الفصل الثلاثون

بين البارودي وأبي نواس

نحن أمام قصيدتين تعدّان من ذخائر البيان: قصيدة أبي نواس في مدح الأمين وقصيدة البارودي في الترحم على صباه.

أما قصيدة أبي نواس فهي الميمية التي فتحت له قلب الأمين بفضل وساطة الفضل بن الربيع، وكان الأمين قد عرف أبا نواس في حياة أبيه الرشيد، فلما سمع منه الميمية وصله بألف دينار وأمره بملازمة القصر، فظل في رعايته إلى أن صنعت الأقدار ما صنعت يوم قضت بالنصر للمأمون.

لا نعرف بالضبط متى نظم أبو نواس قصيدته ولكن من المرجح أنه قالها في أول خلافة الأمين أي: في سنة ١٩٣هـ. وأبو نواس ولد سنة ١٤١هـ فيكون عمره حين نظرم الميمية اثنتين وخمسين سنة أو تزيد.

وإنما اهتممنا بهذا التاريخ لنعرف أن أبا النواس كان يجدّ كل الجد في التحسر على ملاعب الشباب، ولم يكن في تحزنه من المتكلفين، واثنتان وخمسون سنة تهد عزم الرجل الصلب إذا اتفق له ما اتفق لأبي نواس من قضاء الشباب بين عواصف الكئوس، وزوابع الدسائس والنمائم، وأعاصير الجد العاثر والزمن الكنود.

كان أبو نواس يسخر من الشعراء الذين يبكون الديار ويقفون على الأطلال، كان يسخر من هؤلاء في صباه يوم كان في الكئوس والرياحين والوجوه الصباح ما يشغله عن بكاء الرسوم الهوامد والدمَن العافيات، فلما فعلت الاثنتان والخسمون فعلها الأثيم في شبابه وفي قواه، تلفت فرأى الديار مما يستحق البكاء … والله يعلم أي حسرة كانت تسحق قلب هذا الرجل وهو يقول:

يا دارُ! ما فعَلَتْ بكِ الأيّامُ
لم يبقَ فيكِ بشاشة تشتامُ
عَرَمَ الزّمانُ عَلَى الّذينَ عهدتهمْ
بكِ قاطِنين وللزّمان عُرامُ١
أيّامَ لا أغْشَى لأهْلِكِ مَنْزِلًا
إلاّ مُرَاقَبَة عليّ ظَلامُ٢

وأبو نواس في هذه الأبيات يقاسي لوعتين: لوعة الوجد على الدار التي ذهبت ببشاشتها الأيام، ولوعة الوجد على الرفاق المساميح الذين أجلَتْهم عن دار الهوى أحداث الزمان، والشاعر يحدثنا أنه لم يكن يغشى تلك الدار إلا في ظلمات الليل أيام كان يتذوق حياة يراها الشاعر أرق من النجوى، وأطيب من شهيِّ العتاب.

ثم أنظروا هذه الصورة، صورة الفتك، في هذا البيت:

ولقد نَهَزْتُ مع الغُوَاةِ بِدَلْوِهِمْ
وأَسَمْتُ سَرْحَ اللّهْوِ حيثُ أساموا

تأملوا هذه الصورة البدوية التي أخذت ألوانها من حياة الأعراب، ثم انظروا كيف جمع أطراف المغامرات الجنونية، مغامرات اللهو والشباب.

وانظروا بعد ذلك كيف وصف خاتمة المطاف حين قال:

وبلَغتُ ما بَلَغَ امرُؤٌ بشَبابِهِ
فإذا عُصارَة كلّ ذاكَ آثامُ

الله أكبر، هذا هو الشعر، وذلك هو الشاعر أبو نواس!

•••

قصيدة أبي نواس عدَتها عشرون بيتًا، وقصيدة البارودي عدتها أربعون بيتًا، ولكن هذه الأبيات الخامسة، أو هذه الفاتحة في السُورة النواسية هي التي هاجت البارودي، وأذكت لوعته، وأضرمت شجاه، فقال:

ذَهَبَ الصِّبَا وَتَوَلَّتِ الأَيَّامُ
فَعَلَى الصِّبَا وَعَلَى الزَّمَانِ سَلامُ
تَاللهِ أَنْسَى مَا حَيِيتُ عُهُودَهُ
وَلِكُلِّ عَهْدٍ فِي الْكِرَام ذِمَامُ

وهذه النفثة أقل حرارة من نفثة أبي نواس، وأكاد أحكم بأن البارودي كان يتكلف بعض التكلف، فإن نفثته لم تكن نفثة ملتاع، وإنما كانت نزوة شاعر مفتون بالوصف، ومفتون بأخلاق الماجدين، فقد اندفع يحدث عن رفاقه في أيام صباه فلم يجعلهم من الفتيان الماجنين الذين كان يعرف أمثالهم أبو نواس، وإنما جعلهم من أقطاب الدولة الذين يجلسون إلى مائدة السلاف وفيهم شمال الأبطال.

ومعنى ذلك أن ندمان البارودي لم يكونوا من المغامرين الذين تعصف برؤوسهم الصهباء فلا يدرون ما يفعلون، على نحو ما كان ندمان أبي نواس، وإنما كانوا من الأجواد المغاوير الذين لا يعرفون الحانات، وإنما يعاقرون الكأس في القصور، وتظل قلوبهم موصولة الأواصر بمعاني البأس، ومعاني الجود.

فالبارودي وهو يصف رفاق الصهباء لا يخلص في الشوق إلى أيام صباه؛ وإنما يتمدح ويتمجّد، وتلك حال من يعقل، لا حال من ذهب الوجد بقلبه الملتاع.

وانظروا كيف يقول:

إِذ نَحْنُ فِي عَيْشٍ تَرِفُّ ظِلالُهُ
وَلَنَا بِمُعْتَرِك الْهَوَى آثَامُ
تَجْرِي عَلَيْنَا الْكَأْسُ بَيْنَ مَجَالِسٍ
فِيهَا السَّلامُ تَعَانُقٌ وَلِزَامُ
فِي فِتْيَةٍ فَاضَ النَّعِيمُ عَلَيْهِمُ
وَنَمَاهُمُ التَّبْجِيلُ وَالإِعْظَامُ
ذَهَبَتْ بِهِمْ شِيَمُ الْمُلُوكِ فَلَيْسَ في
تَلْعَابِهِمْ هَذْرٌ وَلا إِبْرَامُ
لا يَنْطِقُونَ بِغَيْرِ آدَابِ الْهَوَى
سُمحُ النُّفُوسِ عَلَى الْبَلاءِ كِرَامُ
مِنْ كُلِّ أَبْلَجَ يُسْتَضَاءُ بِنُورِهِ
كَالْبَدْرِ حَلَّى صَفْحَتَيْهِ غَمَامُ
سَهْلُ الْخَلِيقَةِ لا يَسُوءُ جَلِيسَهُ
بَيْنَ الْمَقَامَةِ وَاضِحٌ بَسَّامُ
مُتَوَاضِعٌ لِلْقَوْمِ تَحْسَبُ أَنَّهُ
مَوْلىً لَهُمْ فِي الدَّارِ وَهْوَ هُمَامُ
تَرْنُو الْعُيُونُ إِلَيْهِ فِي أَفْعَالِهِ
وَتَسِيرُ تَحْتَ لِوَائِهِ الأَقْوَامُ
فَإِذَا تَكَلَّمَ فَالرُّءُوسُ خَوَاضِعٌ
وَإِذَا تَنَاهَضَ فَالصُّفُوفُ قِيَامُ
نَلْهُو وَنَلْعَبُ بَيْنَ خُضْرِ حَدَائِقٍ
لَيْسَتْ بِغَيْرِ خُيُولِنَا تُسْتَامُ
حَتَّى انْتَبَهْنَا بَعْدَ أَن ذَهَبَ الصِّبَا
إِنَّ اللَّذَاذَةَ وَالصِّبَا أَحْلامُ

وهذا الشعر في غاية الجودة إذا نظرنا إلى طرافة معناه، فهؤلاء الندمان العابثون هم رجال أعمال، وليسوا فتيان غواية، هم أقطاب الحرب، وأعلام السلم، ولهم مع ذلك آثام في معترك الهوى، والإثم ألوان: هناك إثم الأطفال، وهناك آثام الأبطال، وما أبعد الفرق بين الآثام النواسية والآثام البارودية، ولست بهذا أحكم بأن آثام البارودي أضخم من آثام أبي نواس. هيهات، وإنما أحكم بأن آثام البارودي يغمرها التجمل والتعقل والافتعال، وأمثال هذه الآثام لا ترجع صورها إلى القلب إلا موصولة بأطياف المجد المفقود ومن أجل ذلك قلت: إن الشاعر لم يخلص الشوق إلى غفلات الصبا ونزوات الشباب، ومن أجل ذلك أيضًا نراه يتكلف الحكمة إذ يقول:

لا تَحْسَبَنَّ الْعَيْشَ دَامَ لِمُتْرَفٍ
هَيْهَاتَ لَيْسَ عَلَى الزَّمَانِ دَوَامُ
تَأْتِي الشُّهُورُ وَتَنْتَهِي سَاعَاتُهَا
لَمْعَ السَّرَابِ وَتَنْقَضِي الأَعْوَامُ
وَالنَّاسُ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَارِدٌ
أَوْ صَادِرٌ تَجْرِي بِهِ الأَيَّامُ
لا طَائِرٌ يَنْجُو وَلا ذُو مِخْلَبٍ
يَبْقَى وَعَاقِبَةُ الْحَيَاة حِمَامُ

•••

كانت قصيدة أبي نواس في مدح الأمين، وكذلك منعه الأدب من الحديث عن الصهباء وهو شاعر الصهباء، أما البارودي فقد قصر قصيدته على شجون قلبه وهموم دنياه، فرأيناه يندفع في وصف الخمر فيقول:

فَادْفَعْ هُمُومَ النَّفْسِ عَنْكَ إِذَا اعْتَرَتْ
بِالْكَأْسِ فَهْيَ عَلَى الْهُمُومِ حُسَامُ
فَالْعَيْشُ لَيْسَ يَدُومُ فِي أَلْوَانِهِ
إِلَّا إِذَا دَارَتْ عَلَيْهِ الْجَامُ
مِنْ خَمْرَةٍ تَذَرُ الْكَبِيرَ إِذَا انْتَشَى
بَعْدَ اشْتِعَالِ الشَّيْبِ وَهْوَ غُلامُ
لَعِبَ الزَّمَانُ بِهَا فَغَادَرَ جِسْمَهَا
شَبَحًَا تَهَافَتُ دُونَهُ الأَوْهَامُ
حَمْرَاءُ دَارَ بِهَا الْحَبَابُ فَصَوَّرَتْ
فَلَكًا تَحُفُّ سَمَاءَهُ الأَوهَامُ
لا تَسْتَقِيمُ الْعَيْنُ فِي لَمَعَانِهَا
وَتَزِلُّ عِنْدَ لِقَائِهَا الأَقْدَامُ
تَعْشُو الرِّكَابُ فِإِنْ تَبَلَّجَ كَأْسُهَا
سَارُوا وَإِنْ زَالَ الضِّيَاءُ أَقَامُوا
حُبِسَتْ بِأَكْلَفَ لَمْ يَصِلْ بِفِنَائِهِ
نُورٌ وَلَمْ يَبْرَحْ عَلَيْهِ ظَلامُ
حَتَّى إِذَا اصْطَفَقَتْ وَطَارَ فِدَامُهَا
وَثَبَتْ فَلَمْ تَثْبُتْ لَهَا الأَجْسَامُ
وَقَدَتْ حِمَيَّتُهَا فَلَوْلا مَزْجُهَا
بِالْمَاءِ بَعْدَ الْمَاءِ شَبَّ ضِرَامُ
تَسِمُ الْعُيُونَ بِنُورِهَا لَكِنَّهَا
بَرْدٌ عَلَى شُرَّابِهَا وَسَلامُ
فَاصْقُلْ بِهَا صَدْأَ الْهُمُومِ وَلا تَكُنْ
غِرًّا تَطِيشُ بِلُبِّهِ الآلامُ

وهذا شعر جميل، ولكن ما رأيكم فيمن يحدثكم أن البارودي قال هذه الأبيات وهو تعبان؟ إن هذه الخمرية ينقصها الروح، هي نظم منسجم مسبوك، ولكنها كالكأس التي قتلت بالماء فلم يبق مناه غير الشعاع الخامد الذي لا يقدر على نقل العقل من مكان إلى مكان.

أيرانا القارئ نتحامل على البارودي؟ وكيف، وقد قرأنا أبياته هذه مرة ومرة، فلم تعصف بالنفس نوازع الفتك، ولم تطف بالرأس غاشيات الضلال.

إن خمرية البارودي هذه لن تهوى بأحد إلى الجحيم، ولن يسأل عنها يوم الحساب، أما خمريات أبي نواس فقصد صيّرت قبره سعيرًا لا يخمد له أورار، وسيكون يوم الدين جبلًا يتفجر بالبراكين.

•••

قلت لكم: إن البارودي نظم قصيدته، وهو تعبان، ومن آيات ذلك أنه عاد إلى تكلف الحكمة، فقال:

يَهْوَى الْفَتَى طُولَ الْحَيَاةِ وَإِنَّهَا
دَاءٌ لَهُ لَوْ يَسْتَبِينُ عُقَامُ
فَاطْمَحْ بِطَرْفِكَ هَلْ تَرَى مِنْ أُمَّةٍ
خَلَدَتْ وَهَلْ لاِبْنِ السَّبِيلِ مُقَامُ
هَذِي الْمَدَائِنُ قَدْ خَلَتْ مِنْ أَهْلِهَا
بَعْدَ النِّظَامِ وَهَذِهِ الأَهْرَامُ
لا شَيءَ يَخْلُدُ غَيْرَ أَنَّ خَدِيعَةً
فِي الدَّهْرِ تَنْكُلُ دُونَهَا الأَحْلامُ
وَلَقَدْ تَبَيَّنْتُ الأُمُورَ بِغَيْرِهَا
وَأَتَى عَلَيَّ النَّقْضُ وَالإِبْرَامُ
فَإِذَا السُّكُونُ تَحَرُّكٌ وَإِذَا الْخُمُو
دُ تَلَهُّبٌ وَإِذَا السُّكُوتُ كَلامُ
وَإِذَا الْحَيَاةُ وَلا حَيَاةَ مَنِيَّةٌ
تَحْيَا بِهَا الأَجْسَادُ وَهْيَ رِمَامُ
هَذَا يَحُلُّ وَذَاكَ يَرْحَلُ كَارِهَا
عَنْهُ فَصُلْحٌ تَارَةً وَخِصَامُ
فَالنُّورُ لَوْ بَيَّنْتَ أَمْرَكَ ظُلْمَةٌ
وَالْبَدْءُ لَوْ فَكَّرْتَ فِيهِ خِتَامُ

وهذا شعر رجل تعبان، واليأس نفسه يحتاج في تصويره إلى قوة، وكأنّ البارودي ضعف فلم يستطع أن ينال من الدنيا ما نال منها أبو العتاهية حين قال:

لِدُوا لِلْمِوْتِ وَابْنوا لِلخَرابِ
فكْلُكْمْو يصيرُ إلى تباب

•••

هذا ولم نعرض لبقية قصيدة أبي نواس لأنها في المديح؛ ولأن البارودي وقف في المعارضة عند وصف الخمر وبكاء الشباب، على أنه لا مانع من الإشارة إلى أن البارودي حين وصف رفاقه برجاحة الأحلام وهم يشربون آطاف يقول أبي نواس في مدح الأمين:

مَلِكٌ أَغَرُّ إذا شَرِبْتَ بِوَجْهِهِ
لمْ يَعْدُكَ التّبْجيلُ والإعْظامُ

ولا بأس من توجيه القارئ إلى العذوبة البادية في قول أبي نواس:

وإذا المَطيّ بِنا بَلَغْنَ مُحَمَّدًا
فَظُهورُهُنّ عَلى الرّجالِ حَرامُ
قَرَّبْنَنَا مِن خَيْرِ مَن وَطِىَء الحَصَا
فَلَهَا عَليْنا حُرْمَة وذِمامُ
رُفِعَ الحِجابُ لَنا فَلاحَ لِناظِرٍ
قَمَرٌ تَقَطَّعُ دونَهُ الأوْهامُ
مَلِكٌ إذا عَلِقَتْ يَداكَ بحَبْلِهِ
لا تَعْتَريكَ البُؤْسُ والإعْدامُ
سَبْطُ البَنَانِ إذا احْتَبى بِنِجادِهِ
فَرَعَ الجَماجِمَ والسّماطُ قِيامُ
مَلِكٌ إذا اعْتَبَر الأمورَ مَضَى بهِ
رَأيٌ يَفُلُّ السّيفَ وهو حُسامُ

ويكاد هذا الشعر يذهب بقالة السوء التي دنّس بها أنصار المأمون أخبار الأمين.

١  العرام. الشدة والعنف.
٢  جملة (على الظلام) جملة حالية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤