الفصل السادس والعشرون

نفحة من الأدب الأندلسي

نقدنا في البحث الماضي قصيدة أبي نواس في مدح الخصيب، ورأينا مبلغه من الصدق حين ظنها كعصا موسى تلقف ما يأفكون، ولم يبق إلا أن نوازن بينها وبين قصيدة ابن درَّاج الذي أوصاه أميره بمعارضة أبي نواس، ولكنا رأينا أن نقف وقفة قصيرة عند رغبة المنصور بن أبي عامر في أن يظهر شاعره على شاعر الرشيد، فقد كانت هناك منافسة شديدة بين رجال المشرق ورجال المغرب في الأدب والفلسفة والتشريع، وكان لأهل الأندلس كلف شديد بالظهور على أهل المشرٌ، وكان لابن دراج هذا ولع عجيب بسبق من نبغ من الشعراء في مصر والشام والعراق، وسنرى كيف بذَّ أبا نواس وبرعه حين نضع قصيدته في الميزان، وكان من أثر ذلك التنافس أن عُقدت المفاضلات بين الكتاب والشعراء والمؤلفين: فازداد قادة الفكر قوة إلى قوة ونشاطًا إلى نشاط، وتقدم النقد تقدمًا ظهرت ثمرته فيما كان يعني به العرب إذ ذاك من العلوم والفنون.

وهذه رسالة أبي الوليد الشقندي — التي وضعها في تفضيل بَرَ الأندلس على بر العَدوة، والتي أثبتها المقرِيّ — طيب الله ثراه — في نفح الطيب — تدل على رغبة الأندلسيين في الظهور على من عداهم من العالمين، وإني لذاكر ما جاء عن الشعر والشعراء، لأضع يد القارئ على أثر هو في جملته ثمرة لما كان من التنافس بين قرطبة وبغداد، ولأنشر له صفحة من صحف النقد والمفاضلة تتمثل فيها عبقرية العرب في ذلك الفردوس المفقود١.
قال الشقندي بعد كلام طويل:

وهل لكم في الشعر ملك مثل المعتمد بن عباد في قوله:

ولَيلٍ بِسدِّ النَّهر أُنسا قَطَعتُه
بِذّات سِوار مِثل مُنعطف النّهر
نضت بُردَهَا عَن غًصن بَانٍ مُنعّمٍ
فَياحُسن ما انشقّ الكمام عن الزّهر

وقوله في أبيه:

سّمّيذّعٌ يَهَب الآلاف مُبتّدِئًا
وبّعْد ذلِك يُلفَى وهو يعتذر
له يَدٌ كُلُّ جَبَّارٍ يُقَبِّلُهَا
لَولا ندَهَا لَقلنَا إنَّهَا الحجر

ومثل ابنه الرضي في قوله:

مَرُّوا بِنَا أُصلًا مِنْ غَيرِ مِيعَادِ
فأوقَدُوا نار قلبي أيَّ إِيقَادِ
لا غروَ إن زَادَ في وَجدِي مُرُوُرُهمو
فَرُؤية المَاء تُذْكي غٌلَّة الصّادي

وهل لكم ملك ألف في فنون الأدب كتابًا في نحو مئة مجلدة مثل المظفر بن الأفطس ملك بطليوس، ولم تشغله الحروب ولا المملكة عن همة الأدب؟ وهل لكم من الوزراء مثل ابن عمار في قصيدته التي سارت أشرد من مثل، وأحب إلى الأسماع من حبيب وصل، التي منها:

أَثْمَرْتَ رُمْحَكَ مِنْ رُءُوسِ مُلُوكَهُمْ
لَمَّا رَأَيْتَ الغُصْنَ يُعْشَقُ مُثْمِرَا
وَصَبَغْتَ دِرْعَكَ مِنْ دِمَاءِ كُمانِهِمْ
لَمَّا رَأَيْتَ الحُسْنَ يُلْبَسُ أَحْمَرَا
ومثل ابن زيدون في قصيدته التي لم يُقل — مع طولها — أرق منها في التشبيب، وهي التي يقول فيها٢:
كأنّنَا لَم نَبِتْ والوَصلُ ثَالثُنَا
وَالسَّعدُ قَدْ غَضَّ مِن أجفَانِ وَاسِينَا
سِرّانِ في خاطِرِ الظّلمَاءِ يَكتُمُنَا
حَتى يَكَادَ لِسَانُ الصُّبحِ يٌفشِينَا

وهل لكم من الشعراء مثل ابن وهبون في بديهته بين يدي المعتمد بن عباد، وإصابته الغرض حين استحسن المعتمد قول المتنبي:

إذَا ظَفِرَتْ منكِ العُيُونُ بنَظَرَةٍ
أثَابَ بِهَا مُعيي المَطِيّ ورَازِمُهْ

فارتجل:

لَئِن جَاد شِعْر ابن الحسين فَإِنَّمَا
تُجِيد العَطَايا واللُّهَا تُفتَح اللَّها
تَنَبَّأ عُجبًا بِالقَريض ولَو دَرَى
بَأنَّك تَروي شِعرَه لَتَألَّهَا

وهل لكم مثل شاعر الأندلس ابن دراج الذي قال فيه الثعالبي: هو بالصقع الأندلسي كالمتنبي بصقع الشام، الذي إن مدح الملوك قال قوله:

ألَم تعلَمِي أنَّ الثَوَاء هُو التَّوَى٣
وأنَّ بُيُوتَ العَاجِزِينَ قُبُورُ
وأنَّ خَطِيرَات المَهَالِك ضُمَّنٌ
لِرَاكِبِهَا أنَّ الجَزَاءَ خَطِير
تُخَوِّفُني طُول السِّفَار وإِنَّه
بِتَقبِيل كَفِّ العَامِرِيّ جَدِير
مُجِير الهُدَى والدِّين من كُلِّ مُلحِدٍ
ولَيس عَلَيه للِضَّلاَل مُجير٤

وإن ذكر الغربة عن الأوطان، ومكابدة نوائب الزمان، قال:

قَالَتْ وقَد مَزَج الفِرَاق مَدَامِعًا
بِمَدَامعٍ وَتَرَائِبًا بِتَرَائِب:
أتَفّرُّقٌ حَتى بِمَنزل غُربَة
كَم نَحْن لِلأيَّام نُهبَة نَاهِب
وَلَئِن جَنَيت عَلَيك تَرحَة رَاحِلٍ
فأنَا الزَّعِيم لَهَا بفرحَة آئِب
هَل أبصَرت عَينَاكِ بَدرًا طَالِعًا
في الأفقِ إلَّاّ مِن هِلاَلٍ غَارِب

وإن شبّه قال:

لِمَعَاقِلٍ مِن سَوسَنٍ قَد شَيَّدَت
أَيدِي الرّبِيع بِنَاءَهَا فَوق القُضُب
شُرُفَاتُهَا مِن فِضَّة وحُمَاتُهَا
حَول الأمِير لَهُم سُيُوفٌ مِن ذَهَب

وهل من شعرائكم من تعرض لذكر العفة: فاستنبط ما يسحر به السحر، ويطيب به الزهر، وهو أبو عمرو بن فرج في قوله:

وَطَائِعَة الوِصَال عَفَفت عَنهَا
ومَا الشَّيطَان فِيهَا بِالمُطَاع
بَدَت في اللَّيل سَافِرَةً فَبَاتَت
دَيَاجِي اللَّيْل سَافِرة القِنَاع
ومَا مِن لَحظَةٍ إلَّاّ وفِيهَا
إلَى فِتَن القُلُوب لَهَا دَوَاعِي
فَمَلَّكت النُّهَى حُجَّاب شَوقِي
لِأجرِي بِالعَفَاف عَلَى طِبَاعِي
وبتُّ بِهَا مَبِيت السَّقب يَظمَا
فَيمتَعُه العُكَام مِن الرَّضَاع٥
كَذَاك الرَّوضُ مَا فِيه لِمِثلِي
سِوَى نَظَر وَشَمٍّ مِن مَتَاع
وَلَست مِن السّوَائم مُهمَلات
فأتَّخِذ الرِّيَاض مِن المَرَاعِي

وهل بلغ أحد من مشبهي شعرائكم أن يقول مثل قول أبي جعفر اللماي:

عَارِضٌ أقبَل في جُنح الدُّجَى
يَتَهَادَى كَتَهَادِي ذِي الوَجَى
بَدَّدَت رِيح الصَّبَا لُؤلُؤَه
فَانَبرَى يُوقِد عَنه سُرُجَا

ومثل قول أبي حفص بن برد:

وكَأَنَّ اللَّيل حِين لَوَى
ذَاهِبًا والصُّبح قَد لاَحَا
كِلَّةُ سَودَاء أحرَقَهَا
عَامِدٌ أسرَج مِصباحا

وهل منكم من وصف ما تحدثه الخمرة، من الحمرة على الوجنة، بمثل قول الشريف الطليق:

أصبَحَت شَمسًا وفُوه مَغرِبًا
وَيَد السّاقي المُحَيِّي مَشرقَا
وَإذَا مَا غَرَبَت في فَمِه
تَرَكَت في الخَدِّ مِنه شَفَقَا

بمثل هذا الشعر فليطلق اللسان، ويفخر على كل إنسان.

وهل منكم من عمد إلى قول امرئ القيس:

سَمَوت إِلَيهَا بَعْد مَا نَام أَهلُهَا
سُمُوَّ حَبَاب المَاءِ حَالًا عَلَى حَال

فاختلسه اختلاس النسيم لنفحة الأزهار، واستلبه بلطفٍ استلاب ثغر الشمس لرضاب طل الأسحار، فلطفه تلطيفًا يمتزج بالأرواح، ويغني في الارتياح عن شراب الراح وهو ابن شهيد في قوله:

وَلَمّا تمَلَأّ مِن سُكرِه
وَنَام وَنَامَت عُيُون الحَرَس
دَنَوت إلَيه عَلَى رِقبَةٍ
دُنُوَّ رَفِيقٍ دَرَى مَا التَمس
أدِبُّ إلَيه دَبِيب الكَرَى
وَأَسمو إِليه سُمُوَّ النَّفَس
أقَبِّل مِنه بَيَاض الطَّلَى
وَأَرشُف منه سَوَاد اللَّعَس
فَبِتُّ بِه لَيلَتي نَاعِمًا
إلى أَنْ تَبَسَّم ثَغْر الغَلَس

وقد تناول هذا المعنى ابن أبي ربيعة على عظم قدره وتقدمه فعارض الصهيل بالنهاق، وقابل العذب بالزعاق، فقال وليته سكت:

ونَفَّضْتُ عَنِّي النَّوم أقبلتْ مِشيَةَ الـ
ـحُبَاب ورُكنِي خِيفَةَ القَوْم أَزْوَر

وأنا أقسم لو زار جملٌ محبوبة له لكان ألطف في الزيارة من هذا الأزور الركن المنفض للعيون، لكنه إن أساء هنا فقد أحسن في قوله:

قَالَت لَقَد أعْيَيْتَنَا حِجَّة
فَأْتِ إِذَا مَا هَجَع السّاهِر
وَاسْقُط عَلَيْنَا كَسُقُوط النَّدَى
لَيْلَة لا ناهٍ وَلا زَاجِر

ولله در محمد بن سفر أحد شعرائنا المتأخرين عصرًا المتقدمين قدرًا، حيث نقل السعي إلى محبوبته فقال: وليته لم يزل يقول مثل هذا، فبمثله ينبغي أن يًتكلم، ومثله يليق أن يدون:

ووَاعَدتُهَا وَالشَّمْس تَجْنَح لِلنَّوى
بِزَورَتِها شَمسًا وَبَدر الدُّجَى يَسري
فَجَاءَت كَما يَمشِي سَنَا الصُّبْح في الدُّجى
وَطَورًا كَما مَرَّ النسيم علَى النَّهر
فَعَطَّرت الآفَاق حولِي فَأشعَرَت
بِمَقدَمِهَا والعَرف يُشعِر بِالزَّهر
فَتَابَعت بِالتَقبِيل آثارَ سَعيِهَا
كَمَا يَتَقصَّى قَارِئٌ أَحرُف السَّطْر
فَبٍتّ بِهَا وَالليل قدْ نَام والهَوَى
تَنَبَّه بَين الغُصن والحِقْف والبَدْر
أعَانِقُهَا طَورًا وأَلثَم تَارَةً
إلى أَن دَعَتنا لِلنَّوى رَايَة الفَجر
فَفَضَّت عُقُودًا لِلتَّعَانُق بَيْنَنَا
فَيَا لَيلَة القَدْر اترُكِي سَاعَة النَّفْر

وهل منكم من قُيِّد بالإحسان فأطلق لسانه الشكر، فقال — وهو ابن اللبانة:

بنَفسِي وَأهلِي جيرَةٌ مَا استَعَنتُهُم
عَلَى الدَّهرِ إلَّا وانثَنَيْت مُعَانا
أرَاشُوا جَنَاحِي ثُمَّ بَلُّوه بِالنَّدَى
فَلَم أستَطِع مِن أُرضِهِم طَيَرَانا

ومن يقول لقد قطع عنه ممدوحه ما كان يعتاده منه من الإحسان، فقابل ذلك بقطع مدحه له، فبلغه أنه عتبه على ذلك، وهو ابن وضاح:

هَل كنْتُ إِلَّا طَائِرًا بِفَنَائِكُم
في دَوح مَجدِكُم أٌقُوم وَأَقعُد
إِن تَسْلُبٌونِي رِيشَكُم وَتُقَلِّصُوا
عَنّي ظِلاَلَكُم فَكَيْف أُغَرِّد

وهل منكم شاعرٌ رأى الناس قد ضجّوا من سماع تشبيه الثغر بالأقاح، وتشبيه الزهر بالنجوم، وتشبيه الخدود بالشقائق، فتلطف لذلك في أن يأتي به في منزع يصير خلقه في الأسماع جديدًا، وكليله في الأفكار حديدًا، فأغرب أحسن إغراب، وأعرب عن فهمه بحسن تخيله أنبل إعراب، وهو ابن الزقاق:

وأغيَدٍ طَاف بِالكئوس ضُحًى
وَحَثَّهَا وَالصَّبَاح قَد وَضَحَا
والرَّوض أهدَى لَنَا شَقَائِقَه
وَآسُه العَنبَريُّ قَد نَفَحَا
قُلْنَا وَأيْن الأقَاحُ؟ قَال لَنَا:
أَودَعْتُه ثَغْر مِن سَقَى الُقَدَحَا
فَظَلَّ سَاقِي المُدَام يَجْحَد مَا
قَال فَلَمَّا تَبَسَّم افتَضَحا

وقال:

أدِيرَاهَا عَلَى الرَّوْض المُنَدَّى
وَحُكْم الصُّبح في الظَّلْمَاء مَاضِي
وَكَأس الرَّاح تَنْظُر عَنْ حَبَابٍ
يَنُوب لَنَا عَن الحَدَق المِراض
وَمَا غَرَبَت نُجُوم الْأُفْق لكِن
نُقلْن من السَّمَاء إلَى الرِّيَاض

وقال:

وريَاضٍ مِن الشَّقَائق أَضْحت
يَتهَادى بِهَا نَسيم الصَّبَاح
زُرتُهَا والغَمَام يَجْلد منْهَا
زَهَرَاتٍ تَرُوق لَوْن الرَّاح
قُلْتُ مَا ذَنْبُهَا؟ فَقَال مُجِيبا
سَرَقَت حُمْرَة الخُدُود المْلَاح

فانظر كيف زاحم بهذا الاختيال المخترعين وكيف سابق بهذا اللفظ المبتدعين، وهل منكم من برع في أوصاف الرياض والمياه؟ وما يتعلق بذلك فانتهى إلى غاية السباق، وفضح كل من طمع بعده في اللحاق، وهو أبو إسحاق بن خفاجة القائل:

وَعَشِيَّ أُنسٍ أَضجَعَتنِي نَشوَةٌ
فِيهَا يُمهَّد مَضجَعِي ويُدَمَّث
خَلَعَت عَلَيَّ بِهَا الأرَاكَة ظِلَّهَا
والغُصْن يُصغي والحَمَامُ يُحَدِّث
والشَّمس تَجنَح للِغُرُوب مَرِيضَةً
والرًّعْد يرقِي والغَمَامَة تَنفُث

والقائل:

لله نَهرٌ سَال في بَطحَاء
أشهَى وُرُودًا مِن لَمَى الحَسنَاء
مُتَعَطّفٌ مِثل السِّوَار كَأنَّه
والزَّهر يَكْنُفُه مَجَرُّ سَمَاء
قَد رَقَّ حَتَّى ظُنَّ قُرصًا مُفْرَغًا
مِن فِضَّةٍ في بُردَة خَضْرِاء
وَغَدَت تَحُفُّ بِه الغُصُون كَأنّها
هٌدبٌ تَحٌفً بِمُقلَةٍ زَرقاء
ولَطَالَمَا عَاطَيت فِيه مُدَامَةً
صَفرَاء تَخضِب أيدِي النُّدَمَاء
والرٍّيح تَعبَث بِالغُصُون وَقَد جَرَى
ذَهَب الأصِيل عَلى لُجَيْن الماء

والقائل:

حُثّ المُدَامَة والنَّسِيم عَلِيل
والظِّلُّ خَفَّاق الرِّوَاق ظَلِيل
والرَّوض مُهتَزَّ المَعَاطِف نَعمَةً
نَشوَان تَعطِفُه الصَّبَا فيَمِيل
رَيَّان فَضَّضَه النَّدَى ثُمّ انجَلَى
عَنه فَذَهَّب صَفحتَيه أصِيل

والقائل:

أذِن الغَمَام بِدِيمَةٍ وعُقَار
فامزُج لَجَينًا مِنهُما بِنُضَار
واربَع عَلَى حُكم الرَّبِيع بِأجرَعٍ
هَزِج النَّدَامَى مُفصِح الأَطيَار
مُتَقَسِّم الألحَاظِ بَين مَحَاسِنٍ
مِن رِدف رَابِيةٍ وخَصر قَرَار
نَثرَت بحِجر الرَّوض فِيه يَد الصَّبَا
دُرَر النَّدَى ودَرَاهِم الأنوَار
وهَفَت بتَغريِدٍ هُنَالِك أيكَةٌ
خَفَّاقةٌ بِمَهَبّ رِيح عَرَار
هَزَّت لَه أعطَافَهَا ولَرُبَّمَا
خَلَعَت عَلَيه مُلاَءَة النُّوّار

والقائل:

سَقَيًا لَها مِن بِطَاح خَزٍّ
وَدَوح نَهْرٍ بِهَا مُطِلّ
إذ لَا تَرَى غَير وَجه شَمسٍ
أطَلَّ فِيه عِذَار ظَلّ

والقائل:

نَهرٌ كَمَا سَال اللّمَى سَلسَال
وَصَبًا بِليلٌ ذَيلُهَا مِكسَال
ومَهَبّ نَفحَة رَوضَةٍ مَطلُولَةٍ
في جَانِبيَهَا لِلنّسِيم مَجَال
غَازَلتُهَا والأقحُوَانَة مَبسَمٌ
وَالآسُ صُدغٌ والبَنفسجُ خال

والقائل:

وَسَاقٍ كَحِيل اللَّحظِ في شَأو حُسنِه
جِمَاحٌ وبِالصَّبر الجَمِيل حِرَان
تَرَى للِصِّبا نَارًا بِخَدَّيه لَم يَثُر
لَهَا مِن سَوادي عَارضَيِه دُخان
سَقَاها وَقَد لَاح الهِلَال عَشِيَّةً
كَمَا اعوَجَّ في دِرع الكَميِّ سِنَان
عُقَارًا نَمَاها الكَرْمُ فَهِي كَرِيمَةٌ
ولَم تَزن بِابن المُزْن فَهْي حَصَان
وَقَد جَال مِن جَونِ الغَمَامَة أَدهَمٌ
لَه البَرق سَوطٌ والشَّتَان عِنَان
وضَمَّخ دِرع الشَّمس نَحر حَدِيقةٍ
عَلَيه مِن الطَّلِّ السقِيط جُمَان
وَنَمَّت بِأسرَار الرِّياض خَمِيلَةٌ
لَهَا النَّور ثَغرٌ والنَّسِيم لِسَان

والقائل:

وأَشْقَرٍ تَضرم مِنه الوَغَى
بِشُعلَةٍ مِنْ شُعَل البَاس
مِن جُلَّنَارٍ نَاضِرٍ لَونُه
وأُذنُه مِن وَرَق الآس
تَطلُع لِلغُرَّة في شُقرَةٍ
حَبَابَةً تَضحَك في كَاسٍ

وهل منكم من يقول منادمًا لنديمه وقد باكر روضًا بمحبوب وكأس، فألفاه قد غطَّى محاسنه ضباب، فخاف أن يكسل نديمه عن الوصول إذا رأى ذلك، وهو أبو الحسن بن بسام:

ألا بَادِر فَمَا ثَانٍ سِوى ما
عَهِدت الكَأسُ والبَدرُ التَّمَام
ولا تَكْسَل بِرؤيَتِه ضَبَابًا
تَغَصُّ بِه الحَدِيقَة والمُدَام
فَإنَّ الرّوْض مُلتَثمٌ إلَى أن
تُوَافَيِه فَيَنْحَطَّ اللِّثَام

وهل منكم من تغزل في غلام حائك بمثل قول الرصافي:

قَالُوا وَقَد أكثَرُوا في حُبِّه عَذَلِي:
لَو لَم تَهِم بِمُذَال القَدْر مُبتَذَل
فُقلت لَو كَان أَمرِي في الصَّبَابَة لي
لاختَرتُ ذَاك ولكِن لَيسَ ذلِك لي
عَلِّقتُه حَبِبِيَّ الثَّغَّر عَاطِرَه
حُلو اللَّمَى سَاحِر الأجفَان والمُقَل
غُزَيِّلٌ لَم تَزَل في الغَزِل جَائِلَةً
بَنَانُه جَوَلان الِفكر في الغَزَل
جَذلان تَلعَب بالمِسواك أنمُلُه
عَلَى السَّدى لَعِب الأيَّام بِالأجَل
ضَمِّا بكَفّيه أو فَحصًا بِأخمَصِه
تَخَبُّط الظَّبِي في أشرَاك مُحتَبِل

ومثل قوله في تغلب مسكة الظلام على خلوق الأصيل:

وعَشِيٍّ رَائِقٍ مَنظَرُه
قَد قَطَعنَاه عَلَى صِرف الشَّمُول
وَكَأنَّ الشَّمس في أثنَائِه
ألصَقَت بِالأرض خَدَّا للنُّزُول
والصَّبَا تَرفَع أذيَال الرُّبا
ومٌحَيَّا الجَوِّ كَالنَّهرِ الصَّقِيل
حَبَّذا مَنزِلُنَا مُغتَبَقًا
حَيثُ لا يَطرُقُنَا غَيرُ الهَدِيل

وهل منكم من وصف غلامًا جميل الصورة راقصًا بمثل قول ابن خروف:

ومٌنَزَّع الحَركَات يَلعَب بِالنُّهَى
لَبِس المَحَاسن عِند خَلع لبَاسه
مُتَأوّدًِّا كَالغُصن وَسْط رِيَاضِه
مُتَلاعِبًا كَالظَّبي عِند كِناسه
بِالعَقل يَلعَب مُدبِرًا أو مُقبِلًا
كَالدَّهر يَلعَب كيف شَاء بِنَاسِه
ويَضٌمٌّ لِلقَدَمَين مِنْه رَأسَه
كَالسَّيف ضُمّ ذبابُهُ لِرياسِه

وهل منكم من وصف خالًا بأحسن من قول النشار:

أَلوَّامِي عَلَى كَلَفِي بِحِبِّى
مَتَى مِن حُبِّه أرجُو سَرَاحا
وبَين الخَدِّ والشَّفَتَيْن خَالٌ
كَزِنْجِيّ أتَى رَوضًا صَباحا
تَحَيَّر في جَنَاه فَليس يَدرِي
أيَجنِي الوَرد أم يجنِي الأقاحا

وهل منكم من اهتدى إلى معنى في لثم وردة الخد ورشف رضاب الثغر لم يهتد إليه أحد غيره، وهو أبو الحسن بن سلام المالقي في قوله:

لمَّا ظَفِرْت بِلَيلةٍ مِن وَصلِه
وَالصَّبُّ غَير الوَصْل لا يَشْفيه
أنضَجْت وَرْدَة خَدِّه بِتَنَفُّسِي
وَطَفِقتُ أرشُف ماءَها مِن فِيه٦

وهل منكم أعمى قال في ذهاب بصره، وسواد شَعره، وهو الطُليطِلي:

أَمَا اشتَقَت مِنِّيَ الأَيَّامُ في وَطَنِي
حَتَّى تُضّايِق فيِما عَنَّ مِن وِطَري
ولا قَضَت مِن سَواد العَيْنِ حَجَتَها
حَتَّى تَكُرَّ عَلى ما طَلَّ في الشَّعَر
وهل نشأ عندكم من النساء مثل ولاّدة المروانية٧، ومثل زينب بنت زياد المؤدب التي تقول:
ولَمَّا أبَى الوَاشُون إلَّا فِرَاقَنَا
وَمَا لَهُم عِنْدي وعِنْدَك مِن ثَار
وَشَنُّوا عَلَى أسمَاعِنَا كُلَّ غَاَرةٍ
وَقَلَّ حُماتِي عِنْد ذَاكَ وَأنصارِي
غَزَوْتُهُمو مِن مُقلَتَيَّ وَأدْمُعِي
ومِن نَفَسِي بِالسَّيف والسّيل والنَار
ثم قال الشقندي بعد كلام: وأنا أختم هذه القطع المتخيرة بقول أبي بكر بن بقيّ ليكون الختام مسكًا:
عَاطَيتُه واللَّيلُ يَسحَب ذَيْلَه
صَهبَاءَ كَالمِسكِ الفَتِيق لِنَاشِق
وَضَممتُه ضَمَّ الكَمِيِّ لِسَيفِه
وَذُؤابَتَاه حَمَائِلٌ في عَاتِقي
حَتَّى إذَا مَالَت بِه سِنَة الكَرى
زَحزَحتُه شَيئًا وَكَان مُعَانِقِي
بَاعَدتُه عَن أضْلُعٍ تَشْتَاقُه
كَيْلَا يَنَام عَلى وِسَادٍ خَافِقِ٨

وقول الفاضل أبي حفص بن عمر القرطبي:

هُمُو نَظَروا فَهَامُوا
وَتَشرب لُبَّ شَارِبِهَا المُدَام
يَخَاف النَّاس مُقْلَتَهَا سِوَاها
أيَذْعَر قَلْب حَامِلِه الحُسَام
سَمَا طَرفِي إِليهَا وهو باكٍ
وتحتَ الشَّمس ينسكِب الغَمام
وأذكُر قدَّها فأنوحُ وَجدا
عَلَى الأَغْصَان تَنْدِب الحَمَام
وأُعْقبَ بَيْنُهَا في الصَّدْر غَمًّا
إذا غَربَت ذُكَاء أتَى الظَّلام

وبقوله أيضًا:

لها رِدفٌ تَعَلَّق في لَطِيف
وَذَاك الرِّدْف لِي ولَهَا ظَلُوم
يُعَذِّبُني إذا فَكَّرت فِيه
وَيُتْعِبهَا إذَا هَمَّت تقُوم

•••

تلك أيها القارئ نفحة الأندلسي، رأينا أن نمهد بها لدرس قصيدة ابن دراج، الذي أوصاه أميره المنصور بن أبي عامر بمعارضة أبي نواس كما ذكر ابن خلكان، وإنا لنرجو أن يكون فيما اقتطفناه تذكرة لطلاب الأدب، وتبصرة لعشاق البيان، فقد مضت عهود على نهضة الشعر في مصر ولم نجد من الباحثين من قيّد ما ابتكره شعراؤنا في العصر الحديث من المعاني الجديدة، وما ابتدعوه من الصور الطريفة، مع حرصهم على أن يمثل أغراض الحياة، وأطماع العقول، وألوان النفوس، وأهواء القلوب.

١  جاء في نفح الطيب ص ٧٧٨ ما نصه: «قال ابن سعيد، أخبرني والدي قال: كنت يومًا في مجلس صاحب سنه أبي يحيى بن أبي زكريا صهر ناصر بن عبد المؤمن فخري بين أبي الوليد الشقندي وبين أبي يحيى بن المعلم نزاع في التفضيل بين البرين. فقال الشقندي: لولا الأندلس لم يذكر بر العدوه، ولا شارف عنه فضيله، ولولا التوفير للمجلس لقلب ما نعلم. فقال الأمير أبو يحيى: أتريد أن تقول: كون أهل برنا عربًا وأهل بركم بربر؟ فقال: حاش لله! فقال الأمير: والله ما أردت غير هذا فظهر في وجهه أنه أراد ذلك، فقال ابن المعلم: أتقول: هذا وما الملك والفضل إلا من بر العدوة؟ فقال الأمير: الرأي عندي أن يعمل كل منكما رسالة في تفضيل بره، فالكلام هنا يطول ويمر ضياعًا وأرجو إذا أحلتما له فكر كما تصدر منكما ما يحسن تخليده ففعلا».
٢  ارجع إلى هذه القصيدة في كتاب: «مدامع العشاق». فقد أثبتناها كلها هناك، وقد عارضها شوقي بنونية مطلعها:
يا نائح الطلح أشباه عوادينا
نأسى لواديك أم نشجى لوادينا
٣  النوى: الهلاك.
٤  اختار الشقندي قطعة كبيرة من قصيدة ابن دراج، ولكنا اكتفينا بذكر هذه الأبيات لأننا سنعود إلى القصيدة مرة ثانية، وقد قال الشقندي في التعقيب على ما اختاره:

وأنا أقسم مما حوته هذه الأبيات، من غرائب الآيات، لو سمع هذا المدح سيد بني حمدان لسلا به عن مدح شاعره الذي ساد كل شاعر، ورأى أن هذه الطريقة أولى بمدح الملوك من كل ما تفنن فيه كل ناظم وناثر.

٥  السقب: ولد الناقة. والعكام: ما يعكم به.
٦  حذفنا هنا جملة من كلام الشقندي لم نر لها أهمية.
٧  أنشد لها بيتين لم نر لهما قيمة.
٨  كتب إلينا الأديب محمد بن عباس القباج أن رين شباب الأندلس صفوان بن إدريس المتوفى سنة ثمان وتسعين وخمسمائة عن سن لا تتجاوز السابعة والثلاثين، عارض أبيات الشقندي فقال:
يا حسنه والحسن بعض صفاته
والسحر مقصور على حركاته
بتنا نشعشعُ والعفافُ نديمنا
خَمرين من غزلي ومِنْ كلماتِهِ
ضاجَعْتُهُ واللّيْلُ يُذكي تحتنا
نارين من نفسي ومن وجناتهِ
وضمَمتُهُ ضمَّ البَخِيلِ لمالِهِ
يحنو عليه من جميعِ جهاتهِ
أوثقتهُ في ساعديَّ لأنهُ
ظبيٌ خشيتُ عليهِ من فلتانهِ
والقلبُ يرغبُ أن يصير ساعدًا
ليفوزَ يالآمالِ منْ ضماتهِ
حتى إذا هامَ الكرى بجفونِه
وامتدَّ في عَضديّ طوعَ سناتِهِ
عَزَمَ الغرامُ عليّ في تقبيلِهِ
فجعلتُ أبدي الطوعَ عن عزماتِهِ
وابى عفافي أن أقبلَ ثغرهُ
والقَلْبُ مطويٌّ على جمراتهِ
فاعجبْ لملتهبِ الجوانح غلة
يَشكو الظَّما والماءُ في لهَوَاتِهِ

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤