مقدمة المترجم

لم يكُن في الأرشيف الحكومي التابع لبلاط مملكة «تشو» (القرن الحادي عشر–٢٢١ق.م.) مَن يتقن أصول المراسم، ويفهم أُسس العلاقات العامة مثل لاو تان (أو «لاو تسي»، أو لاو تسو، حسب الترجمات الصوتية المختلفة لاسم هذا الفيلسوف) وقديمًا قالت عنه أشهر مدونة في التاريخ الصيني «سجلات تاريخية» على يد كاتبها المؤرخ «سیما شان»: إن لاو تان هذا هو أحد مواطني مملكة تشو، وإنه عاش إبَّان القرن الرابع قبل الميلاد، ولم يكن كاهنًا ولا فيلسوفًا، بل مجرَّد موظف أرشيف إمبراطوري، قصده الباحثون والدارسون ليتعلموا على يدَيه أصول المراسم والمعاملات، وكان المحتوى الفكري لهذه الأصول — يومئذٍ — جزءًا لا يتجزأ من الميراث الفكري المقدس عند الصينيين.

وقيل إن هذا الموظف البسيط هو أبرع وأفقه رجل في الإمبراطورية كلها فيما يتعلَّق بخبايا وأسرار ذلك الجانب من الشئون الرسمية، حتى إن كونفوشيوس نفسه، وهو فيلسوف الأخلاق وراهب الكهنوت الملكي، راح يسأل الجميع عن الطريق الذي يوصله إلى لاو تان، ثم إنه سافر إليه طلبًا للعلم. هكذا ورد الخبر في غير قليل من المصادر القديمة، غير أن هناك مَن يعترض على صحة هذه الواقعة، وسأعود إلى هذه النقطة فيما بعد.

لم يُعهد على لاو تان أنه بخل على أحدٍ بعلمه، لكنه وهو ابن زمان متقلِّب وأحوال مضطربة، من حروب وفتن ومؤامرات في كلِّ مكان، فقد ثقلت عليه وطأة الأيام، فتشوَّش يقينُه بالمُثُل الكونفوشية السائدة، وكفر بكلِّ ما كان يجيده من مراسم وأصول معاملات ملكية، وهو في هذا لا يختلف عن كثيرٍ ممَّن عاشوا في الفترة التي تُعرف في التاريخ الصيني القديم بزمن الربيع والخريف (٧٧٠–٤٧٦ق.م.) وهي الفترة التي شهدت ازدهار حركة التأليف الفلسفي في الصين القديمة مثلما اشتهرت الفترة التالية لها والتي تُسمَّى بزمن الممالك المتحاربة (٤٧٥–٢٢١ق.م.) بنشاط محموم في إنتاج أشهَر المؤلفات، بل الموسوعات الاستراتيجية التي ضمَّت أعمالًا حول فنون الحرب والقتال والمناورات والخطط والتحليلات السياسية والاستراتيجية.

ومَن يُطالع تلك المؤلفات يلاحظ أن رصيد الفكر الفلسفي فيها أعمق من الصياغة النوعية لها بصفتها كتبًا استراتيجية متخصِّصة، ذلك واضح مثلًا في واحد من أشهر الكتب التي يَرِد ذكرها باستمرار وعلى نطاق عالمي تقريبًا «كتاب فن الحرب» للاستراتيجي الشهير سونزي، حيث يظهر بوضوح تأثير الفكر الطاوي، ولا يقتصر هذا التأثير على «سونزي» أبي الاستراتيجية الصينية قديمًا وحديثًا، بل يمتد ليصل إلى خليفتَيه الكبيرين «ووتشي»، و«سونبين» اللذين قاما بتطوير المحتوى النظري الذي قدَّمه أستاذهما، حتى لقد استطاع سونبين وهو الأقرب فكريًّا وروحيًّا إلى سونزي أن يطوِّر النظرية ليقترب من دراسة طبيعة الأصول الاجتماعية للحرب، ونجد تأثير الطاوية عنده غلَّابًا عندما يجعل من التعبئة الشعبية على نطاق واسع أكبر سند للاستعداد القتالي؛ ذلك أن اتحاد «طاو» الشعب بالقيادة كفيل بأن يُنحِّي مخاوف الموت والفناء جانبًا، ليفتح طريقًا صاعدًا للنصر … إلخ.

وبالمناسبة، فقد حُسم الجدل المُحتدِم حول صحة الافتراض القائل بأن سونزي ليس هو المؤلف الوحيد لكتاب فن الحرب، وأن «سونبين» هو الرجل الثاني الذي يستحق الفضل في وضع الأسس الفكرية لذلك الكتاب الشهير؛ فقد كشفت البحوث الأثرية عام ١٩٧٣م عن نسخة أصلية من كتاب «فن الحرب عند سونبين»، وهو كتاب آخَر مُختلِف عن الكتاب الذي وضعه سونزي، لكنه يطرح تصوُّرات أكثر تطوُّرًا ونضجًا ممَّا يطرحه كتاب فن الحرب، لكنه عمومًا يُعَد تتمة مكملة للأسس النظرية للكتاب الأول، لكن تلك، على أية حال، مسألة أخرى، وإنما يهمني في هذا المجال إبراز مدى التأثير الهائل للطاوية على الاتجاهات الفكرية التي سادت في فترة من أغزر الفترات التاريخية إنتاجًا وأشدها توهجًا، وهي الفترة ما بين نهاية عصر الربيع والخريف، وبداية عصر الدول المتحاربة، حتى إن المؤرخين يُطلقون على مجمل الحركة الفكرية في هذه الحقبة اسم «المدارس الفلسفية المائة» (أو حرفيًّا = الأُسر المائة) ولعل دلالة التسمية تتضح بالتصوُّر الطبيعي الذي يقود إلى تمثل العلاقات الأسرية داخل بيت كبير، الريادة فيه للأب الكونفوشي/البطريكي والأم (الطاوية/الأنثوية)، فكل الأفكار تُرَد إلى أحد هذين القسمين بالضرورة، وعلى وجه الإجمال. وكل الاجتهادات مُجرَّد رؤًى تنبع من — أو تقود في آخِر المطاف — إلى الجذر النظري لهذا القسم أو ذاك، بالأصل والأساس.

وليس في الأمر أدنى مبالغة، فما كاد لواء السيادة ينعقد للكونفوشية، حتى جاءت الفلسفة «الموهية» بتلوين مذهبي جديد، يختلف في بعض التفاصيل لكنه يتفق في المبدأ الجذري مع الأصل الكونفوشي، لكنَّ إضافةً أخرى نوعية كانت مطلوبة مع تغيُّر الظروف، فجاءت أفكار «يانغ تشو» لتُضيف وتمجِّد المكانة الإنسانية وقيمة الوجود الفردي، ثم تتطرف فتسعى لإزالة قدر كبير من الأساس الكونفوشي المتين، ثم كانت الوثبة أكثر جرأةً، فتدخل الطاوية من النافذة التي تجدَّد هواؤها مع أفكار «يانغ تشو»، ويتصارع أفراد الأسرة ويشتبك الجميع ويحتدم الجدل، فيأتي القانونيون (أصحاب الاتجاه التشريعي)، ويشكِّلون اتجاهًا فلسفيًّا جديدًا، جذورهم نبتت من الغرس الطاوي، لكنهم أبناء الكونفوشية الأمجاد المهذبون الأفاضل، يُصلحون ما تهدَّم من البناء الكونفوشي، ويتصالحون مع الطاوية فيما لم يكُن ممكنًا التصالح فيه بحالٍ، والحق أن الطاوية كانت منذ يومها الأول، ميلادًا ثوريًّا مغايرًا للمعهود في الفكر الصيني، وربما لهذا ظلَّت الطاوية وقودًا يمد طاقة الانقلابات الفكرية والفنية والثقافية في مسيرة الثقافة الصينية، حتى وقتنا الحالي!

هي جاءت، كمجيء الأنثى إلى دنيا الحياة، إضافةً وتطوُّرًا مبدعًا، ثوريًّا وجريئًا، واعدًا بالخلود والبقاء، لكن يبقى أن الأساس الذي انطلقت منه الطاوية كان مغايرًا لما قامت عليه الكونفوشية، حيث كان مرتكز البناء الكونفوشي يقوم على المجتمع الإنساني وعلاقات أفراده بعضهم ببعض: الأب وأبنائه، الملك ورعاياه، الأخ وإخوته، الزوج وزوجه … إلخ. ثم جاءت الطاوية لتنقل مركز الاهتمام إلى كيانٍ آخَر غير مرئيٍّ، ثم إن هذا الكيان لم يكُن قائمًا فوق الأرض، ولا حتى في السماء، بل في غيب الوجود، حيث لا أرض ولا سماء، فالطاو كيان يصعب تعريفه؛ إذ لا مكان له ولا زمان، فهو سابق على الزمن وموجود قبل بدء الوجود، قبل الحياة، قبل وبعد البعد، ثم إنه ليس الإله ولا الآلهة؛ لأنه قبل كل الكل … إلخ.

ولم تكُن مثل هذه التصوُّرات مما يمكن أن يخطر على بالِ الفكر الصيني الذي لم يخرج عن حيِّز الوجود الإنساني، فلم يحدث أن حلَّقَت الفلسفة الصينية خارج حدود البشر، فلم تتطرَّق إلى ما وراء الطبيعة، ولم تبحث عن ثوابت خارج إطار العلاقات الإنسانية، وهذا فرق جوهري بين الفلسفة الصينية والفلسفة الغربية.

وكان أنْ صُدِمَتِ الكونفوشية صدمةً لم تَفِق منها إلَّا بعد زمان طويل، وتحديدًا عندما أطلَّت البوابة برأسها في القرن الأول الميلادي تقريبًا. وكانت الأفكار الطاوية الجريئة قد تحوَّلَت إلى ظاهرة ثقافية بارزة، ثم إلى بناء فكري راسخ أصبح في مقدوره مواجهة البوذية الوافدة التي هدَّدَت أركان البيت الصيني التقليدي، الذي كان يتصارع ويتجادل أفراده فيما بينهم، كان الصراع الفكري ينشد الانسجام والوحدة وتصفية الشقاق مثلما يدعم الوحدة الجغرافية لكل الصين، فليس غريبًا أن الطاوية توقفت عن التطوُّر بعد تحقيق الوحدة الصينية في عهد أسرة يوان (١٢٧٩–١٣٦٨م)، توقفت كفلسفة برهة من الوقت، لكنها استمرَّت إبداعًا في فن الحرب والطب والفلك والكيمياء.

لكن الجدل الداخلي بين أفراد البيت الصيني جزء من الجو النفسي الذي يقوم على الحوار والحركة بين متناقضات، ولئن كانت الطاوية قد تطرَّقت إلى مبحث الوجود، وأطالت النظر فيما وراء الحجب — وهذا ذنب لا يُغتَفر! — فقد عادت تهتم بشئون الإنسان وحياته على الأرض، لكن الأهم من ذلك أنها حافظت على حركة الجدل المبدع بين كل الأطراف، وأضفت حيويةً بالغةً على دائرة الحوار بين الذكوري والأنثوي – الأنا والآخر – الضعف والقوة – الحياة (قوةً وضعفًا).

وهي مثل كل فلسفات الصين لم تتطرَّق إلى التأمُّل في الموت، فتلك كلمة مُحرَّمة على كلِّ لسانٍ أبد الدهر.

وربما كان السبب في العزلة المتبادلة بين الحضارتين العريقتين المصرية والصينية، أن إحداهما انشغلت بالموت طول حياتها حتى توارت تحت التراب، الأخرى تشبَّثَت بالحياة حتى انعزلت في كهف صاخب بالحياة، ولعلَّ نسبة التعداد السكاني المذهل هناك تمثل — نفسيًّا — ميكانيزم مقاومة شبح الموت بالإنكار، مثلما أن شظف العيش وخشونة الحياة المصرية تقليديًّا عبر التاريخ يُعَد مقاومة سلبية لخطر الانغماس الزائد في ترف الحياة، والاستطراد الطبيعي والمنطقي من هذه النقطة، هو أن تصبح الزيادة السكانية في الصين وقودًا متجدِّدًا لصنع طاقة الحياة تحت السماء، بينما الزيادة السكانية نفسها في وادي النيل تُمثِّل عبئًا (نفسيًّا) ثقيلًا يرزح فوق أنفاس الخلود، تحت التراب، بل تتضح المفارقة في أن يكون طب الأعشاب هو الاختراع الطاوي الباقي للبشرية، مثلما أبدعت مصر الفرعونية في طب التحنيط قناع الحياة.

على كلِّ حال، فلم تحظَ الطاوية بمكانتها كديانة مقدَّسة إلا عندما تغلغلت البوذية في الصين أكثر من اللازم، ورغم أن هذا التغلغل احتاج لسنواتٍ طوال لكي يثبِّت أقدامه نهائيًّا في قلب الحضارة الصينية (البوذية دخلت على ثلاث مراحل، كل مرحلة امتدت لعشرات السنين) إلا أن الطاوية تساندت، لأول مرة، مع الرفيق الكونفوشي في وجه البوذية الوافدة. وكان هذا، في حدِّ ذاته، تأكيدًا لوحدة البيت الفكري الصيني، برغم صراعاته الداخلية. وسواء ظلَّت البوذية بعد دخولها الصين نقية طاهرة أم لحقتها ضرورات التغيير، فلا شك أن بعثًا جديدًا بملامح صينية كان ينتظرها على يد الأب الكونفوشي القاسي، وإنْ أشفق عليها أحيانًا القلب الطاوي الرحيم، وقد بلغت قسوة اليد الكونفوشية الغليظة أنها انتزعتها انتزاعًا من موطنها الأصلي في الهند، حتى لقد اجتُثَّت الأصول من جذورها، (وإن كان المسلمون قد أسهموا بدورٍ بارزٍ في هذا الاستئصال الجذري لها من الهند)، لكن لتعود شبه القارة الهندية أكثر وفاءً وإخلاصًا لميراثها الهندوسي القديم!

لم يكن صراع «الأبيات المائة» أو «المدارس الفكرية المائة» في حقيقته سوى تحريك دینامیکي لدورة الحياة الصينية، ما دامت الحياة هي الشغل الشاغل، وما دامت الحياة لا تخلو من متناقضات، وما دامت هذه المتناقضات نواتج طبيعية لإيقاع العلاقات الداخلية، في إطار البيت الصيني الكبير.

وبهذا المعنى نستطيع أن نفهم الكثير مما تقوله أبيات أحد القصائد الواردة في كتاب «الشعر الصيني القديم»، أحد الكتب المقدسة الخمسة، تقول الأبيات:

«ليس في الدنيا كلها رجال كإخوتك،
الذين من أمك وأبيك،
يتعاركون معًا وراء أسوار البيوت،
لكنهم عصبةٌ واحدةٌ في وجه الغريب،
بينما أعز أصدقائك،
مهما كانوا قبائل وعشائر،
فلن يحاربوا حربك،
ولن يدحروا لك عدوك …»
ونمضي مع الفيلسوف لاو تسو لنُكمل معه باقي الطريق، مع العلم بأن لقب «لاو تسو» هذا ليس اسم علم؛ فلا أحد يعرف اسمه حتى اليوم، لكن هذا مجرد لقب يعني في الصينية القديمة «الشيخ الأكبر»، «المعلم الحكيم». وتقول كتب التاريخ إنه الْتَقى بكونفوشيوس، أو إن هذا الأخير هو الذي ذهب إليه ليتعلَّم منه أصول المراسم، والقصة ليست مُوثَّقة بشكلٍ كافٍ، مما دعا أحد المحققين إلى القول بأن هذه الرواية مُخْتلَقة كلها ولا أساس لها من الصحة، ولا تخفى الدوافع الكونفوشية الخبيئة (لا نقول الخبيثة) وراءها، تلك التي جعلت من كونفوشيوس رجلًا متواضعًا يذهب في طلب العلم، ويتحمَّل التعليقات القاسية، بل الجارحة، التي راح يكيلها له لاو تسو، والأكثر من ذلك، أن التلفيق الكونفوشي يجعل من لاو تسو، وهو فيلسوف الطاوية الذي يمقت كلَّ ما له صلة بكونفوشيوس، يصبح العليم ببواطن المراسم والمعاملات والأخلاق بمعناها الكونفوشي وبوصفها الركن الأساسي في البناء الفلسفي للكونفوشية، وربما وردت القصة في زمن تصالحت فيه الفلسفتان الرئيسيتان، لكن يبقى أن اعترض لاو تسو على الكونفوشية، كان يجد تبريره في أن تمجيد الإنسان لدى الكونفوشيين بلغ شأوًا بعيدًا تحوَّل معه الاحترام إلى تبجيل ثم إلى تقديس، حتى صارت علامة الخلق الرفيع هي عبادة جلالة الإمبراطور نفسه، بوصفه سيد المماليك جميعًا؛ ومن هنا نلاحظ أن استخدام الطاوية لمفهوم الأخلاق يختلف اختلافًا هائلًا عن استخدام الكونفوش الرسمي لها؛ فبينما الأخلاق التي قوامها العدل والحب والرحمة والود والرفق في العلاقات الإنسانية بين الأب وأولاده، الحاكم والمحكوم، الزوج والزوجة، الأخ الأكبر والأصغر، هي أساس القيمة الأخلاقية عند الكونفوشيين، نجد أن دلالة الأخلاق عند الطاويين تختلف جذريًّا؛ إذ هي تقوم على مبدأ التواضع والزهد وإخضاع النفس للقبول بأخسِّ المراتب والحظوظ، والعمل وفق النمط الطبيعي للأشياء، (وذلك الذي اشتهر في الصياغة الطاوية باسم «وو وي» Wu Wei، بمعنى «اللافعل» أو «مسايرة الطبيعة»، ويكاد يلمس أهداب المعنى في مصطلح «التوكل» عند متصوفة الإسلام، لكن الفارق شديد جدًّا!) بمعنى تنزيه الإرادة الإنسانية عن إخضاع المنظومة الطبيعية للأشياء للعمل ضد قانونها قسرًا وإجبارًا جلبًا للنفع أو مسايرة لهوى النفس، فلئن كانت أخلاق الكونفوشية تتحدَّد في إطار العلاقات بين أفراد المجتمع، بتغليب اعتبارات التبجيل والتوقير وحفظ النظام الاجتماعي، فإن أخلاق الطاويين تتحقَّق داخل إطار کوني بين كل البشر من جانب، والطبيعة من جانب آخَر، وقوامها فهم طبائع الأشياء والعمل بمقتضى قانونها الطبيعي، من هنا نفهم سر اهتمام الطاوية بالملاحظة التجريبية والتأمل في خصائص الأشياء، والتطبيق العملي للنظريات (كانت الطاوية تدعو الدارسين إلى العمل اليدوي الأقرب إلى تجارب المعمل، على عكس الكونفوشية التي احتقرت التطبيقات)، لكن العلم في الطاوية لا يعني إعمال العقل واختبار الفروض واستنباط القوانين وضبط المناهج، لكنه استبطان تأمُّلي لأغوار النفس التي تنزَّلَت فيها أسرار الكون؛ فالعلم باطني، لا سبيل لاستكناه مغزاه إلا بالتأمُّل العميق وإغلاق كل الحواس (… يستطيع الإنسان أن يعرف كلَّ شيء دون أن يغادر عتبة داره …) فالأخلاق الحقة هي العلم بأسرار الباطن. وهنا تجدر الإشارة إلى أن الكثير من ترجمات الطاو في مختلف اللغات، قامت بنقل المعنى حرفيًّا في عنوان الكتاب باسم «كتاب الأخلاق»، دون تنويه إلى مغزى المصطلح الطاوي حتى لا يلتبس المعنى على القارئ، خاصة أن الطاويين كانوا يرون في الأخلاق الكونفوشية نفاقًا اجتماعيًّا رخيصًا، أما الطاوي الحق، فلئن كان يتواضع ويتذلَّل، فليس أمام سطوة الإمبراطور، وليس عن نفاقٍ، لكن معرفة قدر النفس أمام سلطان الطبيعة ونزولًا على قانونها النافذ في كلِّ مكانٍ وزمان.

فرق هائل إذَن بين الطاوية والكونفوشية، لكنهما بقيتا في ساحة الفكر الفلسفي الصيني، كفرسَي رهان، تتسابقان وتختلفان، لكن لتتشبَّث كلٌّ منهما بموقعها، وتحفظ لرفيقتها (اللدود) مسارها على ساحة النزال، (فترات التفاهم كانت قصيرة جدًّا!) لكن هذا لا يمنع من أن الطاوية لاقت المصير نفسه الذي سبقتها إليه الكونفوشية، وسقطت فيما حذَّرت هي منه، فما إنْ شُيِّدت المعابد الطاوية، وأقبل عليها العامة والنبلاء في عصر المماليك الثلاثة، القرن الثالث الميلادي، حتى اتخذها الملوك تميمة لجلب السعادة وإكسيرًا سحريًّا لإطالة العمر والتمتُّع بمباهج الحياة، وصارت كيمياء السعادة حِرفة النبلاء والمتنفذين، ووجد الأمراء في كتب الطاوية طرائف سحرية تحقِّق كلَّ لذة، وتطيل أَمَد كل متعة، ومَن يُطالع أحد أهم المؤلفات الجنسية (الإيروسية) الصينية في تاريخ العالم، (كتاب سوني جين)، يلحظ تأثير الطاوية في كل كلمة، بل في كل حرف منه، على مدى آلاف الليالي الطويلة المسهدة، التي يقضيها جلالة الإمبراطور «هواندي» في صحبة طبيبته الشخصية، الجميلة الفاتنة «سوني»، يسألها في مسامراتهما الليلية عن أسرار الحياة الجنسية وكيفية إطالة أمد اللذة … و… إلخ. وإذَن، فقد دخلت الطاوية القصور، وسيلة لمطالعة بروج الحظ، ووصفات علاجية وإكسير حياة متجدِّدة، وتحوَّلت خارج القصور إلى خِضَمٍّ هائل من الأفكار السحرية والطلاسم الشامانية الغامضة، وتبخَّرَت دعوتها الثورية وسط ضبابية التمائم، وطلسمات الطقوس الشيطانية، لتسقط في مهاوي الشعوذة والدجل.

كانت الطاوية في أول الأمر تجمع في تعاليمها بين رياضة التأمل الروحي والفلسفي واحترام التقاليد والأعراف السائدة، ثم أدرك لاو تسو تحلُّل نظام المراسم الكونفوشي، ولاحظ تردِّي الأحوال إبَّان فترة الربيع والخريف، فندَّد بقواعد المراسم الاجتماعية، وبالقوانين السائدة، لكن أمام المد الكونفوشي الطاغي، لم يكُن يملك لاو تسو أي حيلة لأن يفعل أي شيء، وانعكس ذلك في الأساس النظري للطاوية، حيث أصبح المبدأ الأساسي لها هو «اللافعل»، فأحسنُ شيءٍ يعمله المرء هو «اللاعمل»، (مبدأ اﻟ «وو وي» wu wei الشهير)، وأحسن طريقة للحكم على الأشياء هي «اللاحكم»، وليس في هذا سلبية، بل العكس، فالعزم على اللافعل أو اللاعمل أو اللاحكم هو أيضًا، بحدِّ ذاته، نشاط إيجابي يقوم مقام الفعل نفسه.

ليس هناك تعريف محدد للطاو (الطريق … ربما)، فهو كيان يصعب إدراكه فضلًا عن تعريفه، لكن التقدير السائد لدى الباحثين والمتخصصين بالفلسفة الصينية، يُشير إلى أن الطاوية فلسفة صوفية، بالمعنى الطبيعي، وليس بالمعنى الديني؛ فلئن كان متصوفة الإسلام والمسيحية يبحثون عن الاتحاد الجمعي بروح الله، فإن التصوف الطاوي يبحث عن الاتحاد الجمعي بالطبيعة المطلقة، وقد زعم البعض أن الطاوية كانت سببًا في إثارة الحس التجريبي، مما أسهم في تقدُّم العلوم في الصين، (ج. نيدهام، وآخرون)، لكنه زَعْم يحتاج للمراجعة، لأن التطبيقات العلمية الصينية استندت إلى ظروف تطور تاريخية مركبة، ربما كانت الطاوية أحد عناصرها، على الرغم من أن لاو تسو كان يقول إن الناس مولودون بمعرفة باطنية لا شأن لها بتجربة الحواس، ولا بأيِّ نوعٍ من التطبيق الاجتماعي أو العلمي، فكان يدعو لإغلاق كل قنوات الحس، وقطع كل علاقة مع المجتمع الخارجي، وإلغاء قيمة التفكير الذهني الواعي؛ ذلك أن أية معرفة أصلية حقيقية، نافذة إلى جوهر طبيعة الأشياء، يمكن تحقيقها فقط بواسطة الحدس الصوفي، وأي محاولة لإعمال الذهن ليست إلا انتهاكًا لقدس أقداس الطاو (… في ذلك شيء قريب ممَّا يقوله محيي الدين بن عربي: «لولا الأسماء لبرز المسمَّى … لولا الحظوظ لهلكت المراتب … لولا الهوية لظهرت الإنية … لولا الفهم لقويَ سلطان العلم … إلخ»).

أما كتاب الطاو، فهو النسخة الجامعة لأقوال لاو تسو، فيلسوف الطاوية، وهو كتاب مركَّب من جزأين: (١) كتاب الطاو (طاوجين). (۲) كتاب الأخلاق (داجين)، ثم إن الاكتشافات الأثرية في النصف الثاني من القرن العشرين (١٩٧٣م)، كشفت عن مخطوطة لكتاب الطاو، مختلفة الترتيب عما هو سائد؛ حيث يأتي باب الأخلاق في الصدارة. ويقول الباحثون إن النُّسَخ المكتشفة هي الأقرب للنص الأصلي للكتاب.

لكن مسألة النص الأصلي للكتاب هذه، يجب أن تُؤخَذ بحذرٍ بالغٍ عند الحديث عن المؤلفات الكلاسيكية الصينية. وما سأقوله هنا، لا أملك له سندًا مرجعيًّا موثقًا، لكنه شيء من جملة تقديراتي حسبما توفر لي من اطلاع ومناقشات مع المتخصصين في الدراسات الصينية القديمة، ذلك أن طريقة حفظ النصوص قديمًا، كانت تضم شرائح البامبو المدوَّن عليها المتن طوليًّا، جنبًا إلى جنب في مجموعات تربط كل حزمة منها بفتائل أو أشرطة حريرية رقيقة، فإذا حان وقت تجميع التراث من ركام تلك الأحزمة، كانت بعض الشرائح توجد بحالةٍ متهرئة، قد انمحت مدوناتها أو تآكلَ بعضها، وربما تحلَّلَت الأشرطة الحريرية واختلطت أعواد البامبو، وتداخلت المدونات أحدها في الآخر فضاع السند وتاهت القرائن، وهكذا، فكثيرًا ما تم تجميع أقوال الفلاسفة بطريقة عشوائية، لم تكن تجد ما تستند إليه سوى عبارة «قال فلان»، وهي طريقة سمحت لحكايات مختلفة وسجلات متباينة أن تقتحم متن النص الواحد؛ فمن ثَمَّ حدث الخلط والزيادة والحذف والتكرار، بل نُسبت أقوال لغير قائلها، في كثيرٍ من الأحيان. وباختصار، فلا يمكن الجزم بصحة نسب النص الأصلي للكتاب نفسه للفيلسوف لاو تسو، خاصة أن تاريخ تدوينه غير معلوم بدقة؛ فهناك مَن يقول إنه مدوَّن في زمن كونفوشيوس، وآخَر يقول إن تجميعه تمَّ في القرن الثاني قبل الميلاد، والكتاب في مجموعه، غير جيد الترتيب، وكثيرًا ما تأتي الانتقالات بين الأبواب صادمة مزعجة في غير ترتيب منطقي، وقد تتبنى بعض الفصول الشيء ونقيضه معًا، وليس لذلك تفسير سوى ما يقوله البعض، من أن ضرورة الالتزام بالتلوينات الصوتية لنص مسجوع، اقتضت استخدامات نحوية مختلفة وتراكيب بنائية غير عادية، وأيًّا ما كان، ففي الجزء الأخير من عصر الدولة المتحاربة، وهي فترة تجميع مدونات التراث الطاوي، لم يكن يُعتَد كثيرًا بدقة الإسناد لمفكر محدد أو قائل معيَّن، ولا تشذ عن ذلك أعمال لاو تسو، وهكذا، فنسبة كتاب الطاو الحالي إلى قائله مسألة تقاليد وأعراف … لا أكثر!

وبخصوص ترجمة الكتاب، فهو من أغزر المدونات الصينية ترجمةً وأكثرها شهرةً وانتشارًا خارج الصين، بجانب «محاورات كونفوشيوس» و«كتاب التغيرات». ثم إن هذه الثلاثية الصينية الكلاسيكية، هي أكثر المؤلفات تأثيرًا في الغرب المعاصر (أوربا وأمريكا).

ومثلًا، ففي الإنجليزية وحدها، أكثر من ثلاثين ترجمة للطاو، بينما لا تزيد ترجماته للعربية، في حدود معلوماتي، على ترجمتين اثنتين فقط، الأولى للسيد الأستاذ الدكتور عبد الغفار مكاوي، عن الترجمة الألمانية، والثانية للمفكر السوري الأستاذ هادي العلوي، عن الترجمة الفرنسية.

وكنت، في البداية، أعدُّ ندرة الاهتمام بترجمة الطاو إلى العربية نقصًا شائهًا وبغيضًا في جهود ترجمة التراث الصيني (الآسيوي عمومًا)، لكني الآن وبعد تجربة الترجمة عن الصينية لهذا الكتاب، أعترف بأن الأمر ليس سهلًا كما كان يبدو لي أول مرة؛ فالعذر كل العذر لمَن أحجم عن ترجمة الطاو!

الآن فقط عرفت لماذا كان بعض الذين ترجموا الطاو، حين ترجموه، قد طرحوا النص الأصلي جانبًا، وقاموا هم بصياغات جديدة من عندهم، وآخرون أعادوا ترتيب الفصول بشكلٍ مغايرٍ … وما أكثر!

لهؤلاء وأولئك ألف عذر، فما أشق ترجمة الطاو!

هذا من حيث البدء بالترجمة أصلًا، أما ترجمته إلى العربية، فهي ما لم أكُن أتوقع أن تكون بهذه الصعوبة التي لمستها في كل كلمة وعبارة وجملة، الكتاب كله من القطع الصغير، صفحاته قليلة، عبارته موجزة جدًّا، (الترجمة العربية شيء آخر!) لكن جهد الترجمة المطلوب له يتجاوز ما يمكن أن يتخصص لموسوعة فلسفية كبيرة!

وكنت قد جمعت ثلاثة مخطوطات صينية، تدقيقًا للمعنى، وضبطًا للدلالة، لكني فوجئت أن لكلِّ محقق شرحًا مختلفًا (متناقضًا … أحيانًا!) فأحضرت نسخة مترجمة للإنجليزية لموازنة متغيرات الشروح الصينية، فكانت هي الأخرى أكثر تناقضًا، فذهبت أستطلع وجهة نظر الدارسين المتخصصين في الكلاسيكيات الصينية، (فأنا تخصصي الأصلي «علم اللغة») وطالعت بعض المراجعات النقدية الصينية لترجمات الطاو إلى اللغات الأجنبية، وعرفت أن رمزية النص تسمح بتأويلات كثيرة، وربما متناقضة (لا بأس!) لكن الشيء الذي كان يزعج بعض النقاد هناك، هو أن الكثير من الترجمات، في إطار حرصها على تقديم نصوص واضحة، مفهومة، سلكت في غير طريق الطاو؛ إذ العبرة في النص الأصلي أنه لا يضيء كل الطريق والإلغاز هنالك مطلوب، واستحضار الطلسمات قصد مقصود، ومشكلة معظم الترجمات أنها فضت كل المغاليق، (أو تصورت ذلك ممكنًا!) فأضاعت رمزية الطاو، وسطحت المتن بتقريرية فجَّة، لم تشفع لها صياغاتها الشاعرية التي استلهمت منطق ولغة وروح عصر حديث.

ثم إن لغة حديثه شوهتها بنائية «دي سوسير»، وتوليدية «تشومسكي»، وقفزت فوقها سيميوطيقية «تشارلز بيرس» وكذبتها تفسيرات «فرويد» وتحليلات «كارل يونج»، وأنكرتها حاسبات بيل جيتس وبرمجياته، لن تفي بمتطلبات نص صيني قديم.

وتذكرت أن المتن ذو طبيعة صوفية، وربما كان مناسبًا، استلهام صياغات الأدب الصوفي، بإشاراته ورمزيته المعهودة في الكتابات العربية التراثية وقد كان، لكني فقط أريد توضيح نقطة في غاية الأهمية، ذلك أني استلهمت لغة المتصوفة في الرمز والمجاز، بعيدًا عن دلالات الاصطلاح الغني التي تحمل مغزًى خاصًّا في فلسفة الإشراق فذلك ما لم أقصد إليه، ولئن استحضرت الترجمة أجواء التراث الصوفي، فلا بأس، فما كانت لغة المتصوفة سوى الرموز والإشارات (هل صرَّح الصوفيون بشيء؟!) وعمومًا، فهذه الترجمة مجرد تصور ممكن من وجهة نظر مترجم عربي للنص الصيني، وجد نفسه مطالبًا عند الترجمة بألا يفسر وألا يشغل نفسه بكتابة شيء مفهوم، وألا يصنع نصًّا موازيًا، بل ينقل فقط، كلما كان النقل ممكنًا، على أن يحفظ للنص الأصلي رمزية دلالته، بكل ما فيها من غموضٍ وإبهامٍ!

وكان تقديري، في بدء الترجمة، أن أنقل بعد الطاو كتاب «جوانغ تسي»، وهو الكتاب الثاني الشهير في الفلسفة الطاوية، والذي يرد غالبًا مع كتاب الطاو في نسخة واحدة، لكني عدلت عن ذلك، فربما أستطيع يومًا ما أن أكمل تلك المهمة (الشاقة)، أو أن يقوم بها غيري، والساحة الآن لا تخلو ممَّن يترجمون عن الصينية، هم يقومون بذلك في صمت ودأب وإصرار.

لا أستطيع الزعم بأني ترجمت الطاو على النحو الذي كنت أتمناه، لكني — على أية حال — حاولت نقله في نصٍّ عربيٍّ يوازي الأصل وإن لم يحاكه، يصوره وإن لم يساوه، فلذلك تجد عبارات كثيرة بين الأقواس تقتحم المتن، وتقطع السرد:
  • (١)

    إما لتضيف من خارج المتن ما يبرز المعنى، وفي هذه الحالة، تبدأ العبارة بين القوسين المربعين بثلاث نقاط […–]، أو …

  • (٢)

    تنقل المعنى الحرفي مثلما يرد في النص، وهنا تأتي العبارة داخل القوسين المربعين مسبوقة بعلامة «=»، وهكذا [=–]، أو …

  • (٣)

    تلفت انتباه القارئ إلى وجود فجوة بين العبارات أو استطراد غير منطقي في تتابع الفقرات، وهنا، اكتفيت بعلامة القوسين، داخلهما ثلاث نقاط، هكذا […].

وبعد، فلا يمكن أن تأتي موضوعات الترجمة؛ أي ترجمة كانت، خلوًا من غاية تطمح إليها، وأُفق تتطلَّع نحوه وقاعدة تنطلق منها، لا يمكن أن تنهض على اختيار عشوائي، بغير جدل مع الحاضر واشتباك مع تفاصيل الساعة الراهنة، في إطار الزمان والمكان، نحن نتحدث عن الواقع الذي أنتج النص، لكن يبقى في وعينا واقع آخر ننطلق منه، وزمان نتحدث بلسانه وأفق يشد طموحنا، والترجمة تُعنى بلغة اليوم لا الأمس، بينما تضرب موعدًا مع قارئ الغد، أو في أحسن الأحوال، بعد الغد فاختيار اللغة يأتي، بالضرورة، متأخرًا عن الموعد بزمان معلوم؛ فمن ثَم تأتي الترجمة غالبًا عاجزة عن إلحاق الواقع بالمأمول، الحاضر بالمتخيل (التأليف يملك قدرات مذهلة!) وربما استطاعت الترجمة تجاوُز حدود هذا المأزق إذا تجاوبت مع قضايا العصر أو مدت أبصارها إلى أفق أكثر وعيًا وإبداعًا.

ولا أتصور أن ترجمة الطاو يمكن أن تتجاوز محنتها بهذا المعنى، (هل يمكن للطاو أن يجادل واقعًا ما، أو يشتبك مع قضايا الحاضر؟ لا أظن!) فلطالما سكنت أفكار الطاو كهوفًا أسطورية ألهمت خيال الشعراء، أو طرحت موضوعات مناسبة للتأمل في مبحث الثقافة الإنسانية القديمة، بوصفها مادة إثنولوجية ذات قيمة هائلة بما ترصد من ملامح وعناصر وبناءات أسطورية شكَّلت جانبًا من وجه الثقافة الصينية، ورسمت مسارًا لتطور العقل في حقبة قديمة جدًّا من الزمان.

وفي الصين، أو خارجها، هناك مَن يؤمنون بأن موضوعات التراث الطاوي القديم تملك طاقة جبارة قادرة على التجاوب مع الحاضر، واللحاق بالمستقبل، ومثلًا، فقد قيل في فترة ما: إن الطاو يحوي أصول الفكر الجدلي، وأنه بالإمكان الْتِماس مصادر صينية أصيلة، تؤسِّس مفهومًا وطنيًّا لتطبيقات «ذات خصائص صينية»، وذلك في إطار المراجعة النقدية لمفاهيم الجدل بالمعنى المطروح في أدبيات اليسار في الفكر المعاصر، ثم قيل مرة أخرى: إن انحياز الطاو للرمز الأنثوي يُمثِّل دعمًا تراثيًّا لقضايا المرأة المعاصرة.

وقيل مؤخرًا، وفي زمن تشجيع وإطلاق الحافز الفردي في الاقتصاد والتجارة: إن الطاو يشتمل على الأصول الأولى للمبدأ الاقتصادي الشهير «دَعْه يعمل، دَعه يمر» … laissez-faire … إلخ.

ولا أريد أن أكون مزعجًا لمَن يتصورون أن حجم ما حقَّقَته الصين المعاصرة من إنجاز يرجع — أساسًا — لمرونة ذهنية وأصالة ثقافية استطاعت المزج بين التقليدي والعصري، خاصة أن اللافتة المُعلَّقة هناك تقول بأن التطبيق «ذو خصائص إقليمية» ولتقل اللافتة ما تشاء، فالثابت أن الصين أطلت على فجر العصر الحديث عبر النافذة الداروينية (كتاب دارون «حول أصل الأنواع» هو الذي أثار رغبة الصينين في التقدم وحرَّك أمانيهم باتجاه النمو والتطور، إبداعًا وتجديدًا لمقومات الحياة)، ثم إنها تقدمت على طريق البناء بخُطًى ماركسية، وهذه وتلك كلها مرادفات للتبدل والتطور ونبذ التخلف … لا بأس … لكن قيل أيضًا، وكان القول وقتئذٍ ملء الأسماع: «إن التخلف يكمن في مواريث الماضي …» هكذا بملء الفم!

ولقد جاء على الصين حينٌ من الدهر، كان ينظر فيه إلى الأفكار الكونفوشية والطاوية بوصفها عقبات على طريق التقدم، ولا بد من إزالتها، وشبَّت نيران، واندلعت ألسنة لهب تلتهم صفحات، بل أرفف ومكتبات وقصور ومعابد، ولم يكن ذلك منذ زمنٍ بعيدٍ، بل منذ نحو ثلاثين سنة فقط!

الطاو مدونة تاريخية مكتوبة برموز، وعلامات الرمز الصيني القديم، فضلًا عن كونها نظامًا تقليديًّا للكتابة، فهي منظومة فردية قادرة على تجريد مفردات الحياة ومنحها مزاجًا أسطوريًّا من نوع خاص جدًّا، وبقدر ما تُلغز، فإنها تُثير کوامن العقل سعيًا للاستجلاء والاستقصاء (لقد حاول «فرويد» ذات مرة، تفسير دلالات الرموز اللاشعورية بتوظيفها في نظام قادر على استبطان الوعي، على غرار نظام الكتابة الرمزية الصينية!) فكل قراءة اجتهاد يسترشد بالعقل لفض معميات الرمز وخبايا الأساطير، كل مطالعة، كشف واهتداء وتجاوز، ووثبة جديدة فوق الطريق.

وكان الطاو طريقًا، اجتازه لاو تسو، ذات يوم، بعد أن ضاقت به الحياة وسط أجواء مضطربة، قاصدًا العزلة، فلما بلغ إحدى نقاط الحراسة على حدود الدولة، وهو في طريق الرحيل، أوقفه قائد الحرس، وكان واحدًا من المثقفين الفاهمين لقدر ومكانة شيخ الفلاسفة والحكماء، وطلب إليه أن يضع له بخطه كتابًا يحوي خلاصة أفكاره (… بما أنه ذاهب هذه المرة بلا عودة!) وهكذا جلس لاو تسو وتناول دواة وقلمًا وراح يسجِّل في خمسة آلاف كلمة، (۸۱ فصلًا) أشهر مدونة في تاريخ الصين، ثم مضى في طريقه إلى منتهاه.

محسن فرجاني
مصر، القاهرة
مارس ٢٠٠٥م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤