الفصل السادس

القضاء

خرج تُبَّعٌ من اليمن غازيًا في جيش لم تعرف الأرض مثله عددًا وعدة وبأسًا وحدة، وغنى وثروة! فلم يدع تُبَّع في طريقه شيئًا أتى عليه إلا احتواه، ولا بلدًا مر به إلا أذله. وقد دان له النجد والغور، وأذعن له الحجاز والشام، وعنت لسلطانه مصر وإفريقية، وأمعن في المغرب حتى مر بعمود هرقل، ووطئ ساحل البحر المحيط، ذلك الذي كانت تقيم عليه ظلمات دائمة لا تفرقها نجوم الليل ولا شمس النهار. فلما رأى تُبَّع أن قد ملك مغرب الأرض عاد أدراجه قاصدًا الشرق، فأمعن فيه غزوًا وفتحًا، وثل العروش وهزم الجيوش، وأسر الملوك واسترق السادة العظماء، وملأ يديه من السبي والمال. وما زال ماضيًا أمامه يخرج من نصر إلى نصر، وينتقل من فوز إلى فوز، وجيشه المظفر يتبعه فرحًا مرحًا، تغريه الحرب بالحرب، ويطمعه الظفر في الظفر، ويواتيه الحظ، حتى انتهى إلى أقصى الشرق، ووطئ ساحل البحر المحيط، ذلك الذي تخرج منه نجوم الليل إذا كان المساء، وشمس النهار إذا كان الصباح.

هنالك انقلب تُبَّع راجعًا إلى اليمن، وفي نفسه حزن ألا يتاح له من الظفر أكثر مما أتيح له، وألا تهيأ له الوسائل ليغزو هذا البحر الذي انتهى إليه من ساحل إلى ساحل، ويرى هذه الطريق التي تقطعها الشمس وتقطعها النجوم حين تأوي إلى أحد ساحليه لتنام، فتنام ولكن في غير سكون، وتهجع ولكن في غير استقرار؛ إنما تعبر بها زوارق من ذهب وفضة، وأخرى من لؤلؤ وياقوت. وما تزال هذه الزوارق تعبر في دعة وهدوء حتى تبلغ الساحل الآخر، فتصعد في السماء لتبعث الضوء والحياة إلى الناس والأشياء. ونفس الإنسان واسعة الأمل بعيدة أمد الرجاء، ولا سيما حين يواتيها الحظ ويقدر لها الفوز ببعض ما تريد، وكانت نفس تُبَّع في أكبر الظن تؤمل فتبعد في الأمل، كما عملت فأبعدت في العمل، وكانت تتمنى لو أتيح لها أن تطأ أمواج هذا البحر بهذا الجيش الذي وطئت به أكناف الأرض. ومن يدري! لعلها أن تظفر بزورق أو غير زورق من هذه الزوارق التي تعبر عليها النجوم. ومن يدري! لعلها أن تقطع طريق النجوم في السماء بعد أن قطعت طريقها في البحر، وبعد أن قطعت طريق ضوئها على الأرض. على أن نفس تُبَّع لم تكن تعرف اليأس وإن كانت تعرف الإرجاء! فلم ييأس تُبَّع من غزو النجوم في عقر دارها، وإنما أرجأ ذلك إلى أن يتخذ له العدة، ويهيئ له الوسيلة، ويمد له الأسباب.

عاد إذًا تُبَّع سعيدًا يرافقه الظفر والأمل. حتى إذا كان قريبًا من اليمن وقف عند هذه المدينة الصغيرة التي كانت تسمى «يثرب»، والتي ملكها لأول عهده بالخروج، والتي ترك فيها أحد أبنائه يشرف منها على بلاد العرب. أنكر شيئًا لم يكن يقدره ولا يفكر فيه: لم يخرج ابنه للقائه من بعيد، ولم يخرج للقائه من قريب، ولم يرَ من حوله استبشارًا بمقدمه ولا إكبارًا لمنزله، وإنما رأى حصونًا مغلقةً وآطامًا قام عليها الجند كأنهم يتأهبون للقتال. لم يحتج تُبَّع إلى بحث واستقصاء ليعلم أن القوم قد غدروا ومكروا، وقتلوا ابنه غيلةً، وأبوا أن يتسلط عليهم أحدٌ غيره، أو أن يسود فيهم من ليس منهم. وهم الآن يستعدون للحرب، ويتأهبون للدفاع عن أنفسهم مستميتين في ذلك، مزدرين ما سيلقون من جهد، وما سينزل بهم من بلاء.

ولم يكن من اليسير على تُبَّع أن يتبين العواطف التي كانت تثور في نفسه، والخواطر التي كانت تزدحم في قلبه، فقد كان محزونًا أشد الحزن، مُلتاعًا أشد اللوعة لفقد ابنه العزيز الذي كان يراه زينةً لملكه وذخرًا لدولته، وقرة لعينه قبل كل شيء. وقد كان مغضبًا أشد الغضب محفظًا أشد الحفيظة أن يثور به هؤلاء النفر من الأوس والخزرج فيخرجوا عن طاعته ويجهروا بمعصيته، ويقتلوا ابنه، ويضربوا للأحياء من حولهم مَثَل التمرد والثورة. وكان على هذا كله معجبًا بهذا النفر من الأوس والخزرج الذين لم يخافوه ولم يخشوا بأسه، ولم يمنعهم بطشه العظيم وسلطانه العريض أن يثوروا به ويخرجوا عليه، ولم يدفعهم مقدمه ومعه الظفر والأمل، ومن ورائه هذا الجيش الضخم المنتصر، إلى أن يسرعوا فيقدموا له الطاعة والمعذرة، ويلتمسوا عنده العفو والمغفرة؛ وإنما ثبتوا له كرامًا، وتلقوه أباة للضيم، حُماة للحرم، مستعدين لاحتمال المكروه.

على أنه لم يُطل الوقوف عند هذا الإعجاب بالأوس والخزرج، والإكبار لحفاظهم وذودهم عن الذمار، وإنما مضى يتبعه حزنه وغضبه، فأقسم ليدمرنَّ يثرب تدميرًا، ولَيُسوِّينَّ حصونها وآطامها بالأرض هدمًا وتحريقًا، وليجعلنَّ ما كان يحيط بها من الحدائق والرياحين، ومن الشجر والنخيل، صحراء جرداء كأن لم تعرف من قبل خضرةً ولا ظلًّا.

ولم يرد أن يستأْني بذلك أو يبطئ فيه، فما هي إلا أن يأمر كتائبه بالزحف، مقدرًا أن الأمر لن يحتاج إلى وقت ولا إلى جهد، ولن يكلف جيشه الظافر مشقةً ولا عناء. وأين يقع هؤلاء النفر من الأوس والخزرج من دول عظيمة أفناها، وبلاد عريضة احتواها! وأين يقع قادتهم وسادتهم من هؤلاء الملوك الذين يرسفون في السلاسل والأغلال، وقد جاء بهم أسرى من أقصى الشرق ومن أقصى الغرب، ليجعلهم ملهى لأهل صنعاء حين يعود إلى صنعاء!

ولكن كتائبه لم تكد تتقدم حتى تأخرت، ولم تكد تهجم حتى ارتدت، وإذا هؤلاء النفر من الأوس والخزرج أشد مضاء وأحسن بلاء مما كان يظن، ومن كل من لقي في فتحه البعيد من الجيوش والأجيال. لقد كان استهان بأمرهم واستصغره؛ لأنهم لم ينصبوا له الحرب حين مر بهم غازيًا، وإنما تلقوه مذعنين له مؤمنين لسلطانه. رأوا فيه رجلًا منهم فلم يمكروا به ولم يكيدوا له، حتى إذا رأوا من بغي ابنه وتجبره ما أحفظهم ثاروا للعزة، وغضبوا للكرامة، وقتلوا الطاغية وتأهبوا لحرب أبيه.

رأى تُبَّع هذا فازداد بالقوم إعجابًا ولهم إكبارًا، ونصب لهم حربًا تلائم هذا الإعجاب والإكبار. ولكنه لم يلبث أن اشتد إعجابه وعظم إكباره حين أقبل الليل، فإذا هو لم يبلغ من القوم شيئًا، وإذا هم يعلنون إليه أن قد أقبل الليل، وأن حرب الليل ويل كل الويل، وأنهم يضيفون عدوهم في الليل، ويقاتلون عدوهم في النهار. هنالك لم يتمالك تُبَّع أن عطفته الرَّحِم على قومه، وأخذته الكبرياء بما فيهم من عزة وكرم، وصاح: «إن قومنا لكرام.» ثم أمر من أذَّن في الجيش بالموادعة حتى يشرق الصبح.

واتصلت الحرب طويلةً مضنية بينه وبين هذا الحي من أهل يثرب: يقتتلون أشد القتال ما أضاءت الشمس، ويتوادعون أحسن الموادعة ما أظلم الليل، حتى أخذ السأم يسعى إلى هذه النفس التي لا تعرف السأم وحتى همَّ أن يستقبل الصباح بغارة مطبقة لا تبقي ولا تذر، فإما قهر القوم وإما قهره القوم.

وهو في هذا النحو من التفكير والتقدير، وإذا حاجب من حجَّابه يدخل عليه فيلثم الأرض بين يديه، وينبئه أن شيخين من هذا الحي المحالف للأوس والخزرج من يهود يستأذنان على الملك، ويُلحَّان في لقائه، ويتقدمان بما يتقدم به السفراء من حق الأمن والعافية والتكرمة، فيأمر الملك بإدخالهما. فإذا كانا بين يديه لم يركعا، ولم يسجدا، ولم يلثما أرضًا، ولم يعفِّرا خدًّا بالتراب، وإنما هي تحية فيها الإكبار والإجلال، وفيها عزة وأنفة، وفيها شيء من التواضع والخشوع لم يألفهما الملك من أهل هذه البلاد. فإذا أذن لهما بالجلوس وسألهما عما أقبلا به، قال أحدهما: أيها الملك! لم نأتك سفيرين، ولم نحمل إليك رسالةً من عدوك، ولو قد عرفوا أنا نسعى إليك لحالوا بيننا وبين ذلك، وللقينا منهم شرًّا. قال: فأنتما إذًا لاجئان إلي، كارهان للقوم؟ وحدَّث نفسه بأنه سيجد عندهما ما يعينه على ما يريد بالقوم ومدينتهم. قالا: كلا أيها الملك! ما لجأنا إليك ولا كرهنا من قومنا شيئًا، وإنما أقبلنا ناصحين لك رفيقين بك، نريد، لو سمعت لنا، أن ننهاك عن هذه الحرب التي لن تجدي عليك شيئًا، ولن تبلغك من هؤلاء الناس شيئًا. لقد أدركت وِتْرَك بمن سقط في ميدان القتال من هؤلاء الناس، فحسبك ما بلغت، وانصرف راشدًا، فإنك إن نصبت الحرب لهذا الحي ما بقي من عمرك، وهو طويل ممدود لك فيه، لم تجد إلى قهرهم سبيلًا. ولقد أبليت فأحسنت البلاء، ولقد غزوت فأمعنت في الغزو، ولقد أزلت الممالك وأسرت الملوك، ولقد نصبت لأقوى دول الأرض وأعظمها بأسًا، فلم تثبت لك ولم تمتنع عليك. ثم ها أنت ذا أمام هذه المدينة الصغيرة، وهؤلاء النفر القليلين من قومك، لا يتاح لك الظفر ولا يتأتى لك الانتصار. ألم يكن لك في هذا عبرة تدعوك إلى التفكير وتحملك على أن تسأل نفسك كيف دانت لك الأرض كلها وامتنعت عليك منها هذه الرقعة الضيقة؟! قال: لقد سألت نفسي وأطلت السؤال، ولكني لم أجد له جوابًا. ولقد فرحت بكما حين علمت أنكما لا تحملان إليَّ سفارةً ولا رسالة، وقدَّرت أنكما ستدلاني على مكان يؤتى منه هؤلاء الناس.

قالا: لو شاء الله لأتى هؤلاء الناس من كل مكان، فليست حصونهم ولا آطامهم بالمنيعة المؤشَّبة، وليست السبيل إليهم بالعسيرة ولا الملتوية، ولكن الله لا يشاء؛ لأمر قضاه. قال الملك: أفصحا؛ فإني لا أفهم عنكما منذ اليوم. فما الله؟ وأين يكون؟ وكيف له أن يشاء ولا يشاء؟ هل لكما في أن تدلاني عليه لعلي أتخذ إليه من الأسباب ما يُرضيه أو يسلِّطني عليه؟ فتضاحك الحبران وقالا: حقًّا أيها الملك إنك لا تفهم عنا منذ اليوم، فليس الله ملكًا كالملوك، ولا قائدًا كالقادة ولا عظيمًا كالعظماء. وما ينبغي لك ولغيرك من الناس أن تسأله عما يشاء أو عما لا يشاء، إنما ينبغي لك ولغيرك من الناس أن تعرف سلطانه وعظمته، ثم تذعن له وتؤمن به، وترضى بما يريد لا مجادلًا ولا ممانعًا. قال: فمن هو؟ أين هو؟ قالا: هو رب السموات والأرض، وهو الذي يتسلط على كل شيء ولا يتسلط عليه شيء، وهو الذي يخلق كل شيء، وهو الذي منحك هذا الملك الواسع السلطان العريض، وهو الذي إن شاء ردَّك كواحد من رعيتك، وهو الذي إن شاء سلبك ما أنت فيه وسلبك الحياة أيضًا. أرأيت إلى ما حولك كيف كان ومن أحدثه؟ قال: هذا شيء قلَّمَا فكرت فيه أو سألت عنه، وإنه مع ذلك لخليق بالتفكير حريٌّ بالسؤال، فمن يكون قد خلق الأشياء؟ وقدَّر لها نظامها؟ قالا: فاسمع أيها الملك! فإنا سنقرأ عليك نبأ الخلق كيف كان، وأمر الخلق إلام يصير ثم قرآ عليه صحفًا من التوراة لم يكد يسمعها ويفقه بعض ما فيها، حتى لان قلبه وانبسطت نفسه، وكشف عنه الغطاء، فقال: يا هذان إن ما تقولان لحق، فعلماني علمكما ومراني قبل ذلك بما أصنع مع قومكما. قالا: أما قومنا فالرأي أن تدعهم؛ فإن الله لم يقدر لك أن تقهرهم، ولا أن تملك أرضهم، إنما ادخرهم وادخر أرضهم لشيء سيكون في آخر الزمان نجده عندنا مكتوبًا في هذه الأسفار التي نتلوها عليك. قال: وما ذاك؟ قالا: نبيٌّ يخرج من هذا الصوب — وأشارا نحو مكة — فيمكر به قومه ويأبون عليه، ويكيدون له، ويخرجونه من الأرض، فيأوى إلى هذا البلد، فيجد النصر والمنع، ويجد العزة والقوة، وينشر دينه من هذه الآطام فيملأ به الأرض كلها، ويخرج به الناس من الظلمات إلى النور. وما كان الله ليمكنك من أرض أعدها دارًا لنبيه، ومهبطًا لوحيه. ومصدرًا لنوره المبين. قال: أوتجدان هذا عندكما مكتوبًا؟ قالا: نعم، ونجد عندنا مكتوبًا أنك ستسمع لنا، وتقبل نصحنا لك، وتنصرف عن هذا الحي، وأن قومًا من هُذيل سيلقونك إذا قرُبت من مخرج هذا النبي، فيغرونك به وببيت لله فيه، وسيزعمون لك أن في هذا البيت كنوزًا من الذهب والفضة ومن الدر والجوهر. فاحذَرْ أن تسمع لهم أو تأتي ما يدعونك إليه. ولكن اذهب إلى هذا البيت فأكرمه وعظمه، وطف به سبعًا، وامنح أهله من العطف والبر والرعاية ما تقدر عليه. قال: يا هذان إني مصدق لكما، مؤمن بما تقولان، سامع لما تأمران به. ولكني لا أستطيع أن أنصرف إذا لم تصحباني، فمالي من صُحبتكما بُدٌّ. ولا بد من أن أعلم علمكما كله، ولا بد من أن أتخذكما لي وزيرين أستنصحكما، وأستعين برأيكما وفقهكما على ما يعرض لي من الأمر. قالا: لك ما تحب من ذلك أيها الملك، فسرْ راشدًا فنحن معك.

وأمر الملك من أذَّن في الجيش بأنه مُرتحل مع الفجر. وارتحل الجند غير آسفين ولا محزونين. وأيهم لم تكن تضيق نفسه بهذا الحصار الطويل العقيم، والدار قريبة وهو إلى أهله مشوق! فلما قارب الملك مكة أقبل جماعة من هُذيل يستأذنون. فلما أذن لهم قالوا: أيها الملك، إنما سعى بنا إليك نصحنا لك، وإيثارنا لرضاك. قال الملك في نفسه: فهذه نبوة الحبرين قد صدقت. ثم أصغى إلى الهذليين، فقالوا: وستمر بمكة وفيها بيت يعظمه أهلها، يعبدون ما ادخروا فيه من مال، وما كنزوا فيه من ذهب وفضة ومن در وجوهر، يطوفون حوله وينحرون له، وقد نصبوا عليه الأوثان. قال الملك: فماذا تأمرون؟ قالوا: ما نحب أن يفلت منك هذا الكنز، فلو قد هدمته واحتويت ما فيه وأخذت أهله عبيدًا لك ولأهل صنعاء! قال الملك في نفسه: الآن قد تمت نبوة الحبرين. ثم قال للهذليين: لقد قبلت نصحكم وسمعت أمركم، وإني ماضٍ فيما تريدون، وسأعرف لكم حقكم علي، ولكني أريد أن تقدموا معي على أهل مكة فتكونوا أول من يعمل في هدم هذا البيت. فلم يكد الهذليون يسمعون منه هذا القول حتى أخذوا، وظهر على وجوههم الفزع والروع. فلما ألحَّ الملك أظهروا من التلكؤ والتردد ما لم يدع للريب في أمرهم سبيلًا، فأمر الملك بتعذيبهم حتى يعترفوا بالحق. فلما ألح عليهم العذاب قالوا: أيها الملك ما أردنا بك إلا شرًّا، إنا لنكبر هذا البيت ونعظمه، ونرى له علينا حرمة، ونعلم أنه لم يحاول أحدٌ أن يمسه بسوء إلا أهلكه الله. وقد وتَرْتنا في مخرجك الأول، فقتلت الرجال، وسقت المال، وسبيت الحرائر، وأذللت هذيلًا، ولم تكن قد عرفت الذل. فلما أعجزنا أن نثأر لأنفسنا بأيدينا أردنا أن نَكِل ثأرنا إلى من هو أقوى منك ومنا، فأغريناك بهذا البيت واثقين بأن صاحبه لن يخلي بينك وبينه، ولن يمهلك إن حاولت الاعتداء عليه. قال الملك: إنما جزاؤكم على هذا الكيد أن تقطع أيديكم وأرجلكم من خلاف، ولكني قد قسوت عليكم في خرجتي الأولى، وأسرفت فيكم قتلًا وسبيًّا، فسأهبكم الآن لأنفسكم ولأهلكم، ولعل الله أن يجعل عفوي عنكم كفارةً لما قدمت فيكم من سوء، فاذهبوا فأنتم أحرار!

قال الحبران للملك: لقد أحسنت أيها الملك حين وضعت العفو عند القدرة موضع اليأس والانتقام. وما نشك في أنك تجد لهذا العفو لذةً وراحة، ولكن لذتك وراحتك لن تعدل ما نجد من غبطة وسرور، وقد أخذ دين الله سبيله إلى نفسك، وبسط سلطانه على قلبك، فأنزل فيه اللين منزل القسوة، والرحمة مكان العنف والشدة، وكنا نحن وسيلته إلى ذلك. وإنا لنرجو أن يغفر الله لنا بهذا السعي بعض ما قدمنا من سيئة في حياتنا. قال الملك: أومثلكما يقدم السيئات أو يقترف الآثام، وما رأيت خيرًا منكما ولا أهدى إلى الحق؟! قال الحبران: أمعن أيها الملك في قراءة كتب الله وتدبرها، وأنعم أيها الملك النظر فيما حولك من خلق الله وفيمن حولك من الناس، فسترى أن الإنسان صغير مهما يكبر، ضئيل مهما يعظم، ضعيف مهما يَقْوَ، معرض للخطيئة مهما ينصح لنفسه ومهما يأخذها بالمعروف ويجنبها المنكر. قال الملك وقد كبر الحبران في نفسه: ليتني عرفتكما في أول العمر ومبتدأ الحياة! إذًا لاجتنبت كثيرًا من الشر، ولتنكبت كثيرًا من الذنب. ولكن سأكون عند ما تحبان، ولن تريا مني منذ اليوم إلا ما يرضيكما.

وأقبل الملك على مكة فدخلها خاشعًا منيبًا، وطاف بالبيت وأعظم أمره، ونحر للناس وأطعمهم، وأذاع فيهم الخير والمعروف. فلما كان من الغد قال للحبرين: إني أريت أن أكسو هذا البيت. قالا: فافعل ما أمرت. فكساه خصفًا.١ ومضى يعظم البيت ويكرم أهله بياض يومه. فلما أصبح قال للحبرين: إني أريت كأن هذه الكسوة لا تليق بهذا البيت. قالا: فاكسه خيرًا منها. فكساه وشيًا، ومضى نهاره يعظم البيت ويجزل المعروف لأهله. فلما أصبح قال للحبرين: إني أريت كأن هذه الكسوة لا ترضي الله. قالا: فاجتهد في إرضائه ما وسعك الاجتهاد. فكساه حريرًا وديباجًا، وزينه بالذهب والفضة والجوهر، وفرق العطايا بين الناس. ثم أصبح فقال للحبرين: لم أرَ الليلة شيئًا. قالا: فقد رضي إذًا رب البيت.
وارتحل الملك بعد ذلك إلى اليمن وقد سبقته إليها الأنباء بأنه قد ظفر ظفرًا لم يظفره ملك من قبله، وسبقته إليها الأنباء بأنه قد صبأ عن دينه وترك عبادة الآلهة التي كان يعظمها ويسعى لها. وكان أهل اليمن قد تأهبوا للقائه في حفل حافل وزينة بارعة بالغة. فلما انتهت إليهم الأنباء بأنه قد صبأ٢ تنكروا له، وأبوا إلا أن ينصبوا له الحرب، وأن يصدوا عن بلادهم ويردوا عن حمير شر هذا الدين الجديد الذي جاءهم به من يثرب.
فلما بلغ الملك أطراف اليمن لقيته طلائع الأقيال٣ والأذواء منكرة له مُزورَّةً عنه. وقال قادتهم: لقد فارقتنا وأنت أبرُّ أهل اليمن باليمن، وأحب حمير لآلهة حمير، وها أنت ذا تعود إلينا وقد آمنت لإله لا نعرفه وجحدت آلهتنا، وقد استوزرت غريبين من عدونا تسمع لهما وتطيع، وأعرضت عن رأي الأشراف والقادة من الأقيال والأذواء؛ فلن نخلي بينك وبين هذه البلاد التي أنكرت أهلها وجحدت آلهتها. فارجع أدراجك فاتخذ لك ملكًا حول هذا البيت الذي لم يرضك أن تكسوه الوشي، حتى كسوته الحرير والديباج، أو اتخذ لك ملكًا في يثرب حيث دم ابنك ينتظر من يثأر له، وحيث صدى٤ ابنك يدعو من يسقيه. قال الملك: يا قوم! لا تعجلوا ولا تسرفوا على أنفسكم، ولكن اسمعوا لي واسمعوا لهذين الحبرين، فلو قد علمتم ما نعلم ورأيتم ما نرى، لسلكتم سبيلنا، ولقبلتم ديننا، ولآمنتم بإلهنا الذي خلق السموات والأرض، وآمن له من فيها من الإنس والجن، ومن الحيوان والطير، ومن الماء والهواء، ومن الزهر والشجر. قالوا: ما نريد أن نسمع لك ولا لهما، فانصرفوا عنا. قال الحبران للملك: فما يمنعك أن تدعوهم إلى ما يتداعون إليه إذا شجر بينهم خلاف أوَكانت بينهم فرقة؟ قال الملك: أوَتعلمان هذا أيضًا؟ قالا: نعم! أليسوا يختصمون إلى النار إذا اختلفوا؛ فخاصمهم إليها. قال الملك: يا قوم! هذا الحبران يدعوانكم إلى الإنصاف ويأخذانكم بالعدل. إنكم لتختصمون فيما بينكم فتحتكمون إلى ناركم تلك المقدسة، التي تخرج من أعماق الغار لها زفيرٌ وشهيق، وقد ارتفع لهبها في السماء، فلا يكاد يراها الظالم حتى يصعق، ولا يكاد يراها المظلوم حتى يحس المنعة والقوة. هلم فلنحتكم إليها، فأينا استطاع أن يثبت لها ويصبر على حرها فهو صاحب الأمر، وأينا فزع منها وفر من أوارها فهو الظالم المعتدي. فأدار القوم أمرهم بينهم ساعة، وقال بعضهم لبعض: لقد دعاكم الملك إلى الإنصاف، وما ينبغي أن نأبى على ملكنا ما لا يأباه أحد منا على صاحبه، وما لا تأباه ملوك اليمن على سوقها، فتعالوا نجبه إلى ما يدعونا إليه، وتعالوا نخاصمه إلى النار. ثم أجمعوا أمرهم ليختصمُنَّ إلى النار إذا كان الغد، وليُقْبِلَنَّ كل فريق معه حجته وسلطانه.

وما أشرقت شمس الغد حتى كان أقيال حمير وأذواؤها قد أقبلوا في عددهم وعدتهم، وفي حفلهم وزينتهم يحملون أوثانهم وأصنامهم، وأقبل الملك ومعه الحبران قد تقلدا مصاحف التوراة. وكانت نارهم المقدسة لا تُرى ولا تُحس من بعيد، وإنها تجيب إذا دعيت، وتخرج إذا نوديت. فلما دنوا من الغار الذي كانت تقيم فيه، دعوا وأطالوا الدعاء، ونادوا وألحوا في النداء. وإنهم لفي دعائهم وندائهم، وإذا دخانٌ كثيف ضيق يخرج من الغار كأنه السهم، فلا يبلغ الهواء حتى يمتد طولًا ويتسع عرضًا، وحتى يملأ الجو كثيفًا ثقيلًا، قد حجب الشمس، وكاد يأخذ أنفاس الناس، وما يزال الدخان يخرج من الغار. ثم يمتد في الجو وينتشر، وحمير تتقهقر كلما ألح عليها، والملك والحبران قد ثبتوا في مكانهم لا يجدون ألمًا ولا يلقون ضرًّا، حتى أخذ صوتٌ يسمع كأنه فحيح الحيات، ثم أخذ هذا الصوت يعظم كلما دنا من فوهة الغار؛ وإذا زفير وشهيق، ثم لهب يندلع من الغار ولا يلبث أن يحيط بكل شيء، ويلتهم كل شيء؛ وحمير جادة في الهرب قد تركت أوثانها وأصنامها، وتخففت من زينتها وسلاحها، والنار تتبعهم ملحة في اتِّباعهم ساعةً من نهار؛ ثم أخذت النار تتراجع شيئًا فشيئًا حتى دنت من فم الغار، وإذا هي تقصر وتضيق وتتضاءل حتى كأنها لسان الغار، ثم لا تلبث أن تختفي كأن الغار قد أطبق عليها شفتيه، وإذا الشمس مشرقة والجو صفو، والملك والحبران قائمون في مكانهم لم يُصبهم أذى، ولم يمسسهم ضرٌّ، ولم تتغير نضرة وجوههم، ولم يفارق ثغورهم الابتسام. وتثوب حمير إلى ملكها مسرعةً مذعنةً، وقد افتقدت آلهتها وسلاحها وزينتها فلم تجد شيئًا ما؛ لأن النار التهمت كل شيء.

هنالك هادت حمير وآمنت للملك والحبرين. ومنذ ذلك اليوم استقر في بلاد اليمن كتاب من كتب السماء.

١  الخصف: سفائف نسف من سعف النخل.
٢  صبأ: خرج عن دينه.
٣  الأقيال: ملوك حمير. والأذواء: ملوك اليمن.
٤  كانت العرب تزعم أن روح القتيل الذي لم يدرَك ثأرُه تصير صدى — ويدعى العامة أيضًا — فيَزْقُو عند قبره يقول: اسقوني حتى يدرَك بثأرُه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤