الفصل الرابع

صاحب الحان

١

أنكر شباب قريش من صاحب الحان إعراضه عنهم، وما ظهر من انقباض وجهه وتقطب جبينه، وما أحسوا وراء ذلك من فتور النفس، وجمود القلب، وشرود الخاطر، واشتغال البال.

وكان هؤلاء الفتيان المترفون من شباب قريش قد تعودوا من صديقهم هذا الرومي نشاطًا للشراب إذا نشطوا له، وإقبالًا على اللهو إذا أقبلوا عليه، ومشاركة في اللذة إذا أخذوا فيها، قد مُحيت بينهم وبينه الفروق، ورفعت بينهم وبينه الحجب، وأصبحت الأمور بينهم وبينه ميسرة هينة، تجري على المودة والإلف، وعلى السذاجة والإسماح، كما تجري بينهم وبين أنفسهم، أو خيرًا مما تجري بينهم وبين أنفسهم. يقبلون عليه مصبحين، ويقبلون عليه ممسين، ويقبلون عليه في أي ساعة من ساعات النهار والليل، فلا يرون منه إلا نشاطًا وانبساطًا، وإلا إقبالًا عليهم وإيناسًا لهم. فإذا أخذوا في شرابهم، وأقبلوا على لذاتهم، واستمعوا لأولئك المغنيات الروميات اللاتي كن يفتنهم بالصوت واللحظ، وبغير الصوت واللحظ من أسباب الفتنة وألوان الإغراء، أقبل الخمار الرومي معهم على هذا كله، لا إقبال التاجر الذي يُغري بتجارته ويرغب فيها، بل إقبال المخلص في حب اللهو، المسرف في إيثار اللذة، المتهالك على أن يأخذ نصيبه من الدنيا قبل أن يدفعه الموت إلى تلك الطريق التي يعرف أولها ثم يجهل من أمرها بعد ذلك كل شيء.

وكانت الكلفة قد ارتفعت بين هذا الرومي وبين زواره من فتيان قريش هؤلاء، فكانوا يشربون ويطربون، ويؤدون إليه ثمن لذاتهم إن حضرهم المال، فإذا لم يحضرهم لم يجدوا بذلك بأسًا، ولم يمنعهم ضيق ذات أيديهم أن يمضوا فيما يحبون من عبث ولهو. ولم يُظهر لهم صديقهم الرومي تجهمًا ولا تلكؤًا، ولم يبطئ عليهم في شيء مما كانوا يريدون، لا لأنه كان واثقًا بأن حقوقه ستؤدى إليه كاملة فحسب، بل لأنه كان قد أحب هؤلاء الفتيان وأنس إليهم. ولولا بقية من أصله الرومي كانت تضبط أموره وترده إلى الصواب والحزم، لاندفع مع هذا الحب إلى غير حد، ولألغى بينه وبين هؤلاء الفتيان من أشراف قريش كل حساب.

فلما أقبلوا عليه من ليلتهم تلك لم ينشط لما كانوا ينشطون له، ولم يلقهم بما تعودوا أن يلقاهم به من البشر وطلاقة الوجه، وإنما استقبلهم في شيء من الفتور لم يلبثوا أن أحسوه وشعروا به، ولكنهم لم يظهروا مما أحسوا شيئًا. وخلى الرومي بينهم وبين ما أحبوا من شراب ولذة، ومن مجون وعبث، واندفعت المغنيات الثلاث يرددن عليهم أصواتهن الغريبة العذبة، ويوقعن لهم ألحانهن الشجية الحلوة. وجعلوا يسمعون ويعجبون، ويفتنون ولا يفهمون، وجعلوا يستعينون على هذا كله بالإغراق في الشراب، والاستباق إلى الإكثار منه، مسرفين في المزاح، متهالكين على الدعابة، يقول بعضهم لبعض: لن يتأخر قدوم العير بما تقدم إليها الخمار في أن تحمل إليه من نبيذ الشام وفلسطين، فلا ينبغي أن ننصرف عنه الليلة حتى نستنفد ما عنده من نبيذ قديم. وكانوا يلمحون له بدعابتهم، ويلحون عليه بمزاحهم، ويحرضونه على مشاركتهم، فلا يجدون منه إصغاء إليهم ولا انتباهًا لهم، فيمضون في أمرهم متكلفين أن يلقوا إعراضًا بإعراض، وجفاء بجفاء. ولكنهم لا يلبثون أن يحسوا كأن شيئًا ينقصهم، وكأن اللهو لا يستقيم لهم، وكأن نفوسهم لا تستجيب لهذه اللذات التي تدعوها فتلح في الدعاء. ولا يشكون في أن انقباض هذا الرجل الرومي عما ينبسطون له هو مصدر ما يجدون من حرج وضيق، ومبعث هذا الفتور الذي أخذ يسعى إليهم شيئًا فشيئًا، فيلهيهم عن الألحان وأصوات الغناء، ويكاد يصرفهم عما بين أيديهم من هذه الأقداح التي لم تتعود الانتظار.

هنالك يقبلون على صديقهم الرومي لائمين أول الأمر، ثم ملحين في اللوم. فإذا لم يجدوا منه عناية بهم أو استماعًا لهم رقُّوا له ورفقوا به، وتحولوا إليه عن شرابهم وغنائهم، وجعلوا يسألونه سؤال الصديق عما عرض له من أمر، وما نزل به من خطب، وما ألم به من مكره. ويبلغ رفقهم هذا الحلو قلب الرومي فيتأثر به ويلين له، ويتصل بين هؤلاء الفتيان من أشراف قريش وسادتها وبين هذا الخمار الرومي حديث غريب لا ينقضي إلا وقد كاد الليل ينجلي عما كان قد غمر من الأودية والبطاح.

٢

قال الخمار الرومي لأصدقائه من شباب قريش: «عزيز عليَّ أن ألقاكم بما لقيتكم به من الفتور، وقد عودتكم أن أكون لكم مكرمًا، وبكم حفيًّا. وعزيز عليَّ أن أقصر عما تقدمون عليه من هذه اللذات التي كنت أسابقكم إليها فأسبقكم، وأنازعكم الاستمتاع بها فأكون أوفركم منه حظًّا وأعظمكم منه نصيبًا. وعزيز عليَّ أن يُعديكم هذا الفتور ويبلغكم هذا القصور، فتُصَدُّون عما تحبون، وتُصرفون عما تألفون. ولكن ثِقوا أني لم أقدم على ذلك راغبًا فيه، وإنما دفعت إليه مكرهًا عليه.»

قال صفوان بن أمية: «فإنا ما نشك في أنك لم تلقنا بهذا الإعراض والفتور إلا وقد عرض لك من الأمر ما اضطرك إلى ذلك. وقد عودناك أن نفضي إليك بأسرارنا وجلية أمورنا، لا نخفي عليك منها شيئًا. فأفض إلينا بدخيلة نفسك وجلية أمرك! فلعلنا أن نكون عند ما تحب من المعونة لك والترفيه عليك.»

قال صاحب الحان: «فإني أخشى أشد الخشية ألا تملكوا لي من هذا الأمر الطارئ شيئًا.»

قال صفوان: «إنك ضيفنا وجارنا وصديقنا، وصاحب لذتنا وشريكنا في هذه اللذة. فلسنا لقريش إذًا إن بخلنا عليك بالمعونة، أو آثرنا أنفسنا بالأمن والراحة والنعيم من دونك. وإنك لتعرف من قريش قراها للضيف، ووفاءها للجار، وبرها بالصديق، وأداءها للحقوق.»

قال صاحب الحان: «فإن هذا الأمر الطارئ ليس مما تظنون في شيء، وإني لا أدري كيف أباديكم به وأتحدث إليكم فيه، ولو أن الذي عرض لي كان مما تعودتم أن تردوه عن الضيف والجار والصديق لما أبطأت في إنبائكم به وإظهاركم عليه. ولكنه لون آخر من الأمر لم تتعودوا أن تروه، وضرب آخر من الخطب لم تتعودوا أن تشهدوه. وما أدري أتفهمون عني إن تحدثت إليكم بما عرض لي! وما أدري أترضون إن فهمتم ما ألقي إليكم من الحديث أم تسخطون! فإنه أمر غريب حقًّا! غريب حقًّا!» ثم أطرق الرومي وترك هؤلاء الفتيان من شباب قريش وقد أخذهم شيء يسير من الوجوم بهذا الحديث الغريب، وجعلوا يتقارضون فيما بينهم ألحاظًا قصارًا سراعًا. ثم رفع الرومي إليهم رأسه، فلما رآهم على هذه الحال ابتسم لهم رفيقًا بهم، وقال في صوت هادئ بعيد: «ما أحب لكم أن تُصرفوا عن أمر لذتكم إلى هذا الأمر الذي ما أراه يعنيكم من قريب أو بعيد، فعودوا إلى ما كنتم فيه موفورين. ولو استطعت لشاركتكم في اللهو، ولأعنتكم عليه، ولكن نفسي محزونة منذ الليلة حقًّا!»

قال صفوان: «فإنا لن نتحول عنك إلى لذتنا، ولن ننصرف عنك إلى بيوتنا حتى نعلم علمك، وحتى نرى أقادرون نحن على أن نعينك أم عاجزون عن أن نبلغ من ذلك بعض ما نريد. فاقصص علينا أمرك ولا تبطئ! فإنك قد شوقتنا إلى حديثك هذا الذي تخفيه فتمعن في إخفائه وتلتوي به علينا أشد الالتواء.»

قال الرومي: «إني لا أخفي عليكم شيئًا، ولا ألتوي عليكم بشيء، ولكني أدير هذا الأمر في نفسي ولا أعرف كيف أباديكم به.»

قال صفوان وهو يتكلف الضحك: «فبادنا به كيف شئت وعلى أي وجه أحببت! فإني أخشى إن طال بك هذا الصمت وألح عليك هذا الالتواء أن نشق عن صدرك لنرى ما يضطرب فيه من عاطفة، ونشج رأسك لنظهر على ما تدير فيه من رأي وما تجيل فيه من حديث.»

قال الرومي وهو يبتسم: «ما أوفاكم إذًا للجار، وأرعاكم إذًا للصديق!»

قال صفوان: «فإنك مظهرنا على أمرك طائعًا أو كارهًا! فقد طال منك الصمت، وطال منا الإلحاح، وقد تقدم الليل، وإنا خليقون أن نبقى حولك حتى يدركنا الصبح نسألك ونلح عليك؛ فأرح نفسك وأرحنا من السؤال والإلحاح.»

قال الرومي وهو يظهر ترددًا شديدًا، ويأخذ نفسه بالعنف لأنه يُقدِم على أمر عظيم: «فإن الأمر الذي أهمني لا يتصل بي وإنما يتصل بكم.»

قال صفوان: «فذلك أجدى أن تبادينا به وتظهرنا عليه!»

قال الرومي: «فإنه لا يتصل بحياتكم حين تأوون إلى بيوتكم، أو تهرعون إلى هذا الحانوت أو تضطربون في الأرض، وإنما يتصل بآلهتكم.»

ولم يكد هؤلاء الفتيان من قريش يسمعون هذه الجملة حتى اندفعوا إلى ضحك غليظ متصل، ثم سكت عنهم الضحك بعد حين، فجعل بعضهم ينظر إلى بعض نظر المنكر لما سمع، الساخر منه، في شيء غريب من الفرح والمرح، وفي إشارة إلى الغلام أن يملأ لهم أقداحهم. ثم نظر صفوان إلى صديقه الرومي نظرة لا تخلو من استهزاء يشوبه الإشفاق وقال: «قد كنا نحسب أن التفكير في الآلهة والحديث عنهم أمر مقصور على نفر من قريش تقدمت بهم السن وتقلبت عليهم الحياة، وفرغوا لهذا العبث، فجعلوا يخوضون فيما ليس للناس أن يخوضوا فيه. ولكن الأمر قد تجاوز هؤلاء الشيوخ من قريش إلى جيراننا من الروم. أوَمَسَّتك العدوى إذًا؟ أوَجعلت تصبو إلى ما يصبو إليه هؤلاء النفر من شيوخنا، وتحرص على أن تمتاز بما يمتازون به من التحرج والتكلف، وإنفاق الجهد فيما لا ينبغي أن ينفق فيه الجهد؟! لقد جفَّت حلوقنا يا غلام، فأسرع إلى هذه الأقداح فاملأها، وأسرع إلى مولاك بشيء من شراب، فما نرى إلا أن نفسه قد ظمئت، وما نرى إلا أن ظمأ نفسه قد اضطرها إلى هذا الحديث.»

قال الرومي: «أما إنك قد قلت الحق وأنت لا تدري! فإن نفسي لظمئة، وإن ظمأها لأشد مما تظن.»

قال صفوان: «تظمأ وعندك أكرم ما جادت به بَيْسان من نبيذ!»

قال الرومي: «ما صدفت نفسي قط عن الخمر كما تصدف عنها الآن. إني لشديد الظمأ ولكن إلى شيء آخر ما أرى أنكم تفقهونه أو تفطنون له.»

قال صفوان وهو مغرق في الضحك: «إنك لظمئ إلى ما كانت تظمأ إليه نفس زيد بن عمرو! فقد طلبته جاهدة فلم تظفر به، ولم ترو ظمأها باليقين، وإنما روته بهذا الدم الزكي الذي لم نثأر له بعد، والذي لا بد من الثأر له. وإنك لظمئ إلى ما كانت تظمأ له نفس ورقة بن نوفل وعثمان بن الحويرث! فإن ورقة بن نوفل ليقيم منك غير بعيد فتحولْ إليه واستمع له! فقد يُروي نفسك بما وعى من علم النصارى، وما حفظ من سخف الروم. ولكن لا تنس أن تخلي بيننا وبين ما بقي لك من خمر، وأن تحكمنا فيما ستقدم عليك به العير بعد أيام.» ثم تضاحك القوم ورفعوا الأقداح إلى أفواههم، ثم ردوها ولم يذروا فيها شيئًا.

قال الرومي: «فأما وأنتم تفقهون أمر هؤلاء النفر من قريش، فما أشك في أنكم ستفهمون عني إن حدثتكم بما يضطرب في نفسي من الأمر. ولقد أسأت بكم الظن، فمعذرة إليكم. لقد رأيتكم لا تحفلون إلا بما يحفل به أترابكم من اللهو، ولا تقبلون إلا على ما يقبل عليه لداتكم من اللذة والنعيم.»

قال صفوان: «فإن لنا على ذلك عقولًا تستطيع أن ترقى إلى حكمتك العليا. ولكن ما رأيك في أنها زاهدة في هذه الحكمة، راغبة عنها! فإنا لم نأتك لتتحدث إلينا عن الآلهة، وما ينبغي لغير قريش أن يتحدث عن آلهة قريش. ولقد أطلت فينا المقام، فكنت خليقًا أن تعرف من أمرنا أكثر مما عرفت. وما نظنك إلا أدركت شيئًا مما لقي زيد بن عمرو، وقد كان أوسطنا نسبًا، وأرفعنا حسبًا! فخذ في حديث آخر غير حديث الآلهة. فما كنا لنكره ذلك من شيخ قرشي ثم نرضاه من رومي غريب أقبل علينا ليسقينا الخمر ويُسمعنا الغناء.»

قال الرومي وقد ظهر عليه بعض الحزن: «ألم أقل لكم إني كنت مشفقًا أن يسوءكم حديثي، وإني كنت راغبًا عن أن أوذيكم!»

قال فتى من القوم: «فإنك لم تؤذنا وإن حديثك لم يسؤنا، وإنك لم تظهرنا بعد على هذا الحديث. ولكن في صفوان حدة وسرعة إلى الغضب ولا سيما حين يثقل عليه الشراب، فامض في حديثك راشدًا، وأشركنا في هذا الهم الذي غيَّر سيرتك منذ الليلة.»

قال صفوان: «ما أدري ماذا عرض لي؛ فإن حديثك لم يسؤني ولم يؤذني، وإنما أخذت في الدعابة حين سمعتك تتحدث عن الآلهة، فما أسرع ما استحالت الدعابة إلى جد مرٍّ، فامض في حديثك وخلاكَ ذم.»

قال الرومي: «أقبلوا على شأنكم، وخذوا في لهوكم، أو تفرقوا إلى بيوتكم فقد تقدم الليل.»

وأحس القوم أن نفس الرومي مقسمة بين الغضب والخوف، فعادوا إلى الرفق به والتلطف له، حتى ردوه إلى الأمن والهدوء، ثم مضوا يسألونه عن حديثه، ويلحون عليه في أن يتمه.

قال الرومي: «أتعرفون أني نصراني؟»

قال صفوان: «نعرف أنك نصراني كغيرك من الروم، لكنا لم نرَ منك قط إقبالًا على الدين، ولا إمعانًا في النسك.»

قال الرومي: «فاعلموا أني لست نصرانيًّا، أو اعلموا أني لم أخلص للنصرانية قط، وأني لم أقدم على بلدكم هذا النائي البعيد من بلاد الروم لأسقيكم الخمر وأسمعكم الغناء، وإنما أقبلت إليكم مهاجرًا بهذه الوثنية التي كنت أخفيها في بلادي من أرض الروم، وأجد في إخفائها جهدًا لا يحتمل، وعناء لا يطاق.» فلما سمع القوم من حديث الرومي عجبوا له، وشغفت نفوسهم بالقصة فأصغوا أشد الإصغاء.

قال الرومي: «إنكم لا تعرفون من أمرنا نحن الروم إلا أقله وأيسره. وإنكم لتجهلون وثنيتنا القديمة كما تجهلون نصرانيتنا الحديثة. ولو قد علمتم من أمرنا أكثر مما تعلمون لكان فهمكم عني أعمق وأصدق. إن وثنيتنا القديمة ليست من اليسر والسذاجة بحيث ترون ما أنتم عليه من دين؛ فإن لآلهتنا القدماء أخبارًا طوالًا، وأنباء غريبة، تكلف بها النفوس، وتألفها القلوب، وتصبو إليها الطباع. وقد كان آلهتنا القدماء أشد اختلاطًا بنا، ومعاشرة لنا، واشتراكًا معنا في جد الحياة وهزلها من آلهتكم. فلا جرم تمكَّن حبها في قلوبنا، واختلط بنفوسنا، وجرى مع دمائنا، وكانت حاجتنا إليهم كحاجتنا إلى الهواء الذي نتنفسه، وإلى الطعام الذي نقيم به أودنا، وإلى الشراب الذي ننقع به الغلة ونبلُّ الصدى، وإلى المعرفة التي نغذو بها عقولنا، ونرقِّي بها قلوبنا، وننقي بها طباعنا من الأوضار والآثام. فلما جاء الدين الجديد، ضقنا به أشد الضيق، ونفرنا منه أشد النفور، وقاومناه أعنف المقاومة وأقساها، وضحينا في سبيل آلهتنا القدماء بكثير جدًّا من النفوس والدماء والأموال أكثر مما تستطيعون أن تتصوروا. ولكن الإله الجديد كان أقوى من آلهتنا وأعظم سلطانًا؛ فلم تثبت له الآلهة، وإنما انهزمت أمامه وفرَّت من معابدها وهياكلها، وأذعن أكثرها لهذا الإله الجديد، وَوَفى أقلنا لأولئك الآلهة المشردين. وقد نشأتُ في أسرة من هذه الأسر التي توارثت الوفاء لأولئك الآلهة، والتي كانت تؤدي النصرانية لقيصر كما تؤدي له الضريبة التي يفرضها على الأموال، فإذا خلت إلى نفسها وفتْ لآلهتها، وأخلصت لها الدين محتاطة متحرجة، بالغة من التحرج والاحتياط أقصى ما كانت تستطيع أن تتحمل. ولكن قيصر قد اشتد في دينه. ولم يكتف من رعيته بالطاعة الظاهرة، وإنما أراد أن يخلص إلى دخائل النفوس وضمائر القلوب، وأن يحاسب الناس على آرائهم كما يحاسبهم على أعمالهم. فلقينا من ذلك جهدًا أشد الجهد، وعنتًا أعظم العنت، حتى تحول كثير منا عما كان يضمر من حب آلهتنا. وإنا لفي ذلك العناء وإذا أنا أسمع حديثًا عن بلدكم هذا يغريني به ويدفعني إليه، ويخيل إليَّ أن آلهتنا قد هاجروا من بلاد الروم إلى العرب، فأقاموا فيها، وفرغوا لأهلها يبسطون عليهم من سلطانهم العذب ما كانوا يبسطونه على الروم.»

قال صفوان: «وما ذاك الحديث؟»

قال الرومي: «حديث ذلك الجيش النصراني الحبشي الذي أقبل على بلدكم هذا ليهدمه ويدمره، مقدمًا بين يديه فيله العظيم. فما كاد يدنو من حرمكم هذا حتى رُدَّ عنه أقبح الرد وأشنعه، وحتى سلطت عليه تلك الطير التي مزقته تمزيقًا.»

قال صفوان: «فإن رب الحرم قد ذاد العدو عن الحرم، ما نجد في ذلك غرابة ولا عجبًا.»

قال الرومي: «أما نحن فقد وجدنا فيه الغرابة كل الغرابة، والعجب كل العجب، وأوَّلناه ألوانًا من التأويل. فأما رهباننا وأحبارنا فقد فهموا منه شيئًا آخر. ظن الأحبار والرهبان أن هذه آية قدمتها السماء بين يدي آيات أخرى أكبر منها وأعظم خطرًا. وظن الأحبار والرهبان أن أمور الناس ستتغير وتتبدل، وأن ما أنزل على اليهود والنصارى من الدين سيتم في هذا البلد الذي رُد عنه الفيل. وظننا نحن كما قلت لكم أن آلهتنا قد هاجروا إلى هذا البلد، وأنهم قد ردوا جيش الحبشة والروم عنه، كما ردوا جيش الفرس عن بلاد اليونان منذ قرون. وتمتلئ نفسي بحب الآلهة، وتطمئن نفسي إلى هذا التأويل، وتحدثني نفسي بالهجرة إلى بلادكم لألقى فيها آلهتنا، ولأرى فيها تماثيلهم، ولأعبدهم حرًّا، وأتقرب إليهم، مظهرًا ذلك لا مستخفيًا به ولا محتاطًا فيه. وأفكر في الرحلة إلى هذه الأرض، وفي الحياة التي سأحياها في هذا البلد، وفي رزقي كيف أكسبه. فأتصل بالذين كانوا يفدون على بلادنا من تجاركم، فأعلم منهم علم هذه البلاد ومن يعيش فيها من الناس، وأقدم مع بعض قوافلكم تاجرًا أسقيكم خمر الروم، وأسمعكم غناء الروم. وإن لي في بلادكم لأربًا غير هذا وذاك. وما أخفي عليكم أني لم أبلغ بلادكم ولم أستقر في أرضكم حتى أدركتني خيبة الأمل، وحتى جعلت نفسي تحدثني بأن الأحبار والرهبان ربما كانوا أدنى مني إلى الحق، وأقرب مني إلى الصواب؛ فقد رأيت تماثيل آلهتكم، ورأيت سيرتهم فيكم وسيرتكم فيهم، فلم أعرف من هذا كله شيئًا، ولم تعطف نفسي على صنم من هذه الأصنام القائمة، ولم يمل قلبي إلى وثن من هذه الأوثان المنصوبة، ولم يَرْتَبْ ضميري في أن آلهتنا قد هاجروا من بلاد اليونان لا ليستقروا في بلاد العرب، ولكنهم مضوا إلى وجه من الأرض أو من السماء لا نعرفه ولا نهتدي إليه.

هنالك أخفيت أمري في مكة كما كنت أخفيه في طرَسوسَ، وأظهرت لكم نصرانيتي هذه الرقيقة كما كنت أظهرها في أرض قيصر، وفرغت للتجارة واستثمار المال، فجعلت أسقيكم الخمر، وأسمعكم الغناء، وأفيد منكم مالًا كثيرًا. ولكنكم أخذتم منذ حين في هدم بيتكم هذا وتجديد بنائه، فكان ذلك مصدر ما أنا فيه من الاضطراب.»

قال صفوان: «وما ذاك؟»

قال الرومي: «ألم تفكروا في أصنامكم هذه القائمة حول هذا البيت والمسندة إليه ما عسى أن تصنعوا بها أثناء الهدم والبناء؟»

هنالك نظر بعض القوم إلى بعض نظرة لا تخلو من معنى. وقال صفوان: «وماذا كنت تريد أن نصنع بها غير ما صنعنا؟!»

قال الرومي: «لم أكن أريد شيئًا، وإنما كنت أنتظر.»

قال صفوان: «كنت تنتظر كما كنا ننتظر أن تتحول الآلهة عن أماكنها، وأن تبهرنا بانتقالها إلى حيث تأمن معاول الهادمين. ولكن الآلهة لم تتحول فحولناها، ولم تنتقل فنقلناها. وإذا تم البناء فسنرد ما نقلناه منها إلى أماكنها الأولى. فماذا تنكر من ذلك؟! إنا لم ننكر منه شيئًا.»

قال الرومي: «فقد كنتم تنتظرون من الآلهة مثل ما كنت أنتظر؟»

قال صفوان ضاحكًا: «ولكن الآلهة لم تحقق آمالنا، ولم تفعل ما كنا ننتظر منها. أفنكره الآلهة على ما لا تريد! يا غلام! قد جفت حلوقنا فاملأ الأقداح.»

ثم التفت إلى الرومي وهو يقول: «إنك لتُعنِّي نفسك بأيسر الأمر وأهونه. إن أخص ما يميز الآلهة أنهم يفعلون ما يريدون هم لا ما نريد نحن.»

قال الرومي: «ولكنهم لم يفعلوا شيئًا.»

قال صفوان: «فمن حقهم ألا يفعلوا، كما أن من حقهم أن يفعلوا.»

قال الرومي: «فإذا أتممتم بناءكم وبدا لكم ألا تردوا آلهتكم إلى أماكنها، أفتراها ترتد إليها على رغمكم؟»

قال صفوان: «ما أدري وما يعنيني من ذلك شيء. انتظر حتى يتم البناء؛ فإن رأيت الآلهة قد ارتدت من تلقاء نفسها إلى أماكنها فقد ظهرت لك جلية الأمر. وإن رأيتنا نحن نردها إلى أماكنها كما حولناها عنها، فاعلم أنها قد أخذتنا بذلك وأرادتنا عليه. وإن رأيتها قائمة حيث وضعناها ورأيتنا نتركها حيث هي فاعلم أنها تريد ذلك، وتطمئن إلى أماكنها الجديدة. وأرح نفسك كما نريح أنفسنا من التفكير في الآلهة، واشغل نفسك كما نشغل أنفسنا عن أمور الآلهة بأمور الناس، وعن حركات الآلهة بحركات هؤلاء الإماء الثلاث اللاتي يوقعن ويغنين فيكلفننا من أمرنا شططًا.»

وتفرق هؤلاء الفتيان من قريش عن صاحبهم الرومي آخر الليل، وإن بعضهم ليقول لبعض: ويلكم! لقد فطن هذا الرومي لما فطنتم له. ولئن جاز لنا نحن أن نشك في آلهتنا أو نسخر منها، فما ينبغي أن يجوز ذلك لرومي يسقينا الخمر ويسمعنا الغناء. ويلكم! ارفعوا ذلك إلى الملأ من قريش! ليدبروا أمرهم وأمر الآلهة! فإنه في حاجة إلى التدبير، وليحتاطوا أن يشيع هذا الشك في عامة الناس وضعفائهم، وفي هؤلاء الأجانب الذين يملئون مكة من الفرس والحبش والروم.

ولكنهم راحوا على صاحبهم الرومي من الغد ليستأنفوا عنده لهوهم ولذتهم، فلم يجدوه ولم يجدوا إماءه الثلاث، وإنما وجدوا حانوتًا خاليًا إلا من دنان وزقاق كان فيها فضل من شراب.

٣

واستقر حديث الرومي في نفوس هؤلاء الفتيان، وما أدري أتحدثوا به إلى الملأ من قريش أم أخفوه عليهم، ولكنهم لم ينسوه على كل حال، وإنما جعلوا ينتظرون أن يتم بناء البيت، ويتساءلون إذا التقوا، كما يسأل كل واحد منهم نفسه منفردًا: ماذا عسى أن يصنع الآلهة ليعودوا إلى أماكنهم؟ أيسعون إلى هذه الأماكن ليستقروا فيها، أم ينقلون إلى هذه الأماكن محمولين على الأيدي والأعناق كما حولوا عنها محمولين على الأيدي والأعناق حين أخذت قريش في هدم البيت؟

وليس من شك في أن الملأ من قريش قد فكروا في هذا الأمر كما فكر فيه الشباب، وانتظروا من الآلهة مثل ما انتظر الشباب. ولكن شيوخ قريش كانوا أمكر وأمهر من أن يظهروا من تفكيرهم شيئًا. وكانوا أضبط لأمورهم وأملك لعواطفهم من أن يظهروا الشباب وضعاف الناس على ما خالط قلوبهم من ريب، وشاع في نفوسهم من شك، حين رأوا آلهتهم ينقلون كما ينقل المتاع، ويرصون في أماكنهم الجديدة كما يرص الأثاث. ومهما يكن من شيء فقد أتمت قريش بناء البيت، وانتظرت بالآلهة يومًا ويومًا، فلما لم تجد منها إرادة ولا حركة ولا تحولًا إلى أماكنها ردتها إلى تلك الأماكن ردًّا، وحملتها إليها حملًا. واستقر في نفوس الشيوخ والشباب شك عظيم. وربما ظهر الأمر ببعض أولئك الشيوخ والشباب إلى ما هو أبعد من الشك والريب، وأدنى إلى الجحود والإنكار.

ولكن محنة قريش في آلهتها لم تقف عند هذا الحد الذي قد يفطن له أذكياء القلوب، وأصحاب العقول النافذة والأحلام الراجحة، ولكنه يخفي عادة على الدهماء ويجل عن أن تعرفه عامة الناس، وإنما جاوزته إلى شيء خطير رأت فيه قريش خطبًا عظيمًا وافتضاحًا منكرًا لما لم يكن ينبغي أن يفتضح من أمر الآلهة. فقد أسندت قريش من آلهتها إلى البيت ما أسندت، وأقامت قريش من آلهتها حول البيت ما أقامت، وخيل إليها أن قد فرغت من هذا الجهد الشاق، وخلصت من هذا العناء الثقيل. ثم اجتهد الأشراف والسادة في أن شغلوا عامة الناس ودهماءهم عن التفكير في جمود الآلهة وقصورهم، فأقاموا الأعياد، وأكثروا من التقريب للآلهة، وأسرفوا في أموالهم ليطعموا الفقراء والبائسين، وألحوا في ذلك وقاموا عليه حتى تجاوز كرمهم أهل مكة إلى من كان يضرب حولها من الأعراب الذين جعلوا يقدمون على مكة، يلتمسون فيها حظوظهم من هذه الإبل والشاء التي كانت تقرب إلى الآلهة في غير انقطاع. ولكن قريشًا تصبح ذات يوم فتغدو على البيت فترى، ويا هول ما ترى! ترى آلهتها مجدلين قد صرعوا حول البيت تصريعًا، منهم المستلقي على ظهره، ومنهم المنكب على وجهه، ومنهم المضطجع على أحد جنبيه وما أصف لك شيئًا مما ملأ قلوب قريش من الروع والهلع! فأنت قادر على تصور ذلك إذا قدرت إعظام العامة لآلهتها، وحرص الخاصة على ما ينبغي لهؤلاء الآلهة من جلال ووقار.

وتقبل قريش على آلهتها فتردهم إلى أماكنهم، وتقرهم في مواضعهم، ثم تستشير وتستخير وتدبر بينها ألوان الرأي، ثم يستقر الأمر بينها على أن الآلهة لم يرضوا بعد عما نحر لهم من ضحايا وما سفك حولهم من دماء. فتستأنف قريش ما كانت قد أخذت تعرض عنه من التضحية والتقريب، وهذه الإبل تنحر، وهذه الشاه تذبح، وهؤلاء الفقراء ينعمون بعيش رغد وسعة متصلة. ولكن قريشًا تصبح من الغد فإذا آلهتها مجدلون حول البيت، قد فعلت بهم الأفاعيل!

ويعظم لذلك همُّ قريش، وتمتلئ لذلك قلوب قريش حزنًا وأسى، منهم الصادق المخلص، ومنهم المشفق الماكر، ولكنهم على كل حال يقيمون الأصنام، ويجددون التضحية، ويستشيرون الكهان ويجدُّون في البحث والاستقصاء، لعل في مكة قومًا يمكرون بالآلهة، ويدبرون للحرم وأهله كيدًا. وقد أقاموا الحراس حول البيت أثناء النهار، فلم يرَ الحراس شيئًا ينكرونه. وأقاموا الحراس حول البيت آناء الليل، فقاموا حذرين أيقاظًا ينتظرون، ولكن انتظارهم لم يطل وإنما هو انتصاف الليل وتقدمه بعد ذلك شيئًا، وإذا بضجيج يسمع، وأصوات تقرع الآذان. وينظر الحراس فيرون — ويا هول ما يرون! — الآلهة وقد صرعوا حول البيت تصريعًا، فيفرون وقد ملكهم الخوف واستأثر بهم الفزع.

وقد أشار الكهان على قريش بأمر عظيم وقفت له القلوب فما تخفق، وجمدت له الدماء فما تجري، ووجمت له النفوس فما تستطيع روية ولا تفكيرًا، وهلعت له النساء في البيوت، وأشفق منه سكان مكة جميعًا إشفاقًا عظيمًا! فقد زعم الكهان لقريش أن لحوم الإبل والشاء ودماء الإبل والشاء ما كانت لترضي الآلهة بعد أن حولت عن أماكنها، وبعد أن هدم بيتها وأعيد بناؤه! ولا بد من أن يقرب إلى الآلهة لون آخر من القربان يقنعهم بأن عبادهم من قريش لا يجودون عليهم بالأموال وحدها، وإنما يتقربون إليهم بالأنفس أيضًا. وقال الكهان لقريش: يجب أن تقربوا لآلهتكم من أجيالكم الثلاثة رجلًا وامرأة قد تقدمت بهما السن حتى أشرفا على الموت، وفتى في نضرة الشباب، وصبيًّا وصبية من الأحداث. فإن لم تفعلوا فما ندري ماذا يصنع الآلهة؛ فإنهم لم يفعلوا إلى الآن أكثر من أن قدموا إليكم النذر، فأسرعوا إلى إرضائهم! فإنا نخشى أن تسوء العاقبة، وأن تصبحوا فلا تروا آلهتكم بينكم، وألا تمضي بعد خروجهم عنكم أيام حتى يسلط عليكم شر عظيم. ولو استمع الملأ من قريش لما كانت تضطرب به نفوس الدهماء وعامة الناس لأطاعوا أمر الكهان، ولتقربوا إلى آلهتهم بهذا الإثم المنكر. ولكن الملأ من قريش كانوا أمكر من ذلك وأمهر، وكانوا أحزم من ذلك وأعزم! فقد خلصوا نجيًّا ذات ليلة في دار ندوتهم، وجعلوا يتشاورون ويديرون أمرهم بينهم. وليس من شك في أنهم قد تلاوموا وتلاحوا، وألقى بعضهم على بعض تبعة ما كان من هدم البيت وتجديد البناء، ولكنهم كانوا مجمعين أمرهم على ألا يذعنوا لما يأخذهم به الكهان، ولا يقدموا إلى آلهتهم أبناءهم وبناتهم وأن أمر الآلهة في نفوس هؤلاء الشيوخ الذين عركتهم التجارب لأهون من ذلك وأيسر. ولكن الملأ من قريش ينظرون فإذا بينهم رجل غريب ينكرونه، ثم لا يلبثون أن يعرفوه، شيخ قد تقدمت به السن، واتخذ زي النجديين، لم يكن بينهم حين اجتمعوا ولكنه ظهر فيه فجأة، لا يدرون من أين أقبل وهم قد أقاموا على الباب حراسًا يمنعون أن يقتحمه أحد أو يدنو منه أحد. ولكنهم يذكرون أنهم قد رأوا هذا الشيخ النجدي ذات يوم حين أمضى الأمين حكمه فيهم، وحين وضع الأمين الركن الأسود في موضعه من البيت. رأوه يريد أن يشارك في البناء فيرد عن ذلك ردًّا عنيفًا، فيظهر السخط ويعلن النذير، ثم يستخفى فلا يظهرون له على أثر. فلما رأوه من تلك الليلة أقبلوا عليه يسألونه من أين جاء؟ ومن عسى أن يكون؟ فلا يرد على سؤالهم هذا جوابًا، وإنما يقول لهم في صوت نحيف بعيد: «لقد أخذت النذر تتحقق يا معشر قريش. ألم أنهكم عن أن تحكموا بينكم رجلًا كان أصغركم سنًّا، وأقلكم مالًا، وأشدكم إعراضًا عن آلهتكم، وأبعدكم من الاحتفاء بهم والإكرام لهم! فقد أبيتم إلا أن تفعلوا، وغضبت الآلهة مما فعلتم. وما أرى أن أموركم تستقيم إلا إذا نقضتم بناءكم شيئًا، فأخرجتم الركن من موضعه، ثم رددتموه إليه بعد أن تضحوا لآلهتكم بمن أمركم الكهان أن تضحوا بهم. فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الآلهة، لا قبل لكم بها ولا قدرة لكم عليها. والخير يا معشر قريش أن تريحوا أنفسكم من هذا الأمين؛ فإنكم إن أبقيتم عليه لم يبق عليكم، وإن مددتم حياته لم يلبث أن يجذم حياتكم جذمًا.»

ويسمع الملأ من قريش حديث هذا الشيخ مرتاعين له، حتى إذا انقطع الصوت وهموا أن يحاوروا صاحبه نظروا فلم يجدوه بينهم، وكأنه لم يدخل عليهم ولم يتحدث إليهم.

هنالك تمتلئ قلوب القوم حيرة، ويكادون يصرفون عما كانوا فيه إلى السؤال عن هذا الشيخ: من أين جاء؟ ومن عسى أن يكون ولكن الوليد بن المغيرة يقول في صوت هادئ مطمئن: «ويحكم يا معشر قريش! ما أرى إلا أن الشيطان يريد أن يعبث بكم، ويصرفكم عما ألفتم وعما ألف الناس فيكم من الحزم والعزم، ومن الأناة والوقار. إنه الشيطان يا معشر قريش، ما أشك في ذلك! إنه قد ظهر بينكم ثم استخفى عليكم. وإنه قد أنذركم بالشر، ودعاكم إلى أمر فظيع. أرأيتكم يا معشر قريش إن أخرجتم الركن عن موضعه، تستطيعون أن تردوه دون أن يشجر بينكم الخلاف، وتستيقظ فيكم الفتنة، وينصب بعضكم لبعض الحرب، ويدعو بعضكم بعضًا إلى القتال؟ هل أنتم يا معشر قريش إن استمعتم لهذا المشير الخائن، والنصيح الغاش، فبطشتم بالأمين أو حاولتم البطش به، إلا مضيعون للحق، مهدرون للرحمة قاطعون للرحم، تجزون الخير بالشر، والمعروف بالمنكر! فقد حقن الأمين دماءكم، وهذا الشيطان يدعوكم إلى أن تهدروا دمه. وقد أقر الأمين فيكم السلم، وهذا الشيطان يدعوكم إلى أن تثيروا بينكم وبين قومكم الحرب. لا والله ما دلكم هذا الشيطان إلا على الغي، ولا دعاكم إلا إلى الإثم. ردوا عليكم فضل أحلامكم، ولا تكبروا من أمر هذه الأحجار غير كبير. إني والله ما أراها كلها تعدل قطرة من هذه الدماء التي ترادون على أن تسفكوها. أي أسرة من أسر قريش تريدون أن تفجعوها في كبيرها أو صغيرها؟! أيكم تطيب نفسه يا معشر قريش عن هذه التضحية بابنه أو بنته، وبأبيه أو أمه؟! إنكم لم تنسوا بعد قصة عبد المطلب وابنه عبد الله، لقد كدتم تبطشون به؛ لأنه كان يأبى إلا أن يضحي بابنه للآلهة. فإنكم لا ترادون الآن على أن تضحوا بواحد من قريش، وإنما ترادون على أن تضحوا بستة من خيركم. لا تسمعوا لهذا اللغو! وأمر هذه الأحجار أيسر عليكم وأهون في نفوسكم مما تظنون، ومما يخيل إليكم الشيطان.» قال أمية بن خلف: «مهلًا يا وليد! إنك لتقول الحق، وتدعو إلى الرشد. ولكن خفض من صوتك، ولنكتم على الناس هذا الحديث! فإنه إن ذاع لم ينتج لنا إلا شرًّا، والأمر بعد ذلك في حاجة إلى التدبير. فما ينبغي أن يروح الناس عن آلهتهم وهم قائمون، ثم يغدوا عليهم وهم مجدلون.»

قال الوليد: «ما أرى إلا أن هذا الشيطان يعبث بنا وبهذه الأحجار، يتخذها أسبابًا ووسائل لكيد يدبره، وشر يقدره. يقيمها أثناء النهار، وينيمها إذا جن الليل.»

قال أمية: «فاقترح علينا وسيلة نخلص بها من كيد الشيطان، ونكره بها الآلهة على أن يظلوا ويبيتوا كما عرفهم الناس قائمين، غير نائمين ولا مجدلين.»

قال الوليد: «كِلُوا إليَّ أمر هؤلاء الآلهة، فعلَيَّ أن أجد لكم منه مخرجًا.»

وتفرق الملأ من قريش وهم لا يدرون ماذا يريد الوليد أن يصنع. ولكن الوليد غدا على ذلك البناء القبطي الذي أقام لهم البيت، فاستشاره في ذلك، وأفضى إليه برأيه جليًّا صريحًا في هذه الأحجار. فلما سمع منه «باخوم» أطرق شيئًا، ثم قال مبتسمًا: «هلا صنعتم بآلهتكم ما نصنع نحن بما نريد تثبيته من البناء!»

قال الوليد: «وما ذاك؟»

قال باخوم وهو لا يملك نفسه من الضحك: «شدوا آلهتكم إلى أماكنها بأسباب من الرصاص.»

قال الوليد: «هو ذاك!»

والغريب أن أصنام قريش ثبتت في أماكنها واستقرت في مواضعها بعد هذه الحيلة، وعجزت عن أن تخلص من قيودها الرصاصية تلك، فلم ترها قريش بعد ذلك إلا قائمة مكانها، حتى كان يوم من الأيام رأتها فيه وقد حطمت تحطيمًا.

قال ابن هشام: وحدثني من أثق به من أهل الرواية في إسناد له عن ابن شهاب الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، قال: دخل رسول الله مكة يوم الفتح على راحلته، فطاف عليها وحول البيت أصنام مشدودة بالرصاص، فجعل النبي يشير بقضيب في يده إلى الأصنام ويقول: «جاء الحق، وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقًا.» فما أشار إلى صنم منها في وجهه إلا وقع إلى قفاه، ولا أشار إلى قفاه إلا وقع لوجهه، حتى ما بقي منها صنم إلا وقع. فقال تميم بن أسد الخزاعي في ذلك:

وفي الأصنام معتبرٌ وعِلمٌ
لمن يرجو الثواب أو العقابا

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤