يا بشر الحافي، لم خرجت؟

كان يجري كالشبح الهائم وأنا أجري وراءه، وبدا في أطماره وهلاهيله كأنه جرادةٌ كبيرة نحيلة الجسد نحيلة الساقين. أدركته بعد أن كاد قلبي يتوقَّف. شدَدْتُه من كمِّ ردائه وسألت: لمَ تجري يا شيخ؟

رفع إليَّ عينَيْن ضارعتَيْن واستردَّ أنفاسه اللاهثة وقال: دعني يا ولدي. دعني.

حاولت أن أضعَ يدي على كتفه فمنعتني النظرة الباكية والوجه الضامر الحزين: لن أدعك حتى أعرف سرَّك.

رفع بصره إلى السماء وهمس: سري يعلمه ربي. دعني يسترها الله عليك!

تشجَّعت ولمست صدره كمن يتحسَّس بابًا موصدًا: قبل أن تقول لي من أين؟ قبل أن أعرف إلى أين؟

ابتعد قليلًا وتحفَّز كالقط الغاضب المقوس الظهر: ألَا تجري أنت أيضًا؟ ألَا يُفزعك ما أفزعني؟

عدتُ أسأله: أجري؟! وماذا يُفزعني يا شيخ؟

أشار إلى الأفق البعيد، خلف القباب والمآذن والأسوار والأبراج وأسطح البيوت الهاجعة في الغروب: الجحيم يا ولدي، الغابة التي هناك … نظرت إلى حيث أشار: الجحيم؟! الغابة؟! إن المدينة تستريح من تعب النهار. بعد قليل يغطيها ظل المساء وصمت الليل.

هز رأسه الأشيب الصغير كأنه يتخلَّص من ذكرى موجعة وهتف: تستريح قليلًا لتواصل الصراع والنهش والنهب والقتل في الصباح. ليتك عشت بها يا ولدي، ليتك كنت معي في الشارع والجامع والساحة والسوق. قلت: وماذا أفعل يا شيخ؟

صاح كمن لدغته أفعى: لو فعلت ما أوقفتني. لو جربت ما سألتني إلى أين ومن أين … اغتصبت ابتسامة وقلت: وها أنا أرجع لسؤالي …

انطلق كبركان ثائر: تركت الغاب لوحش الغاب. احترقت شجرة أيامي بصواعقها، وتمزق لحمي من أنياب ذئابها وكلابها، لكنني صبرت، علَّمت وحدثت وناديت ودوَّنت وخطبت ووعظت، حتى شاب الشعر، وتساقطت الأسنان وماتت أيام العمر وأنا أجوس كشبحٍ في ظلمات دروبها، وأقفز كغرابٍ وحيدٍ فوق خرائبها، وأشد على أيدي المحرومين اليائسين من أبنائها. حتى جاءتني الرؤيا.

اشتقتُ لأن أعرف فسألت: وماذا رأيت؟

أغمض عينيه ليحتضن حمامات الصور المفزوعة، ثم فتح فمه ليخرج منه الصوت المشروخ: آه يا ولدي! آه لو كنت معي! فتحت العين صباح اليوم. فتحتها على العالم وعلى الناس، بعد أن بكَتْ في طاعة الله ما بَكَت. بعدما نهلتُ من أنوار السدرة والملأ الأعلى ما نهلتُ. فلما أفاقت، قلت: رأت الليل المظلم والظالم. أليس هذا ما تعنيه؟ هذا في كل مكان يا شيخ. هذا في كل زمان …

قاطعني في غضب وهو يصيح: بل رأت المسخ العاري تحت قناع الزيف، والوحش الأسود يتمطَّى تحت الشمس ويدعو خدمه وحشمه وعبيده، وسعار الشهوة والقوة يجتاح الأنفس والأجساد، ينبت فيها المخلب والناب ويشعل نيران الحقد الأسود، وحين فتحت العين ذعرت صرخت: يا عيني التي بكت من خشية الله! كيف عميت عن هذا الظلام؟

كيف سكرت بنور النور ولم تحسي بنار الجحيم؟ وكيف لم تري دخانها وهي تشوي جلود الناس وعقولهم، وكيف غفلتِ عن زبانيتها وهي تبدل جلودها بجلودٍ وعقولها بعقول؟ ولماذا سبحت مع الملائكة ولم تشعري بالوحوش التي تزأر حولك وتدمدم وتتربص وتنقض؟ وانتفض الطفل التائه في صدري خوفًا: يا ربي! من يحميني من سيل النار؟ من يُنقذني من فك الغاب؟ هل هذا هو ابن آدم الذي خلقته على صورتك واستخلفته في أرضك وعلمته الأسماء كلها؟ من هذا الذي يدق أرض السوق بقدميه؟ لا لا لا! هذا الإنسان الأفعى يجهد أن يلتف على الإنسان الثعلب. نزل السوق الإنسان الكلب ليفقأ عين الإنسان الفهد. قد جاء ليَبقُر بطن الإنسان الكلب، ويمص نخاع الإنسان الثعلب، وهتفت هتفت: يا ربي أين الإنسان؟ وخلعت النعل البالي ووضعته تحت إبطي وجريت.

قلت وأنا ألمح نعله الأصفر المتآكل المتسخ بتراب الأرض وعرق الجسد والسنين: حتى أدركتك فتوقفت.

أعطاني ظهره وأوشك أن يحرك قدميه وساقيه فأمسكت ذراعه وقلت: لا يمكن أن أتركك الآن.

حاول أن يتملَّص من قبضتي: لا بد أن أذهب يا ولدي، لا بد …

رفعتُ صوتي النحيل كغصنٍ يابس وأنا أقول: أبسبب حلم تترك أهلك ومدينتك؟

أجاب متوسلًا: هو كابوس رأيته طول العمر ولم أفِقْ منه إلا اليوم.

ضحكت وأنا أضرب صدره: ما دمت قد أفقت منه …

قاطعني أسرع من الريح: الناس نيام يا ولدي فإذا ماتوا انتبهوا، وأنا انتبهت اليوم.

قلت: ولكنك لم تمت.

تحدَّرت كلماته دموعًا تتقاطر في سمعي وعلى وجهي: بل متُّ كثيرًا يا ولدي. مت كثيرًا قبل اليوم، لكنني كنت أغمض عيني على حلم آخر؛ حلم أشهد فيه ملكوت الله وأحيا في مدن أخرى، وكنت أرجع إليه كل يوم كما يرجع العصفور إلى عشه الدافئ بعد أن دوَّخته الريح وأحرقته الشمس وطاردته الصقور والنسور والغربان والحيات.

سألت متعجبًا: أأنت العنقاء يا شيخ؟ تموت كل مرة وتنهض من رمادك؟

قال في أسًى: بل أموت كل مرة ولا أنتبه، ويظل الحلم-الكابوس يلف خيوطه حولي ولا أفيق، وأعود لداري مقهورًا لأطهر روحي بدموع الخشية والطاعة. كم من مرةٍ كان عليَّ أن أمزِّق الخيوط وأخرج. كم حتَّمت الأيام والتجارب أن أنفض ثوب العلماء وأمضي …

قاطعته: إلى أين يا شيخ؟

ارتفع صوته كالرعد: إلى الصحراء يا ولدي، إلى الرمضاء كما فعل إبراهيم!

سألت: إبراهيم؟!

تردد قصف الرعد ومعه ومض البرق: سيدي وأميري؛ إبراهيم بن أدهم، ترك القصر والجاه والمال والكأس والنساء والخدم والحشم ولجأ إلى غارٍ في الصحراء.

سألت: لجأ إلى الجحيم من الجحيم؟

قال: وماذا يفعل يا ولدي؟ ذهب ليتطهر.

ابتسمت قائلًا: أوَلم يكن الأفضل أن يتطهَّر في لهب النار وبالنار؟ أن يثبت في وجه الوحش المسعور الضاري؟

ارتفع زئير الأسد المجروح: من أدراك أننا لم نواجهه؟ إنك لا تعرف عنه ولا عني شيئًا. هل كنت معي حين وضعوني في الزنزانة وسط آلات التعذيب وأصوات التعذيب؟ حين سلطوا عليَّ شهود الزور من الفقهاء والوعاظ؟ من تجار الكلمة والدين وأشباه العلماء؟ هل صحبتني على شاطئ دجلة وأنا أستغفر للغرقى كل صباح؟ أغمض أعينهم وأجففهم وأقرأ عليهم وأكفنهم بيديَّ؟ من عذبهم في السجن ومن أغرقهم بالليل؟ وأتاني الهاتف. أخذ الصوت الآمر يدعوني أن أبتعد وأخرج، أن أبتعد وأخرج.

سألت: أنت؟ أطهر رجل في بغداد؟ أنقى الناس وأتقاهم؟

دارت في السماء نظرة كالبرق الساطع. ارتجفت شفتاه وأخذ يتمتم: حاشا لله. حاشا لله.

وفجأةً تحول البرق الساطع إلى ظلام. تلبدت السحب وتساقط المطر. ثم تدفق الصوت الهادر: هل يحيا فرخ حمام في جحر أفاعي؟ أيعيش ولي الله العابد وسط ذئاب؟

كنت أعلم يا ولدي وأحاول أن أعلم الناس. أدركت أن العلم مطيَّة الشهرة، والعلماء مطية السلطان، وخفت حين رأيت الناس يشيرون إليَّ قائلين: هذا أعلم أهل زمانه. أتقى رجل في بغداد … وبخت النفس وقلت: الشهرة إثمٌ وجريمة، والعلم بكاء وعبادة. وهتفت بمن طرقوا بابي: يا معشر العلماء، يا أهل البلد، من يصلح الملح إذا الملح فسد؟ صار العلم لقومٍ يأكلون به، صار العلم لقوم يتقربون به للأمراء والوزراء. فسد العلم وفسد الملح. اذهبوا! وتركت مكاني في المسجد وطويت الكتب فما حدَّثتُ ولا علَّمت. آه يا ولدي! أسلمني علماء البلد إلى السلطان، والسلطان إلى الشرطي إلى السجان، وهناك بجوف الليل كيُونُسَ في بطن الحوت بكيتُ. صمتُ وصليتُ وصحتُ: يا ربي! طهِّر قلب الحاكم والمحكوم! لكن لم يتطهر قلب، لم يتعفف عن دنس القول لسان. حتى النهر تلوث يا ولدي؛ حتى النهر، وفتحت العين على العالم ورأيت الغابة رأي العين.

قلت محاولًا أن أهدئه: وخلعت النعلين كذلك وجريت.

مد يده كأنه يريد أن يسد فمي: لما أحرقت النار ثيابي واحترق الجسم مع النفس …

قلت: أسرعت تلجأ من الجحيم …

قال في أسًى وهو يطرق برأسه ثم يرفعها وينظر بعيدًا: نعم يا ولدي، من الجحيم إلى الجحيم. قلت متعجبًا: وحين أطبقت الغابة عليك …

قال وهو يدير ظهره: تركت الغاب لسكان الغاب.

لاحظت أنه بدأ يحرك قدميه، قلت قبل أن يخطو خطوةً واحدة: كثيرون قبلك روَّضوا الأسود والدببة والفيلة والنمور، والكلاب والقطط كانت متوحشة فاستأنسها الإنسان، والثعابين والحيات علمها الفقراء والحكماء المساكين أن ترقص على صوت الناي …

قال وهو يلتفت يائسًا: والعقارب أيضًا؟

قلت ضاحكًا: العقارب تموت بسمِّها. لماذا تشغل نفسك بها؟

رفع يده إلى عينيه كأنه يخفي رؤية مباغتة ثم ناجى نفسه: قل ما شئت، واجه وحش الغاب وروِّضه إذا شئت. أما أنا فعجزت، أما أنا فعجزت.

بدأ صدره يهتز بشدة. اقتربت منه وربت على ظهره وهمست: من سيواجههم غيرك أنت وصحبك؟ من يردعهم؟ من يصلحهم أو يهديهم للحق؟ قال وهو يضع يده على عينيه: يهديهم جيل آتٍ في زمنٍ آتٍ. أما أنا فعجزت.

مد ذراعه ولمس صدري. مسح بكفِّه على رأسي وتمتم: قد تنجح أنت وجيلك حيث فشلت. دعني يرحمك الله.

قلت وأنا أمد يدي بحثًا عن يده: وإلى أين؟

احتضنني فجأة فسقط النعل المصفر المتآكل على الأرض. شعرت بارتجاج صدره على صدري وهو يقول: من الجحيم إلى الجحيم. عد يا ولدي. عد.

همست وأنا أشدِّد قبضتي على ذراعيه: وأنت يا شيخي الطيب؟ قال وهو ينحني ليأخذ نعليه: ربما أعود يومًا.

قلت: متى يا شيخ؟

قال مبتسمًا: عندما ترجع روحي إليكم.

ألححْتُ في السؤال: ومتى ترجع يا بشر؟

قال وهو يوسع خطاه: عندما يتغير الزمان. عندما يرجع الإنسان تتابعت خطاه أسرع من الريح، وبدأ جسده النحيل يتلاشى شيئًا فشيئًا كالجرادة النحيلة في الضباب، لكن صوته كان لا يزال يرن في أذني: عندما يرجع الإنسان، عندما يرجع الإنسان١
١  كتبت في الذكرى السادسة لرحيل صلاح عبد الصبور. وقد سبقتها مسرحية «بشر الحافي يخرج من الجحيم» (الهيئة المصرية العامة للكتاب ١٩٨٧م) التي كتبت في ذكراه الخامسة. والقصة والمسرحية كلاهما تنويعات على قصيدته الخالدة من يوميات الصوفي بشر الحافي، في ديوانه «أحلام الفارس القديم».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤