تمهيد: النظام الرمزي

يعد الانتقال من النظام الخيالي إلى النظام الرمزي انتقالًا من الدائرة المغلقة للأنا وأشيائها إلى المجال البَين-ذاتي المفتوح.1 إنَّ الأخير هو الذي يَمنحُه لاكان اسم الآخر الكبير، فالإنسان، بعد نزعه من حالة الارتباط بالآخر/الأم مع ظهور الاختلاف في صورة اسم الأب، يجب أن يتخلَّى عن استمتاعه بجسد الأم في ظلِّ ألم الإخصاء، فعليه أن يُدفن هذه اللذة القهرية، من أجل أن يحتلَّ مكانه في بنية الأدوار والعلاقات التي يُسمِّيها لاكان بالنظام الرمزي. مِن المُمكن القول إن وظيفة النظام الرمزي، مثل سرِّ التناول المسيحي، هي تحويل اللحم والدم إلى رمز، فالذات يُفترض بها الآن أن تتطابق مع مكانها ذي الدلالة في إطار الشبكة المسبقة للعلاقات الاجتماعية.

ولكن — وبما أن مصدر الإشباع صار محرَّمًا على الذات الآن — فسيُصيبها الفراغ نتيجة هذا المنع، وتتحوَّل إلى اللاوجود الدائم الذي نعرفه بالرغبة. وفي بحثها عن الإشباع، تنقسم الذات وتتشتَّت، وتتعثَّر في رمز أو شيء تلو الآخر، في سعي مَصيرُه الفشل نحو اكتمال للوجود مُستعصٍ دائمًا، اكتمالٍ ليست هذه الرموز أو الأشياء في ظله سوى بديل. وبما أنه لا يوجد دالٌّ فوقي — أي لا كلمة تعبر في كشف إعجازي ما عن كينونة الذات ككل — فإن الذات تتفلَّت من خلال الفجوات بين الدوال المُختلفة؛ فالذات قد تعي هذا المعنى المحدَّد أو ذاك؛ لكن على حساب خسارة كارثية لكينونتها؛ إذ يُمكنها أن «تعي» معنًى ما؛ لكن ليس إلا على حساب تلاشي وجودها «الكامل» من خطابها ذاته، فلا يوجد دالٌّ يُمكن أن يُمثل على نحو ملائم الذات التي تستخدم الدوالَّ ولا المكان الذي يفعل هذا منه.

إذن، فالذات مستبعدة من سلسلة الدلالة ومُمثلة فيها في نفس الوقت؛ فلأنها لا يُمكن أن تكون حاضرةً بالكامل أمام نفسها، فلم يَعُدْ من المُمكن أن تُعرف بصفة مباشرة أفضل من مصطلح كانط سيئ السمعة «الشيء في ذاته»، فلا يُمكن رصد وجودها إلا سلبًا، أي في النقص الذي يَكمُن في قلب اللغة. ومن هذا المنطلق فإن دخول الذات إلى النظام الرمزي هو نوع من السقوط السعيد؛ إذ لا يُمكنها أن تُثْبِت هُوِيَّتها من سبيل مختلف، إلا أن الثمن الذي يجب أن تدفعه مقابل هذه الهدية الثمينة يشوهها لبقية حياتها كما هو حال أوديب، فعليها أن تبحث عن هُوِيَّتها لا في مرآة نفسها، بل في ظلِّ اختلاف، في ظل حقيقة أن كل موضع في النظام الرمزي (الأب والجدة والأخ والأخت وغير ذلك) تشكله علاقاته مع المواضع الأخرى، كالكلمة التي لا تكمن أهميتها سوى في موضعها في سلسلة من الاختلاف. لا يعني هذا أن عالم النظام الخيالي قد هُجرَ تمامًا، فالذات — على العكس — صارت مُنقسِمة بين الأنا، بكل روابطها النرجسية بالأشياء، وحقيقتها — باعتبارها كائنًا دالًّا — التي تكتسبها من خلال تسليم نفسها إلى الآخر الكبير، أو مجال اللغة في مُجمله، فعليها تقبُّل أن حقيقتها تكمن في إبقاء الآخر الكبير، لا فيما تُؤكِّده في تضليل عن نفسها. وبما أن الوصول الكامل إلى الآخر الكبير مُتعذِّر، فكذلك الحال مع حقيقة هُوِيَّتها الخاصة؛ إذ لا يُمكنها أن تتأكد من أن كينونتها أمام نفسها تتَّفق مع كينونتها أمام الآخر الكبير. إن اللاوعي يولد في هذا التفاوت أو اللبس؛ فكينونتي ستظلُّ تتجاوز حدود إدراكي.

لا يحدث أيٌّ من هذا دون عناء، فوجود الذات يعني كذلك أن نتشكَّك في مكاننا في نظام الآخر الكبير، وأن نجد أنفسنا غير مُنسجِمين معه، وأن نرفض أن ننخدع بالرسائل المبهمة المشوَّهة المعقَّدة التي يُردُّ بها على تساؤلاتنا الملِحَّة («مَن أنا؟» و«ماذا أفعل؟» و«ماذا تريد مني؟») فنحن لا نألف تمامًا هذا النظام المجهول الهُوِيَّة، و«الفائض» بداخلنا الذي يعجِز الآخر الكبير عن استيعابه هو نفسه جوهر ذاتيتنا، فالنظام الذي يكوِّن الذات يُقصيها كذلك؛ لذا فإن ما نمرُّ به عندما نصل إلى ما نحن عليه هو نوع من الاغتراب الذاتي. لكن إن كان جوهر الذات غريبًا ومستغلقًا جدًّا، فهنا بالتحديد تجد الذات نفسها مُتماثلة مع نظام الآخر الكبير غير المفهوم هو الآخر.

لا يقتصر النظام الرمزي على الاختلاف بل يتعدَّاه إلى الإقصاء والمنع، فلا يُمكنكِ مثلًا أن تكوني ابنة وزوجة لنفس الرجل، فهو عالم من القواعد والتشريعات، على عكس طبيعة النظام الخيالي المتعددة الأشكال؛ فروابط النظام الخيالي المباشرة تفسح المجال للقوة اللاشخصية للقوانين الكونية، بينما تفسح المعرفة البديهية المجال للمعرفة غير المتوقِّفة على الذات وهي العلم أو النظرية، «فالمضمون» — جسم الأم — عند الطفل الأوديبي يجب أن يأتي ثانيًا بعد «الشكل»، قانون أبوي لا يتمثَّل إلا في منع أجوف؛ لكن فقط بالخضوع لقانون الإخصاء هذا أو الأنا العليا يُمكن للفرد أن يحتل مكانًا ذا دلالة في نظام القرابة؛ ومِن ثَمَّ يصبح ذاتًا؛ فالعقدة الأوديبية تعاد صياغتها في إطار سيميائي؛ إذ إن الذات لا يمكنها أن تكون مستقلة باعتبارها كائنًا متحدِّثًا فاعلًا مستقلًّا في الظاهر إلا من خلال وضع قُيود صارمة على نفسها وكَبْت رغبتها المحظورة وهجر متعتها في شعور بالذنب. فالمتعة أو الاستمتاع بجسم الأم — كما يبين لاكان — محرَّم على الذات؛ فالذات منقسمة إذن بين القانون والرغبة، وإن كان يتوارى في قلب النظام الخيالي، كما سنبين لاحقًا، جدل مُعلق بين الاثنين يُعرف بالنظام الواقعي.

إنَّ دخول النظام الرمزي يعني الخضوع للنفي نوعًا ما، فعلاقتنا بالعالم لم تَعُدْ تتمتع بفورية الخيالي «الزائفة» بل يتوسَّطها الدالُّ من كل الجوانب. وهذا يتضمَّن استنزافًا معينًا للواقع؛ حيث إن الدالَّ نوع من الإخصاء، نَصلٌ قاطع يفصلنا عما هو واقع. فبدلًا من تصوُّر إحكام قبضتنا على الأشياء الفعلية، علينا أن نرضى بمدلولاتها الوسيطة التي تُعرف باللغة، فالرمز — كما يبين لاكان — هو موت الشيء؛ حيث إن سيادة الدالِّ تفرض «تلاشي» الذات الكاملة. فالتكلم — وهو ما لا يَعدو إلا انتقالًا أجوفَ من دالٍّ إلى آخر — يعني من هذا المُنطلَق انتظار الموت، حيث يُمثل لا وجود الذات نذيرًا بفنائها في نهاية المطاف. وربما يكون ذلك أحد معاني عبارة القديس بولس: إنا نموت في كل لحظة. إن الدوالَّ قاصرة في جوهرها؛ فحيث إن المعنى ناتج عن الاختلاف، يتوجَّب وجود دالَّينِ اثنين على الأقل لإنتاج معنًى واحد. وبما أن هذَين الدالَّيْنِ يتضمَّنان دوالَّ أخرى عديدة، فإن العملية كلها معقَّدة، ولا يُمكن حصرها شأنها شأن الرغبة ذاتها.

كما أن هذه ليست علامات أو أصوات ابتدعناها بأنفسنا؛ فلكي تُعبِّر الذات عن معنًى، عليها أن تبني على المخزون أو المستودَع الهائل للرموز والقواعد والدوال الذي يُسمِّيه لاكان بالآخر الكبير؛ لذا فهي لا تُعبِّر عن معنًى إلا بعد فترة وبوجود وسيط، باستخدام الدوال التي تبلوَرَت من مقاصد الكثير من الآخرين المَجهولين. فكل دالٍّ كاللوح المكتوب عليه أكثر من مرة، فحاجتي إلى أن يُعترف بتميُّزي كذاتٍ تتداخَل مع وسيط ليس لأي منا ملكية له، وله منطقه الخاص بصفة مستقلة عن إرادتنا، و«يعبر» عني أكثر مما أعبر عنه؛ فالدالُّ هو ما يصنع الإنسان وليس العكس. إذن، فوهم السيطرة لدى الطفل في طور المرآة، إلى جانب هُوِيَّته الذاتية الزائفة، يتبدَّدان بالتبعية، فالآخر الكبير الذي أستعير منه كلامي لا يكتفي بإخباري بما قد أقوله، بل يُخبرني بما قد أرغبه؛ لدرجة أن جوهر وجودي الصميم تصنعه روابطي بما يَختلِف عني.

إذن، نحن مقدَّر علينا أن نعبِّر عن أنفسنا بلسان غريب عنا دائمًا، فحتى إن أمكنني التعبير عن رغبتي فعليَّ أن أُعبِّر عنها باستخدام وسيط — هو الآخر الكبير أو المجال البين-ذاتي بكامله — وهو الذي لا يُمكن التعبير عنه؛ إذ ليس ثمَّة آخر بالنسبة للآخر الكبير، ولا يوجد منظور يُمكن من خلاله رؤية هذا الفضاء بمجمله؛ حيث إن هذه العملية تحتاج للدلالة عليها من داخله؛ ومِن ثَمَّ تعجِز عن تجاوزه، فما يُسميه لاكان بالفالس (القضيب) كما رأينا هو دالٌّ سحري يُمَكِّن الفرد من الفهم الكامل لخطابه في الوقت الذي يقضي فيه على غموض حديث الآخر؛ لكن القضيب كاذب. ويُعرف هذا الالتباس للدوال التي أتقيد باستخدامها، والطريقة التي طالَما تتجاوز بها آثارها الملتبسة مقاصدي، باللاوعي. فالذات تنقسم بين الأنا واللاوعي، وهو ما يعني أنها تنقسم بين خطابها وموقع هذا الخطاب ودلالته في إطار الآخر الكبير أو الشبكة الكلية للدوال التي لا يُمكنها أن تدركها على نحو سليم. فاللاوعي هو إذن أداء وليس مكانًا، فالإنسان كالرسول العبد في العصور القديمة «الذي تُكتب على رأسه الوصية التي تحكم عليه بالموت «لكن» لا يعرف معنى الرسالة ولا اللغة التي كتبت بها ولا يعرف حتى أنها كُتبت على رأسه المحلوقة وهو نائم.»2 فتجرُّد النظام الرمزي عن الأشخاص عند لاكان يرتبط ارتباطًا كبيرًا بمجهولية الموت.
وإن كان لاكان قد سمى نظامه ﺑ «الرمزي» فذلك لأن محل الجدل هنا هو المواقع ذات الدلالة وليس الأفراد الذين من لحم ودم، فنحن لا نَصير أشخاصًا «حقيقيِّين» إلا باتخاذ موقع أو آخر من هذه المواقع الرمزية، مثلما لا نُصبح أشخاصًا إلا عندما نتعلم الكلام. وليس هذا الحال في النظام الخيالي حيث لم تتمَّ الدلالة الرمزية بعد، فموضوع النظام الرمزي، كما يقول فريدريك جيمسون، «يتحول إلى تمثيل لذاته.»3 إذًا فنحن نتعامل مع بِنية شكلية بَحْتَة، يُوزَّع الأفراد بداخلها ويوضعون في مكانهم بقانون حاكم يُطبَّق بحيادية عليهم جميعًا، فما يهم هو العلاقات، التي يُمثلها دورٌ كدور «الأب»، وليس الأفراد الواقعيِّين الذين تقوم بينهم هذه العلاقات، فسلوكي المداعب مع ابن عم والدي مثلًا يَرجع لأنه قريبي وليس لأنه شخص ظريف بالضرورة؛ فتبجيل الإنسان أباه لأنه ذكي، كما يقول كيركجارد، ضرب من العقوق. ويُفرِّق كتاب باسكال «خواطر» بين المتشكِّك الذي يعرف حقيقة السُّلطة والسذَّج من العامة الذين يَعتبرونها أمرًا مقدسًا، وفريق ثالث يحترم السلطة لكن ليس لأنها ذات قيمة في ذاتها؛ لذا فإن النظام الرمزي نوع من الخيال؛ فنحن نعلم مثلًا أن حكامنا السياسيين مُهلهَلُون أخلاقيًّا من كل الجوانب مثلنا؛ لكن اعتبارهم حكامًا بالدرجة الأولى تعليقٌ لهذه النظرة السالبة للقوة. إذًا فالأماكن في هذا النظام مفاهيمية أو رمزية، وهي بهذا قد تجتمع أو تتبدَّل تبعًا لقواعد صارمة معينة. أو بالأحرى، يسمح القانون بتغيرات معيَّنة بينما يمنع أخرى (كزنا المحارم على سبيل المثال).
يوجد فارق هنا بين التبادُل «الخيالي» و«الرمزي»، فعمليات التبادل الخاصة بالنظام الخيالي كما رأينا تتضمَّن طمسًا للحدود بين النفس والآخرين؛ بحيث يبدو أن الأجسام تمتزج في سلاسة ببعضها، فيعيش كل منها حياة الآخر ويَلتحِم كل منها بالآخر. هذا إذًا تبادل حرفي للذات لأقصى درجة متصوَّرة. أما التبادل الرمزي فيقوم على التجريد؛ إذ يمكن لشيء أن يحل محل شيء آخر؛ حيث إن الأمر لا يتوقف على طبيعته الخاصة بل على موقعه المحدَّد في النظام، فهو كالسِّلعة غير موجود بذاته بل بحركته مع أمثاله. ويمكننا أن نزعم على الطريقة الماركسية بأن النظام الرمزي قضية مرتبطة بقيمة التبادل، بينما يُعد النظام الخيالي، الذي نُقدِّر فيه السمات الملموسة للآخر في حدِّ ذاتها، حالة من قيمة الاستعمال. وكما يقول كيركجارد عن النوع الإنساني في كتابه «المرض طريق الموات»: كل فرد «أملس كالحصاة، يمكن تداوله كالعملة الرسمية لدولة ما.»4
إن كنت أنا وأنت مرتبطَين بوسيط (الآخر الكبير) يتخطَّى كلًّا منا، فهذه حقيقة لها تَبِعَات تتعلَّق بفُرَص الفهم المشترك بيننا؛ فالآخر الكبير — باعتباره مكانًا أسطوريًّا يرقد فيه كثير من المعاني المجهولة المتشابكة — غامض وملتبس؛ وبما أنه هو المكان الذي نستمدُّ منه أنا وأنت الحديث الذي نتواصَل به، فإن كلًّا منا يصير غامضًا أمام الآخر بدوره. أو بلغة لاكان المُبهَمة فإن الآخر يصير الآخر الكبير. (مثال حقيقي: سألني صديق أخطأ في سماع موضوع هذه الدراسة فظنَّه عن مقاطعة إسيكس  Essex، بدلًا من الأخلاق Ethics، عما إذا كنتُ قد ذكرتُ كولتشستر. وقضيت عدة أيام في قلق متسائلًا عما إذا كان كولتشستر فيلسوفًا أخلاقيًّا كان ينبغي أن أعرفه أم لا.) لكن المسألة أعمق من مجرد اللبس اللفظي، فهل يرمز الثدي إلى الحب، كما نتصور الطفل الصغير وهو يتساءل، أم إلى دفع الجوع وحسب؟ هل هو استجابة لاحتياجه للاعتراف به أم استجابة لحاجته وحسب؟ يُمكِنُنا أن نتصوَّر الطفل الذي تَنهمِر عليه الرسائل الملتبسة المعاني من الآخر الكبير، وقد قضَّ مضجعه لغزٌ ما يريده الآخر الكبير منه. وإلى هذا الحد، فإن الطفل في نفس موقف البروتستانتي الخائف، غير قادر على فك شفرة الرسائل المُستمرَّة لكن غير المسموعة لرب يَحجبه الظلام؛ فالآخر الكبير هو ربٌّ خفي، أوامره غامضة لكنها ملزِمة.

إذن لا يمكن أن يوجد أيُّ منفَذ للوصول للآخرين بلا عائق؛ حيث إنهم يقبعون مثلنا خلف جدار اللغة، فإن ما يتيح لك التعرف عليَّ هو نفسه ما يعزلك عني. ولم يَعُدْ هناك أي تناقُض صارخ — كما كان عند ديفيد هيوم — بين الأقرباء والغرباء. والآن وفيما يتعلق بنظرية التواصل المتشائمة تلك، فحتَّى الأكثر حميمية غريب بالضرورة، فكل الجيران غُرباء، وحتى الحديث الحميمي لا خصوصية فيه. إن فكرة وجود نظام اجتماعي يُجري فيه الأشخاص ذوو الإرادة الحرة تبادُلات شفافة مُتماثلة مع أشخاص آخرين على نفس القدر من الشفافية قد انكشف زيفها. ولنا أن نقول إنها خرافة مجتمع الطبقة الوسطى.

ثمة شيء مُحزِن في هذه الرؤية جرت الإشارة إليه كثيرًا، ففي مفارقة مقلقة، عندما يبدو العالم وقد بلغ اتصافه بالإنسانية أقصاه — عندما يَنسِجه الدال من البداية للنهاية — نجد أنفسنا وقد شعرنا بأقصى درجات الاغتراب. فقد يكون الدالُّ وسيلة لاستحواذ بعضنا على بعض بدرجة أكبر من المخلوقات غير المتكلِّمة؛ لكنه يعبر عن خسارة لا يُمكن تعويضها، فنحن نحصل على إنسانيتنا مما هو غير إنساني بالكلية، العلامات والآثار والأصوات والبصمات والنقوش. وفي ظل النقص الذي تزرعه اللغة في الذات مثل الفيروس، فإن الذات يمكنها أن تتعلق بالشيء السامي الذي ترغبه فقط في صورة بديل جزئي له، قطعة شاردة من فضلات أو بقايا يسميها لاكان «موضوع الرغبة المستحيل أو الآخر الصغير». وتتمزق الرابطة الخيالية بين الذات وعالَمُها لتترك جرحًا نفسيًّا متقيِّحًا يُعرف بالذاتية.

يُدير الواقع ظهره إلينا كحبيب سابق يرفض الآن الاعتراف بوجودنا. وتُفرَّغ الذات الإنسانية بأسلوب كوبرنيكي أو دارويني من مركزيتها الخيالية؛ فالعالم لم يَعُد يدين لها بالمعاش، ولن يموت بالتأكيد كزوج يعتمد عليها عاطفيًّا يوم وفاتها هي؛ إذ يجب علينا الآن أن نفكر في إطار عالم من الذوات المنفصلة التي توجد — بعبارة إيمانويل ليفيناس — جنبًا إلى جنب وليس وجهًا لوجه، وكلها عناصر متغيرة لكيان لا يتمركز على أي شيء، ولا حتى نفسه. فإن كان فضاء النظام الخيالي ولادًا، فإن فضاء النظام الرمزي مجال مسطح لكنه متغاير. إن هذا الفضاء هو ما نتعرض إليه في الفروع الرئيسية للأخلاق الرمزية: الفلسفة الكانطية والليبرالية والنفعية. ويُمكن لنا أن نميز بين الانغلاق الذاتي في النظام الخيالي والانفتاح اللانهائي الذي يتميز به الآخر الكبير؛ لكن هناك نوعًا مكافئًا من الانغلاق الذاتي في النظام الرمزي لا يتلقَّى أيَّ صدًى لخطابه من العالم فيما وراءه، فأي صدى من هذا النوع عليه أن يمرَّ من خلال الدالِّ المُراوِغ؛ وبذلك لن يُمثل أي جزء من «الخارج» إطلاقًا، فالنظام الرمزي هو عالم من الاحتمال المحض لا أساس له، فأي أساس للغة يجب أن يكون قابلًا للتعبير عنه باللغة؛ وبهذا يكون جزءًا من المشكلة وليس الحل. ليس ثمة دال فوقي.

إذن هل هذا ما يعنيه ما يُسمى بالنضج والتنوير؛ أن نُحرم من الراحة والتعزية من غير مصادرنا، وأن يَعزلنا عن الواقع عين الوسيط (اللغة) الذي من المفترض أن يفتح أبوابه أمامنا؟ سيبدو أن تحرُّرنا هو اغترابنا الذاتي في الوقت نفسه؛ فاستقلالنا يقوم على قمع اعتمادنا على الغير؛ فقد استبدلنا بالاعتماد على الطبيعة إدمانًا للرغبة؛ فالجرح الموجود في ذاتنا الناتج عن تمزُّق اتحادنا الفطري مع العالم لن يلتئم أبدًا، إلا أنه من دون هذه الخطيئة الأولى لن يكون هناك تاريخ ولا هُوِيَّة ولا اختلاف ولا حب.

لقد مثَّلت فكرة النظام الرمزي مشكلة عند اليسار الثقافي في عصر سابق؛ فقد بدا مفهومًا طليعيًّا لامعًا، بحديثه عن النقص والرغبة والاختلاف والغيرية والتشتيت وهشاشة الهوية وسيادة الدال، فعلى عكس النظام الخيالي بتصوراته الطفولية واستثماراته النرجسية، يتمتع النظام الرمزي بلمسة من الواقعية الناضِجة وإن كانت حزينة أو انهزامية. لكن من زاوية أخرى، فإن ما يمثله النظام الرمزي ليس إلا الوضع السياسي الراهن، فإن كان هذا النظام مرتبطًا بالنقص والرغبة فهو مرتبط كذلك بالقانون والتماثل والتنظيم. هل كنا إذًا نوجه نقدًا ﻟ «النظام الخيالي» للأيديولوجيا من رحم هذه الأزمة؟

لذا أصبح المنظِّرون في حاجة إلى مفهوم أو آخر يَضمن تجاوز خطابَيِ النظامين الخيالي والرمزي كليهما معًا، فخرج جاك دريدا بمفهوم الاختلاف، وجوليا كريستيفا ﺑ «النظام السيميائي»، وميشيل فوكو بفكرة السلطة، وجون-فرانسوا ليوتار في بداية مسيرته بنظرة خاصَّة للفورات الشهوانية. إن الرغبة التي يمجدها جيل دولوز وفيليكس جوتاري لا تخضع لشيء مُقيِّد كالنظام الرمزي، ولا تتحمَّل شيئًا مهينًا كالنقص والإخصاء، فالنظام الرمزي عند كل هؤلاء المفكرين ينبغي تفكيكه؛ لكن ليس بالرجوع إلى النظام الخيالي. في الحقيقة، كما سنرى، كان لدى لاكان طريقته في تحقيق هذه الغاية تُعرَف بالنظام الواقعي. وبفضل هذا المستوى المبهَم أصبح من الممكن تطويق كلٍّ من النظام الخيالي والنظام الرمزي والتغلب عليهما معًا في آنٍ.

هوامش

(1) Some central features of Lacan’s thoughts on the symbolic order can be found in his Écrits (Paris, 1966), especially in the essay ‘Subversion du sujet et dialectique du désir dans l’inconscient freudien’. See also Jacques Lacan, Le Seminaire Livre 1: Les Écrits Techniques de Freud (Paris, 1975).
(2) Jacques Lacan, Écrits (London, 1977), p. 307.
(3) Fredric Jameson, ‘Imaginary and Symbolic in Lacan’, Yale French Studies, 55/56 (New Haven, CT, 1977), p. 363.
(4) Søren Kierkegaard, The Sickness Unto Death (London, 1989), p. 64.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤