الفصل الرابع

سبينوزا وموت الرغبة

دفع كوبرنيكوس ثمن زحزحة الإنسان من مركز الكون، وكذلك فعل مكافئه الفلسفي بينيدكتوس دي سبينوزا، فقد طُرد سبينوزا — ابن الرجل اليهودي الشرقي البرتغالي الذي هاجر إلى هولندا هربًا من الاضطهاد الديني — من معبده في أمستردام بتُهمة الهرطقة، وسافر بصحبة مسيحيِّين منشقين، وأطلق عمله الرائع المنادي بالتسامح الديني والسياسي، «رسالة في اللاهوت والسياسة»، الذي استُنكر باعتباره عملًا «أتى به من الجحيم يهوديٌّ مارق وشيطان.» والكتاب كذلك نقدٌ تاريخي وعلمي للكتاب المقدس يهدف إلى نسف الخرافات التي يتغذَّى عليها الاستبداد.

لقد كان هذا المناصر الكبير للتحرُّر العقلاني مؤيدًا على طريقته لما يمكن أن نسميه نظرية للأخلاق الرمزية. لم يكن ذلك بالتأكيد بنفس درجة الاكتمال التي سنراها في كتابات إيمانويل كانط؛ إذ يرى، بعكس كانط، أن النظام الرمزي للمجتمع يحظى بدعم الطبيعة، أي إن الطبيعة والإنسانية مرتبط كلٌّ منهما بالأخرى ارتباطًا لا فكاك منه، بل إنهما وجهان لنظام واحد تحكمه قوانين كلية يُطلِق عليها سبينوزا في عمله «الأخلاق» أحيانًا اسم الرب؛ فالقُوى التي تسبب سقوط ورق الشجر هي نفسها القوى التي تشكل عواطفنا، إلا أن الطبيعة لا اهتمام لها بنا نحن البشر وهي لا غرض لها؛ فلكي تواجه الذوات بعضُها بعضًا في النظام الخيالي يجب عليها أن تدخل في مواجهة بعضها بعضًا، حتى وإن كانت لا تفعل ذلك إلا لتتسلَّل إلى داخل بعضها. لكننا عند سبينوزا لم نَعُدْ مدعوِّين لرؤية العالم من داخل الباطن الباهر للذات، بل يُنظَر للرجال والنساء بصورة طبيعية من الخارج بنفس الموضوعية التي يَنظُر بها عالم الحشرات لإحدى الحشرات؛ فهم عناصر نظام شامل، نظام تعتبر قوانينه في غالب الأمر مستعصية عليهم كما تخفى البنية العميقة لأسطورة ما على أتباع ليفي-ستروس. يُقر سبينوزا، الذي يؤمن بأن الفكرَ الحقيقي كلَّه يتطلع لكمال الهندسة، في عمله «الأخلاق» بأنه سيبدو من الغريب على قرائه أن «يتناول رذائل الناس وزلاتهم بأسلوب هندسي، وأن يتطلع لأن يبين بمنطق راسخ تلك الأشياء التي يشكُون منها باعتبارها منافية للمنطق ولا طائل منها وسخيفة ومقززة.» مع ذلك فإن تبنِّي روح الهندسة هذه هو في النهاية باسم الحب والتسامح، وهو في نظر سبينوزا أجدى من أي نوبة عاطفة قصيرة.

كما أن الرجال والنساء عند سبينوزا ليسوا فواعل مستقلة، كما هو حالهم عند كانط والمفكِّرين «الرمزيين» — هابرماس ورولز — الذين يمجِّدون تيار الأخلاق هذا في زماننا الحاضر، بل هم على العكس ضحايا للسبَبية لا حول لهم ولا قوة مثل مريض السرطان. لكن هذه الاستقلالية في رأي لاكان — على الأقل في أكثر مراحله اتصافًا ﺑ «البِنيوية» — وهمية على أيَّة حال في معظم الأحيان؛ فاعتقاد الأنا بأنها سيِّدة نفسها يُخفي وراءه اعتمادها على قانون الدال، أو — كما في رأي سبينوزا — على قوانين الطبيعة. والحرية عند العوامِّ من الناس — مقابل المُتخصِّصين الذين يدرسون سلوكهم — هي الجهل بالضرورات. إنَّ غفلَتَنا عن أسباب أفعالنا هي السبب في إمكانية امتلاك الوهم المعروف بالحرية. يُبيِّن تي إس إليوت في واحدة من أكثر الفقرات اقتباسًا في النقد الإنجليزي مفهومه السلبي المُستنكِر للخيال الإبداعي بأن كتب كيف أن العقل الشاعري يربط تلقائيًّا أحاسيس مثل الوقوع في الحب وسماع صوت الآلة الكاتبة وشم رائحة الطعام وهو يُطْهَى وقراءة أعمال سبينوزا. إن العامل المشترك بين الأمثلة الثلاثة الأولى هو خلوُّها من الإرادة، اللهمَّ إلا إن كان شم رائحة الطعام المذكور تشمُّمًا؛ لذا من الملائم جدًّا أن الفيلسوف الذي خطر ببال إليوت لم يؤمن بمثل هذه الملَكة، وإن خطر اسم سبينوزا على ذهن إليوت تلقائيًّا فقد تكون الفقرة مثالًا على ما تقوله.

حتى الرب عند سبينوزا، الذي لا يُحبُّنا ولا يكرهنا، ليس حرًّا في فعل ما يحلو له، فهو حر بمعنى أنه يُقرِّر مصيره، يحركه ما تمليه عليه طبيعته الإلهية؛ لكن لا يمكنه أن يكون مثلنا ويظل إلهًا. وهذه النظرة في إطار هذا السياق نظرة راديكالية سياسيًّا؛ فالرب ليس مَلِكًا مستبدًّا متقلبًا يحكم بأحكام اعتباطية، وهو ليس مدللًا ونَزَويًّا كمُطرب مشهور. وعلينا أن نحترس أشد الاحتراس، كما يحثنا سبينوزا في كتاب «الأخلاق»، من الخلط بين سلطة الرب وسلطة الملوك؛ فبعكس الطغاة، على الرب أن يحترم قوانين الكون. إن قوانين الكون هي ما نَعنيه بالرب، الذي هو كامن في الطبيعة وليس فوقها؛ فالعالم، باختصار، هو جسد الرب، وإن اختلف عما هو عليه فلن يكون الرب ربًّا مثلما سأكون شخصًا آخر إن سكنت جسدًا مختلفًا كلية. وبما أن كل أفعال الرب مسألة ضرورة، فإن من المستحيل أن يخلق العالم خلقًا مختلفًا، وهي فكرة تعد في نظر سبينوزا حافزًا قويًّا على مذهب الرواقية. سينظر الحكماء إلى الزلات والكوارث الإنسانية كما ينظر الإنجليز إلى الطقس: فهي أشياء غير مقبولة؛ لكن هناك عزاءً في أنها لا يمكن أن تتغير. كما أن هناك كذلك إمكانية أن نصبح نحن شبيهين بالرب، تحرك أفعالنا الضرورة المحضة في طبيعتنا الخاصة من دون أي إلزام خارجي. إن هذا هو ما عرفه سبينوزا — استباقًا لكانط — بالحرية؛ فالحرية ليست انعدام الجبرية، بل هي المشروع الشاقُّ المُتمثِّل في تقرير الذات.

إن الحقيقة القائلة أن لا شيء يُمكن أن يكون بخلاف ما هو عليه لا تتوافَق بالطبع مع الحكمة التقليدية للعامة؛ إذ يرى لوي ألتوسير — الذي اعتنق شكلًا من الماركسية المُصطبِغة بفلسفة سبينوزا — أن كلًّا من الضرورة والحرية سمة من سمات الأيديولوجيا؛ ضرورة لأننا تحت تأثير الأيديولوجيا نتصوَّر أن وجودنا الفردي ضروري بصورة ما للمُجتمع ككل وأننا خرجنا إلى العالم مُرتبطين به كما يرتبط الأطفال بآبائهم؛ والحرية لأن النظام الخيالي الأيديولوجي يُمدُّنا — من خلال «وضعنا في المركز» بهذا الشكل — بقدرٍ كافٍ من الوضوح والإحساس بالاستقلالية لنتصرف باعتبارنا فواعل لها غايات. ويُدرك الجزء الأكثر ظُلمة من النظرية أن وجودنا باعتبارنا أفرادًا محتمَلٌ تمامًا؛ أي أن النظام الرمزي متعلِّق بمواضع معيَّنة، وأن ما يشغلها مسألة ثانوية بحتَة. لكن النظرية تَعي كذلك وجود ضرورة لوجودنا اليومي باعتبارنا «حاملين» لقوانين التاريخ التي نجهلها في الأغلب، فالعقل التقليدي عند سبينوزا يَفترض أن الأشياء في عالم الأيديولوجيا — أي عالم التجارب اليومية المُحيِّر بشدة — حرة، ووجودها مُحتمل وتُحركها الصدفة والعمل، بينما تُدرك الفلسفة أنها جامدة لا تتغيَّر كالصخر. فإن كانت الذات عند لاكان منقسمة بين النظام الخيالي والنظام الرمزي، فالمثل يَنطبِق عند سبينوزا على المجتمع الإنساني نفسه، الذي يَنقسِم بين الرعاع المُضلَّلين وحاملي المعرفة الحقيقية؛ فنظرية سبينوزا الأخلاقية من هذا المنطلق طبقية بقدر تلك الخاصة بأرسطو.

إذًا ينتمي سبينوزا لتيار فلسفي — يمتدُّ من أفلاطون مرورًا بشوبنهاور وماركس وصولًا إلى نيتشه وفرويد وليفي-ستروس — يرى التَّجرِبة موطن الوهم. وفي هذا أعظم تناقُض مع العالم القائم على البديهة عند هتشسون وسميث، وهما رجلان يتمتعان بإيمان راسخ بما يمكن لمسه والإحساس به. وتُعتبَر جذور ذاتيتنا في ضوء هذا التراث التشكُّكي مجهولة إلينا، ومجهولة بالضرورة (عند معظم المفكِّرين المتشكِّكين). إننا لا يُمكننا أن نُكوِّن أنفسنا إلا من خلال كَبْت محددات وجودنا الحقيقية أو نسيانها أو التعمية عليها؛ فنحن نتحدث لغة العالم بطلاقة؛ لكن قواعدها عَصِيَّة علينا.

يعدُّ الوعي التقليدي من منظور سبينوزا مرتكزًا على الإنسان تلقائيًّا؛ فالأيديولوجيا التي نسقط فيها عند مولدنا هي نوع من الإنسانوية التلقائية، فالرجال والنساء «خياليون» أو مُنشغِلُون بالذات بالفطرة، حيث يَعتبرون أن الواقع يُقدَّم إليهم ويُصاغ حسب أهدافهم. وهم عاجِزون عن إدراك أن وجود الأشياء — مثلما هو الحال مع النظام الرمزي عند لاكان — يقوم تمامًا على النسبة بين بعضها وبعض، من دون جوهر ذاتي تقوم عليه. إن فكر سبينوزا معارض للاهوت بشدة؛ لكن العامة يَفترضون أن العالم خُلق لحكمة، وأن هذه الحكمة تبلغ أقصاها بتحقُّق رفاهتهم، فكل فردٍ يَثق بأن الرب «خلق كل شيء من أجل الإنسان» وأن «الرب يمكن أن يحبه أكثر مما سواه ويُسخر الطبيعة كلها لإرضاء طمعه الأعمى وجشعِه الذي لا ينتهي.»1 (الإشارات اللاحقة لأرقام الصفحات من عمل هيوم هذا ستُوضع بين قوسين بعد الاقتباسات المعروضة منه.) كما يؤمن العامة السُّذَّج بأن العواصف والأمراض والكوارث الطبيعية وما شابه قد أُرسلت لعقابهم؛ فالوعي الزائف هو عدم القدرة على هجر سيادة الإنسان الوهمية إلى حقيقة الواقع المحزنة. إن العامة في الحقيقة، رغم أنهم سيُفاجَئون بهذا، نفعيُّون أخلاقيون مُقتنعون بأن الخير هو أي شيء يُفضي إلى تحقيق رغباتهم وأن الشر هو ما يقف في طريقها؛ ﻓ «الخير» عندهم يعني «ذلك الذي يُحقِّق النفع/المتعة لي أو لنا»؛ وهو ما يعني أن العامة أتباع لديفيد هيوم وهم لا يعلمون. ونتيجة هذا التركيز على الإنسان هي النسبية، حيث يصدر كل فرد أحكامه «تبعًا لنزعات عقله هو» (٣٦).
إذًا فإن أيَّ نظرية أخلاق خيالية ثمرة لأنانية العامة المتبلدة؛ فكل الأشياء المخلوقة عند سبينوزا هي غاية في ذاتها، والسبب الوحيد في وجودها هو الحفاظ على كيانها ذاته، أما العامة فيَرَونَ أن الأشياء تتيح لهم سبيلًا مناسبًا لتحقيق رخائهم، فمن المؤكد — كما يفترضون — أن هناك «مدبِّرًا أو مدبرين، يتحلَّونَ بالحرية الإنسانية، اعتَنَوا من أجلهم بجميع الأشياء وصنعوا الأشياء من أجل أن تُستخدَم» (٣٢). والرجال والنساء العاديون «يعتقدون أن كل الأشياء صُنعت من أجلهم، ويحكمون على طبيعتها بالخير أو الشر، أو بأنها سليمة أو فاسدة تبعًا لتأثُّرهم بها» (٣٦)؛ لذا فإن العامة غير قادرين على رؤية أنفسهم في إطار النظام الرمزي، فهم عاجزون عن تأمل حياتهم من منظور الطبيعة المحايد؛ أي باعتبارها مجموعة واحدة من الظواهر التي تحكمها السببية في عالم لا تعدو فيه المادية والذاتية كونهما جانبين متبادلين من عقل الرب، فهم لا يفهمون أن «كل الأسباب النهائية ما هي إلا من ابتداع البشر» (٣٣)، بل يَلجئون إلى مخاطبة إرادة الرب، «وهي ملاذ الجهل» (٣٤)، فهم يتصورون شأنهم شأن الأعداء المعاصرين لداروين أن جسم الإنسان ظاهرة أعقد من أن تكون نتيجة شيء سوى إبداع خارق للطبيعة؛ فالإنسانية إذن «ملزمة بالعاطفة والرأي والخيال بإنكار طبيعتها الخاصة.»2

بهذه الطرق كلها فإن العامة «يَخلطون بين الخيال والمنطق» (٣٥)، وهو تمييز أعاد لوي ألتوسير صياغته لاحقًا تحت مسمى الأيديولوجيا والنظرية. فالمعرفة العامة لا تُخبرنا بأي شيء عن الواقع بل تُخبرنا بالكثير عن بِنية النظام الخيالي العام؛ إذ يؤمن الناس العاديُّون مثلًا بأن العالم مُحكَم النظام؛ لكن هذا في رأي سبينوزا لا يعني إلا أن «الأشياء، عندما تكون شديدة التنظيم، بحيث عندما تظهر لنا من خلال حواسِّنا يمكننا تصورها ومِن ثَمَّ تذكُّرها بسهولة، يمكن أن نصفها بأنها محكمة التنظيم» (٣٥). والأشياء التي نتخيَّلها بسهولة نجدها مُمتعة. لكن النظام في الطبيعة من منظور سبينوزا هو لا شيء «إلا فيما يتعلَّق بخيالنا» (٣٥)، وهي مسألة كان ديفيد هيوم سيُقرها دون تردد.

إذًا فإحداثيات المعرفة الشائعة هي نفسها إحداثيات النظام الخيالي؛ المتعة والعواطف والحواس والتمثيل والخيال والأنانية وأوهام الترابط. إن الخيال ليس زائفًا بدرجة أكبر من الأيديولوجيا في نظر ألتوسير، فنحن لا نرى الشمس أقرب مما هي عليه منَّا؛ لكن «المعرفة» الحسية من هذا النوع لا يُمكن الاعتماد عليها أبدًا، وتتعارض مع حكم العقل المطلَق، ﻓ «الأشياء المثالية» كما يكتب سبينوزا مهاجمًا «ما هو سوقي»، «لا تُقاس إلا بطبيعتها وقوتها، فكمال الأشياء لا يزيد أو ينقص لأنها تَسُرُّ الحواسَّ البشرية أو تؤذيها، لا لأنها نافعة للطبيعة البشرية أو ضارَّة بها» (٣٧). ففلسفة السعادة وفلسفة المنفعة يُبطلهما ضرب من العقلانية لا يرى في أخلاق العامة سوى نوع من الأنانية الجماعية المتوحِّشة، فالسوقيون لا يمكن أن يرقوا لمستوى تحدِّي النظر إلى العالم كما لو كانوا لا ينظرون إليه؛ فالخطاب الأخلاقي من الناحية المباشرة قائم على خطأ، فهو نتيجة الخطأ في معرفة الأسباب والطبيعة الحقيقية للأشياء؛ إذ يطلق أحكامًا على أفعال منفصلة — مثلًا — ولا يستوعبها باعتبارها أجزاءً مكوِّنة لكلٍّ، وهو يشترك إلى الآن في نقاط كثيرة مع ما يُعرف في الماركسية بالفلسفة الأخلاقية.3 ولا تعادي النظرية الماركسية الخطاب الأخلاقي — الذي تُعد هي ذاتها نموذجًا واضحًا له — بل الحكم الأخلاقي قصير النظر الذي يُجرد الشيء محل التقييم من سياقه التاريخي. وليس من الغريب أن بليخانوف أثنى على سبينوزا معتبرًا إياه أَبَا الماديةِ الإلحادية.
وكما يُعلق ستيوارت هامبشير فإن «النصائح والرسائل الموجَّهة للعاطفة والرغبة بلا جدوى وغير ذات صلة (عند سبينوزا) في الفلسفة الأخلاقية كما في الفلسفة الطبيعية.»4 ويستبعد مجمل نظرية «الحس الأخلاقي» مقدَّمًا؛ فالمُصطلحات العاطفية مثل «اللذة» و«الاستنكار» وغيرها لا تقدم سوى تناسُق زائف لنطاق مجموعة كبيرة من الاستجابات. ويُمكننا الثناء على الآخرين أو توجيه اللوم لهم تبعًا لأذواقهم وحساسياتهم، كما هو الحال مع أفعالهم «الأخلاقية». «فكلُّ ما يراه (شخص ما) مزعجًا أو سيئًا» كما يكتب سبينوزا «وكذلك كل ما يراه فاسدًا أو مريعًا أو ظالمًا أو مشينًا سببه أنه يرى هذه الأشياء بأسلوب مختلٍّ ومُشَوَّهٍ ومشَوَّشٍ» (١٨٧). وينطبق نفس الأمر على قراءة الكتاب المقدس؛ فالجاهل يأخذ العبارات العاطفية مثل «غضب الرب» بمعناها الحرفي بدلًا من فهمها باعتبارها مجازًا لحقائق أزلية، «فالمشكلات الأخلاقية» كما يقول هامبشير «هي في الأساس مشكلات مرضية.»5

إن تلك الرؤية الأخلاقية التي خَطَّها قلمُ مُهَرطِقٍ يهوديٍّ مُطارَد باهرةٌ بقدر ما هي فاسدة؛ فلم يكن سبينوزا ليعتبر الغضب أو الامتعاض استجابة ملائمة لاضطهادِه؛ إذ لم يَعتبر الأخلاق قضية عاطفية في المقام الأول؛ فالحب والكُرْه البشريان ينبعان من جهودنا أو سعينا الفطري للبقاء؛ وبذلك فهي لا تخضع لسيطرتنا مثلما الحال مع اللاوعي عند فرويد أو نمط الإنتاج الرأسمالي. يجب علينا أن نتبنَّى مذهبًا تأويليًّا متشكِّكًا في أحكامنا، وأن نَمْحُوَ باستمرار أي إشارة للذات، وأن نعتبر حديث الفرد عن مشاعره ودوافعه عَرَضًا (بالمعنى الفرويدي) أو تبريرًا (بالمعنى الفرويدي الماركسي). فالحقيقة لا ترتكز على تجربة الفرد بل تكمن في الأسباب الطبيعية والمادية التي تُشكِّل حالات الوعي تلك، ولا يُمكن معرفتها أبدًا تحت مِظَلَّتِها، فكون الذات ذاتًا يعني إساءة التفسير.

يصعب التهوين من شأن التأثير الثوري لهذه النظرة؛ فقد رأى لوي ألتوسير أن سبينوزا «أشعل ثورة نظرية غير مسبوقة في تاريخ الفلسفة، ربما كبرى الثورات الفلسفية في كل العصور.»6 فهذه الأفكار الهدامة بصورة كبيرة — التي أعلنها صانع عدسات طبية مغمور يتمتَّع بمنزلة القديس وسط الفلاسفة — تُقَوِّض عقائد أخلاقية كاملة وتهدم نطاقات كاملة من التحيُّز الإنساني؛ فالتجارِب اليومية — وهي عين مكمن الأخلاق عند لوك وهتشسون وهيوم — مضطربة وغير عقلانية وسابقة على العلم الحديث وتهتم بالذات تلقائيًّا، فكلمات مثل «شرير» و«فاضل» — وهي كالأحكام الجمالية عند كانط — لا تُشير للخصائص الموضوعية للأشياء بل لموقف المتحدِّث منها؛ فالمصطلحات الأخلاقية لا تنطبق على البشر؛ إذ إنهم لا يتمتعون بحرية أكبر مما تتمتَّع به سمكة الزينة، والنفس لا تستعبدها السببية بصورة أكبر إلا عندما تظن أنها حرة؛ فالرجال والنساء أشياء طبيعية تحكمها السببية، وفي تعلم هذه الحقائق وتقبُّلها يَكمن الطريق إلى الورع والخلاص.

إن القادرين على التنزه عن المصلحة والرغبة وَحدهُم يمكنهم تقبُّل هذه العقيدة الحكيمة القائمة على كشف الوهم، ويعني سبينوزا ﺑ «التنزُّه عن المصلحة» شيئًا يختلف عما يقصده الفلاسفة العاطفيُّون في القرن الثامن عشر، فهم — كما رأينا — يَرَونَ أن التنزُّه عن المصلحة لا يعني ممارسة نوع من اللامبالاة المعتدلة بل الشعور بالتعاطف مع شخص آخر عندما لا يكون هناك عائد من ذلك. أما في فلسفة سبينوزا فهذا الشعور بجسد شخص آخر من الداخل ليس نوعًا وافيًا من المعرفة؛ حيث إن معرفتنا بالأشياء التي تؤثر فينا من خلال أجسادنا — وهو ما يتضمَّن معرفتنا بالآخرين — معرفة من نوع «مشوَّش ومشوَّه». وكذلك لا يمكننا أن نُحصِّل معرفة وافية عن أجسادنا، وهو ما يدق مسمارًا في نعش أعمال الفلاسفة العاطفيين؛ فالعواطف صورة مشوَّهة من الإدراك، وعلى الفكر أن يَسمو فوقها. (ورغم ذلك يشير سبينوزا بصفة عارضة — وهو بالشيء الغريب — إلى أنه لا يُمكن للسرور أن يكون زائدًا عن الحد.) فاللغة المُستخدَمة يوميًّا غامضة بقدر حياتنا العاطفية؛ حيث يحكمها الخيال بدلًا من أن تحكمها أفكار مميَّزة وواضحة، فنحن نعيش في عالم من المعاني الهلامية والأشياء المُلتبسة، لا أمل في الخلاص منه إلا بجهود الفلسفة والرياضيات واللاهوت مجتمعة.

لذا فما اعتبَرَه أنصار مذهب الخير عين منبع الأخلاق — الشعور — رأى سبينوزا أنه ينبوع الإدراك الزائف، فهو يتفق معهم في أن الشعور كله أساسه في الصور الخيالية؛ لكنه يرفض اعتباره مصدرًا للمعرفة الأصيلة.7 وهذا لأن الإدراك الحقيقي للأشياء غير مُمكن إلا «عند الرب»؛ فهو معرفة مطلقة وخالدة، شأنها شأن النظرية عند ألتوسير لا تاريخ لها. فالرؤية السليمة للعالم تعني رؤيته من منظوره الذاتي إن جاز التعبير، وهذا يتضمن تحولًا من النظام الخيالي — الذي تُحرِّف فيه الرغبةُ المعرفةَ — إلى النضج الأخلاقي للنظام الرمزي؛ إذ يجب علينا أن نتوقف — بكلمات القديس بولس — عن النظر من عدسة معتمة، وأن ننظر بدلًا من ذلك بعين الرب الخاصة بنا، مطمئنين بمعرفة أنه لا يمكن لنا أو لأي شيء آخر في الكون أن يكون على غير ما هو عليه.

إن هذا عند سبينوزا هو ما يمثل الحكمة والفضيلة الحقيقيتين، فقد مارس انعزالًا قاسيًا في حياته مؤمنًا (على عكس مُعاصرِه لايبنتس العظيم والطَّمُوح) بأن الفلسفة لا ينبغي أن يعوقها تطوير الذات وسلطة الدولة. وكان هذا هو السبب في رفضه عرضًا بالحصول على كرسيِّ الأستاذية في هايدلبرج، مفضِّلًا العيش عاملًا يدويًّا بسيطًا؛ فهو يؤمن إيمانًا ذا صبغة متعلِّقة بالتحليل النفسي بأن الرغبة هي «عين جوهر الإنسان» (١٢٥)، وهو يعني بالرغبة «أيًّا من مساعي الإنسان وبواعثه وشهواته واختياراته التي تَختلِف تبعًا للتكوين المختلف لهذا الإنسان وتتعارَض في أغلب الأحيان مع بعضها نتيجة لانجذاب الإنسان في اتجاهات مختلفة وعدم معرفته لأيها يلتفت» (١٢٦).

والحب الإنساني في هذا النطاق الوجودي المتقلِّب حبٌّ خيالي مُحَاكٍ. يقول سبينوزا: «إن الذي يتخيَّل أن ما يحبه سيتأثر بالسرور والألم سيتأثر هو نفسه بالسرور والألم … وإذا تصورنا أي شيء يُدخل السرور على ما نحب فإننا يغمرنا الحب تجاهه …» (٩٨). فهو كما رأينا نوع من العدوى العاطفية ستعتبره فلسفة القرن الثامن عشر الأخلاقية مصدرًا قويًّا للترابط الاجتماعي، إلا أنه في نظر سبينوزا يمثل نوعًا منحطًّا من الحب مقارنة بذلك «الحب الفكري للرب» الذي يمثل عنده أفضل الخير الإنساني. في واقع الأمر، إنه يؤمن بأن الشفقة عاطفة «مخنَّثَة» تستوجب التوبيخ، وهكذا شعوره تجاه التعاطف إلى حدٍّ كبير؛ إذ يجب علينا — كما عند كانط — أن نتصرف تبعًا لحكم العقل وليس تحت تأثير دافع عاطفي عابر.

وفي نوع من التسامي الذاتي، يجد صداه بَدءًا من بوذا حتى الرواقيين وشوبنهاور، يعلق الفرد الحر حقًّا رغبته لتحقيق نوع من الرضا الصافي؛ فالفردُ الحرُّ سيرفض إلقاء اللوم على الآخرين أو على الكون جراء المصائب التي تحلُّ بنا؛ حيث إن هذه المعايب الظاهرية — الاغتصاب والتعذيب والمذابح وما شابه — ما هي إلا ضرورات إلهية يُساء فهمها باعتبارها عيوبًا. إن هذا نوع من الانعكاس التهذيبي؛ إذ لو كان الآخرون في ظل العالم الحتمي لا يُمكنهم منع أنفسهم من الغش أو الكذب أو تقطيعنا إلى أشلاء، فإن إدراكنا لهذه الجبرية قد يُثمر عن فضائل التسامح واللين والغفران والحِلْم والصبر والرصانة بجانب التعافي المحمود من الحسد والبغض والسخط؛ فالفضلاء يردُّون البغض بالحب ولا يُفكِّرون كثيرًا بالموت. فالجبرية إذن تُفضي إلى مرتبة القديسين وليس السوداوية أو اليأس. ويؤيد المنطق والموضوعية والتنزه عن الغرض الحبُّ والرحمة لا السلطة والتحيز. إن الضرورة في العالم هي ما تجعله عالَمًا غير مأساوي؛ إذ لو كان لا شيء صدفة فلا معنى للحزن عليه أو مقاومته، فأولئك المُصرُّون على أننا إن لم نُقاوم ما هو حتمي فلن نعرف مدى حتميته من الأساس، يمكن أن يطمئنوا إلى أنه حتمي أزلًا ومِن ثَمَّ يوفرون جهدهم.

يتطلَّب بالتأكيد التفكير بهذا الشكل أن يكون المرء قدِّيسًا أو عقلانيًّا بلا جسد، إلا أن سبينوزا ببساطة لا يُنكر الجسد؛ فهو مثل هيجل وشيلر وماركس يؤمن بضرورة إعادة تهذيبه. ويَلفت إلى أن «استغلال الأشياء والاستمتاع بها قدر الإمكان … هما من الأمور التي يقوم بها الإنسان الحكيم» (١٧٠). فالمقصود ليس تحاشي العواطف بل الاستعانة بالعقل ليسيطر عليها، ليَكشف عن محدَّدات وجودنا الخفية كما يفعل المُحلِّل، فسبينوزا رجل ديمقراطي وجمهوري يريد تنوير العامة، لا أن يحجب عنهم حقيقة العالم المرة على طريقة ليو ستروس الاستراتيجية. على أيِّ حال يؤمن سبينوزا — على عكس هوبز — بأن رغباتهم ليِّنة بدرجة تسمح بتطويعها، فالفلسفة نقد للرغبة وليست تأكيدًا لها (مثل بعض الفكر ما بعد الحداثي)؛ لذا فهي ذات أجندة ناشطة سياسية وأخلاقية، يُمكن إقناع العامة بالفضيلة، وبذلك وفي ضوء كونهم مخلوقات تَعتمِد على العادة لا التفكير يُمكنهم فعل الخير تلقائيًّا. وفي تلك الحالة سيتطلَّبون انضباطًا وسيطرة أقل، وهي حقيقة ستجعلهم أقل حقدًا ومِن ثَمَّ أكثر استعدادًا للخضوع لولاة أمرهم. إن سبينوزا — شأنه شأن بيرك وشيلر — مُنَظِّر مُبكِّر لما سيُسمِّيه جرامسكي لاحقًا بالهيمنة.

وبذلك فإن هدف الفرد الفاضل عند سبينوزا أن يُصبح حر الإرادة، لا يسمح لنفسه بالانسياق وراء شيء عرضي غير مهم كالعاطفة. وتستبق هذه القضية فكر إيمانويل كانط، وتوجد استباقات أخرى مماثلة بكتابات هذا الفيلسوف الهولندي؛ فهو يقول إن الرجال والنساء العقلانيين لا يَرغبون لأنفسهم شيئًا لا يرغبونه لبقية العالم كذلك، فالتصرف تبعًا للعقل يتمثل في اتباع طبيعتنا كغاية في ذاتها، والحرية هي تحقيق ذلك؛ إذ يجب علينا أن نحب أنفسنا؛ لكن في سعينا لتحقيق الأفضل لأنفسنا فإننا نخلق كذلك مقومات الجمهورية الحقيقية؛ أي مجتمع يسوده السلام والصداقة والتناغم الاجتماعي. لن يكون في هذه الجمهورية أي رقابة على التعبير أو الكتابة. ويرجع هذا من بين أشياء أخرى إلى أن هذه الحرية في نظر سبينوزا ضرورية لعمل العقل ومِن ثَمَّ كشف الحقيقة. إلا أن من بين ما تُعلمنا إياه الحقيقة هو أنه لا وجود للحرية، على الأقل بالصورة المُتصوَّرة على المستوى العام. مع ذلك فإن حقيقة انعدام الحرية في ذاتها تُحرِّرنا.

ورغم إخلاص سبينوزا المتشدِّد للنظام الرمزي فإن نظرته للعالم تُعَدُّ رؤية خيالية من نوع غريب، فَتصوُّره عن المجتمع العادل — المجتمع الذي يتجاوَز العقيدة الليبرالية التي كان مناصرًا كبيرًا لها — هو مجتمع «يجمع كل العقول كما لو كانت عقلًا واحدًا، ويجمع كل الأجساد كما لو كانت جسدًا واحدًا …» (١٥٣). وتتوازى هذه العلاقة التبادلية مع الاتحاد بين العقل والطبيعة، التي يعكس فيها كلٌّ منهما الآخر انعكاسًا متناغمًا؛ ففي أعلى درجات الحكمة، تتماثَل الأفكار التي تُكوِّن العقل مع تلك التي تكوِّن عقل الرب، فهناك نوع «أعلى» من النظام الخيالي محلَّ الجدل في هذا الجانب شبه الصوفي في فكر سبينوزا، الذي يَدفع إلى تحقيق الذات النهائي للروح التي تحدث عنها هيجل. فرُوح العالم عند هيجل بعد شرودها في النظام الرمزي القائم على الخسارة والسلبية والاختلاف والاغتراب ترتد في النهاية إلى ذاتها في صورة سامية من النظام الخيالي. فالهدف من المعرفة كما يقول هيجل هو «تجريد العالم الموضوعي من غرابته، وأن نشعر بالألفة معه، وهو ما لا يعني سوى ربط العالم الموضوعي بالفكر – بأعماق ذاتنا.»8 فالرُّوح تجد صورتها السعيدة منعكسة في التاريخ والطبيعة التي صنعتهما، مثلما يرى الرب نفسه في المسيح ابنه المحبوب الذي يُسرُّ به على الدوام.

هوامش

(1) Spinoza, Ethics (London, 2000), pp. 31, 32. All subsequent references to this work will be provided parenthetically after quotations.
(2) Roger Scruton, Spinoza (Oxford, 1986), p. 33.
(3) For an excellent account of Marxist ethics, see R. G. Peffer, Marxism, Morality, and Justice (Princeton, NJ, 1990).
(4) Stuart Hampshire, Spinoza (Harmondsworth, 1951), p. 121.
(5) Ibid., p. 142.
(6) Louis Althusser, Reading Capital (London, 1970), p. 102.
(7) See Genevieve Lloyd, Spinoza and the ‘Ethics’ (London, 1996), p. 76.
(8) The Logic of Hegel (Oxford, 1968), p. 335.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤