الفصل الثامن عشر

الفصل بين البحتري وشوقي

رأينا كيف وصف البحتري ما رآه في الإيوان من رسم المواقعة بين الفرس والروم، ونذكر الآن أنه انتقل من ذلك الوصف إلى الحديث عن تلك الكأس الروية التي اصطبح بها في الإيوان، فقال:

قَدْ سَقَاني وَلَمْ يُصَرِّدْ أَبو الْغَوْ
ثِ عَلَى الْعَسْكَرَيْنِ شَرْبَةَ خَلْسِ
مِنْ مُدَامٍ تَقُولُهَا هِيَ نَجْمٌ
أَضْوَأ اللَّيْلِ، أَوْ مُجَاجَةُ شَمْسِ
وتراها إذا أجَدَّت سُرورًا
وَارْتياحًا لِلشَّارِبِ المتَحَسِّي
أُفْرِغَتْ في الزُّجَاجِ مِنْ كُلِّ قَلْبٍ
فَهي مَحْبُوبةٌ إلى كُلّ نفْس
وَتَوَهَّمْتُ أَنَّ كِسْرَى إِبَرْويـ
ـزَ مُعاطِيَّ وَالْبَلَهْبَذُ أُنْسي
حُلُمٌ مُطْبِقٌ عَلَى الشَّكٌّ عَيْني
أَمْ أَمانٍ غَيَّرْنَ ظَنِّي وَحَدْسِي

وهذه القطعة لا تجد ما يقابلها في سينية شوقي؛ لأن صاحب الشوقيات لم يزر أطلال الحمراء؛ ليغرق همومه هناك في أكواب الشمول، كما فعل البحتري وهو يزور الإيوان، فكان لنا أن ندرس هذه الأبيات على سبيل الاستطراد، إذ لا تقتضيها الموازنة، ولا يدعو إليها التفضيل، ونحن نستملح قوله:

مِنْ مُدَامٍ تَقُولُهَا هِيَ نَجْمٌ
أَضْوَأ اللَّيْلِ، أَوْ مُجَاجَةُ شَمْسِ

ووصف الخمر بمجاجة الشمس فيه شيء من روعة الخيال، وعجز هذا البيت يشفع لصدره، وقد تدخل اللفظة في شفاعة اللفظات، ويمر البيت في خلال الأبيات، كما يقول صاحب زهر الآداب، وكذلك نستجيد قوله في وصف تلك الصهباء:

وتراها إذا أجَدَّت سرورًا
وارتياحًا للشارب المتحسّي
أُفْرِغَتْ في الزُّجَاجِ مِنْ كُلِّ قَلْبٍ
فَهي مَحْبُوبةٌ إلى كُلّ نفْس

ولك أن تتأمل كيف يرنو الشارب المتحسي إلى المدام، ثم يخالها أفرغت في الزجاج من كل قلب! ولا تنس أنه يقول: (من كل قلب) وأنها لذلك (محبوبة إلى كل نفس)، فإن لهذا الشمول والتعميم معنى يروع أصحاب الأذواق من علماء المعاني. وانظر كيف دارت الخمر بعد ذلك برأس البحتري فتوهم — ومن ذا الذي لا يتوهم وهو في مثل حاله! — أن كسرى نديمه، والبلهبذ أنيسه، وكيف ثاب إلى رشده، وأخذ يفكر أهو في حلم أطبق عينيه على الشك، أم هي أمان غيرن ظنه وحدسه! وفي هذا الترديد ما فيه من تمثيل الحيرة والارتياب في رأس المتعقل النشوان.

ثم عاد إلى وصف الإيوان فقال:

وَكَأَنَّ الإِيوانَ مِنْ عَجَبِ الصَّنْـ
ـعَة جَوْبٌ في جَنْبِ أَرْغَنَ جلْس
يَتَظَنَّى مِنَ الكآبَة أَنْ يَبْـ
ـدُو لِعيْنَيْ مُصبِّحٍ أو مُمَسِّي
مُزْعَجًا بِالْفِراقِ عَنْ أُنْسِ إِلْف
عَزَّ أوْ مُرْهَقًا بتَطْليق عِرْسِ
عكَسَتْ حَظَّهُ اللّيالي وَباتَ الـ
ـمُشتَرِي فيهِ وَهو كوْكبُ نَحسِ
فَهوَ يبْدِي تَجَلُّدًا وَعَلَيْهِ
كَلَّكلٌ مِنْ كَلاَكِلِ الدَّهْرِ مُرْسِي
لمْ يَعِبْهُ أنْ بُزّ مِنْ بُسُطِ الدّيـ
ـباجِ وَاستُلّ من سُتورِ الدِّمَقْسِ
مُشْمَخِرٍّ تَعْلُو لَهُ شُرُفَاتٌ
رُفِعَتْ في رُءوس رَضْوى وَقُدْسِ
لابسَاتٌ من البَيَاضِ فَمَا تُبْـ
ـصِرُ منها إلاّ غَلائلَ بُرْسِ
لَيسَ يُدرَى أصُنْعُ إنْسٍ لجنٍّ
سَكَنوهُ أمْ صُنعُ جنٍّ لإنْسِ
غَيرَ أنّي أرَاهُ يَشْهَدُ أنْ لَمْ
يَكُ بَانيهِ في المُلُوكِ بنِكْسِ

وفي هذه القطعة نجد البحتري يتمثل الإيوان في صورة المحب أترعت الليالي كأسه بأنس أليفه، ثم أزعجته بالفراق والعروس أصفاه الدهر حلاوة الوصل، ثم أرهقه بالطلاق، ويراه يتظنى من الكآبة أن يبدو لعيني من يطالعه عند الصباح، أو عند المساء، وكيف لا يكون كذلك وقد عكست حظه الليالي، فأصبح مثار الشجى، ومبعث الأسى، بعد أن كان من مرابع الغزلان، وملاعب الحور الحسان!! وانظر كيف يقول:

فَهوَ يبْدِي تَجَلُّدًا وَعَلَيْهِ
كَلَّكلٌ مِنْ كَلاَكِلِ الدَّهْرِ مُرْسِي

وفي هذا البيت صورة رائعة لذلك الإيوان الذي صوره البحتري «كائنًا حيًّا» أناخ الدهر عليه بكلكله، فأراه كيف تكون مضاضة الذل بعد نضارة العز، وكيف يكون العدم بعد الوجود. وللشاعر في الديار الخالية وقفات تبعث ميت الوجد، وتثير دفين الإحساس، فإن كانت في ريب من ذلك فحدثني أي شيطان، أو أي ملاك، أوحى إلى البحتري: أن الإيوان أصبح — وقد استُلت ستور الدمقس وبسط الديباج — شبيهًا بالغادة الحسناء نزع عنها البؤس ما كانت تملك من الثياب، فأضحت متجردة تدعوك إلى الرحمة حينًا وتعريك بالفتون أحيانًا؟ ونحن نعيذ القارئ أن يرمينا بالغلو والإسراف، فهذا والله ما نفهمه من قول البحتري:

لمْ يَعِبْهُ أنْ بُزّ منْ بُسُطِ الدّيـ
ـباجِ وَاستُلّ من سُتورِ الدِّمَقْسِ

وكذلك نزع الدهر ما كان بالإيوان من عارض التهاويل، وخلاه كالعادة المتجردة لا تدري أكان تجردها من قسوة الفقر، أم من سكر الدلال … وما نريد أن نزيد! وللقارئ أن يتأمل حسن الأداء في قوله:

عكَسَتْ حَظَّهُ اللّيالي وَباتَ الـ
ـمُشتَرِي فيهِ وَهو كوْكبُ نَحسِ

فإنه لم يقل: «بات المشتري فيه كوكب نحس»، وإنما قال: «بات المشتري فيه، وهو كوكب نحس». وكلمة: «وهو» لها ما لها من الفضل في تأكيد المعنى وتقريره، عند علماء المعاني … وكذلك قوله فيما صارت إليه شرفات الإيوان:

لابسَاتٌ من البَيَاضِ فَمَا تُبْـ
ـصِرُ منها إلاّ فَلائلَ بُرْسِ

فإن كلمة «من» لها هنا موقع جميل، وهي أدل على التقليل من التنوين! … أما قوله:

لَيسَ يُدرَى أصُنْعُ إنْسٍ لجنٍّ
سَكَنوهُ أمْ صُنعُ جنٍّ لإنْسِ

فهو من عيون هذه القصيدة، والعرب ينسبون إلى الجن صنع كل عجيب، وهي خرافة قديمة، تزخر بها الأساطير، وهي كذلك مورد من موارد الخيال — وكان من المستهجن أن يعقب البحتري هذا البيت الفرد بقوله:

غَيرَ أنّي أرَاهُ يَشْهَدُ أنْ لَمْ
يَكُ بَانيهِ في المُلُوكِ بنِكْسِ

وهو بيت ضعيف بينه وبين سابقه بون بعيد … وقد عاد إلى وصف ما في الإيوان، فقال:

فَكَأنّي أرَى المَرَاتبَ والقَوْ
مَ، إذا ما بَلَغتُ آخرَ حسّي
وَكَأنّ الوُفُودَ ضاحينَ حَسرَى
من وقُوفٍ خَلفَ الزِّحامِ وَخُنْسِ
وَكأنّ القِيَانَ، وَسْطَ المَقَا
صِيرِ، يُرَجّحْنَ بينَ حُوٍّ وَلُعسِ
وَكَأنّ اللّقَاءَ أوّلُ مِنْ أمْـ
ـسِ، وَوَشْكَ الفرَاقِ أوّلُ أمْسِ
وَكَأنّ الذي يُرِيدُ اتّبَاعًا
طامعٌ في لُحوقهمْ صُبحَ خمسِ
عَمَرَتْ للسّرُورِ دَهْرًا، فصَارَتْ
للتّعَزّي رِبَاعُهُمْ، وَالتّأسّي
فَلَهَا أنْ أُعِينَهَا بدُمُوعٍ،
مُوقَفَاتٍ عَلى الصَّبَابَةِ، حُبْسِ

ولهذه الأبيات روعة يحسها من شهد من التصوير الصادق مثل ما شهد البحتري في أعطاف الإيوان. والبحتري بهذا الوصف فنان، يقول على علم ويعرف ما يعني، ولك أن تتأمل كلمة «كأن» موقعها الجميل في قوله:

وَكَأنّ الوُفُودَ ضاحينَ حَسرَى
من وقُوفٍ خَلفَ الزِّحامِ وَخُنْسِ

وقوله:

وَكأنّ القِيَانَ، وَسْطَ المَقَا
صِيرِ، يُرَجّعنَ بينَ حُوٍّ وَلُعسِ

وقوله:

وَكَأنّ اللّقَاءَ أوّلُ مِنْ أمْـ
ـسِ، وَوَشْكَ الفرَاقِ أوّلُ أمْسِ

وقد دللت القارئ على مواطن الحسن في هذه القصيدة، فلينهل بعد ذلك من رحيقها كما يشاء.

نفثة شوقي

أما شوقي فقد أخذ يبكي الحمراء بعد وصفها فقال:

مَنْ لِحمراءَ جُلَّلَت بِغُبَار
الدهرِ كَالجُرحِ بَيْنَ بُرْءٍ وَنُكْسِ
كَسنَا البَرقِ لو مَحَا الضَّوءُ لَحْظًا
لَمَحَتْها العُيُون مِن طُول قَبسِ
حِصنً غِرنَاطَة وَدَارُ بَنِي اْلأحْمَرِ
مِن غَافِلٍ ويَقَظَان نَدْسِ
جَللَ الثَّلج دُونَهَا رَأسَ شِيرى
فَبَدَا مِنْه في عَصَائِب بِرْسِ
سَرْمدٌ شَيْبُه ولَم أرَ شيبًا
قَبْلَه يُرجئ البَقَاء ويُنْسِي
مَشَت الحَادِثَات في غُرَف الحَمْـ (الحمراء)
ـرَاء مَشْي النَّعِيِّ في دَار عُرسِ
هَتَكت عِزَّة الحِجَاب وَفَضَّت
سُدَّة البَاب مِنْ سَميرٍ وأُنسِ
عَرَصَاتٌ تَخَلَّت الخَيْل عَنْهَا
واسْتَرَاحَت مِن احتِرَاسٍ وعَسِ
ومَغَان عَلَى الليَالي وِضَاءٌ
لَم تَجِد لِلعَشِيِّ تَكْرَار مَسِّ
لا تَرَى غَيْر وَافِدينَ على التَّاريخ
سَاعِين في خُشُوعٍ وَنَكسِ
نَقَّلوا الطَّرْف في نَضَارَة آسٍ
مِن نُقُوش وَفي عُصَارة وَرْسِ
وَقِبَابٍ من لاَزَوَرْد وَتِبْرٍ
كالرُّبا الشُّمَّ بَيْنَ ظلٍّ وشَمسِ
وخُطُوط تَكَفَّلَت لِلمَعَانِي
ولأَلفَاظِهَا بِأَّزْيَن لُبسِ
وَتَرَى مَجْلِس السِّبَاع خَلاءً
مُقْفر القَاع مِن ظِباءٍ وخُنسِ
لا الثُّرَيَّا ولا جَوارِي الثُّرَيَّا
يَتَنَزَّلن فِيه أَقْمار أُنسِ
مَرْمرٌ قَامَت الأُسُود عَلَيْه
كَلَّةَ الظفْر لَيِّنَات المجَسِ
تَنْثُر المَاء في الحِيَاض جُمَانًا
يَتنَزَّى عَلَى تَرَائِب مُلْسِ

وفي هذه الكلمة نرى شوقي يتمثل الحمراء، وهي مجللة بغبار الدهر، وهذا خيال رائع، ولكنه ليس بكثير على شوقي، فقد ألف الحديث عن أسرار الحياة وطبائع الوجود، وكلف منذ بعيد بالإبانة عن عدوان الحوادث، والإفصاح عن عسف الخطوب، ويكاد يستنطق الموت، وهو يتحدث عن مصير من استراحوا من دار الختل والنفاق … وانظر كيف يذكر أن الحمراء أصبحت كالجرح بين برء ونكس، وهذا أصدق تصوير لذلك الأثر الذي يحج إليه أحفاد بأنه، فبعدونه ويمنونه، لو تنفع الأماني، أو تصدق الوعود، ومن ذا الذي الذي لم يفكر في نكبة الحمراء، ولم يتمن لو يصبح وهو خليفة ابن زياد؟ ولكن أين فتوة العرب؟ وأين شباب الزمان؟

وللقارئ أن يتصور كيف مشت الحادثات في غرف الحمراء مشي النعي في دار عرس، فهذا أيضًا خيال رائع، وهو مأخوذ من قول أبي نواس:

فَتَمَشَّت في مَفَاصِلِهِم
كتَمَشَي البُرْءِ في السَقم

ما لنا ولهذا التكلف؟ فقد ذكر النقاد أن أبا نواس كذلك مسبوق، على أن تشبيه هتك الحوادث لأستار الحمراء بهتك النعي لدار العرس، أروع من تشبيه أثر خمر في مفاصل الندامى بأثر البرء في جسم السقيم، وقول شوقي:

مَشَت الحَادِثَات في غُرَف الحَمْـ (الحمراء)
ـرَاء مَشْي النَّعِيِّ في دَار عُرسِ
هَتَكت عِزَّة الحِجَاب وَفَضَّت
سُدَّة البَاب مِنْ سَميرٍ وأُنسِ

فيه روعة، وفيه جلال، فهو يصور بطش الحوادث بالحمراء، ويصور مع هذا ما كان للحمراء من عزة وسلطان … أما قوله:

وَتَرَى مَجْلِس السِّبَاع خَلاءً
مُقْفر القَاع مِن ظِباءٍ وخُنسِ
لا الثُّرَيَّا ولا جَوارِي الثُّرَيَّا
يَتَنَزَّلن فِيه أَقْمار أُنسِ

فهو وصف انفرد به، ولم يعرض لمثله البحتري، وكان عجبًا أن يغفل عن إيراده، فإن القصور الخالية تذكر الإنسان فيما تذكر بمن كان يرتع فيها ويلعب، من كل ممشوقة القد، مجدولة الخلق، مصقولة الجبين.

خروج العرب من الجنة

وقد انفرد شوقي كذلك بالحديث عن خروج العرب من الجنة، ولا أعبر بغير ذلك، فقد كان شعراء الأندلس يتغنون بذلك الفردوس، ويرونه حسبهم من نعم الآخرة والأولى، ولقد نظر شوقي إلى خروجهم نظرة مملوءة بالدمع حين قال:

آخَرَ العَهدِ بِالجَزيرَةِ كانَت
بَعدَ عَركٍ مِنَ الزَمانِ وَضَرسِ
فَتَراها تَقولُ رايَةُ جَيشٍ
بادَ بِالأَمسِ بَينَ أَسرٍ وَحَسِّ
وَمَفاتيحُها مَقاليدُ مُلكٍ
باعَها الوارِثُ المُضيعُ بِبَخسِ
خَرَجَ القَومُ في كَتائِبَ صُمٍّ
عَن حِفاظٍ كَمَوكِبِ الدَفنِ خُرسِ
رَكِبوا بِالبِحارِ نَعشًا وَكانَت
تَحتَ آبائِهِم هِيَ العَرشُ أَمسِ
رُبَّ بانٍ لِهادِمٍ وَجَموعٍ
لِمُشِتٍّ وَمُحسِنٍ لِمُخِسِّ
إِمرَةُ الناسِ هِمَّةٌ لا تَأَنّى
لِجَبانٍ وَلا تَسَنّى لِجِبسِ
وَإِذا ما أَصابَ بُنيانَ قَومٍ
وَهيُ خُلقٍ فَإِنَّهُ وَهيُ أُسِّ

ومع أن شوقي أشار كما ترى في هذه الأبيات إلى أن ضعف العرب في أخريات أيامهم كان السبب في خروجهم من تلك البلاد، إذ كانت إمرة الناس لا تتسنى لجبس، ولا تتأتى لجبان، فقد أشار كذلك برفق إلى أن عهدهم لم ينقض إلا بعد عرك من الزمان وضرس. والحق أن فتح العرب للأندلس كان من الأحداث الخطيرة، وكان من الطبيعي أن تدور عليهم الدائرة، وأن يحل بهم ما حل بالفرس والروم. ولا تذكر ما شب في صدورهم من نار العداوة والبغضاء، ولا ما شجر بينهم على الملك من خلاف، ولا ما انغمسوا فيه من اللذات والشهوات، ولكن اذكر أنهم كانوا يحتلون بلادًا لا زال أهلها يفكرون في الحرية ويحلمون بالاستقلال، والأمة الضعيفة لا تضرب عليها الذلة والمسكنة أبد الآبدين، كما يتوهم الفاتحون، وإنما يظل ضعفها يفتك بالغاصبين في خفاء، كما تفتك على ضعفها الجراثيم، ثم ينتفض هذا الضعف فجأة، فإذا هو قوة جارفة تسقط من بأسها الممالك، وتطيح من هولها العروش. فإن كنت في ريب من ذلك فحدثني ماذا صنع العرب بالشعوب التي ملكوها باسم الدين! ألم تثأر تلك الشعوب لنفسها من الدين؟ ألم يهجموا عليه بجيش من الوساوس والخرافات والأضاليل والأباطيل حتى صيروه كالخرقة البالية لا تصلح لزينة، ولا ستر ولا وقاية؟ اسمع يا صاح! القوة هي كل شيء في الوجود، والقوة فوق الحق، فإن أردت أن تحيا فتسلح لهذه الحياة، والقوة هي السلاح، ومن قال بغير ذلك فهو في حاجة إلى استشارة الطبيب!

وكذلك كان العرب، فلقد ركبوا البحر وهم أقوياء، فكان عرشًا، وركبوه وهم ضعفاء فكان نعشًا، وما تغير البحر، ولكن تغير الناس، ركبوه أول مرة وهم فاتحون، ثم ركبوه آخر مرة وهم هاربون، وما أبعد الفرق بين الفتح والفرار!

ثم قال شوقي في توديع تلك الديار:

يا دِيارًا نَزَلتُ كَالخُلدِ ظِلًّا
وَجَنىً دانِيًا وَسَلسالَ أُنسِ
مُحسِناتِ الفُصولِ لا ناجِرٌ فيـ
ـها بِقَيظٍ وَلا جُمادى بِقَرسِ
لا تَحِشَّ العُيونُ فَوقَ رُباها
غَيرَ حورٍ حُوِّ المَراشِفِ لُعسِ
كُسِيَت أَفرُخي بِظِلِّكِ ريشًا
وَرَبا في رُباكِ وَاِشتَدَّ غَرسي
هُم بَنو مِصرَ لا الجَميلُ لَدَيهِمُ
بِمُضاعٍ وَلا الصَنيعُ بِمَنسي
مِن لِسانٍ عَلى ثَنائِكِ وَقفٌ
وَجَنانٍ عَلى وَلائِكِ حَبسِ
حَسبُهُم هَذِاِ الطَّلولَّ عِظاتٍ
مِن جَديدٍ عَلى الدُهورِ وَدَرسِ
وَإِذا فاتَكَ اِلتِفاتٌ إِلى الما
ضي فَقَد غابَ عَنكَ وَجهُ التَأَسّي

وما أريد الخوض في تحليل هذه الأبيات، فقد طال الحديث، إنما أذكر أننا غنمنا هذه القصيدة من حياة شوقي في الأندلس، وغنمنا معها «قطعة خشب» من قصر الحمراء تجدها في متحف الشاب المهذب حسين شوقي، ويا ليتنا نحرص على ما بقي في أيدينا من ملك العرب والمسلمين …!

•••

وسيذكر القارئ بعد هذا كله أني أوازن بين البحتري وشوقي، وسيسأل أيهما أشعر؟ وأنا أرجوه أن يراجع الموازنة ليحكم بما يشاء.

أما أنا فقد حكمت، والسلام١.
١  بمناسبة سينية البحتري يحسن أن نشير إلى أن الشاعر محمد الهراوي وضع قصيدة سينية عن أبي الهول كان فيها معنى المعارضة للبحتري، وإن لم يقل ذلك، وهي قصيدة جيدة، نختار منها قوله:
نسي الناس يا أبا الهول أنا
أمة كالحديد صلب المجسِّ
لم يعبنا أنا بلتنا شعوب
وبلّوْنا الشعوب من كل جنس
كل من ساءنا أذقناه سوءًا
بيد الله كل كأس بكأس
فاسألوا الروم ما دهى الروم فينا
واسألوا الفرس عن مصاب الفرس
أمم تلك ذات ناب وضرس
قد مضغنا ما بين ناب وضرس
فنيت كلها نحن بقينا
من حمى الله في حظيرة قدس
وللهراوي قصيدة أخرى سينية هي بلا شك من وحي البحتري، وهي قصيدته التي وقف بها على دار الشيخ محمد عبده في عين شمس، وكان من الحتم أن نشير إلى ذلك لنبين كيف سرت أنفاس البحتري إلى شعراء هذا الجيل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤