبر الأمل في نجاحها، وإن جاء هذا النجاح بثمن نفسه التي بين جنبيه، وعرَّضه للخطر أشد تعريض.

وقد قدر لمصطفى وأصحابه يومئذٍ أن يكونوا منقذي الوفد قبيل تأليفه، وهو عمل عظيم قد يجهله إلى اليوم أكثر الناس، وإن كان مصطفى نفسه قد عرض له في بداية زعامته خلال خطابه، إذ قال: «في اليوم العاشر من شهر نوفمبر سنة ١٩١٨ علم أحدنا أن دار الحماية قد وصل إليها نبأ اجتماعات سرية تعقد بمنزل سعد باشا، وهي تَتَتَبَّعها وتتربص بها، فأسرعنا إلى إخبار الجماعة، فأجمعوا أمرهم على الظهور بنياتهم، فطلبوا في اليوم التالي — وهو الحادي عشر من نوفمبر، يوم عقد الهدنة — مقابلة سير ونجت المندوب السامي، فتحددت المقابلة يوم الأربعاء الثالث عشر من نوفمبر.»

ولكن لهذا الحادث قصة تدل على مبلغ الحرص الذي كان يحسه مصطفى وإخوانه على الفكرة، ومقدار الحذر عليها من السوء، وإحاطتهم لها بكل بلاغة اليقظة والسهر والحراسة والكتمان.

فقد ظلوا عقب معرفتهم بنبأ الاجتماعات التي كانت تُعقَد سرًّا عند سعد متكتمين للخبر، وهم في فرح بالغ به، متأهبون لأول إشارة من كبارهم الذين يتوافون سرًّا للتفكير والتدبير، متحفزون مستعدون لأية تضحية تطلبها الوطنية منهم، حتى كان ذات يوم لقي فيه أحد مندوبي المقطم زميلًا لمصطفى في الجماعة التي تعاهدت على الجهاد، وتقدمت بأنفسها للجماعة الأخرى التي فكرت مثل تفكيرها واعتزمت عين اعتزامها، وكان ذلك الزميل جالسًا في الديوان، فجاءه المندوب كعادته ليلتقط الأخبار منه على ما جرى مندوبو الصحف عليه كل يوم، فتناول الحديث بينهما أمر الهدنة التي عقدت في ذلك اليوم بالذات بين الحلفاء والألمان، وما سوف يكون للحرب العظمى من التأثير في مصير الشرق ومستقبل أمصاره، فقال المخبر إنه قد اتصل به أنَّ دار المندوب السامي البريطاني — وكانت يومئذٍ تعرف بدار الحماية — قد تلقت معلومات عن اجتماعات سرية تعقد في دار سعد زغلول، وأن السلطة العسكرية تراقب الدار ليل نهار لتنقض انقضاضتها في الوقت المناسب.

وما كاد الموظف الكبير يسمع هذه الأنباء حتى نهض لساعته وقصد إلى مصطفى النحاس فقصها عليه، وكان يكفي عِلْمُ هذه الأخبار لإثارة المخاوف، وإلقاء الفَرَق في الرُّوع، واختلاج الوساوس في الصدور لحمل النفوس على الرجوع، ولكن مصطفى كان قد انتهى من اجتياز دور التفكير، ومرحلة تقليب وجوه الرأي، إلى دور الاعتزام الصادق، وتوطين الروح على الإقدام في غير تُقَاةٍ ولا تردد، وتجشم الطريق وإن لقي عليه أشد المكاره، واجتمعت على قوارعه الحتوف والغوائل، وأشق الصعاب وأكبر المصاب.

هنالك لم يفرغ مصطفى، ولم يسائل نفسه ماذا تريد ليقيها، ولم يطالبها بما تبغي ليكفل لها السلامة والأمان، ولكنه فكر في شيء واحد لم يشرك فيه أمرًا من أمور نفسه، ولا اعتبارًا من اعتبارات شخصه، وهو ينبغي أن تسلم الفكرة من الخطر، وتصان حتمًا من الأذى، فلم يلبث هو وأصدقاؤه أن أجمعوا النية على أن ينقلوا الخبر إلى الجماعة الكبيرة في الحال.

وعرف سعد وصحبه النيَّة التي بيَّتها الإنكليز لهم، فلم يحجموا ولم يترددوا، ولم توسوس المخاوف في صدورهم، فقد كانوا هم كذلك قد فرغوا من مساورة النفس وهمس المخاوف، إلى الشجاعة الصلبة الساكنة التي تنظر إلى الغد باطمئنان، وتعتزم العمل بأقوى اليقين وأعظم الإيمان، فقرروا وجوب الظهور وسرعة التكشف، حتى لا تفجأهم السلطة العسكرية فتسوق بهم إلى المعاقل والسجون قبل أن ينظموا الصفوف، ويمهدوا السبيل، ويبدءوا المسير.

لقد ساق القدر مصطفى يومئذٍ لإنقاذ الوفد قبل تكوينه، فكان المستبق إلى الفكرة أولًا، ثم المستبق إلى نجاتها ثانيًا، وهو يومئذٍ قاضٍ، أو موظف مقيد بوظيفته، ولو أن رجلًا آخر في مكانه، وفي مثل ظروفه الخاصة وإقلاله، وضعف سنده المادي واعتماده، ومحدود راتبه وماله — لراح على الأرجح متخوفًا، وانثنى عن الفكرة قانعًا منها بسلامة الإياب.

ولكن مصطفى أُعدَّ لها من التكوين، وهُيئ لها بالفطرة والاستعداد، وخُلق من أجلها ليكون زعيمها وبطلها؛ فكل حساب المخاوف ومطالب السلامة ومقتضيات الأمن والدعة ليس لمثله، ولا لرجل على غراره، ولكنها للاعتياديين الذين يعيشون لأنفسهم، ويسكنون إلى ذواتهم، ويطلبون مآرب عيشهم في غير خطر ولا رهبة ولا اقتحام عِقَاب.

وحلَّ الموعد الذي ضربه سير ريجنالد ونجت باشا لسعد وأصحابه في دار الحماية — وهو قبل ظهر الثالث عشر من نوفمبر سنة ١٩١٣، وكان يوم أربعاء — وكان ونجت باشا يحسب أنهم أرادوا لقاءه للتهنئة بعيد عقد الهدنة، وكانت قد عُقِدت منذ يومين، ولكن ما كان أشد دهشته إذ تبين له أنهم جاءوا ليعلنوا في صراحة وشمم حق مصر في استقلالها التام، طالبين إليه السماح لهم بالسفر للسعي في الاعتراف بهذا الحق المقدس العظيم.

لقد كانت هذه الخطوة وثبة جريئة، وثبة الشجاعة التي تستفيض في مسارب الحس، وتستولي على مكامن الشعور، فلا يعود الإنسان معها يبالي خطرًا أو يعبأ بمكروه، بل هي الوثبة الأولى للثورة؛ لأنها كانت في ذاتها ثورة، ثورة فرد مع صديقَيْن له أمام أكبر دولة في العالم، خرجت من أكبر حرب بأعظم انتصار عرفه التاريخ؛ فهي مُنتشيَةٌ بخمرة الفوز، ثملة بحُمَيَّا النصر المبين؛ ليتقدم إليها وهي في لذة سكرتها، وحرارة جوانحها من صهباء نجاحها، وتمام عظمتها — رجل أعزل، لا سلاح له في يده إلا سلاح الحق؛ ليقول لها في شجاعة وكبرياء: «الآن لقد حان أن نتفاهم، واليوم وجب أن نُصَفِّي الحساب!»

لقد كبر على سير ونجت أمر هذا الرجل العجيب، ونكر منه كيف يجترئ كل هذه الجرأة وهو من القوة سليب، واستعظم منه أن يقف هذا الموقف، ويدلي أمامه بذلك البيان، وأحس حيال كلماته المنبعثة من أعماق إيمانه بشيء من التردد، ومسة من الارتباك؛ فاستمهله حتى يرفع الأمر إلى حكومته.

كان ذلك أول عهد الدنيا بالوفد، فهو يومئذٍ سعد زغلول وصاحباه، وليس من ورائهم أحد؛ لأن البلاد كانت لا تزال هادئة، والشعب كان لا يزال بأمر تلك الخطوة غير عليم، ولم يكن يعرف الخبر غير الذين علموا بمستبقه، وألمُّوا بتمهيده.

واتصل بسعد وصحبه عقب تلك المقابلة أن سير ونجت تساءل عن الصفة التي تخول لهم هذا المظهر، فأجيب بأن سعدًا هو وكيل الجمعية التشريعية المنتخب، وأن رفيقيه نائبان فيها، وأن لهم بهذه الصفة حق التكلم باسم الوفد، فرأى سعد وإخوانه أن يضيفوا إلى وكالة الأمة النيابية وكالة خاصة منها للمهمة العظمى التي أخذوا على أنفسهم القيام بها، فكوَّنوا وفدًا منهم يضم أربعة آخرين من إخوانهم، وأعدوا صيغة لتوقيعها من أفراد الأمة وبنيها بتوكيلهم ومن يضمونهم إليهم في السعي إلى استقلال البلاد، حيثما وجدوا إلى السعي سبيلًا.

وما كادت تظهر تلك التوكيلات حتى أقبل الناس عليها جماعات ووحدانًا، وانتشرت في طول البلاد وعرضها انتشارًا أزعج السلطة العسكرية؛ فأمرت بمنع التواقيع ومصادرتها. وقد قال سعد في مذكراته بسبيل ذلك الحادث التاريخي العظيم الذي يرتبط بمولد أكبر هيئة وطنية في سجل قيادات الحركات الوطنية في العالم الحديث:

أقبل الناس على التواكيل يمضونها، وأخذ وفودهم يردون علينا من كل الجهات … ثم علمت بأن مستشار الداخلية المستر هينز أخذ يستحضر الأعيان ويهددهم بألا يشتركوا في هذه الحركة، وأن يمتنعوا عن توقيع التوكيلات … وكتب المستشار للمديرين يأمرهم بأن يمنعوا الناس من التوقيع على التوكيلات، فباشر حكام الأقاليم هذا المنع وصادروا ما وجدوه منها بأيدي الناس، وقد كتبت في هذا الخصوص خطابين متتابعين إلى وزير الداخلية، فرد عليهما بأن المستشار إذا كان أصدر هذه الأوامر بالمنع والمصادرة؛ فإن ذلك لأن البلاد تحت الأحكام العرفية، ولأن هذه التوكيلات اعتُبِرت مخلة بالنظام العام.

ولست أريد أن أتحدث عن الحركات الخفية التي بدت يومئذٍ في ناحية أخرى لأجل تكوين وفد آخر يرأسه الأمير عمر طوسن. وكان بعض الأشخاص ممن يَنْفَسُون على سعد مكانه، ويغارون من سعد أن يكون ذلك في الأمة موضعه، هم الذين يغذون تلك الحركة الانقسامية، ويدسون على سعد عند الأمير ليوغروا عليه صدره، لست أريد الحديث عن تلك الحركة العارضة، فقد فشلت وهي في بدايتها، وحبط ما صنع فَعَلتُها، وانفرط عقد الوفد الآخر من تلقاء ذاته، وتداعى هيكله القائم من رمال.

ولكني أحب أن أقف هنا لحظة أمام عاملَين كبيرين كان لهما أكبر الأثر في تكوين الوفد وشد بنيانه، وإنجاح شأنه وإبراز سلطانه، ولست بواجد أبلغ في وصفهما، ولا أروع سحرًا في بيانهما، من كلمات مكرم عبيد سكرتير الوفد نفسه، بسبيل تكوين الوفد وسر عظمته، فهو في ذلك يقول:

أما العامل الأول فهو أن سعدًا لم يكن وحده صاحب الرأي في تكوين الوفد وقيادة الحركة، بل كان له شريك فيهما معًا، وهذا الشريك هو الذي خلقه الله للرجل عَوْنًا وإلهامًا وحنانًا؛ هي الزوجة التي حظيت من سعد بقربه، وتَسَمَّعت همسات قلبه، هي صفية زغلول أم المصريين.

لم تكن صفية زغلول لتجهل الخطر المحدق بزوجها كزعيم لهيئة ثورية تعمل تحت سلطان الأحكام العرفية، ولم يكن سعد ليُخفِيَ عنها شيئًا من ذلك وهي التي اقتسمت معه الحياة بما فيها من خير ومن شر، فلما بدا له أن يقود حركة الاستقلال، ويؤلف وفدًا للمطالبة به، فاتح زوجه في الأمر، وقال لها في صراحة قاسية دامية إنه بذلك إنما يضع رأسه في يمينه، فما كان منها إلا أن قالت: «ضع إذن رأسي في شمالك.»

وإني لأذكر فيما أذكر أننا عندما كنا في السويس في طريقنا إلى المنفى وصلتْ إلى سعد رسالة قرأها متجهم الوجه دامع العين، فلما لحظتُ منه ذلك هممتُ بالقيام حتى لا أتطفل على مكنون شعوره، فاستبقاني قائلًا: «هذا خطاب من صفية، وهي تقول إنها عوَّلت على البقاء في مصر حتى لا يخلو محلي في بيت الأمة، وإنها مطمئنة إلى وجود أولادي معي ليُعْنَوا بصحتي.»

قال ذلك في صوت متهدج، فلم أقدر — عَلِمَ الله — على النطق بكلمة، بل لاحت أمام عينيَّ صورة هذين الزوجين الشيخين اللذين لم يبق لهما إلا حبهما لبعضهما، وقربهما من بعضهما، فهي له وهو لها الوالد والولد، وهي له وهو لها الساعد والسند …!

جالت هذه الصورة المفزعة في نفسي، وعجبت للعاطفة التي تجعل من الحب والحياة شيئًا يسيرًا، وعجبت للوطن كيف يطغى حبه على كل حب فيرتضيه الإنسان حلوًا أو مريرًا، ولكني عجبت وما عجبت، فقد كنت أنظر إلى الوطن بملء نفسي، فأحسبني به كبيرًا، ولم أكن إلا صغيرًا!

مرت هذه الخواطر بفكري، فبقيت حائرًا بين روعة الشعور ورحمته، وظللت صامتًا لا أبدي حراكًا، فسألني سعد في صوت عميق لن أنساه: «ما لك ساكت يا مكرم؟! ألا تظن أنها أحسنت صنعًا؟!» عندئذٍ لم أُطِقْ صمتًا، بل أجبته في صوت يرتجف: «نعم أحسنت فعلًا.» وقلت في نفسي إنها لعظيمة جديرة بعظيم!

بَقِيَ العامل الثاني، وهو أيضًا ذو صلة حيوية بتكوين الوفد ومصيره، فقد اقْتُرِح على سعد باشا أن يضم ثلاثة من الحزب الوطني إلى الوفد، فأصر سعد، وكأن الأقدار الرحيمة كانت تلهمه هذا الإصرار إلهامًا — أصر سعد على أن يكون أحدهم مصطفى بك النحاس. ويقول سعد في مذكراته إنه تفاوض مع كلٍّ من مصطفى بك النحاس، وحافظ بك عفيفي من الحزب الوطني، فقبلا الانضمام، وإنه استعمل حق الرياسة في ضمهما إلى الوفد.

ومنذ ذلك الحين بقي مصطفى مع سعد، فظل الزعيم في كنف الزعامة، يأخذ عنها ويتزود منها، حتى شاء الله أن نفقد سعدًا، فوجدنا مصطفى.

figure
السيدة الجليلة أم المصريين في سنة ١٩٢٠.

ودخل الناس يومئذٍ أفواجًا في عقيدة الوطن، ووجدوا في الوفد الناشئ رمزه العالي، وتجسيم فكرته المقدسة. فكان الوفد من تلك النشأة الرهيبة والمولد الجليل، وسط المقاومات المخيفة، والأخطار المحدقة المكتنفة، وطنية الفطرة، وكان سعد ومصطفى وزملاؤهما فيه هم أمثلتها وحراسها وثقاتها، والوفد عقيدة الطبيعة، وأولئك حَمَلَةُ رسالتها؛ لأنه في ناحية الفطرة، الغريزةُ المدافعة عن ذاتها، وفي ناحية الطبيعة، المكافحُ عن حقها بكل قوتها. ولقد خاض الوفد من ذلك الحين خطوبًا ومكاره، وتغلب في مدار السنين على مِحَن وأهوال، وانطلقت به الفُلْك في موج كالجبال، فلم يكن العجيب له أن يكافح، ولا الغريبُ في أمره أن ينتصر؛ لأنه بقوته الروحية الغزيرة فيه منيع، وبذهاب قواعده العميقة في أغور الأرض التي قام من أجل الذود عنها، باذخ شاهق يرد الطرف وهو حسير.

لم يصطنع الوفدَ أحد، ولم يأتِ به من عند نفسه إنسان، ولكنه جاء من وحي الطبيعة، وصرخة الغريزة، ومَضَب الحياة، فإن كان الوفد في العُرف نظامًا سياسيًّا، فهو في عمل النواميس أيضًا نظام طبيعي؛ وإذا كان الوفد ظاهرة طبيعية، فهو كذلك ظاهرة حيوية؛ لأنه دليل على الحياة المتنبهة في هذه البلاد، وميزان حرارة إحساسها، ومقياس شعورها، المتصل بالطبيعة، المدافع عن الكيان والحياة والوجود.

والوفد منيع … لأن نواميس الحياة معه، وقوات الأمة كلها تتبعه، ومظهر إجماع الشعب ضافٍ عليه، وما خلا الوفد شذوذ عن الطبيعة، وهيئات مصنوعة، والذين يزعمون أن «الحزبية» تجمع «الكل» ومساويها شركة بين الجميع، يكذبون على الواقع، ويتجنون على الحق والاختبار؛ لأن الصفة «الحزبية» وما تقتضيه من عدوان بغير حق، وظلم بلا جريرة، وبغي بلا إثم، وتحيز بلا سبب، لم تلابس الوفد يومًا في أمر من أموره، ولم تشتمل على حركة من حركاته، وإنما هي أبدًا شأن الأحزاب الموضوعة، وصفة الهيئات المصنوعة، وديدن الجماعات الصغيرة غير الطبيعية، ولم يتألف الوفد على نحو ما تتألف الأحزاب، ولكنه نبت نباتًا، ونشأ ولم يدر أحد كيف نشأ، وإنما رآه الناس قد جاء عند الحاجة القصوى إليه، وتمخضت أكبر الحوادث عنه، وبما مع الحياة التي طلبت وجوده، ولم تجتمع على أحد من الأحزاب من الخطوب ما اجتمع عليه، فما ونت الشدائد عن خدمته، كشأن كل شيء طبيعي ينتفع بها، وأحسنت الخطوب إليه ككل نظام فطري تحسن إليه. ولقد نما لأن مِلء نفسه شباب، وسِناده قوة الحياة، ولم يثبت غيره ولم يأخذ في نماء؛ لأنه يمثل شيخوخة الحياة وجزءها البالي، ونفايتها الطريحة الملقاة. وكلُّ ما يجيء زائدًا عن الحاجة أو دون حاجة تدعو إليه، محتومٌ عليه الفناء، مقدور له التلاشي على الدهر والعفاء.

الوفد فكرة طبيعية قديمة لا حدود لقدمها، كما هي كذلك فكرة شابة دائمة لا يذبل شبابها. في عهد الرومان، وفي عهد الفرس، وفي عهد المماليك، وفي كل زمن كانت مصر أسيرة فيه غير مطلقة، كان «الوفد» قائمًا، ولكن باسم غير هذا الاسم، ومظهر مغاير لهذا المظهر، وقوة متفاوتة وهذه القوة؛ لأنه التعبير الطبيعيُّ عن حاجة الجيل ونهضة العصر، ظل متنقلًا في قطار الحياة، ومواكب الأجيال؛ لأن الطبيعة تكره الشيخوخة، وتنزع أبدًا إلى التجديد، تحرص دائمًا على الشباب.

وكل فكرة طبيعية كالوفد لا تلبث أن تجد أنصارها، ولما كانت مسايرة للحياة، كان من الطبيعي أن تتقدم الحياة كلها إليها بكل طبقاتها ومجاميعها، وهذا هو مظهر روعتها ومقياس طبيعتها وصدقها وصحتها؛ فالذين يدركون سائر كلياتها وجزئياتها يقومون حراسًا عليها، وثقاتٍ حَفَظَةً معلمين مرشدين إليها، والذين يدركون مغزاها الطبيعي لأنه متغلغل في طبيعتهم، متجاوب مع فطرتهم، يتبعونها ويطيعون معناها، ويلبون نداءها، ويعطونها احترامها وولاءها. فالتابع فيها إذن والمتبوع سواء؛ لأنها شاملتهم جميعًا، وهم حولها بمختلف جموعهم وطبقاتهم؛ فعند الحراس عليها إخلاص ووفاء، وعند التابعين لها طاعة وولاء، والفكرة نفسها هي فوق الجميع قادة وجندًا، وزعامة وحشدًا؛ لأنها سائرة بهم إلى الانتصار.

هذا هو الوفد إذن قادته وجنوده، ومن أكبر فخاره ومحمدته، وأسطع دليل على طبيعيته، أن يجتمع حوله المتعلمون والعامة، الذين يدعوهم الكارهون «رعاعًا» تهوينًا من شأنهم، وتَهَانُفًا بوصفهم، فكذلك هي الفكرات الاجتماعية، بل هذا هو في الواقع مقياس صوابها، وميزان صدقها وصحة النزوع إليها؛ لأن الوطنية ليست مسألة تعليمية، ولكنها مظهر عاطفة إنسانية، ومجال غرائز عليا، وفي مثل هذا يتماثل الناس متعلمين و«رعاعًا» وخواصَّ وعوامَّ، وما قامت في الدنيا نهضة وطنية إلا ومن حولها «الرعاع» وغير الرعاع؛ لأن الأمم والرعاع مترادفان، والشعوب والجماهير معنيان متحدان، بل الرعاع هم في الواقع الذين أنجحوا النهضات؛ إذ كانوا أبدًا روحها ووجدانها، وعصبها وكيانها، وهيكلها وبنيانها، ولم يتبعوها على وسواس العقل، وإنما تبعوها على إيمان العاطفة، وصوتُ الإيمان أغلب أبدًا على وساوس الأذهان.

إن كل نهضة وطنية نجحت في التاريخ كان فيها عنصر الدهماء أو الرعاع أو العامة، هو الذي يمثل الولاء والطاعة، وكان فيها عنصر القادة أو الخاصة هو الذي يمثل الإخلاص والوفاء، فمن غادر يومًا إخلاصه سقط من موضعه؛ لأن العاطفة لم تعد تتبعه، وليس في الوطنية إكراه، كما لا إكراه في الدين، وقد تبين في الوطنية الرشد من الغي، ومن شأن هذا أن يصحح المقاييس ويضبط الموازين.

لقد أثبت الزمن أن الوفد عقيدة تتفانى فيها الأشخاص، وتختفي فيها الفردية، ويبرز فيها الإجماع، فكان ذلك كله إلى اليوم هو سر قوتها، وباعث جلالها وروعتها؛ إذ تبين بالتجربة والخُبر أن الوفد هو شخصية العصر، وطابع الجيل، ومظهر الحياة المصرية. وحسبه هذا برهانًا على صفته الطبيعية، ودليلًا «ضمنيًّا» على شذوذ الآخرين.

الوفد هو الصخرة التي يقف من فوقها الشعب المصري بكل طبقاته ومعلميه ورعاعه، تتقاذف عليها الأمواج، وتترامى حولها اللُّجج، وتتكسر تحت سفحها الزوارق والمراكب، وهي قائمة عالية، تهزأ بالأعاصير والرياح العاتية؛ لأن كل إعصار سوف يهدأ، وكل عاتية إلى صحو وسكون.

واجتمعت للوفد يومئذٍ مئات الألوف من التواقيع، على رغم ما لقيت حركتها من المجاهدة والمغالبة، والمنع والمصادرة؛ فبادر سعد بمطالبة السلطة العسكرية بإعطائه هو وصحبه جوازات السفر إلى الخارج، وكانت السلطة تسوِّف وتتلكأ، وترجئ كلما ألح عليها سعد وردد طلبه، حتى كان أول ديسمبر فكتب سير ونجت إلى سعد يقول إنه على استعداد لقبول ما يقدم إليه من المقترحات بشأن نظام الحكم في مصر، بشرط ألَّا تكون غير متفقة مع نظام الحماية، فأجاب عليه سعد في الثالث من ديسمبر بأنه لا يسوغ لي ولا لأحد من أعضاء الوفد أن يطلب طلبات غير مطابقة لمشيئة الأمة التي عبَّرت عنها في توكيلها لنا.

ومن ذلك الحين بدأ الوفد يصدر الاحتجاجات، ويرفع المذكرات إلى رؤساء الحكومات وقناصل الدول بمطالب البلاد إلى مؤتمر السلام، حتى كان اليوم الثالث عشر من يناير سنة ١٩١٩، فوقف سعد في دار الباسل مناديًا بحقوق البلاد، قائلًا: «ليست فكرة الاستقلال جديدة في مصر، بل هي قديمة يتأجج الشوق في قلوب المصريين إلى تحقيقها كلما بدت بارقة أمل فيه، وتخبو ناره كلما استطاعت القوة أن تخمد أنفاس الحق، ولقد كان الوقت الحاضر أنسب فرصة لتحقيق هذه الفكرة؛ لأن رابطة السيادة التركية أخذت تتضاءل حتى لم يبق شك في انقطاعها، وإن الاحتلال الفعلي لا يجد فرصة أنسب من هذه الفرصة لتحقيق كلمة لورد سالسبوري الذي قال في الثالث من نوفمبر سنة ١٨٨٦: «نحن لا نبحث إلا عن الخروج من مصر بشرف!»

انقلبَ هذا الاحتلال الذي لم يكن له حق في البقاء إلى حماية في بادي رأي الإنكليز، ومن غير اتفاق مع مصر، ولكن الحماية هي أيضًا أمر باطل بطلانًا أصليًّا أمام القانون الدولي، ومخالف مخالفة صريحة للمبادئ الجديدة التي خرجت بها الإنسانية من هذه الحرب الهائلة؛ فنحن أمام القانون الإنساني قد أصبحنا أحرارًا من كل حكم أجنبي، فلا ينقصنا إلا أن يقر مؤتمر السلام هذا الاستقلال، فتزول العوائق التي تقف بيننا وبين الاستمتاع به فعلًا؛ ولهذا الغرض السامي المطابق لما في نفوس المصريين جميعًا ألَّفت أنا وأصحابي الوفد المصري لنسعى في الوصول إلى الاعتراف بهذا الاستقلال، وتشرفنا بتوكيل الأمة إيانا في سبيل هذه الغاية السامية.»

وكان لهذا الخطاب دويٌّ كبير وصدى متجاوب في البلاد، فقد كانت العاطفة مكبوحة، والآمال في الصدور محتجزة محتبسة، فلما ألقى سعد كلماته تلك، انبجست لها العاطفة، واستحمى الشعور، واضطرمت الصدور لهيبًا.

وفي السابع من شهر فبراير عاد سعد فوقف وقفة أخرى، وقفة تاريخية رهيبة خالدة في جمعية الاقتصاد والإحصاء والتشريع، وسط جمع جامع من الوطنيين والأجانب، وراح يهاجم الحماية مهاجمة علنية صريحة، مناديًا بأنها حماية باطلة لا وجود لها قانونًا، بل هي ضرورة من ضرورات الحرب تنتهي بنهايتها، ولا يمكن أن تعيش بعد الحرب دقيقة واحدة!

وعلى هذا الصوت الداوي اهتزت مصر جميعًا، وشاعت كلمته الخالدة في النَّديِّ والأوساط، وتناقلها الأجانب مقرونة بالتقدير والإعجاب بشجاعة سعد ووطنيته الصادقة الجريئة الباسلة.

وفي خلال ذلك قدمت وزارة رشدي باشا استقالتها أكثر من مرة احتجاجًا على منع رئيسها وزميله عدلي باشا من السفر إلى الخارج للمفاوضة فيما عسى أن يكون عليه نظام الحكم في البلاد، وعلى منع وكلاء الأمة من السفر كذلك؛ فأخذت السلطات المختلفة تسوِّف في قبول الاستقالة، وحين تقبلتها في النهاية لم تستطع أن تؤلِّف غيرها، فبقيت كراسي الحكم خالية.

وفي السادس من شهر مارس استدعت السلطة العسكرية سعدًا وصحبه، وأنذرتهم بألا يضعوا الحماية موضع البحث، أو يعوقوا تأليف الوزارة الجديدة، متوعدة إياهم بأشد العقاب العسكري، فهمَّ سعد بالكلام، فأجيب بأن لا مناقشة.

وعاد الوفد إلى مقره فأرسل احتجاجه على تلك المعاملة الشاذة التي لم تراعَ فيها المجاملة مع وكلاء الأمة التي يتكلمون باسمها، كما أرسل احتجاجًا إلى الحكومة البريطانية على تلك التصرفات الجائرة.

ولم يكد يمضي على ذلك الحادث يومان حتى اعتقلت السلطة العسكرية سعد باشا وثلاثة من صحبه في قصر النيل، ومن ثَمَّ نفتهم إلى مالطة، فكان ذلك هو الشرارة الكهربائية التي أوقدت نار الثورة في البلاد، ونهض الناس فجأة غضابًا ثائرين، مرتخصي الحياة، بَذَلَةَ المهج، ملاقي المنايا في بسمة الباسمين.

في تلك الأيام كان مصطفى عضوًا في الوفد، وإن كان لا يزال موظفًا في سلك القضاء، وقد حضر الثورة من مطالعها، واندفع في قلبها شجاعًا لا يعرف الخوف، شهمًا متجلدًا لا يحس أقل تردد، مضحيًا بكل شيء وإن كان في عنقه أرواح صغار، ونفوس أبرياء، وعشيرة تعتمد عليه.

في تلك الأيام نَسِيَ مصطفى مطالب عيشه، وأعباء حياته، وواجبات البيت ومقتضياته، فلم يعد يذكر غير مصر وحقها المقدس، وواجب الدفاع عنها بأغلى الأرواح وأعز الأنفس، تاركًا مصيره ومصير الوِلدان الذين في عنقه إلى الله وحده، هو نعم المولى ونعم النصير.

وفي وسط الثورة ذهب مصطفى النحاس القاضي يشرف مع بعض أصحابه على حركة الإضراب، ويتصل بلجنة الموظفين، وكان يتناول المنشورات السرية التي تطبع يومئذٍ في القاهرة، فيحملها إلى طنطا في أثوابه، أو خُلَسًا من مراقبيه والموكلين به؛ ليلقي بها إلى لجنة المحامين، وفيها يومئذٍ الأستاذان عبد السلام فهمي جمعة، ومحمد نجيب الغرابلي؛ لتوزيعها على الناس في سواد الريف وصميم القرى والمدائن، حتى انقلبت طنطا يومئذٍ مِرْجلًا غاليًا، وأتونًا صاهرًا، وموقدًا متأجج النيران.

وفي صدر المظاهرات الرائعة التي كانت تطوف القاهرة ذهب يشترك فيها مع القضاة الأهليين، مرتديًا شارة القضاء، رافع الرأس، منتهيًا من أمر نفسه، ملقيًا بكل روحه وحياته وعاطفته فدى لوطنه، وغذاءً لعقيدته، ووقودًا لمبادئه.

لقد ظل قلب مصطفى النحاس خلال أيام الثورة خفَّاقًا نابضًا، مستحمي الدم في الشرايين، وقد راح ينظم الحركة، ويتعهد الثورة، ويغذي الحماسة بالوقود. وقد تكَشَّفَ يومئذٍ بجهاده، وتبدَّى بوطنيته وحماسته لبلاده، غير عابئ الوظيفة، ولا حافل الراتب، ولا مكترث بمساك الرمق والقوت.

في تلك الأيام الرهيبة كان مصطفى النحاس يعيش في عالم جديد، ويجول في محيط غير مألوف، ويحيا في فلسفة روحية تسخر من كل خطر، وتزدري كل مكروه، وتحتقر كل خَطْب أو مخافة؛ فقد رأى الشهداء صرعى والوميضُ على شفاههم، وحياة مصر هتافًا يتَصعَّد مع أرواحهم إلى السماء؛ فلم يعد للحياة عنده شأن، ولا للوجود قيمة أو اعتبار.

لقد خلص مصطفى يومئذٍ بكل نفسه لمصر وحقها، فلم يعد يَكْرُثُه مصيره هو وحقه، وغَدُه هو وقُوتُه ورزقُه، وإنما كل تفكيره في الثورة ولها، وحرصه على الثورة ونجاحها، وإن تخطفه الموت مع من يتخطفهم من الشهداء، أو مع من فدوا بلادهم بأرواحهم أكرم الفداء.

ولم يختفِ مصطفى وبقية أعضاء الوفد الذين لم يُحمَلوا إلى مالطة مع سعد والآخرين ليعملوا سِرَارًا، ويلوذوا بالمكامن ليلًا، ولكنهم راحوا في أتم الشجاعة يعملون في وضح النهار، ويرسلون الاحتجاجات إلى سمع العالم كله على نفي إخوانهم، والغضب من تلك المعاملة الباغية التي عوملوا بها؛ فكانت تلك أيام نشاط متقد مستعر تلتهب فيها الأرواح، كما تضطرم فيها الأذهان، وقد نسي الناس فيها الخوف، ومتى تلاشى الخوف من النفوس، فكل شيء هين، والمنايا جميعًا رِخاصٌ، والحياة مبذولة بسخاء.

وفي السادس عشر من شهر مارس سنة ١٩١٩ استدعت القيادة العامة بقية أعضاء الوفد، وكان بينهم مصطفى، فحمَّلتهم تبعة الثورة القائمة، فكان جوابهم أن سبب الهياج المحتدم أمران: أولهما منع الوفد من السفر، وثانيهما القبض على سعد وزملائه.

ولكن الإنكليز لم يعالجوا الحال بعلاجها حتى قدم اللورد اللنبي وهياج الخواطر يضطرم اضطرامًا، فأجمعت الآراء على أنه ليس ثم سبيل إلى تسكين ثائرة النفوس غير الإفراج عن المعتقلين، وإباحة السفر إلى الخارج للمصريين.

وفي ليلة السابع من أبريل أذعنت القوة للحق، فأعلنت الإفراج عن سعد وصحبه، وأباحت السفر إلى الخارج، فأدركت الأمة بواكير انتصارها، ولبثت يومين كاملين في أفراح قائمة، وعيد وطني جليل المعالم، خالد مشهود.

وفي التاسع منه أُلِّفت الوزارة الرشدية الثانية، وسافر الوفد بعد يومين شاخصًا إلى مؤتمر السلام.

وكان مصطفى بين الذين سافروا. لم يتردد في الذهاب، ولم ينثنِ عن الرحيل، وهو لا يزال موظفًا، مرتبطًا بالوظيفة، لا يدري في خاصة نفسه ما مصيره، ولا يحفل من ناحية عيشه ماذا غده، وهو ليس بالغني فيهدأ لغناه، ولا بالطليق من التبعات، فيسكن خاطره لخلوه منها؛ ولكنه مع ذلك كله سافر تاركًا أولاد أخته في حراسة الله، مغتربًا عن أبٍ شيخٍ في سمنود يخشى عليه، ويحنو إليه، ويريد أن يبقى بجانبه، وعن والدة حنون رءوم تدعو الله له في الصلاة في السَّحَر وهدأة الليل وعند الدلوك.

وما كان أشد فرحه وجذلَ نفسه إذ تلاقى وسعدًا في مالطة والسَّفر مُيمِّمين باريس! فقد كان ذلك لقاء بالغَ الأثر في النفوس، متراميَ الفرحة في حنايا الصدور؛ ولكن ذلك الفرح مع ذلك كان رهيبًا جليلًا، اختلط به الشعور بجسامة التبعة، ورَهَب المسئولية التي تتصل بذلك الأمر العظيم الذي ذهبوا لمواجهته، وأقبلوا عليه بسمع الدنيا وبصرها، وتوافَوْا إليه كأنهم ذاهبون إلى عالم مجهول، ومرتاد بعيد لم يكشفه من قبلهم الكاشفون.

سافر مصطفى إلى باريس طالبًا إلى وزارة الحقانية أن تمنحه إجازة، وكانت الحكومة قد تنبهت إلى اشتغاله بالسياسة، وأمرته أن يعود إلى عمله؛ ولكنه عاد يطلب مدَّ إجازته، فرفضت سؤله وأحالته على المعاش بقرار من مجلس الوزراء في شهر يوليو سنة ١٩١٩ دون أن تستصدر مرسومًا ملكيًّا بهذه الإحالة، كما يقضي القانون في عزل القضاة؛ لأنهم يُعيَّنون بمراسيم ويفصلون بمثلها؛ فكان فصله من القضاء من الوجهة القانونية البحتة فصلًا باطلًا، وهذه الحجة القانونية هي التي استند إليها فيما بعد بصدد قضية معاشه.

أحيل مصطفى النحاس بك إلى المعاش على تلك الصورة، فتدهور راتبه إلى نحو خمسة عشر جنيهًا في الشهر، هي كل ما بقي له في هذه الحياة، وعليه تبعات كبار لعشيرته، وفرائض جسام لأهله وذوي قرابته، ولكن بقي له مع ذلك عَونُ الله ورحمته وأزره وسنده، ومن يتوكل على الله فهو حَسْبُه، ومن يعتزم مثل عزمه فهو المطمئن، ما دام له مثل شجاعته وصبره وجلده وقلبه، فلا عجب إذا تلقى مصطفى هذه الصدمة، واثقًا بالله، وبالقلب الذي بين جنبيه، والاعتداد بالذات الذي يملأ جوانحه قوةً، ويُنْعِم صدره بريق رجاء.

فُصل مصطفى من خدمة الحكومة ليدخل في خدمة الأمة، وهو انتقال خطير وتحول رائع، وفي خدمة الأمة تلقاه سعد فرحًا به؛ لأنه وثق به من البادرة، وسكن إليه من البداية، ورأى فيه النصير المعوان، والظهير الصادق، والمساعد المتفاني بكليته، فعينه سكرتيرًا للوفد بجانب عضويته، وجعله موضع سره، ومحل ثقته، ومَورِد مشورته، وقرَّبه منه تقريبًا.

وكان ذلك عند مصطفى فوق كل وظيفة، وعزاءً عن كل حرمان، وأمانًا من كل خيفة؛ فأقبل على خدمة بلاده، يبذل لها بقية ما عنده؛ وهي نفسه، ويدفع إليها بآخر ما لديه؛ وهو حياته ودمه وأعصابه، وكل ما في أعماقه من قوة وجلد وإيمان.

وقد صحت مخاوف الوفد وظنونه، إذ حين وصلوا إلى باريس، وجدوا أبواب المؤتمر موصدة في وجوههم، ورأوا الصحف نفسها لا تصيخ إلى شكاتهم، وأبصروا ذلك الرجل «الرسول السياسي» الذي كانوا يعتمدون على نصرته لحقهم، وهو ويلسون، قد بادر إلى الاعتراف بالحماية البريطانية المفروضة ظلمًا وعدوانًا على بلادهم، وإذا هم وسط أفق خانق محتبس، لا تشع في جوانبه ومضة رجاء.

ولكنهم لم ييأسوا، وإنما راحوا يقدمون مطالبهم إلى مؤتمر السلام ورؤساء الحكومات، ثم لا يجدون مع ذلك سميعًا؛ إذ تبين أن تلك الأناشيد التي كان الحلفاء يتغنون بها، وهي أناشيد الدفاع عن الحق والعدل والإنسانية، والحضارة والإخاء، لم تكن سوى خُدَع سياسية، وأكاذيب ضخمة من زخارف يلهون بها المظلومين، ويخدعون بزيفها الأبصار والأخلاد، ريثما ينتهون فيما بينهم من توزيع الغنائم والأسلاب، في شراهية الجياع، وشهوة الغالبين.

وفي مصر كانت الثورة قائمة في النفوس، وإن سكنت مظاهرها العنيفة، وهدأت حركتها الفائرة، بعد أن بلغت آخر مداها، وانتهت إلى أقصى عنفها وشدتها؛ فإن الثورة لا تنقضي مرة واحدة، ولا تخبو جملة؛ ولكنها تعيش دائمًا في طور جديد، وتحيا ولكن حياة عقلية عميقة متزنة بعد الهزيمة المستطيلة، راجحة بعد الترنح الشديد، فلم يسع الإنكليز أمام هذه الثورة الساكنة الرهيبة في سكونها، البارزة الجلال في إجماع الأمة على مطالبها والثقة بوكلائها، إلا محاولة معالجتها في رفق، وتناولها ببعض الرياضة والمصانعة.

ومن ثم جاءت لجنة ملنر إلى مصر، متجاهلة وكلاء الأمة في باريس، فلم تكد تنزل بالبلاد حتى واجهتها مقاطعة تامة وإعراض شديد، وارتفع حيالها صوت واحد، وهو أن الوفد وكيل الأمة المختار للمطالبة بالاستقلال، فهو وحده الذي يُرْجَعُ إليه.

وقد حاولت اللجنة أن تجد سبيلًا إلى مشورة أو تبادل رأي، فأخفقت كل الإخفاق، واضطرت إلى المآب فاشلة.

ولكن بعض الوسطاء استطاعوا يومئذٍ إقامة الصلة بين الوفد وبينها، فدعته إلى المفاوضة في لندن، فسافر سعد إليها في السابع من شهر يونيو سنة ١٩٢٠ في رفقة من أعضاء الوفد ورجاله.

وقدَّم الوفد إلى لجنة ملنر في السابع عشر من يوليو مشروعًا لمعاهدة كان يومئذٍ يعتبر ممثلًا لأقصى مطالب مصر، وإن لم يكن يحقق الاستقلال تمامًا. ولكن الوفد أراد يومئذٍ به إقناع الإنكليز بالعدول عن الحماية التي اعترفت الدول بها، وأصرت إنجلترا على فرضها، وأبت إلا بقاءها بعد خَرْجَتها من الحرب ظافرة.

وجرت المفاوضات بين الوفد واللجنة، فقدمت هذه مشروعًا من عندها في أغسطس سنة ١٩٢٠، فاقترح الوفد وقف المفاوضات ريثما يستشير الأمة فيه.

وكان مصطفى النحاس قد رجع إلى مصر قبل إخوانه الذين ندبهم سعد لعرض المشروع الأخير على الأمة، وهم محمد محمود باشا، وأحمد لطفي السيد بك، و«المرحوم» عبد اللطيف المكباتي بك، وعلي ماهر بك، فتولى مصطفى عرض المشروع ملتزمًا مجرد عرضه، في غير تحبيب إليه أو إغراء بقبوله، وكان سعد قد عهد إليه بذلك، فحرص على أن يكون العارض فقط، دون إملاء أو ترغيب فيه من جانبه.

كان مصطفى أمينًا في رسالته، حفيظًا لحدود مهمته، حريصًا على تأدية ما عهد إليه، على حين راح الآخرون يعلنون الناس أن المشروع لا يخلو من مزايا صالحة، وفوائد ظاهرة واضحة، فكان رأيهم نازعًا إلى ترويجه.

ولم يشترك مصطفى النحاس في الترويج، ولكنه — كما قلنا — كان «عارضًا» فقط؛ فكان موقفه غير موقفهم، ونظره إلى ما أبدت الأمة على المشروع غير نظرهم؛ إذ بينما اعتبر هو ذلك «تحفظات»، ذهبوا هم يصورونها في صور «رغبات»، وشتان بين المأخذين، وما أبعد المسافة بين الرأيين.

وقد ظل هو على رأيه، كما بقوا هم على تفسيرهم، حتى ركبوا جميعًا البحر عائدين إلى سعد بما حملوا من نتائج سفارتهم، وفي عرض البحر أنشأ مصطفى يتحدث إليهم في أمر المهمة التي اضطلعوا بها، وراح يقنعهم بوجوب تدوين محضر بما جرى بسبيل رسالتهم، وما زال بهم حتى أقنعهم بالفكرة، فرأوا أن ما سموه «رغبات» لم يكن في الواقع سوى «تحفظات»؛ أي «شروط» لا سبيل إلى قبول المشروع إلا بالاستجابة إليها، وإنزالها منازل القبول والرضوان.

وقد كان عمل مصطفى في هذا الشأن محل تقدير سعد وموضع إعجابه، وإن كان ذلك التشعُّب في الرأي بداية الخلاف، بعد أن عمدت السياسة الإنكليزية إلى المطاولة، ولم تشأ مواجهة الحقائق الماثلة التي اعترف بها اللورد ملنر في تقريره، مصرحًا بأن الحركة المصرية هي حركة وطنية جِدِّية، وأن الوفد المصري هو الحائز وحده لثقة المصريين.

وقد حرص سعد على حدود توكيله، فلم يشأ أن ينزع منازع فريق من أصحابه، فاشتد الخلاف بينهم وبينه، ولم يبقَ بجانبه يومئذٍ غير مصطفى وويصا وسينوت.

ومن ثم ابتدأ الانشقاق، وكان ذلك ظاهرة نفسية مفاجئة، ولئن كانت لا تخلو حركة الانقسام يومئذٍ من عنصر الحسد والنَّفْس على سعد مكانه، وانفراده بالزعامة والسلطان الروحي على الشعب؛ فلم تكن في صميمها غير ردَّة نفسية أصابت الذين اختلفوا مع سعد ونفضوا أيديهم من يده، فقد أحسوا عند أول صدمة أن الطريق وعر، والشُّقة متطاولة، والغاية بعيدة، والمطلب عسير.

لم يكونوا يومئذٍ «خوارج» ولا «خونة» ولا «منشقين»، كما كانت الأمة تسميهم من غضبها، وكما كانت تصفهم من ألمها وأثر موقفهم السيئ من نفسها؛ ولكنهم كانوا يحسبون الغاية يسيرة المبلغ، قريبة الموضع، فأقدموا مع سعد ليبلغوها، وأقبلوا خفافًا سراعًا لإدراكها، وإذا هم يجدون الطريق طويلًا، والمصاعب كثيرة، والأخطار مَخُوفَة، والمكاره متعددة، فاستضعفوا، وخبت الجذوة التي كانت مشتعلة في نفوسهم، وتناجوا بأن الخير في الرجوع، والسلامة في الإياب، والأمان في المعاد نجيًّا.

لقد كانوا يتوقعون أن ينجح المشروع، فتنتهي قضية مصر وشيكًا، وتحمد العاقبة، ويَئُوبوا غانمين؛ فإذا الحوادث تأتي بغير ما كانوا يظنون، وإذا البوادر تدل على أن دون الغاية أهوالًا جسامًا، ومخاوف كثيرة، وجهادًا محفوفًا بالمكاره والمتاعب والخطوب، فراح اليأس يدب في قلوبهم، ولكنهم جعلوا يخفونه في الترائي بمظهر الحكمة، وصورة التروِّي، وبعد النظر والكياسة في المأخذ، والترفق في التناول؛ وسموا ذلك كله «سياسة»؛ ليشتهروا بأنهم البرعة فيها، الحاذقون لها، إخوان عبقرية في مجالها وأفانين.

وكان انفصالهم هذا، بتلك المظاهر والصفات، فائدة «غير مباشرة» لخصوم البلاد؛ فسمعنا لأول مرة الإنكليز يتحدثون عن الجهاد قاسمين أهله إلى «متطرفين» و«معتدلين»، وهم بذلك يعنون أن سعدًا والذين ثبتوا بجانبه — مصطفى وزملاءه — هم المهيجون المتشددون الغُلاة في مطالب بلادهم، وأن سواهم ممن تراجعوا تهربًا من عناء الجهاد وأخطاره، وطول الطريق ووعثائه وصعوبة المسير فيه، هم أهل الاتزان والاعتدال الذين يصح أن يكون الكلام معهم؛ لأنهم «عقل» القضية المصرية ومنطقها، وليس الآخرون سوى «عاطفتها» الهائجة، وحاستها المائجة، وغريزتها الموحشة العنيفة، الراكبة رأسها، المتهورة لا تعرف الاتزان.

على أن سعدًا لم يبال هذه النكسة التي أصابت فريقًا ممن وضعوا من قبل أيديهم في يده، وإنما مضى في طريقه، ومن حوله مصطفى وأصحابه، وكان مصطفى يعذر لو أنه في تلك الوقفة الرهيبة قد تراجع، إذ كان دون الجماعة كلها في الرزق موارد، وفي العيش استغناء.

كان مصطفى أخا فاقة، مفصولًا من وظيفته، قليل المعاش، كثير النفوس المعلقات في رقبته، كبير التبعة إزاء أهله وعشيرته. وكانت تلك كلها شفائع له لو أنه التمس مآبًا، وخشي ذهابًا، وخاف عقابًا؛ ولكن مصطفى لم يكن بالذي تقدم ليرجع، وأقدم ليحجم، وسار ليلوي عنقه مرتدًّا.

لقد جاء مصطفى لمعنى كبير، وغاية بعيدة، جاء ليشارك سعدًا، ثم ليخلفه يوم يذهب، ويتقدم هو يوم يغيب سعد ويحتجب؛ ليسير بالقضية في طريقها غير خائف ولا متهيب، فهو منذ اندفع كان مؤمنًا بأنه سوف يتعذب. فلم يباغت بالصدمة الأولى حتى يتراجع؛ لأنها كانت في حسابه، واحتمالها في تقديره، وتوطين النفس على أمثالها عُدَّتُهُ قبل الانبعاث مع سعد وإقدامه ومسيره.

كان مصطفى قد انتهى من التفكير يوم اجتمع مع بعض أصحابه على هذا الأمر العظيم والشأن الجَلَل، فلم يبقَ إذن أمامه شيء يحتاج إلى تجديد تفكير أو معاودة بحث أو مراجعة خاطر، فقد أقدم وهو عالم بما قد يكون من إقدامه، وهو ضحى وما به استرداد لتضحيته، أو نكول عن تفديته؛ وعزاؤه يومئذٍ أن ما قد يصيب سعدًا يصيبه، وليس هو بأحسن من سعد، حتى يستريح وهو الشاب، لكي يضنى ويشقى سعد وهو الشيخ، ويوم يجد المرء على الخطوب رفيقًا، ويظفر في مجاز الشدائد بشريك أو صديق، تخفف الرفقة من الألم، وتكسر الشركة من حدة العذاب، ويسهل الطريق الوعر على المسافرين.

وفي ذلك العام، عام ١٩٢٠ بالذات، فقد مصطفى والده، إذ قضى الشيخ في سمنود، ورحل عن هذه الحياة الأب البار الحنون، والمرشد الهادي، والناصح الأمين، مات الرجل الذي كان أعز صلته بهذه الدنيا، وأقوى آصرته بهذه الحياة، الرجل الذي كان له أكبر الفضل عليه في تكوين نفسه، وتربية حسه، ورياضة وجدانه، وغرس إيمانه، وبث تقواه، مات النصير الروحي الكريم عليه، الباذل النفس له، الحار الدعوات في خلواته إلى الله من أجله؛ فكان ذلك مصابًا عظيمًا لا يجدي فيه الجَلَد، ولا ينفع الصبر، ولا يواسي الإيمان. وكان حزن مصطفى على أبيه بالغًا متناهيًا لا حدود له ولا مزيد عليه؛ حتى لقد قال لبعض صحبه في الجواب على تعزيته إنه مع إيمانه العظيم بالله لا يجد مخففًا من حزنه، ولا مُسكِّنًا من حُرَقِ أساه، لا في «المنقول» ولا في «المعقول».

وكان فقدان أبيه أيضًا يصلح شفيعًا للرجوع مع الراجعين، والانزواء مع المنزوين؛ لأنه يزيد في مسئولياته «العائلية»، وتبعات البر بذوي رَحِمِه، وبخاصة والدته العزيزة التي فقدت زوجها الشيخ الحنَّان الكريم.

ولكنه مع قيام هذه المسئوليات الكبار ثبت بجانب سعد ولزم مكانه، ولم يفقد في الجهاد ذرة من إيمانه، ولم يزعزع طول الشُّقَّة ووعورة الطريق من جلده وقوة جنانه، وظل قائمًا يعمل بحزم وعزم وعمق يقين.

وفي وقت فراغه من عمله في الوفد راح يعاود المحاماة، فاشتغل بها فترة من الزمن، ولكن بالقدر الذي لا يحول دون مواصلة جهاده، وإلى الحد الذي لا يعوقه عن عمله الوطني، ولو أنه أعطى المحاماة يومئذٍ كل جهده، وأكب عليها بكل نشاطه وجَلَده، وانكمش فيها غير فارغ لغيرها، لكان كسبه منها وفيرًا، وإثراؤه منها نتيجة لازمة، ولكنه سكن إلى القناعة إيثارًا للواجب الوطني، فلم يدع الصناعة تستنفد كل قواه، وإنما جعل الفريضة الوطنية هي الجائرة على صناعته، الآخذة من مرتزقه، القائمة في المحل الأول من منازعه ومجانحه ومدار حياته؛ فظل مكتبه في شارع المدابغ ينتظره كلما أسلمته شدائد الجهاد وخطوبه إلى معاودة المحاماة، فلم ينتقل منه إلا من عمارة إلى عمارة، وبين رقم ٢١ ورقم ٣٠، وفي ذلك المكتب ذكريات وعهود لا تمحوها الأيام ولا يَعْدُو عليها النسيان.

وعلى أثر الصدمة الأولى عاد سعد إلى مصر، ولم يكن قد رآها منذ احتمل إلى مالطة معتقلًا، فاستقبلته البلاد استقبالًا باهرًا، هزَّها هزًّا، وأوقد حماستها كل مُتَّقَد «وأظهرها أمة عظيمة في وطنيتها، حكيمة في أفرادها، نبيلة في مقاصدها»، رائعة الحمية، مكينة البنيان.

ولكن القوة لم تلبث أن عادت تتجاهل مشيئة الأمة، وتقاوم إرادتها، وترجع إلى سابق سيرتها، وأساليبها الغاشمة وأدواتها، وتلا سفر الوفد الرسمي إلى لندن برياسة عدلي باشا للمفاوضات، قدوم جمع من أعضاء البرلمان البريطاني لمشاهدة الأحوال السياسية في البلاد عيانًا، والوقوف على حقائقها عن كثَبٍ؛ فإذا هم حيال مظهر رائع لإرادة الشعب ووطنيته المتدفقة، وحماسته المشتعلة المشرقة، ولهفته الصادقة على الحرية والاستقلال؛ فرجع القوم إلى بلادهم متأثرين بما شاهدوه، وقدموا تقريرًا إلى الحكومة البريطانية، ونشروا خلاصته على الرأي العام؛ فكان له عامل كبير في تقديره لحقيقة الحركة المصرية وميول المصريين.

وحبطت المفاوضات الرسمية مع عدلي باشا، فقدَّم استقالته في الثامن من شهر ديسمبر سنة ١٩٢١، وبدأت السياسة البريطانية تُجرِّب مرة أخرى أساليب القمع والعدوان، وخطة الإرهاق والمقاومة مع الذين جعلت تدعوهم «بالمتطرفين». وأصدرت في الثامن عشر من ديسمبر أمرًا بمنع اجتماعٍ عامٍّ دعا سعد إلى عقده جميع الهيئات على اختلاف طبقاتها في الثالث والعشرين منه، بنادي سيروس في القاهرة؛ ولكن الأمة لم يَزِدْها التحكم والتعنُّت والمقاومة إلا ثباتًا ومصابرة، والتفافًا حول خدامها الأمناء، وزعمائها الأوفياء.

وأثار ذلك غضب السلطة العسكرية، فبعثت بإنذار إلى سعد في الثامن والعشرين من ديسمبر تقول فيه إنه يحظر على سعد زغلول باشا بموجب الحكم العرفي أن يخطب في الناس، أو أن يشهد اجتماعًا عموميًّا، أو أن يستقبل الوفود، أو أن يكتب إلى الصحف، أو يقوم بعمل من الأعمال السياسية، وعليه أن يغادر القاهرة بلا إبطاء ويقيم في منزله في الريف تحت مراقبة المديرية.

لقد كان ذلك كتابًا من الكتب النادرة في العالم، كتابًا قلَّما يوجد مثله في التاريخ الإنساني كله، كتابًا تستحيي الإنسانية أن يُحتَفظ به في قيد حياتها، ومستودع ماضيها، وسجلات حضارتها؛ لأنه يمنع رجلًا من الاتصال مطلقًا بالعالم، ويصادر فيه كل الحريات التي أباحتها الطبيعة له، ولا يسمح له بغير أن يأكل ويشرب، وكتابًا يُنزِل الإنسانية التي شرفتها الطبيعة منزل «الحيوانية» الدنيا التي لا تعقل ولا تفكر، كتابًا مهينًا للقوة المادية التي بعثت به، قبل أن يكون مؤلمًا للرجل الذي تلقاه منها؛ لأنه معيب شنيع في حقها، وشرف كبير له؛ إذ أعلن في تضاعيفه مبلغ خوفها، وعندها الأساطيل والمدافع والأسلحة على اختلافها، من رجل أعزل من هذه جميعًا وضروبها وصنوفها، ليس عنده غير الكلمة المرسلة، والفكرة الماثلة، والحق المبين.

وغَضِبَ سعد من هذا الكتاب، وكبر عليه أن يتلقى أمرًا كهذا وهو وكيل الأمة وزعيم الشعب؛ فأجاب عليه في كتاب خالد، من تلك الكتب الرائعة في تاريخ الشجاعة الإنسانية، والاستهانة بالأمر الظالم مهما كان شأن مصدره، يقول فيه: «إن هذا الأمر ظالم أَحتجُّ عليه بكل قوتي، إذ ليس هناك ما يبرره. وبما أنني موكل من قِبَل الأمة للسعي في استقلالها، فليس لغيرها سلطة تحيلني من القيام بهذا الواجب المقدس؛ ولهذا سأبقى في مركزي، مخلصًا لواجبي؛ وللقوة أن تفعل بنا ما تشاء، أفرادًا وجماعات، فإننا جميعًا مستعدون للقاء ما تأتي به، بجنان ثابت، وضمير هادئ، علمًا بأن كل عنف تستعمله ضد مساعينا، إنما يساعد البلاد على تحقيق أمانيها في الاستقلال التام …»

فهل رأيت مبلغ قوة سعد الروحية إزاء نذير القوة المادية الرهيبة؟! لقد كان هذا الرد من رجل أعزل على بريطانيا ربة القوات العديدة في البر والبحر والهواء، أسمى ما تبلغ الشجاعة الأدبية إليه في القلب المطمئن، والخاطر الهادئ، والضمير الساكن، والثبات العجيب.

رفض سعد الخضوع لذلك الأمر، وهو يعلم ماذا سيكون من ورائه، كما رفض مصطفى وبقية أصحابه، إذ جاءتهم كتب مثله تحمل نُذُرًا كنذيره. وقد أشفق سعد عليهم، فطلب إليهم ألَّا يتأسوا بأسوته، مخافة على أولادهم، وحنانًا على ذويهم، ورثاءً لأهليهم وعشيرتهم الأقربين. وطال الموقف بينه وبينهم: هو يرجو ألَّا يتابعوه، ويسألهم ألَّا يتأثروه؛ وهم متشبثون بالرفض، مصرون على الإباء. بل لقد راح أخيرًا يقول لهم: «أنتم شبان لا يأخذكم الضعف الذي قد يأخذ الشيوخ في ملاقاة الخطوب، فالرأي لكم وأنا عند ما تتفقون عليه، ولكن اعلموا أنني لا يمسني ضعف، ولا تميل نفسي إلى أن أستبقي بقية من التضحية الواجبة.»

وكان صوت مصطفى صارخًا قاطعًا في أن يكون الجواب رفضًا محضًا، وعلى اللورد اللنبي أن ينفِّذ أمره بالقوة إذا شاء. وقد تحدث أحد الذين شاهدوا ذلك اليوم الخالد في بيت الأمة، حين وصلت تلك الكتب المُنذِرة، عن نفسية مصطفى يومئذٍ فقال: «لقد أقبل باسمًا وعيناه تلتمعان وفي يده كتب. ويعرف كل الذين عاشروه أن له ساعات هي ساعات الحوادث الجسام، تظهر فيها على وجهه، وفي عينيه، وفي كل حركات جسمه، أدلة الحماسة بالغة، حتى ليظن مشاهده أن الإحساس الذي يسير في صدره أقرب إلى أن يكون فرحًا بمصارعة الحوادث منه توجسًا منها واغتمامًا بها؛ لأنه أَلِف الصراع إيلاف الشباب ركوبَ الأخطار.

لقد دخل في تلك اللحظة وفي يده تلك الكتب، ثم وقف وجعل يلقيها لأصحابها إلقاءً وهو يقول باسمًا: «أوامر من السلطة العسكرية»! وهو غير مكترث ولا حافل، وقد عرف من قبل ما حدث، فما زاده علمه بها إلا استخفافًا وسخرية واستهزاء.»

واعتقل سعد في صباح الثالث والعشرين من شهر ديسمبر سنة ١٩٢١، فكان مسلكه ساعة معتقله مشهدًا من مشاهد البطولة الجليلة التي يحدثنا عنها التاريخ في سير العظماء الذين ضربوا أروع الأمثال على رباطة الجأش وشجاعة القلب وسكون الأعصاب في أرهب المواطن وأكبر الأخطار.

لقد جاءوه صبحًا فأيقظوه من نومه، وساروا به إلى سيارة مغطاة فاحتملوه فيها وهو لا يدري إلى أين المَسَاق، وقد نزل من حجرته يمشي هادئًا مشرق الجبين مُتَّزن الخطو، جليل السمت، مهيب الطلعة، لا أثر في حركاته لجزع أو اضطراب، وقد دس يسراه في جيب معطفه، وفي يمناه عصاه يحركها بانتظام، غير حائم النظر، ولا زائغ البصر، ولا مترنح اللمحات.
figure
سعد وصحبه وهم في المنفى.

وفي المساء اعتقلوا مصطفى النحاس، فما جزع ولا فَرِق، ولا حفل بما صنعوا به، وإنما تلقى الجنود برباطة جأش، وابتسام رهيب، وشجاعة عجيبة، وثبات رفيع، وسكينة بالغة، كما ألقوا القبض على بقية أعضاء الوفد الآخرين فكان جَلَدُهم حاضرًا، وموقفهم محاطًا بروعة وجلال.

وفي منفى سيشيل تبتدئ قصة إنسانية من أرفع مآسي التاريخ، قصة أبطال وطنيين حارت بريطانيا ربة الحول والطَّول والسلطان في أمر مقاومتهم، فتوسلت بأصغر وسيلة للخلاص منهم، فزادتهم بصغار وسائلها قوة على قوتهم، وثباتًا إلى ثباتهم، وخرجت هي من المحاولة بفشل ساخر من قوتها، ضاحك من سلطانها وجبروتها، وتركت تجربتها في النهاية بخزي ظاهر، وخجلة واضحة، وتراجع صغير.

في منفى سيشيل، وهي إحدى جزر المحيط الهندي، تجلت مبالغ شجاعة الشجعان، وبطولة الأبطال، ومصبر الصابرين؛ كما برز الإخاء الإنساني في أوضح صوره، والوفاء في أبلغ مظاهره، والتضحية الوطنية متجاوزة أبعد الحدود.

وقد وصف مكرم لحظة من لحظات المسير إلى ذلك المنفى القَصِيِّ المجهول، بلغة عاطفته، وعاطفة لغته، فكانت كلمته في ذلك سحر البيان:

لا تقاس الأيام بمجموعها، بل بنوعها، فقد تمر عليك أيام لا تحسها؛ لأنه لا نصيب لك فيها، ولا يحس بك أحد. وقد تمر أيام تبذل فيها من العمل ما يملأ وقتك، ومن الشعور ما يملأ نفسك وحسك، وعندئذٍ يحس بك كل أحد …!

تلك الأيام هي التي نعيش فيها للوطن، فيعيش الوطن فينا وبنا.

تلك الأيام قد تكون ساعة، أو لحظة، نتعلم فيها كيف يكون حب الوطن طاهرًا … فوالله إن ساعة من طهر، لهي خير من ألف شهر …!

دعوني أقص عليكم كيف مرت بي هذه الساعة الطاهرة، فإني لن أنساها مدى العمر:

«في ليلة حالكة السواد، شديدة البرد، خرج ستة من المصريين يتقدمهم رجل كأن الله خلق الاستقامة من قوامه، والهيبة من وقع أقدامه، رجل توَّجه الشيب شيخًا جليلًا، فبلغ من العمر كثيرًا، ولم يبلغ منه العمر كثيرًا ولا قليلًا، هذا الرجل هو سعد زغلول، وكان بجوار سعد رجل مد إلى الأمام صدره، كأنه يرى في عيني فكره عدوًّا يتحداه ولا يخشى خطره، وهذا الرجل هو مصطفى النحاس، وإلى جوارنا ثلاثة اختارهم الله قبلنا إلى خير جوار، هم المغفور لهم المُبكَى عليهم، عاطف بركات باشا، وفتح الله بركات باشا، وسينوت حنا بك. وكان حولنا نحن الستة ضباط وجنود من الإنجليز مدججين بالسلاح، فسرنا وساروا معنا من معسكر الجيش الإنجليزي في السويس إلى ميناء السويس في طريقنا إلى المنفى البعيد، إلى المجهول المجيد!

ولما وصلنا الميناء وجدنا زورقًا أعدته السلطة العسكرية لنقلنا إلى الباخرة في وسط البحر، فركبنا الزورق الصغير ولم يكن فيه إلا نحن الستة وعدد كبير من الضباط والجنود الإنجليز، وبحَّار مصري واحد بجوار «الدفة».

وبينما نحن في الزورق في طريقنا إلى الباخرة، سمعنا في سكون الليل هامسًا محتبسًا، فنظرنا وإذا بالبحار المصري الجالس بجوار الدفة قد وضع رأسه بين يديه وهو يبكي بكاءً مرًّا.

نظرنا إليه ونحن لا نكاد نملك حواسنا، ونظرنا فإذا بالضباط الإنجليز مطرقو الرءوس خاضعون أمام هذا البكاء الطاهر المليء بالمعاني.

بكى الرجل فسرى البكاء منه إلى نفوسنا، حتى ذهبت شعاعًا وانحدرت دموعًا …

فوالله لقد أحسسنا أن مصر، وقد رأت قائدها وأركان حربه مأسورين، قد بكت في هذا الرجل أسرها، وتوسلت به إلى الله تطلب نصرها.

بكى الرجل فاقترب إليه أحدنا، وحاول أن ينفحه مبلغًا من المال يعينه على عيشه، فرمى الرجل بالمال من يده وكأنه نار تحرقه، رافضًا أن يأخذ لبكائه ثمنًا، وأن يستعيض عن شعوره مالًا أو بدلًا.

لا أذكر من اسم هذا الرجل إلا أنه محمد، ولكني أعرف أنه الوطن تَجَسَّدَ في محمد، وأني ما حييت سأذكر أن محمدًا بكاني، وأن محمدًا آخاني!»

وفي عدن، على الطريق إلى سيشيل، أراد الإنكليز أن يعجموا عود سعد، ويمتحنوا مبلغ وطنيته وجهاده، ويستطلعوا مدى رباطه وعناده وجلاده، فبعثوا إليه في الثالث عشر من شهر فبراير سنة ١٩٢١، وهو محتبس في حصن عدن، من يحادثه في الشئون الشاغلة، والمطالب القومية، ويُمنِّيه بأسمى المقامات في البلاد. فلم يجد أمامه إلا قناة صلبة لا تغمز، وعودًا ثابتًا لا يُهَزُّ، بل لم يَرَ حياله غير حفاظ للأمانة كامل، ووفاء لمصر جليل، وقول صريح لا تردد فيه؛ فقد أعلن سعد محدثه، في شجاعة وصدق، وجهرة وإيمان ويقين، أنه لا يبحث إلا عن شيء واحد، وهو استقلال بلاده!

لقد لجئوا إلى «مساومة» حقيرة مع رجل صادق في وطنيته، فكان ذلك جوابه على مساومتهم، جواب عظمة وشرف وطهارة ونزاهة وقوة إيمان. كان ذلك جواب زعيم أمة لا يعرف مساومة في حقها، ولا يشتري راحة نفسه ببيعها، ولا تخيفه المخاطر المجهولة التي يساق إليها، فيسلم على أول الطريق، ويذعن عند أول تلويحة، وتتمثل له المكاره، وتتخيل لديه الغوائل والآلام وألوان العذاب التي تنتظره، وهو شيخ تجب له الراحة، مريض تنتابه العلل، ضعيف البنية عرضة للسقام، فيشتري نفسه ببيع بلاده للمساومين.

لم يكن سعد هذا الرجل الذي يُجرَّب هذه التجربة، ويُغْرَى هذا الإغراء، ولكنهم كانوا حائرين في الواقع حياله، فعمدوا إلى هذه المساومة وهم عارفون نتيجتها، مدركون على الأرجح كيف ستروح الفاشلة المحطمة. وقديمًا رأينا الحيرة تذهب بأهلها أعجب المذاهب، وتسلك بهم أبعد ما يكون السلوك من النجاح.

وكان منزل سعد وصحبه بعدن في الرابع من شهر يناير سنة ١٩٢٢، وكان مُقَامهم بحصنها مُقَام الأسرى والسجناء، وكذلك لبثوا حتى الثامن والعشرين من شهر فبراير، فساروا بهم إلى سيشل، وكان ذلك هو يوم إعلان استقلال مصر، بتصريح من الإنكليز، تصريح ٢٨ فبراير المشهور، الذي ألغى الحماية، ووعد بإلغاء الأحكام العرفية ريثما تصدر الحكومة الملكية الجديدة قانون التضمينات، بل التصريح السياسي العجيب الذي جاء من جانب واحد، ثم أحيط في الوقت ذاته بأربعة تحفظات، كان كل تحفظ منها سخرية كافية من ذلك الاستقلال.

لقد أقاموا هذا التوفيق المصطنع بين يوم الاستقلال ويوم الأسر، فكان توفيقًا في معناه، ساخرًا من معانيهم، وكان صَغَارًا على هامش جِدهم، وأضحوكة بجانب مرارة عملهم وشناعة تصرفهم؛ ليكون في القاهرة معالم زينة، وفي عدن سفْرَة أليمة، ورحلة حزينة، وتشريد بعيد.

وفي سيشل، الجزيرة النائية، القائمة وسط الأوقيانوس العظيم، الحارة الرطبة في آنٍ واحد، تلك الجزيرة الخاملة التي اشتهرت بسعد، كما كانت جزيرة القديسة هيلانة في المحيط الأطلسي، على الجانب الآخر من أفريقيا، خاملة، فاشتهرت بنابليون؛ تبارى الحب في مبالغ الإيثار، وتنافس الإخاء في إنكار الذات، وتزاحم الإخلاص على التضحية، وتدافع الوفاء عند الحاجة إلى التلبية. وفي سيشل، تلك القطعة الناتئة في بهرة المحيط، اجتمعت في ستة أصدقاء إخوة أعزاء أبرار، كلُّ الأسنان ومختلفُ الأعمار؛ شيخوخة وكهولة وشباب، كلها في ذاتها متفانية، وكلها على بعضها حانية، والجميع تُسرِّى عنهم أشدَ الألم روحانيةٌ عميقة مواسية، فهم في سياحة من سياحات النفوس، مهما تلقَ من عذاب، ومهما تصادف من محن وأهوال وخطوب، تجد عزاءها البليغ في رفقتها، وسلوتها الحاضرة في شركتها، وكلما كان الخطب مُوزَّعًا هان، وكلما كان الألم مشتركًا، راح المُحْتَملَ اليسير.

في سيشل جرت قصة من أروع القصص، قصة الحب الإنساني في أسمى مراتبه، وعليا درجاته، وأروع صوره وآياته، وهو الحب الأخوي في خاصة ذاته، والحب الوطني في عمومياته، وقد تلاقى الحُبَّان في نفوس ستة أبطال شجعان؛ فعرفوا بذلك الحب المزدوج العظيم كيف يصبرون لأشد الألم، ويتجلدون لأقسى العيش، ويصمدون لأعنف البلاء والامتحان.

إن ذكريات سيشل لتزخر بأعجب الأمثلة على الإنسانية الرفيعة إذ تمتحن بالألم، وعلى الأخُوَّة الوفية إذ تبتلى بالشدائد، وعلى الرفقة في العذاب إذ تبتسم للعذاب، وعلى النفوس العالية كيف يزيدها تقاسم الآلام علاء.

لقد كانت أيام سيشل عهدَ كربٍ ونكدٍ، وصبر وتجلد، وأرق وتسَهُّد؛ ولكن كانت أيضًا أيام مجد لسعد وأصحاب سعد، وقد اندمج هذا المجد في معاني الخلد، بالنسبة للذين رحلوا من هذه الحياة بعد سعد، وبقي هو قائمًا إلى اليوم لمصطفى ومكرم، هو جوازهما إلى كل قلب، ومدخلهما على كل نفس، وسبيلهما إلى كل عاطفة.

وقد خدمهم في سيشل الوفاء المتقاسم، وبرَّ بهم الولاء المتبادل، وإن راح كلٌّ منهم ناسيًا بره، ذاكرًا بر أخيه، وحنان رفقته. فأما سعد فقد جعل يتحدث إلى الناس في المناسبات قائلًا: «لقد مكثنا معًا في تلك القرية، وكان وجودنا معًا يخفف كثيرًا من الألم، إذ كان إخواني يبذلون غاية جهدهم في مواساتي ومجاملتي، وقد كان مكرم بك عبيد في السفينة بجانبي، هو الذي يواسيني بلطفه، وحسن مجاملته، وكان في الحقيقة لي أبر من ابن.»

ويتحدث مكرم فيقول: «كنا في ذات ليلة من ليالي يوليو سنة ١٩٢٢، وكان الرئيس متعبًا مريضًا منذ أيام، وكانت قلوبنا هالعة عليه؛ فتركنا بعد طعام العشاء على أن ينام مبكرًا عسى أن يختلس لنفسه ساعة من الراحة، إذ كان لا ينام أكثر من نصف ساعة طول ليله. وبينما نحن نتأهب لدخول مخادعنا، إذا بالرئيس يخرج إلينا فاقد النطق، محتبس التنفس، وهو يكاد يشرف على الموت.

ولا تسل كيف قضيناها ليلة سوداء نغالب الموت فيها ويغالبنا، حتى انجلى وجه الصباح، وبدأ الرئيس يسترد بعض قواه، فإذا به يطمئننا على نفسه، ويؤكد لنا أنه لا يخشى الموت في سبيل بلاده، وأن في موته بمنفاه حياة لأمته. ولم تكن هذه مجرد ألفاظ، إذ ما لبثنا أيامًا حتى وُزِنَتْ ألفاظه بميزان الحوادث، وامتحنت شجاعته امتحانًا ما كان أقساه لولا أنه لاقى صخرة لا يلين جامدها؛ فقد كان سعد لا يزال مريضًا، وقد جاءه تلغراف يعرض عليه أن يتنازل عن الاشتغال بالسياسة مقابل نقله إلى فيشي بأوروبا في أقرب فرصة! … فلتصوروا لأنفسكم ما كنا فيه وما كنا نعانيه، ثم تخيلوا شيخًا مريضًا في منفاه، يرى في هذا النبأ باب الفرج بل باب الحياة، ثم تأملوا جوابه، فقد كان جوابُه أخيرًا، جوابه أولًا، وهو الرفض بإباء وكبرياء.

إن للقوة أن تفعل به ما تشاء، وقد فعلت، وللمنية أن تهدد حياته، وقد هددت، ولكنَّ للأمة كرامة، وقد حُفِظَت، وديونًا، وقد أُدِّيَت …!»

لقد تفانى الرفقاء في المنفى أعجب التفاني، وحملوا الآلام الطوال بينهم أروع المُحْتَمَل، وراحوا يتناسونها في حلقات الدرس وجلسات السمر. فكان سعد بعد الفراغ من الطعام يجلس إلى مكرم لدرس اللغة الإنكليزية. وينصرف المرحوم عاطف بركات إلى درس الفرنسية على مصطفى النحاس.

وإذا تنفس الصبح، نهض مصطفى يؤدي بعض الألعاب والحركات الرياضية مع المرحوم فتح الله بركات، والأستاذ مكرم عبيد. وكثيرًا ما كان يشترك مع فتح الله في لعبة «الدومينو»، ولم يكن يجيد غيرها من الألعاب.

وأَجَلُّ ما بدا حنان مصطفى، وأروع ما تجلى تقديره للصداقة والحب والود والبر بالصحاب، يوم أصيب صاحبه مكرم «بالملاريا»؛ فكانت تلك فترة جزع وروع ومخافة، وكان يعوده طبيب إنكليزي من أطباء الجيش البريطاني برتبة «الميجور»، وكان الرفقاء لا يفارقون سريره، ولما اشتدت العلة عليه، نقل إلى المستشفى، فعارض سعد وإخوانه في نقله، وقالوا إنهم لا يخشون العدوى منه، بل هم على استعداد تام للعناية جميعًا به، والسير على تعاليم الطبيب وأوامره، ولكن الطبيب أصر على النقل، فلم يجدوا بُدًّا من التسليم والإذعان.

ونقل مكرم إلى المستشفى فوق محفة يحملها أربعة من الجنود وعليه ملاءة بيضاء، نقل مكرم على تلك الصورة بين أصوات الألم من إخوانه والنوح والأنين؛ ولكن مصطفى أبى إلا أن يتبعهم، وأصر على أن يلزم أخاه مكرم في نقلته. وجرت مشادة بين الرفقاء وبين الطبيب في أمر السماح لمصطفى بالمسير مع القوم إلى المستشفى لملازمة سرير صاحبه، فلم يلبث الطبيب أن أذعن لصوت الجماعة، وأمام وحَدْة الشعور والحنان.

وظل مصطفى بجانب مكرم راعيًا حانيًا ممرضًا مطببًا، وجعل يكتب إلى أصحابه من المستشفى منبئًا بسير صحة المريض العزيز، حتى قيض الله له النجاة من العلة، فتماثل وعاد إلى أصحابه ناجيًا، وقد قص مصطفى بعد ذلك ما كان في المستشفى فترة إقامتهما؛ فقال إنهم وضعوهما في غرفة يقفل عليها باب ضخم من الحديد، وكانت تلك الحجرة مُعَدَّة فيما مضى للمرضى من الأسرى الأتراك في الحرب الماضية الذين كان يؤتى بهم يومئذٍ إلى عدن. فلم يكد الصديقان ينزلان بها حتى هجمت عليهما جيوش جرارة من الحشرات والبعوض والهوام وما إليها، فجعلا يدافعانها بكل ما استطاعا فلم ينالا منها كثيرًا ونالت هي من دمائهما، حتى اضطرا إلى الاستغاثة، ومن القسوة البالغة أنهم لم يصرِّحوا لهما باستخدام الكلل «الناموسيات»، إلا بعد أن بح صوتهما من فرط الصياح، خشية أن تبلغ أسماع المُستَرِقين للسمع والمترصدين.

ولم يكن سعد وصحبه أحرارًا في إحضار مال من القاهرة للنفقة على أنفسهم كما يشاءون، إذ كانت قد صودرت حساباتهم في المصارف قبل حملهم من وطنهم إلى ذلك المنفى البعيد، فكانت الحكومة الإنكليزية مقررة لسعد مصروفًا شهريًّا قدره خمسون جنيهًا، ولكل واحد من رفقائه ثلاثين، وكانت أجرة المنزلين اللذين يسكنونهما في سيشل، ونفقات الطعام والشراب وأجور الخدم تُدفَع من تلك المرتبات!

إن قصة سيشل هي في الحق أسمى ما كان من مشاهد البطولة، وأرفع ما عرفت الدنيا من قيمة العظمة الإنسانية، وأنبل ما أظهرته الشجاعة الوطنية في مَجَاز المحن والآلام؛ قصة الشيخوخة المريضة وكيف تحملت أشنع المعاملة، واصطبرت لأسوأ الأذى، وتجلدت للأسر والقيد والعنت والضيق والبغي والعدوان؛ قصة الرجولة التي نسيت حق نفسها في التفاني في البر بسواها، والحدب على غيرها، والإيثار لمن عداها؛ بل قصة الشباب في أروع ثباته وأرفع قوته ونبالته، وأكبر سخرية من الألم والعذاب …

وسوف تظل ذكريات سيشل في التاريخ الإنساني للوطنية كمثل لأقسى ما كابدته، وأشنع ما قاسته، في سبيل قضاياها المقدسة، ومبادئها العالية، وإيمانها الوثيق، ويقينها بحقها المقرر، وشهامتها السامية، وجدها الرفيع المكين.

لقد نُفِيَ نابليون إلى جزيرة هيلانة منهزمًا مدحورًا، فمرض فيها مرض الموت، وكان ذلك مطلب الذين نفوه، وأمنية الذين اعتقلوه. ونفي سعد إلى سيشل منتصرًا قاهرًا، في معارك نفسية، ووقائع روحية، هو المسلح فيها بأغرب الأسلحة، وهو الحق الأعزل، والقوات المخاصمة له لا تدري ماذا تستخدم من أسلحتها — على كثرتها — حيال هذا الجندي المسلح، ولكن على طراز غير طرازها، ومن دروع ولَأَمَات غير ما ألفت هي من دروعها وتروسها وأسلحتها ومِجَنَّاتها، وهي أخشى ما تكون عليه إذا مرض وإن رامت تعذيبه، وأخوف ما تكون على صحته وإن بغت إيلامه، وهي أحرص ما تكون على حياته وإن قَسَت عليه. ولقد أرادت بنفيه مجرد الدرس الأليم لتكون العبرة البالغة؛ فتلقَّى هو الدرس وألمه، ولكن خيَّب الغرض منه، وفوَّت غايته، بل لقد انتفع هو بالدرس ونتيجته، إذ عرف منه مبلغ قوته، ومدى جلده وثباته، وأدرك بالتجربة أنه أقوى من خصمه على بطشه، وأجلد على آخر ما عنده من امتحان وبلاء.

وقد احتمل مصطفى النحاس بجانب سعد كل ذلك وأكثر منه؛ لأنه كان شابًّا محدودًا، ورجلًا ذا مسئوليات أبوية؛ فلم تنقطع مع احتماله تلك الآلامَ الشدادَ ومرارتَها، مسئولياتُهُ تلك ومقتضياتُها، فكانت نفسه موزعة بين سيشل النبيذة الطريحة في وسط المحيط، وبين ذلك البيت الصغير الهادئ في حي شبرا، حيث تقيم تلك القطع الصغيرة من الإنسانية، أولاد أخته الذين تولى تربيتهم، وأعطاهم جزءًا من روحه لرعايتهم وتنشئتهم، وقد حُمِلَ من وسطهم ظلمًا وعدوانًا إلى غربة قصية ومنفى بعيد، فلم يبق لهم غير معاشه القليل، وإلا أتعاب مكسورة لا تزال في ذمم المتقاضين.

ولكن مصطفى انتفع بالمنفى انتفاع سعد به؛ لأنه جرَّب قبل أن يصل إلى مكان القيادة العليا كافة لوازمها، وامتُحِنَ بأشد تكاليف عذابها وآلامها. وقد عجمت السياسة البريطانية عوده فخشيت مما عجمت. واطمأن هو إلى قوته التي اختبرت، وأدرك أن كل شيء في سبيل مصر محتمل، وكل تضحية من أجل وطنه هينة، وأن المقاومة الروحية هي في معركة القوة والمادة، المنتهية أبدًا بالفوز المبين.

وفي مصر على أثر هذا الحادث العظيم، ظهرت قوة الوفد بأجلى مظاهرها، وبدا نظامه العجيب على أكمله، وتجلى تسلسل القيادة فيه باهرًا يَشْدَهُ الخصوم، ويكبت الأعداء؛ إذ نهض الذين بقوا من أعضاء الوفد بأعباء الجهاد رافعين رايته، منظمين قيادته، وانضم إليهم آخرون، غير مشفقين من شبح السجن، أو منزوين من تصوُّر الاعتقال، وظل بيت الأمة قبلة الوطنيين تبعث منه أم المصريين نداءاتها الصادقة إلى الشعب فتهز بها القلوب التي في الجُنُوب، وتوقد في الأرواح الشُّعَل واللهب، وتضرم الحماسة في النفوس أي إضرام.

وحين اعتقل أعضاء الوفد الثاني في سلسلة القيادة المنظمة، حل محله وفد ثالث، متلقيًا علم الجهاد منه، وهو عليم بالأخطار التي تحدق به، مقبل عليه بشجاعة يغذيها اليقين، ويمدها الإيمان؛ فكانت تلك الشجاعة موضع إعجاب الأمة، ونبع حماستها المستفيضة بغير انقطاع.

وخلال ذلك أُعلِنَ تصريح ٢٨ فبراير، فأزعجت الأمةَ تحفظاتُهُ، وتلقته بفتور غير منخدعة بالمظاهر والزخارف التي أحيط بها، والتغييرات الشكلية التي أدَّى إليها، وظلت في موضعها من الجهاد تواصل الكفاح غير مذعنة ولا قانعة ولا متوانية.

وتحت وزارة ثروت باشا أُلِّفت يومئذٍ لجنة لتحضير الدستور، فكان أعضاؤها جميعًا من غير رجال الوفد والمنتسبين إليه، فرضوا أن يضعوا الدستور في غياب الرجل المكافح المغوار الذي كان السبب فيه، وصاحب الفضل به، في غياب سعد ومصطفى وصحبهما وهم في المنفى القصيِّ والمعتقل البعيد، الذين كانوا في صدر المطالبين به والعاملين عليه والمنادين مع الاستقلال التام إليه، فكان ذلك على أقل تقدير له، جحودًا ونكرانًا لحق الغائبين.

وتَرامت عند ذلك الأنباء بمرض سعد في سيشل، فقلقت الخواطر، وهاجت النفوس؛ فما زالت الأمة تحتج وتطالب برد سعد ورفقائه حتى رأت السلطات إزاء هذه المطالبة الملحة نَقلَه إلى جبل طارق، دون رفقائه الذين لازموه، وصحبه الذين واسوه، ورفقائه الكرماء عليه. وفي ذلك يقول سعد: «ولقد مكثنا ممنوعين من الكلام عن الصحة، وكنا نحتار حيرة شديدة حين نُسْأل بالتلغراف من مصر عن الصحة والطقس، إلى أن كتب إلينا الحاكم العام للجزيرة بأن حكومة جلالة الملك قررت أن يسافر زغلول مع خادمه سفرًا يستغرق ثلاثة أسابيع سويًّا على سفينة قادمة في غداة اليوم التالي إلى سيشل لتحمله إلى تلك الجهة؛ فغضب إخواني لهذا التقسيم وحزنوا وطلبوا أن يسافروا معي، مع أن الجواب يقول إنه لصحة زغلول تقرر نقله إلى جهة أخرى، كأن صحة إخواني لم تكن تقتضي ذلك، والحقيقة أنها كانت تقتضيه، ولكنهم لم يريدوا أن يقروا بهذا الاقتضاء.

أما إخواني فقد حزنوا واستاءوا واحتجوا؛ لأنهم شعروا بألم شديد لانفصالي عنهم، وكانت نتيجة ذلك أن منعوهم من السفر معي، ولم يريدوا أن أنزل في السفينة نهارًا خشية احتشاد سكان الجزيرة، فأُنزِلت في زورق ومُنع إخواني أن يصحبوني إلى السفينة الحربية، فسرت بهذا الزورق إلى السفينة … وقد سألت عن الجهة التي نحن متوجهون أو مسوقون إليها، فقالوا: «لا يمكننا أن نقول لك ذلك»، فمكثت وحدي بين السماء والماء، لا جليس ولا أنيس لي مطلقًا، وكان فكري محصورًا فيما هي الجهة التي أنا مسوق إليها؛ وكنت قد سمعت قبل السفر إشاعة بأنها «جبل طارق»، التي سمعت عنها من بعض أصحابي أنها صخرة جرداء شديدة الحر، بها حصن، وعلى كثب منه قرية صغيرة لبيع الدجاج والبيض. مكثت حائرًا في أمر الجهة التي أنا مسوق إليها، وكلما تصورت أنها جبل طارق، اشتد كربي … مكثت ستة عشر يومًا حائرًا أتصور جبل طارق، ولم يحدث لي في حياتي قبل هذه أن تألمت أكثر مما تألمت في هذه المدة …»

وكان نقل سعد إلى جبل طارق في الحادي عشر من أغسطس سنة ١٩٢٢؛ وكان أخذه من بين مصطفى وصحبه أليمًا لنفوسهم، مُمِضًّا محزنًا لهم، شديد اللوعة، يغالبونها، ويحاولون إخفاءها، حتى كانت لحظات الوداع، فتلاقى بصر سعد بأبصارهم، فعرف في الحال مبالغ آلامهم، وأعماق حزنهم، ففاضت من عينه عَبْرة ساخنة، وكان صمت ذلك الفراق أبلغ من كل قول، وأروع وأصدق من كل كلام.

وقد نزل سعد ببيت أُعِدَّ له في جبل طارق، ذي حديقة، ولم يكن أسيرًا في مُقامه بها ولا سجينًا، ولكنه مع ذلك كان متألمًا متبرمًا، حتى لقد قال يصف منزله يومئذٍ بتلك الصخرة: «لقد كانت هذه أسوأ مدة مرت بي في السجن، وأما المدة التي تلتها فإني كنت متألمًا جدًّا لانفصالي عن إخواني حتى اضطررت إلى رجاء حرمي أن تلحق بي، فلما حضرت خف عني الألم. ولقد أقمت في جبل طارق من الثالث من سبتمبر سنة ١٩٢٢ إلى ٣٠ مارس سنة ١٩٢٢، ثم أُفرِج عني في ذلك التاريخ …»

وتعاقبت يومئذٍ الوزارات، ولم تنطفئ حماسة الأمة ولا هدأت ثائرتها ولا فتر جهادها، بل تبين فشل الأساليب التي اتخذت حيالها لتوهين قواها وصرفها عن زعمائها؛ فأفرجت السلطات عن بعض أعضاء الوفد المعتقلين، وأعلنت إطلاق سراح سعد من منفاه الأخير، وصدر الدستور في التاسع عشر من أبريل سنة ١٩٢٣، وأُفرِج عن مصطفى ورفقائه المبعدين في سيشل، فوصلوا إلى أرض الوطن في السادس والعشرين من شهر يونيو من ذلك العام، كما أفرج عن سائر السجناء في ألماظة، فاكتملت بخروجهم، وتوافدهم هيئة من الوفد، وراحت تتولى قيادة الأمة إلى غايتها السامية حتى عاد سعد في السابع من شهر سبتمبر من تلك السنة، فخرجت مصر جميعًا إلى لقائه وتحيته واستقباله، فكان ذلك يومًا خالدًا في التاريخ.

لقد وصلت الثورة يومئذٍ إلى حد حاسم، ومرحلة فاصلة، وظفرت الأمة بنصر عزيز، وتمكنت من التغلب على كل ما كان يعترض سبيلها، ويراد به توهين قواها، والقضاء على آمالها. وكان من الخير لو أن السياسة البريطانية كفت يومئذٍ عن التبييت للحركة الوطنية، والتزمت مواجهة الحقائق الماثلة، وانصرفت إلى التحبب إلى مصر وأهلها، والتعاهد معها على ميثاق من الحلف والمودة والتعاون الوثيق، ولكن السياسة البريطانية لم تقنع بالخسر الذي أصابها، والنجاح الذي ظفر به خصومها؛ فهادنتهم أو سكتت قليلًا عنهم، ريثما تجد سانحة أخرى للبطش، وناهزة جديدة لمواصلة التجربة.

وفي حياة سعد ومصطفى كان قد انتهى دور من أدوار الألم، واستكمل فصل من فصول الكفاح العنيف؛ فما من خَطْبٍ ألمَّ بسعد إلا كان مصطفى فيه شريكًا مساهمًا، ولا من محنة أصابت سعدًا إلا كان صاحبه العزيز مكتويًا معه بلفحها. وقد جعلت منهما هذه الرفقةُ في الألم والعذاب شركةً نفسية غريبة، حتى لو أن أحدهما هو المطلوب بمفرده لهما، لما رضي الآخر أن يحرم من نصيبه منهما؛ فإن الحب الوطني قد ألَّف بين قلبيهما قبل أية صلة من الفكر، أو شركة في العقيدة. وقد وصف الساحر الخلاب مكرم عبيد هذا الحب في بعض سحره العَجَبِ، فقال:

منطق القلب هو الحب، والحب أُسُّ الفضائل جميعها، وهو واحد وإن تعددت أنواعه وأسماؤه؛ فحب الله هو الدين، وحب الفضيلة هو الأدب، وحب الوطن هو الوطنية، وحب العشيرة هو القرابة، والحب الجنسيُّ هو الذي اصطلح الناس على تسميته حبًّا أو عشقًا، وحب الصديق هو الصداقة، وهكذا كل العواطف يجمعها شعور واحد، هو الحب؛ ومصدرها واحد وهو القلب، والقلب من الله، والله محبة كما جاء في التوراة …

إن عاطفة الحب في أساسها عبارة عن تمازج الأرواح؛ فقد يكون خاصًّا، ويدخل في ذلك حب الأسرة وحب الصديق؛ أو عامًّا، وهو المحبة الوطنية أو الدينية أو غيرهما، ولا تظنوا أن المحبة العامة مجرد عاطفة خيالية، كلا بل هي في بعض الأوقات — وبخاصة في أوقات الحماسة — أوقع في القلب، وأكبر أثرًا في النفس من المحبة الخاصة، بل إن الإنسان كثيرًا ما يضحي بالمحبة الخاصة في سبيل المحبة العامة، فيضحي بمصالحه وأولاده ونفسه في سبيل حب بلاده، أو فكرة سامية أخذت بقياده.

ولست أحتاج إلى الذهاب بعيدًا للتدليل على هذا الحب العجيب، والدرجة القصوى التي قد يصل إليها؛ فإن المثل الحي قريب منا، في بلادنا ونفوسنا، وإن شاءوا دليلًا ماديًّا فليبحثوا عنه في قبورنا وسجوننا.

إن حب المصري لأخيه المصري في تلك السنوات الأخيرة ليس مجرد عاطفة وطنية، بل هو حب المؤمن لأخيه المؤمن، وإنما المؤمنون إخوة؛ وحب الجندي لأخيه الجندي، فهو إذن حب قويٌّ، تجمعه فكرة واحدة، وجيش واحد، وقائد واحد. وقد ذهب هذا الحب بأبنائنا فسفكوا في سبيله دماءهم، وضحوا من أجله بحريتهم.

وإن شئتم مثلًا آخر يدلكم على مقدار هذا الحب العام، فهاكم ما جرى لنا في «ممباسة» عند عودتنا من سيشل، فكلكم تعرفون أن الهنود على اختلاف طوائفهم، أكرمونا إكرامًا عظيمًا، وأضافونا في بيوتهم، بعد أن رفض الإنجليز أن يقبلونا في فنادقهم؛ لأننا شرقيون محتقرون! وعندما سافرنا من ممباسة ودعنا أولئك الإخوان، وكانوا يبكون، وكنا نبكي دموعًا حارة، كأنما قد تركنا ثَمَّ أعزَّ أحبابنا. والواقع أننا أحببناهم وأحبونا؛ لأنه جمعتنا بهم جامعة عامة، هي جامعة الشرق الواحد، وجامعة الظلم الواحد …
figure
مكرم عبيد.

إن أحسن وصف لهذا الحب العام هو ما جاء في الكتب المنزلة، من أن أصحاب الإيمان الواحد، أو الفكرة الواحدة، هم إخوة وأقرباء، وكنتُ قبل الآن أحس بكثير من الدهشة عندما كنت أقرأ في الإنجيل الشريف أنه قيل للسيد المسيح: إن أمك وإخوتك بالباب يطلبونك، فأجاب بلهجة شديدة قائلًا ما معناه إن أمه وإخوته وأقرباءه هم الذين يتفقون معه في الرأي والعمل الصالح، نعم هم الأقرباء الحقيقيون تجمعهم صلة النفوس، لا صلة الأجساد.

ولا يغرنكم قولهم إن الحب لأعمى، فلا يعمي البصائر إلا الكره والحسد، ولا يعرف الصفات أو الفضائل الإنسانية في إنسان إلا من كان له صديقًا صدوقًا، وأمكنه أن يطلع على دخائل قلبه ومكامن نفسه. أما العدو فلا يرى في عدوه إلا عكس هذه الصفات، كما أن من يعرفك معرفة سطحية لا يرى فيك إلا الصفات السطحية، فالحب إذن بصير «لا تخفى عليه خافية»، ولو أنه لا يهتم لدقائق السطحية التافهة.

لقد امتزج سعد ومصطفى بالروح، وتحابَّا أصدق الحب بالتماثل والتناسب، وأخلص كلاهما إلى الآخر أسمى الإخلاص؛ لأنه الإخلاص المنزَّه عن المصلحة، المطهر من شوائب الغرض والمنفعة، فانتهى ذلك الدور من حياتهما، وسعد زعيم الثورة ومصطفى وقَّادُها، كلما طلبت غذاء التمَسَه لها واحتَطَبه من أجلها؛ بل انتهى ذلك الدور وهما مشتركان في الألم والنفي والعذاب؛ ليتم لهما النصر فيشتركا في تنظيم الفوز، واستثمار النجاح، وإقامة القواعد في الدور التالي لحياة جديدة، هي حياة الديمقراطية والدستور، يقيمان لها العُمُد، ويرفعان الدعامات، وينهضان بالصرح والبنيان.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤