اليمامة

ألعبُ تحت شجرة البلَح عند الأصيل. مغروسةٌ في موضعها من قبل أن يُشيَّد بيتنا بزمنٍ طويل. عندما تهُبُّ الرِّيح يُلاطم غصنٌ من أغصانها مَشربيَّتنا. وتُطِل أُمي عليَّ من حينٍ لآخر کیلا أبتعد عن الميدان. لمَّا أكون وحيدًا أُغنِّي أو أُلاعب نفسي السيجة. ذات يومٍ تهبطُ عليَّ غمغمةٌ ممطوطة منغومة فيهتَز لها قلبي. اليمامة تبعث لحنًا، أعرف شدوها، وأحبها حبًّا جمًّا. أرفع رأسي المغطَّى بطاقيةٍ مزركشة فأراها مستقرةً ناعمة البال عند أصل غصن. لها لون الدوم، وفي وداعة النسمة، ووحيدةٌ مثلي، ولكنها لاهية عن حبي. أترنَّم في شغفي:

يمامة حلوة
ومنين أجيبها
طارت يا نينة
عند صاحبها

إنها من أغانيَّ المفضَّلة. تُرى أأُحب اليمامة لافتتاني بالأغنية أم أُحب الأغنية إكرامًا لليمامة؟ أقول لها بتوسُّل: اهبطي .. لا تخافي .. عندي الأمان كل الأمان .. عندما أذهب إلى الكُتَّاب أُودعُكِ سريري الصغير.

يبدو أنها لا تعرف لغتي. سارحة في دنياها الخضراء، ولسببٍ ما تطير بغتةً فتقطع نصف الميدان، ثم تحُطُّ على سور الزَّاوية الصغيرة على كثَبٍ من قُبَّة الضريح. أندفع جاريًا تحتها بجلبابي المقلَّم، وصندلي العتيق غير منتبهٍ لما تحتَ قدمي. لا فكرة لديَّ عن صيد اليمام، ولا يُحرِّكني إلا الحُب. أقف أسفل سور الزاوية على قَيد أشبارٍ من المدخل. أبتغي الوسيلة إلى بلوغ المرام بتلاوة الفاتحة. لكن من المؤكَّد أنها لا تأبه لي، أو أن الحذَر خالط هواجسها. لا تريد أن تمكُث فوق السور حتى أستردَّ أنفاسي فتطير مرةً أخرى. أَجري تحتها وأصواتٌ خشنة تهتف بي «يا ولد .. فتح عينك».

وتحُطُّ اليمامة على حَافة شُرفة مدرسة خان جعفر. أقف تحت شُرفة المدرسة، بصري مُتعلِّق بها، وأنسى تمامًا تعليماتِ أمي المشدَّدة. وأتساءل: ماذا يُخيفُكِ مني؟

شدَّ ما تُحزنني لامبالاتها! فضلًا عن أنها لا تريد أن تستقر على حال، فما هي إلا لحظات حتى نطير معًا، هي في الفضاء، وأنا فوق الأرض الغائبة عن بصري. وأستيقظ على فرقعة سوطٍ فأنتبه إلى قدوم کارو أُوشِكُ أن أصطدم بها. أتفادى منها على عجَل، وسِباب السوَّاق يُلاحقني. عيناي مشدودتان إلى محبوبتي حتى تهبط فوق غطاءِ دكانٍ لبيع البقالة والسجائر والخمور. أقفُ وأنا ألهث غير مُلقٍ بالًا إلى الزبائن. ما أطول المسافة التي قطعتُها ولكن طولها نفسه يُحرِّضني على الاستمرار. ربما يُساوِرني شيء من الضيق والكدَر، ولكن الأمل لا ينقطع. وأقول بعنادٍ: وراكِ .. وراكِ .. مهما طال الزمن وراكِ.

سوف تُحَاسبني أمي علی اختفائي، ولكن سرعان ما يتلاشی غضبُها عندما ترى اليمامة في حضني. وها أنت تطيرينَ للمرة الرَّابعة يا قليلة الرحمة فأجري أنا كالمجنون في إثركِ. أكادُ أعثُر هذه المرة بشيء فوق سطح الأرض ولكنَّ الله سلَّم. أتبعُها بإصرارٍ حتى تهبط فوق حافة شباك المستشفى. الدنيا زحام، عشرات يدخلون وعشرات يخرجون. يختلط الدعاء بالشكر بالبكاء. أغرق في تيار البشر، ولكنَّ عينيَّ لا تتحولان عنها. يُخيَّل إليَّ أنها ترمقني، إنها الآن تعرفني أكثر من أي وقتٍ مضى. وأسألها: ألَمْ تشبعي من الطيران؟!

لكنَّها تطير للمرة الخامسة، دون أدنى اكتراث بي. أُطلق ساقيَّ في عناد يقْهَرُ أي تعب. وفجأةً تَزِلُّ قدمي في نقرة فأندلق على وجهي. أنهض مُسرعًا مُتوجِّعًا والدم ينزُّ من ركبتي. يُمزِّقني ألمٌ قاسٍ، فأُفحم في البكاء كالأطفال. لكني أنظر من خلال الدموع الى أعلى. أُحِس بعوجٍ في کاحلي يمنعني من الجري. وتجول عيناي في الفضاء، فلا ترى أثرًا لمحبوبتي الهاربة. أنتبه إلى ما حولي فألمسُ العتمة في الخلاء المُحْدِق بالمدينة. تختفين بعد مشوارٍ طويل مبلَّل بالعرق والدموع؟ ويتبيَّن لي أنَّ الخلاء ليس بالغريب عليَّ؛ فطالما أقطَعه حاملًا الخوص بصحبة أمي ونحن في طريقنا إلى المقابر. ولم أجد من الخلقِ إلا أحادًا عابرين. وها هو المساء يهبط بكل جلال.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤