الفصل التاسع والعشرون

الموازنة بين النونيتين

وإني لأرجو القارئ أن ينظر في هاتين القصيدتين مرة ومرة، أو مرات قبل أن ينظر فيما نكتب، فما نريد بالموازنة إلا تشويقه إلى المتعة بتلك الآيات الغرّاوات، وأنا قد نظرت في هاتين القصيدتين وأطلت النظر، وعجبت كيف غفل الناس عن هاتين السُورتين من سُوّر الشعر الرفيع، وفي الشعر قرآن وإنجيل.

تفرد صبري بالحديث عن وصية فرعون، أو ما سماه مقالة فرعون، ويا لها من مقالة تصدع الصخر، وتنبت الحماسة في صدور الأموات، وقد مثّل الرجل هول المجد، وعظمة النيل، حين قال:

لا تَقْرَبوا النِّيلَ إِن لَم تَعْمَلوا عَمَلًا
فَمَاؤْهُ العَذْبُ لَم يُخْلَق لِكَسْلانِ
رِدُّوا المَجَرَّةَ كَدًّا دونَ مَورِدِهِ
أو فَاِطْلُبوا غَيْرَهُ رِيًّا لِظَمآنِ

وبذلك دلّنا صبري على أن المجد في مصر لا يُتاح لأهل الكسل والخمود، ولكن أي مجد؟ إن صبري لم يكن يتمثل المجد المزيّف الذي يرتدي أثوابه الوارثون، لم يكن صبري يرى المجد فيما يتمتع به العَجَزة الضعاف الذين يمرحون ويلعبون بفضل ما ترك آباؤهم وأمهاتهم من المال الموروث، وإنما كان يتصور المجد فيما يظفر به العصاميون الذين لا يذوقون لذة العيش إلا بعرق الجبين، أولئك هم الرجال الذين عناهم صبري، وبأمثالهم تزدهر الدنيا في المشرق والمغرب، ومن جهودهم تنبع العلوم والآداب والفنون، أما الهانئون الناعمون يأكلون ما كسبته أيدي آبائهم وأمهاتهم فليسوا جنود فرعون، وليسوا من أهل وادي النيل، لو تُركت أرض مصر لأولئك الذين لا يعرفون غير ألوان الطعام، وخسائس اللذات لما قام فيها أثر خالد، ولا تذوقت طعم الفوز في دنيا لا يظفر بنعمائها غير أقطاب الجدّ الساهر والعمل الموصول.

انظر أيها القارئ في هذين البيتين، وتأمل ما أوصى به فرعون، واسأل نفسك قبل أن تقرب الكأس: أكان رحيقها مما صنعت يدك أم كان مما سكب سواك؟ تأمل قبل أن تذوق طعامك: أسَاقَته إليك يدك الصنَّاع أم كنت ضيفًا على مائدة غيرك؟ وانظر في ثيابك: أكانت خيوطها من خيوط الليل الذي أسهرت جفنيه في العمل الشريف، أم كانت خيوطًا مصنوعة من الرجس الذي اقترفته بالتزلف والتملق والنفاق؟

قد تقول: إن صبري لم يقصد إلى كل هذه المعاني. ومن يُدريك؟ إن وصية فرعون تحتمل كل ذلك، وشريعة الحياة نفسها تفرض على الرجل أن يكون له وجود ذاتيِّ تتكوّن عناصره من الكدح في سبيل المجد، وسبيل المعاش.

ثم ماذا؟ ثم يبَّين صبري أساس السياسة: سياسة الملك والعمران، حين قال على لسان فرعون:

أَمَرْتُكُم فَأَطِيعوا أَمْرَ رَبِّكُمُ
لا يَثْنِ مُسْتَمِعًا عَن طَاعَةٍ ثَاني
فَالمُلْكُ أَمْرٌ وَطاعاتٌ تُسابِقهُ
جَنْبًا لِجَنْبٍ إلَى غاياتِ إحْسانِ

اسمعوا هذا: «الملك أمر وطاعات»، وهل كان الملك غير ذاك؟ هل كانت دنيا المجد إلا صورة من الأمر الرشيد والطاعة العيناء، ولا أقول: العمياء.

إن الأمر الرشيد هو صورة العقل، والطاعة العيناء هي صورة التنفيذ، والملوك الموفقون طاعتُهم رشدٌ وعصيانهم ضلال، وكان فرعون ربًّا، وكانت رعيته عبيدًا، كان ربًّا حكيمًا، وكانوا عبيدًا مخلصين، وقد رأيتم ما صنعت الحكمة وما صنع الإخلاص.

لقد تخيرت وصف الطاعة فجعلتها عيناء، ولم أجعلها عمياء، أتعرفون لماذا؟ لأن الشاعر جعل المصريين أبطالًا شجعانًا يقدمون في طاعتهم إقدام الأبرار حين قال:

مَقالَةٌ قد هَوَت مِن عَرْشِ قائِلِها
عَلى مَناكِبِ أَبْطالٍ وَشُجْعانِ
مَادَت لَها الْأَرْضُ مِنْ ذُعْرٍ وَدَانَ لَها
مَا في المُقَطَّمِ مِنْ صَخْرٍ وَصَوَّانِ
لَوْ غَيْرُ فِرعَونَ أَلْقاها عَلى ملإٍ
في غَيْرِ مِصْرَ لَعُدَّت حُلْمَ يَقْظانِ
لَكِنَّ فِرعَونَ إِن نادَى بها جَبَلًا
لَبَّت حِجارَتُه في قَبْضَةِ الْباني
وآزَرَتهُ جَماهيرٌ تَسِيلُ بِها
بِطاحُ وادٍ بِماضي القَومِ مَلْآنِ
يَبنونَ ما تَقِفُ الأَجْيالُ حائِرَةً
أمامَهُ بَيْن إعْجابٍ وَإذْعانِ
مِن كُلِّ ما لَم يَلِد فِكْرٌ وَلا فُتِحَت
عَلى نَظائِرِهِ في الكَوْنِ عَيْنانِ
وَيُشْبِهونَ إِذا طارُوا إلَى عَمَلٍ
جِنًّا تَطِيرُ بِأَمْرٍ مِنْ سُلَيْمَانِ
بِرًّا بِذي الأَمْرِ لا خَوْفًا وَلا طَمَعًا
لكِنَّهُم خُلِقُوا طُلّابَ إِتْقانِ

وهذه القطعة تصوَّر انسجام الأهواء بين فرعون وقوم فرعون: فهو رب يأمر بالرشد، وهم عباد مخلصون «لا يطيعون خوفًا ولا طمعًا، وإنما يقبلون على المجد؛ لأنهم خُلِقوا طلاب إتقان»، وفي هذا المعنى سر عظيم، فالمجد لا ينهض به الملوك وحدهم، وإنما المجد صنيعة الأبرار بين الشعوب، والملك نفسه من روح شعبه، هو الجذوة التي نجد فيها نمس أصول اللهب المكبوت، ولو قام نبي بين الأموات وصرخ لما استجاب له مجيب، وإنما يفلح المصلحون حين يتوجهون إلى نفوس خيرة كمن فيها البر كما تكمن النار في الصخرة الصماء، والمصريون لعهد الفراعين كانوا «طلاب إتقان» وكانوا يعشقون التجويد فيما يصنعون، وكانت أيديهم مفطورة على المهارة، وأنفسهم مجبولة على الصبر الجميل، وعزائمهم مقدودة من الصوان، وكانت إرادة الملوك مظهرًا من إرادتهم الذاتية، فكان خضوعهم خضوع الأشراف لا خضوع العبيد. ومن ذا الذي يسمح له كرم الذوق، وشرف العقل، أن يحكم بأن قصر الكرنك لم يكن إلا مشيئة رجل فرد! إن في خرائب ذلك القصر بقايا من شواهد العبقرية تنطق بأن الذين تولوا هندسته وبناءه كانوا مأخوذين بسلطان غير سلطان الملك وهو سلطان الفن وسلطان الجمال.

لقد زرت عشرات القصور في فرنسا فوجدتها جميعًا دون قصر الكرنك، إن قصر الكرنك وهو خرائب وأطلال لأعظم وأروع من قصر فرساي، وطريق الأسود في الكرنك يشهد بأن المصريين لعهد الفراعين كانوا أئمة الدنيا في تصور الانسجام بين الجمال والجلال.

من أجل ذلك نعتب على مطران أشد العتب؛ لأنه جعل المصريين لعهد رمسيس عبيدًا مسخَّرين يؤمَرون فيأتمرون، وماذا قال مطران! إنه جعل رمسيس كل شيء حين قال:

مَا زَالَ بِالقَوْمِ حَتَّى صَار بَيْنَهُمُ
إِلهَ جُنْدٍ تُحَابِيهِ وَكُهَّانِ
وَرَبَّ سَائِمَةٍ بَلْهَاءَ هَائِمَةٍ
تَشْقَى وَتَهْوَاهُ فِي سِرٍّ وَإِعْلانِ
يَسُومُهَا كُلُّ خَسْفٍ وَهْيَ صَابِرَةٌ
لا صَبْرَ عَقْلٍ وَلَكِنْ صَبْرَ إِيمَانِ
إِنْ بَاتَ فِي حُجُبٍ بَاءَتْ إِلَى نُصُبٍ
يَلُوحُ مِنْهُ لَهَا مَعْبُودُهَا الجَانِي
فَبَجَّلَتْ تَحْتَ تَاجِ المُلْكِ مُدْمِيهَا
وَقَبَّلَتْ دَمَهَا فِي المَرْمَرِ القَانِي
مُخَلَّدًَا دُونَ مَنْ قَاموا برِفْعَتِهِ
مِنْ شُوسِ حَرْبٍ وَصُنَّاعٍ وَأَعْوَانِ١
مُخَالِسًا ذِمَّةَ العَلْيَاءِ مُضْطَجِعًا
مِنْ مَهْدِ عِصْمَتِهَا فِي مَضْجَعِ الزَّانِي
بِحَيْثُ آبَ وَكُلُّ الفَخْرِ حِصَّتُهُ
ولَمْ يَؤُبْ غَيْرُهُ إِلاَّ بِحِرْمَانِ
كَمْ رَاحَ جَمْعٌ فِدَى فَرْدٍ وَكَمْ بُذِلَتْ
فِي مُشْتَرَى سَيِّدٍ أَرْوَاحُ عُبْدَانِ

وهذه القطعة من الشعر الرائع الرصين، ولكن أين المنطق؟

إن مطران يحكم بأن الرعية كانت تشقى في سبيل رمسيس، ويحكم بأنها كانت على شقائها تهواه في السر والعلانية، ويحكم بأنه كان يسومها الخسف. وأنها كانت تصبر صبر المؤمنين، لا صبر العقلاء. ونحن أيها الشاعر نسألك كيف تهوى الرعية مليكها في السر والعلانية، وهو ظالم! كيف تَهواه وهي تعرف أنه يسومها الخسف والضيم والذل؟ كنت تستطيع أيها الشاعر أن تتخير كلمة غير الهوى، كنت تستطيع أن تقول: أنها كانت تخضع أو كانت تطيع، فالخضوع قد يكون عن ضعف، والطاعة قد تكون عن عجز، أما الهوى فلم يكون إلا عن بينة من نور القلوب.

إن مطران يصور الأمة بأنها كانت تعبد رمسيس، وأنها كانت تتمثل شخصه المحبوب في الهياكل والتماثيل، فكيف يصح أن تتصور أنها كانت ترى فيه وجه الظالم المعبود، وهل يُعبد الظالمون؟ كل شيء يُقبل إلا هذا، فالظالم لا يُعبد إلا حين يتمثل فيه العابدون ملامح جذابة تجعل ظلمه حلو المذاق … إنك لَشَاعر حين تقول:

فَبَجَّلَتْ تَحْتَ تَاجِ المُلْكِ مُدْمِيهَا
وَقَبَّلَتْ دَمَهَا فِي المَرْمَرِ القَانِي

ولكن أين المنطق؟ إن الفراش يحترق، وهو يغازل النور، ولكنه يعشق النور عشقًا يهوّن عليه قسوة الاحتراق، فمن أين علمت أن رعية فرعون لم تكن ترى في فرعون غير جبار غشوم؟ لعلها عرفت فيه معاني فاتنة غابت عنك، وقد جئت تغمزه بعد أن طمرت أمجاده رمال السنين الطوال، وللسنين رمال، وفيها زوابع وأعاصير، رمالٌ من النسيان، وزوابع من العقوق.

إن تمثال رمسيس الثاني لم يصنعه صانعوه وهم غافلون عما يصنعون، لا بد أن يكون لصاحب التمثال صورة مشرفة في أنفس من تعبوا في نحته وتذوقوا في سبيل روعته طعم الضجر والعناء، وللتعب طعم معسول في أذواق من يعرفون ما يصنعون٢.

ثم ماذا؟ ثم يحكم مطران بأن رمسيس استبد بالمجد، واستبدّ بالخلود، فلم يعرف أحد أسماء من نحتوا التمثال.

رويدك أيها الشاعر، ومن يدريك أن من صنعوا تمثال رمسيس لم يكن لهم في زمانهم وجود ملحوظ؟ وكيف غاب عنك أن تلك سُنّة طبيعية لم تنفرد بها مصر ولم تقصر على رمسيس؟ أين أسماء من أقاموا قصر الحمراء؟ وأين أسماء من أقاموا القصور الشامخات في الأقطار الفرنسية والإنجليزية والجرمانية؟ قد تذكر أسماء بعض المهندسين، ولكن انتظر حتى يمر على تلك المعالم ما مرّ على تمثال رمسيس، انتظر ألفين أو ثلاثة آلاف سنة، ثم اسأل عن اسم نابليون نفسه، فإن وجدت من يعرفه فعندي لك نسخة مذهبة من ديوان مطران!

إنك تقذف رمسيس بهذا البيت، وهو من وحي شيطانك الرجيم:

مُخَالِسًا ذِمَّةَ العَلْيَاءِ مُضْطَجِعًا
مِنْ مَهْدِ عِصْمَتِهَا فِي مَضْجَعِ الزَّانِي

فما هذا الدنس في التصوير؟ وما هذا الرجس في التمثيل؟

أيجوز في ذهنك أن ينال الملوك من شعوبهم منازل الخلد بفضل الاختلاٍس؟ إن الشعب الغافل لا يصل إلى شيء، وقد وصل المصريون في عهد رمسيس إلى أشياء: كانوا لعهده من الغزاة الفاتحين، وكانوا لعهده أقدر أهل زمانهم على البصر بالفنون، فلك أن تتصور إلى أي غاية من غايات الفُتوة العقلية وصلت نفس ذلك الجبار العملاق. وأنت نفسك تقول:

فِي مِصْرَ عَزَّ فِرْاعِينٌ فَمَا بَلَغُوا
بِها مَبالِغَهُ مِنْ رِفْعَةِ الشَّانِ
وَلَمْ يَتِمَّ لَهَا فِي غَيْرِ مُدَّتِهِ
مَا تَمَّ مِنْ فَضْلِ إِثْرَاءٍ وَعُمْرَانِ

أتراه كان يحرث الأرض بيديه؟ أتراه كان يقيم القلاع والحصون بلا مساعد ولا معين؟

إن ما تم في مدته كان بفضل إخلاص الرعية، وهل تخلص الرعية لجبار مستبد غَشوم؟

إن هناك قوانين نفسية تصل بين الحاكمين والمحكومين، قوانين من تجاوب المشارب والأرواح، قوانين من أنس القلوب بالقلوب، وقرب العقول من العقول، ولا بد أن يكون رمسيس الثاني ظفر في زمانه بقَبَس من الجاذبية الروحية والعقلية استطاع بها وهو فَرد أن يسوق المصريين إلى ميادين المجد، فاندفعوا يتصايحون فرحين وهم ألوف الألوف.

إن الذي يزور وادي الملوك في الأقصر، أو يزور وادي اللوار في فرنسا يقول: «كانت هناك أمة» قبل أن يقول: «كان هنا ملك» ولكن قضت سنة الخلود أن يكون في كل أرض جنديٌّ مجهول، والجنود المجهولون ليسوا في عُرف المجد بنكرات، فكل حجر أقيم هو الخلود لتلك السواعد التي أقلّته من مكان إلى مكان، وكل نقش خُلد يحمل اسم الفنّان الذي تعب فيه، وإن لم تشهد بذلك رسوم، ولا حروف، وسيأتي زمان تنكشف فيه الحقائق وترى القلوب ما لا ترى العيون، وقد سَبَقنا نحن فرأينا بعين البصيرة خلود الصانعين ممثلًا في خلود التماثيل.

من الحق أيها الشاعر أن رمسيس ظفر بالسمعة الباقية، ولكن في أي آذان؟ في آذان من يقرءون ولا يفقهون، أما الأمة التي خلدت رمسيس فهي باقية في ذمة الصم الخوالد من أحجار الكرنك، على أيامه السلام.

وما هذا الظلم الذي تقترف أيها الشاعر، وأن تتمثّل ذلك الفرعون وهو في مضجع الداعرين؟

أنت تقول: إنه سَخر الشعب، وهل تعرف كيف تُسخر الشعوب؟ لقد أضجرتك سياسة (الفرقة القومية)، وهم جماعة من الممثلين يُعدون على أصابيع اليدين، وإن زادوا فهم يُعدون على أصابع اليدين والرجلين، فكيف تنتظر أن يُسخِّر رمسيس أمة كاملة ويسوقها إلى تصاريف الحرب، وإلى تكاليف السلم؟ أيفعل ذلك وهو يتَمَطى ويَتَثاءب تحت أشجار الجميز؟ أم يفعل ذلك وهو عقلٌ يفكر، ورأيٌ يُدبر، ولسانٌ يُبين؟

إن الرجل قد يعجز عن إقرار النظام في بيته، وفيه خمس أنفس، والمدرس قد يعجز عن إقرار النظام في درسه وليس تحت بصره غير عشرة تلاميذ، فمن عسى أن يكون الملك الذي يقيم قواعد النظام في أمة تُعَد بالملايين، ولكل قلب شهوات ولكل رأس نزوات، وبين الرؤساء والقواد ضغائن وحقود! إن الملك الذي يجمع طوائق شعبه على رأي واحد لهو رَجُل سَحَّارٌ خلُقت إرادته من كل قلب، فسيطر على كل نفس، ووضع على عصره يدًا من حديد، وكذلك كان رمسيس الذي غمزته في شعرك غمزة لا رفق فيها ولا إشفاق.

ولكن كيف اتفق لمطران أن يتحامل على رمسيس بلا سبب مبين؟

لقد فكرت في ذلك طويلًا، ثم بدا لي أن أرجع إلى الظرف الذي نظم فيه هذه القصيدة العصماء، فوجدت الدكتور محمد صبري يذكر أن مطران كان زار أهرام سقارة، ثم أرسل إلى الأستاذ محمد أبياتًا لينشرها بالمؤيد، وأبيات مطران هي أصل ما في النونية، وفيها يقول عن فرعون:

شَادَ فأعلَى وَبَنَى فَوَطَّدا
لا لِلعُلا وَلا لَهُ بَل لِلعِدا
مُسْتَعْبِداُ أُمَّتَه في يَومِهَ
مُسْتَعْبِداُ بِنِيه لِلعَادِي غَدَا

وفيها يقول عن العمال الذين بنوا الأهرام:

إنِّي أرَى عَدَّ الرِّمَال هَا هُنا
خَلائِقًا تَكْثُر أن تُعَدَّدَا
مُجْتَمِعينَ أَبْحُرًا مُنْفَرِعيـ
ـنَ أَنْهُرًا مُنْحَدرِينَ صُعَّدَا
صُفْرَ الوجْوهِ نَاديًا جِبَاهُهُمْ
كَالْكَلإِ اليَابِس يَعْلوهُ النَّدَى
أَكُلّ هذي الأَنْفُسِ الهَلْكَى غَدًا
تَبْني لِفَانٍ جَدَثاَ مُخَلَّدا

وهذا من الشعر الحق، والشاعر يتمثل نفسه واقفًا ينظر العمال وهم يبنون الأهرام، وكانت هذه القصيدة هي الباعث الذي حدا إسماعيل صبري على نظم نونيته الشماء.

ولكن متى زار مطران أهرام سقارة؟ لقد اتصلت بالأستاذ مسعود تليفونيًّا، وسألته متى نشر دالية مطران، فأجاب إنه لا يذكر بالضبط، وإنما يعرف أنه ترك جريدة المؤيد سنة ١٩٠٦م.

ومعنى هذا أنه نظم قصيدته الأولى في غمز الفراعين منذ ثلاثين سنة أو تزيد.

قد يسأل القارئ: وما خطر ذلك في هذه القضية؟

ونجيب بأن بلاد الشام كانت منذ ثلاثين سنة تغلي غيظًا وحقدًا على السلطان عبد الحميد، وكان الناس في أكثر البلاد يرون في صورة عبد الحميد وجه الجبار السفاح، ولا سيما أهل الشام الذين شرّد عبد الحميد علماءهم وشعراءهم وكتَّابهم وضرب عليهم الذلة والمسكنة، وحكم على بعضهم بالنفي وعلى بعضهم بالشنق، الآن عرفنا من كان يعني مطران وهو يحارب رمسيس، إنه كان يحارب عبد الحميد وإن لم يخطر له ذلك على باله، ومهمة النقد الأدبي، هي إماطة اللثام عن المقنع من ضمائر الرجال.

عبد الحميد هو الشخصية العاتية التي كان يحاربها مطران، ولكنه ما كان يستطيع أن يجهر بعداوته؛ لأن مصر في ذلك الحين كانت ترى عبد الحميد خليفة المسلمين؛ ولأن السياسة المصرية لم تكن ترى من الذوق أن تسمح لشاعر بأن يغاضب الخليفة علانية ويصفه بالظلم والاعتساف، على حين يجأر الخطباء فوق المنابر بالدعاء له، ويتَنسَّم الجمهور أخباره في المساجد والأسواق.

تأمل هذا أيها القارئ لتعرف كيف صح لمطران أن يقول في أعوان رمسيس:

هُمُ الَّذِينَ عَلَى عُسْرٍ بِمَطْلَبِهِ
قَدْ أَسْعَفُوهُ بِأَمْوَالٍ وَفِتْيَانِ
وَهُمُ عَلَى سَفَهٍ دَانُوا بِمَنْ نَصَبُوا
فَخَوَّلُوهُ مَدِينًا حَقَّ دَيَّانِ
فِيمَ الأُلَى صَنَعُوا أَنْصَابَهُ دَرَسَتْ
رُسُومُهُمْ مُنْذُ بَاتُوا رَهْنَ أَكْفَانِ
وَمَا لأَسْمَائِهِمْ دُونَ اسْمِهِ دُفِنَتْ
شُعْثًا مُنَكَّرَةً فِي رَمْسِ كِتمَانِ

وهذه الحال كانت حال أعوان عبد الحميد، الرجل الداهية الذي طوّق عصره بطوقٍ من فولاذ، واستطاع السيطرة والبطش عددًا من السنين.

ومطران في هذه اللفتة كان ابن عصره، ففي ذلك العهد كانت تؤسس الجمعيات السرية لمقاومة عبد الحميد، وكان أدباء الشام يسلقون ذلك العاهل بألسنَةٍ حداد.

تلك كانت نفسية مطران، أما نفسية صبري فكانت مَلكية أكثر من المَلك، كان صبري فيما أفترض على وفاق مع أعوان عبد الحميد، أو كان على الأقل من المحايدين، فلما رأى مطران يشتم فرعون ثارت في رأسه العصبية المصرية، وانطلق يقول في تمجيد الفراعين:

أَيْنَ الأُلَى سَجَّلوا في الصَّخْرِ سِيرَتَهُم
وَصَغَّروا كُلَّ ذِي مُلْكٍ وَسُلْطان
بادوا وَبادَتْ عَلَى آثارِهِم دُوَلٌ
وَأدرِجوا طَيَّ أَخْبارٍ وَأكفانِ
وَخَلَّفُوا بَعْدَهُم حَرْبًا مُخَلَّدَةً
في الْكَوْنَ ما بَيْنَ أَحْجارٍ وَأَزْمانِ

فالمعارضة بين صبري ومطران لم تكن معارضة بين رجلين، وإنما كانت معارضة بين حزبين، والشعر الذي نقرؤه ونتغنى به لا يمثل عواطف فردية في أغلب الأحيان، وإنما يصور نزعات اجتماعية يهمس بها الشاعر أو يصيح.

ومطران قد يقرأ هذا الفصل ويعجب؛ لأنه لا يبعد أن تكون نفسه خَلَت خُلوًًا ظاهريًّا من المعنى الذي عرضناه، ولكن الناقد الذي يتخذ علم النفس وسيلةً لدرس سرائر الرجال لا يَصعب عليه أن يرى وجه الحق فيما نقول.

١

على أن مطران لم يفته أن يتمنى للمصريين استعبادًا مثل استعباد رمسيس، استعبادًا ترتفع به هاماتهم في الدنيا فيقفون مواقف الرجال.

ولننظر كيف يقول:

لَيْتَ البِلادَ الَّتِي أَخْلاقُهَا رَسَبَتْ
يَعْلُو بِأَخْلاقِهَا تَيَّارُ طُغْيَانِ
النَّارُ أَسْوَغُ وِرْدًا فِي مَجَالِ عُلًا
مِنْ بَارِدِ العَيْشِ فِي أَفْيَاءِ فَيْنَانِ
أَكْرِمْ بِذِي طمَعٍ فِي جَنْبِ مَطْمَعِهِ
يَنْجُو الأَذِلاَّءُ مِنْ خَسْفٍ وَخُسْرَانِ
يَهُبُّ فِيهِمْ كَإِعْصَارٍ فَيَنْقُلُهُمْ
مِنْ خَفْضِ عَيْشٍ إِلَى هَيْجَاءِ مَيْدَانِ
بَعْضُ الطُّغَاةِ إِذَا جَلَّتْ إِسَاءَتُهُ
فَقَدْ يَكُونُ بِهِ نَفْعٌ لأَوْطَانِ
في كُلِّ مَفْخَرَةٍ تَسْمُو الشُّعُوبُ بِهَا
تَفْنَى جُمُوعٌ مُفَادَاةً لأُحْدَانِ
كَم فِي سَنَا الكَوْكَبِ الوَهَّاجِ مَهْلَكَةٍ
فِي كُلِّ لَمْحٍ لأَضْوَاءٍ وَأَلوَانِ
لَمْ تَرْقَ في حَقْبَةٍ مِصْرٌ كَمَا رَقِيَتْ
فِي عَصْرِهِ بَيْنَ أَمْصَارٍ وَبُلْدَانِ
لَمَّا رَمَتْ كُلَّ نَائِي الشَّوْطِ مُمْتَنِعٍ
بِسَابِقِينَ إِلَى الغَايَاتِ شُجْعَانِ
أَلا نَرَى فِي بَقَايَا الصَّرْحِ كَيْفَ مَضَوْا
بِأَوْجِهٍ بَادِيَاتِ البِشْرِ غُرَّانِ
وَكَيْفَ عَادُوا وَرَمْسِيسٌ مُقَدَّمُهُمْ
إِلَى الرُّبُوعِ بِأَوْسَاقٍ وَغِلْمَانِ

هذا هو الشعر في منطق الحكماء، الآن يتمنى مطران لو أتيح للبلاد الهوامد أن تظفر بطاغية ينقلها من حياة الخمول إلى حياة الإقدام، الآن يرى النار أرفق بالشعوب من العيش الوادع في ظلال الترف واللين، والآن يُرحب بطمع الطامعين الذين ينجو بهم الأذلاء من الخسف والخسران فينقلون من خفض العيش إلى ميادين القتال، الآن يرى من سنن المجد أن تفنى الجموع في سبيل الأفراد، ويرى بعين الشاعر أن سَنَا الكوكب الوهاج يهلك ما يشاء من الأضواء والألوان، الآن يرى أن رمسيس الثاني رفع قومه بين الناس، وجعل وطنه فوق الأوطان، الآن يقرأ ما نقش على الصروح؛ ليرى كيف كان البشر يفيض من أوجه الجنود وهم يعودون إلى الوطن ظافرين.

فما معنى ذلك؟ أيكون معناه أن مطران وقع في تناقض؟

لا! لم يقع في تناقض، وإنما عرض صورتين مختلفتين: الصورة الأولى في معايب الاستبداد، والصورة الثانية في محاسن الاستبداد، ولكل حقيقة وجهان: أحدهما دميم، والآخر جميل.

وبذلك نرى مطران انتهى إلى الغاية التي وثب إليها صبري، ولكنه لم يصل إلى تلك الغاية إلا بعد جولة شعرية عرض فيها لتقبيح الظلم والتنكيل بالظالمين، وشعر مطران في طعن الاستبداد له وجه مقبول، هو وثبةٌ شعبيةٌ تجول بالصدور في كل أرض، وفي كل جيل.

فلنسجل الآن أن مطران تفرد في نونيته بهذه المحاولة العقلية، وهي عرض جانبين من الرأي في قصيدة واحدة، وهو نوع من التحليل لا يجيده من الشعراء إلا الأقلون.

ولنذكر أن بيت القصيدة في نونية مطران هو قوله وقد راعته العظمة في تمثال رمسيس:

لَوْلا تَمَاثِيلُهُ الأُخْرَى مُحَطَّمَةً
مَا جَالَ فِي ظَنِّ فَانٍ أَنَّهُ فَانِ

وما أحب أن نضيع الفرصة بدون أن أوجه أنظار الرجال في مصر إلى ذلك التمثال، وليتهم يفكرون في نقله من الأقصر لينصب في ميدان باب الحديد، أليس من العجيب أن ينقل الفرنسيون من الأقصر مسلة مصرية لينصبوها في ميدان الكونكورد فتوحي إلى شعرائهم آيات الشعر الرفيع، ونعجز نحن عن نقل تمثال رمسيس ليُنصب في ميدان باب الحديد، فيكون شاهدًا على ماضي مصر في إعزاز العظَمة مخلّدةً بروائع الفن الجميل.

٢

نظم صبري قصيدته ليرد على مطران فكان لا بدّ له من وقفة يشرح بها ما في الأهرام من جلال:

أَهْرامُهُم تِلْك حَيِّ الفَنَّ مُتَّخِذًا
مِن الصُخورِ بُروجًا فَوْقَ كِيوانِ
قَدْ مَرَّ دَهْرٌ عَلَيْها وَهْيَ ساخِرَةٌ
بِما يُضَعْضَعُ مِن صَرْحٍ وَإِيوَانِ
لَم يَأخُذِ اللَّيْلُ مِنْها وَالنَهارُ سِوَى
ما يَأخُذُ النَّمْلُ مِن أَرْكانِ نَهْلانِ

أرأيتم كيف لا يأخذ الليل والنهار من أركان الأهرام إلا بمقدار ما يأخذ النمل من أركان الجبل! لقد تمرد ملوك على الأهرام ليهدموها فلم تخدش معاولهم غير الطلاء.

وما هذا البيت:

كَأنَّها — وَالعَوَادي في جَوانِبِها
صَرْعَى — بِناءُ شَياطِينٍ لِشَيْطانِ

ما هذا البيت! من القليل أن نقول: إنه بيت القصيد، فإن جملة «والعوادي في جوانبها صرعى» من أرواع وثبات الخيال، وما أجدر هذا البيت أن ينقش على الأهرام ليكون صفحة جديدة في سِفر الفنون.

ثم ماذا يا صبري؟ ماذا تقول في أحجار الأهرام؟ أتقول:

كَأنَّما هيَ وَالأَقْوامُ خاشِعَةٌ
أمامَها صُحُفٌ مِن عالمٍ ثاني
تَسْتَقبِلُ العَيْنَ في أَثْنائِها صُوَرٌ
فَصِيحةُ الرَّمْزِ دارَتْ حَوْلَ جُدْران
لَو أَنَّها أُعْطِيَت صَوْتًا لَكانَ لَه
صَدىً يُرَوِّعُ صُمَّ الإِنْسِ وَالجانِ

ما هذا الشعر أيها الناس؟ هذا هو السحر الحلال الذي سمعنا باسمه في أخبار الأولين.

•••

أما بعد: فإني أكاد أحكم بأن الشاعر إسماعيل صبري هو الذي سنَّ مذاهب القول في وصف آثار الفراعين للشاعر أحمد شوقي، أليست ضادية شوقي مما نُظمَ بعد نونية صبري؟

إن كان فيما أحكم به شيء من الحق فإسماعيل صبري إمام أهل هذا العصر في الإشادة بآثار الفراعين.

وليس المجال في هذا الحديث بمتسع لدرس ضادية شوقي في قصر أنس الوجود، فليرجع إليها القارئ في الجزء الثاني من الشوقيات، وليتذكر أن قول شوقي:

رُبَّ سِرٍّ بَجَانِبيْك مُذَالٍ
كَانَ حَتَّى عَلّى الْفَراعينِ غَمْضَا

إنما أخذ من قول صبري:

وزُحْزِحُوا عَن بَقايَا وَسَطا
عَلَيْهمُ العِلْمُ ذاكَ الجاهِلْ الجاني
وَيْلٌ لَهُ هَتَكَ الأَسْتَارَ مُقْتَحِمًا
جَلال أَكْرَمِ آثارٍ وأَعْيان
للْجَهْلُ أَرْجَحُ مِنْهُ في جَهَالّتِهِ
إِذا هُما وُزِنا يوْمًا بِميزانِ

قُلِ اللَّـهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ

١  الشوس: جمع أشوس، وهو المتكبر.
٢  من ملاحظات الأستاذ محمد مسعود أن رمسيس الثاني كان اتخذ الأقصر قاعدة الملك، ومع ذلك وجدت تماثيله في جهات مختلفة من المدائن المصرية، وهذا يدل على أنه كان محبوبًا جدًا من الأهلين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤