الفصل العاشر

شوق الحبيب إلى الحبيب

وقف حارثة بن شراحيل ذات يوم على بعض غلمانه، وقد انحدرت الشمس إلى مغربها مسرعة كأنما كانت تنهزم أمام هذا الليل الذي أقبل في هدوء وجلال كأنه سيل من الظلمة الحالكة يغمر الصحراء والآكام قليلًا قليلًا، فقال في أناة لا تخلو من حدة: «شبوا ناركم يا هؤلاء، وأطعموها من جزل الحطب ويابسه، فإني أراها منذ ليال خامدة هامدة، لا يكاد يسطع لها لهب، أو يرتفع لها سنًا، وأنتم ترون ظلمة الليل تغمر الأرض، وظلمة السحاب تحجب السماء. وما أرى إلا أنا نستقبل ليلة قاسية عاتية على من ركب الطريق. وقد قل الطارقون لنا منذ حين. وقد كنت أرجو أن يكون منزلنا هذا أمنًا للخائف، وهدًى للحائر، وخصبًا للمجدبين.» ثم تحول عنهم ومضى إلى نادي قومه.

فقال بعض الغلمان: «ويلٌ للإبل الرائحة! إنا لنرى في وجه مولانا شرًّا، وما نظنها تجوزه موفورة. إن نفسه لتنازعه إلى قرى الضيف، ولئن لم يطرقه ضيف ليضيفن من حضره من أهل الحي.» قال قائل: «فإني أعرف في وجهه الملل والضيق منذ أيام. وما أرى إلا أن غيبة زوجه وابنه قد طالت عليه، ولولا أنه يصطنع الأناة ويحرص على الوقار لخف إليهما وتعجل عودتهما، ولكنه يكره أن يقال غابت عنه سعدى شهرًا فلم يستطع عنها صبرًا. ومن يدري! لعله حين أمرنا بأن نشب النار ليسطع لهبها ويبعد سناها إنما فكر في سعدى وزيد، وقدر أنهما يتجشمان إليه وعورة الطريق وظلمة الليل وريح الشمال هذه التي تلفح الوجوه ببردها الذي لا يطاق. فلنشب له النار، ولنرفع من لهبها وسناها ما يفرق الظلمة، ويهدي الحائر، ويدعو إلى الأمن والدعة والقِرى، ولنا من هذا كله حظ مقسوم ونصيب موفور، ولنا من رضا سيدنا غبطة، ومن راحته بهجة وسرورًا.»

ولم يخطئ غلمان حارثة فيما أرادوا بينهم من حديث؛ فقد كان سيدهم منغص النهار، مؤرق الليل، موله الفؤاد، مفرق النفس حين اتصلت غيبة زوجه عنه، وكانت قد فارقته منذ شهر أو أكثر أو أقل لتزور قومها في هذا الحي من طيئ، حيث يقيمون غير بعيد، وإنما هي ثلاثة أيام تقطع فيها الإبل أمدًا من آماد الصحراء. فتبلغ منازل طيئ في ظل الجبلين أجأ وسلمى.

وكانت سعدى قد احتملت معها أصغر أبنائها زيدًا، وكان غلامًا يافعًا، لم يكد يبلغ الثانية عشرة من عمره، تريد أن تزيره أخواله، وتصل بينه وبين صبية قومها وغلمانهم. وقد شقت هذه الرحلة على زوجها حارثة، ولو أطاع نفسه وارسل طبعه على سجيته، لأجل هذه الرحلة أشهرًا حتى تتاح له المشاركة فيها، ويأمن فراق آثر الناس عنده وأحبهم إليه. ولكنه لم يستطع، ولم يرد أن يظهر نفسه ضعيفًا رقيقَا، فخلى بين امرأته وبين ما أرادت، وتقدم إليها في ألا تطيل المقام عند قومها، وأن تعود قبل أن يتقدم الشتاء ويكثر هبوب الشمال. وقد أخذ يرتقب عودتها منذ أيام، لا تكاد تمضي ساعة من نهار أو من ليل حتى يمضي معها شطر من صبره وقسط من احتماله، وحتى يشتد شوقه إلى زوجه ونزاع نفسه إلى ابنه، وضيقه بالانتظار بين قومه من كلب. وكثيرًا ما كان يخرج من خبائه حين يرتفع الضحى فيمضي أمامه حتى يبعد، ثم يرقي فيقوم فيها مقام الربيئة، إلا أنه لم يكن يرقب العدو أو يتجسس المغير، وإنما كان يرسل نظره في الصحراء يرجو أن ترفع له العير التي تحمل إليه سعدى وابنها زيدًا. وكان إذا طال وقوفه على ربوته تلك، وتقليبه نظره في وجوه الصحراء، ظن بنفسه الظنون، وأشفق أن يظن قومه به الظنون، فعاد أدراجه كاظمًا ما يجد من شوق، كاتمًا ما يحس من وجد، شاغلًا نفسه أو متكلفًا شغلها بما يمكن أن يشغل به الأغنياء الموسرون من أهل البادية الوادعين الآمنين.

وكان كلما تقدم النهار يقدر أن العير ستقبل عليه مع الليل، فإذا أقبل الليل أشفق منه على هذه العير التي لم يكن يشك في أنها قد ركبت الطريق. وقد كتم على نفسه أحاديثها تلك ما استطاع، ولكنه في تلك الليلة أحس الخوف يساوره والإشفاق ينازعه نزاعًا شديدًا، واحتفظ مع ذلك بشيء من أناة وفضل من وقار، فتقدم إلى غلمانه في أن يشبوا نارهم ويذكوها، وقدر في نفسه أنه سيستعين على ليله الطويل بإطعام الحي وإذاعة الكرم والجود فيه. حتى إذا كان الغد تقدم إلى ابنيه الشابين في أن يذهبا في الطريق إلى منازل طيئ، فإن أدركا العير عادا معها، وإن لم يدركاها مضيا حتى يرُدَّا هذه الغائبة التي أسرفت في الغيبة وقصرت في ذات الزوج والأبناء والبنات.

وما كاد الرعيان يروحون بالإبل مع العتمة حتى نهض حارثة كأنه الجني، وأومأ إلى ابنيه الشابين فتبعاه، ومضوا حتى تخيروا من هذه الإبل ناقة كوماء وجزورًا سمينًا، فعقروا ونحروا وأذنوا في الحي أن هلم إلى الطعام واللهو. وقضى الحي ليلة خصب ولهو ودعة، شبع فيها الجائع وطعم فيها البائس، ولها فيها المترف الميسور. ولكن الليل لم يكد ينقضي حتى سمع دعاء الطارق من بعيد، ويسرع حارثة وابناه إلى الاستجابة لهذا الدعاء. وما هي إلا ساعة حتى يقبل الضيف، وإذا هم جماعة من شباب البدو وشياطين الصحراء، قد شق عليهم الليل، واشتد عليهم البرد وعصفت بهم الريح، فاضطروا إلى الهدوء والراحة، وقد كانوا يودون لو استطاعوا أن يمضوا في طريقهم حتى يبلغوا غايتهم من الغد أثناء النهار أو حين يشرف الليل. ويتلقاهم حارثة وابناه لقاء حسنًا ويبلغونهم من الأمن والقِرى السريع ما يشتهون. حتى إذا أشرقت الشمس من غد وهمَّت الإبل أن تمضي لمراعيها نهض حارثة وابناه فاستبقوا منها ما عقروا ونحروا، ثم أذَّنوا في الحي أن هلم إلى الطعام والقِرى، وإذا هم ينفقون نهارًا خصبًا كما أنفقوا ليلة خصبة. وقد وجد حارثة في كرمه وجوده عزاء عن شوقه وسلوة عن وجده، ورجوعًا إلى ما كان ينبغي لمثله من الصبر والجلد والوقار. وارتحل عنه ضيفه موفورين راضين، واستأنف هو حياة هادئة بعض الهدوء راضية بعض الرضا ولكنها أيام تمضي وتتبعها أيام، ولا يبلغه من أخبار الغائبة شيء، حتى يشق الأمر عليه ويبلغ الجهد به، وحتى يهم بالرحلة إلى منازل طيئ لا يكتم ذلك ولا يخفيه. وإنه ليستعد لهذه الرحلة وإذا بنبأ يبلغه فيملأ قلبه جزعًا ويأسًا. فقد أغار نفر من صعاليك العرب وشياطين الصحراء على أطراف طيئ فاستاقوا إبلًا واختطفوا صبيه، ومضوا قبل أن يبلغ الصريخ معظم الحي، فانطلقوا إلى حيث لم تبلغهم الخيل، على أنها وجهت في طلبهم كل وجه من وجوه الصحراء جميعًا.

وصور أنت لنفسك جزع ذلك الأب البائس، ويأس تلك الأم النازح، وما ألم بهذين الحيين في طيئ وكلب من هذا الحزن المغيظ الذي لا شفاء له ولا سبيل إلى إطفاء ناره بثأر أو انتقام. وعند من يكون الثأر وممن يكون الانتقام وقد أغار المغيرون فانتهبوا واختطفوا ولم يَدَّعُوا لحي من أحياء العرب ولم ينتسبوا لقبيلة من قبائل قحطان أو عدنان؟! ومتى ادعى الصعاليك والخلعاء لحي أو قبيلة! ومتى نهضت الأحياء والقبائل بجرائر الخلعاء والصعاليك!

ولكن أعوامًا تمضي وحارثة يلقى من اللوعة والحسرة ما يلقى، وسعدى تجاهد من اليأس والقنوط ما تجاهد. ويقبل نفرٌ من كلب يزورون مكة في الموسم، فيلقون عند المسجد شابًّا قصيرًا آدم أفطس الأنف يتوسمون فيه ملامح كلب، ثم يسمعون له ويتحدثون إليه، فما يشكون في أنه كلبي وفي أنه من رهطهم الأدنين. عرفوا لغته، ثم نسبوه فعرفوا نسبه، ثم سألوه عن قصته فأنبأهم بأن نفرًا من الصعاليك اختطفوه مع جماعة من أترابه بنين وبنات، ثم تفرقوا بهم، وأقبل به خاطفه إلى سوق عكاظ فباعه من حكيم بن حزام بن خويلد الأسدي، وأداه حكيم هذا إلى عمته خديجة بنت خويلد الأسدية، وأحسنت هذه العناية به والرعاية له، حتى إذا تزوجت من الأمين محمد بن عبد الله بن عبد المطلب وهبته له، فهو قائم على خدمته منذ أعوام.

ويهم هؤلاء النفر من كلب أن يسعوا في فدائه عند الأمين، وأن يعودوا به على أمه البائسة وأبيه الملتاع. ولكن الفتى يردهم عن ذلك أجمل الرد وأرفقه، ويلح عليهم في ألا يفعلوا، ويحملهم إلى أبويه وعشيرته تحية فيها الحب والبر، ولكن فيها الرضا بهذه الحال التي صار إليها، والحرص على هذا المنزل الذي استقر فيه. ومن غريب ما قص الفتى على هذا النفر من كلب أنه لا يشك في أن الذين اختطفوه قد كانوا حديثي عهد بأبيه. طرقوه ذات ليل فتلقاهم لقاء حسنًا، وتقدم في قراهم وتزويدهم بخير ما أحبوا. سمعهم الفتى يتحدثون بذلك، ويثنون به على حارثة بن شراحيل، وظن أنه إن انتسب لهم وعرفوا مكانه من حارثة ردوه إليه، فلما فعل لم يلق منهم إلا ظلمًا وهضمًا وإنكارًا، كذبوه وآذوه وظنوا به الخديعة والكيد.

ويعود هذا النفر من كلب إلى حيث ينزل قومهم في طرف من أطراف الشام، فيردون الأمن والهدوء والغبطة والأمل إلى الأبوين البائسين اليائسين. فإذا كان الموسم من قابل أقبل حارثة وأخوه كعب حاجين وزارا مكة، والتمسا الأمين فدلا عليه، فيقولان: «يابن عبد الله! يابن عبد المطلب يابن هاشم يابن سيد قومه! أنتم أهل الحرم وجيرانه وعند بيته، تفكون العاني وتطعمون الأسير، جئناك في ابننا عندك، فامنن علينا وأحسن إلينا في فدائه، فإنا سنرفع لك في الفداء.» قال: ما هو؟ قالوا: زيد بن حارثة. فقال رسول الله : فهل لغير ذلك؟ قالوا: ما هو؟ قال: ادعوه فخيروه، فإن اختاركما فهو لكما بغير فداء، وإن اختارني فوالله ما أنا بالذي أختار على من اختارني أحدًا. قالا: قد زدتنا على النصف١ وأحسنت. قال: فدعاه فقال: هل تعرف هؤلاء؟ قال نعم. قال: من هما؟ قال: هذا أبي وهذا عمي. قال: فأنا من قد علمت ورأيت صحبتي لك فاخترني أو اخترهما. فقال زيد: ما أنا بالذي أختار عليك أحدًا، أنت مني بمكان الأب والأم. فقالا: ويحك يا زيد! أتختار العبودية على الحرية وعلى أبيك وعمك وأهل بيتك؟ قال: نعم! إني قد رأيت من هذا الرجل شيئًا ما أنا بالذي أختار عليه أحدًا أبدًا. فلما رأى رسول الله ذلك أخرجه إلى الحجر فقال: «يا من حضر اشهدوا أن زيدًا ابني أرثه ويرثني.» فلما رأى ذلك أبوه وعمه طابت أنفسهما وانصرفا، فدعي زيد بن محمد، حتى جاء الله بالإسلام.٢

وقع حب هذا الفتى في قلب الأمين، وملأ حب الأمين قلب الفتى، وإذا الأمين يعلم ذلك من نفسه ومن غلامه، فيأبى الفداء، ويخالف عما ألف الناس. وإذا الفتى يخرج من هذه المحنة منتصرًا على نفسه وعلى أواصر القربى، وعلى ما ألف الناس من إيثار الحرية على الرق، ومن إيثار الوطن على الغربة، ومن إيثار الأهل على الأجانب في الدار والنسب. ولكن الله قد أعد لزيد ألوانًا أخرى من المحن، وقرنها بألوان أخرى من الخير والكرامة. فهذا الأمين قد اتخذه له ابنًا، وزوجه ابنة عمته زينت بنت جحش، وأمها أميمة بنت عبد المطلب. وقد اختص الله أمين قريش بنبوته وائتمنه على وحيه ورسالته، وإذا ابنه زيد أسرع الرجال استجابة له وانحيازًا إليه. وقد أخلص زيد في صحبة مولاه وأبيه ونبيه ما أقاما في مكة، يحتملان من ألوان الأذى وصنوف المكروه ما يحتمله المسلمون، ويصبران من الفتنة على ما صبر عليه الذين منحهم الله قلوبًا جلدة ونفوسًا حرة وإيمانًا عميقًا. حتى إذا أذن الله لنبيه وللمؤمنين في الهجرة، هاجر زيد مع المهاجرين، فآخى رسول الله بينه وبين عمه حمزة بن عبد المطلب.

يجعله بهذا كله فردًا من أفراد الأسرة وواحدًا من أهل البيت، ويتحدث إليه بأنه مولاه وبأنه منه ومن قومه. ويشهد زيد معه بدرًا، ويشهد زيد معه أحدًا، ويغزو النبي فيخلف زيدًا على أمر المدينة من ورائه، ويقيم النبي فيخرج زيدًا أميرًا على سراياه وغزواته، حتى تقول عائشة رحمها الله: «ما بعث رسول الله زيد بن حارثة في جيش قط إلا أمره عليهم، ولو بقي بعده استخلفه.»٣

ولكن لله في عباده أمرًا هو بالغه، وإرادة هو ممضيها، وحكمة هو حاملهم عليها. لقد كان المسلمون لا يدعون هذا الرجل إلا زيد بن محمد، ولا ينظرون إليه إلا على أنه ابن نبيهم، ومن أقرب الناس إليه وألصقهم به وآثرهم عنده، وكان النبي نفسه يقول ذلك ويجهر به. ولكن الله يريد أن يلغي نظام التبني هذا، وأن يرد الناس إلى أنسابهم وأن يدعوا الأبناء لآبائهم، وإذا هو يمتحن في ذلك نبيه، ويمتحن في ذلك زيدًا، ويمتحن في ذلك المؤمنين الصادقين جميعًا. يلقي في قلب النبي حب زينب زوج زيد، ويلقي في قلب زيد الانصراف عن زينب والنفور منها.

وهذه نفس محمد مضطربة أشد الاضطراب، ممتنعة أشد الامتناع، واجمة أشد الوجوم، ترفض هذا الحب رفضًا وتزور عنه ازورارًا، وإذا هي تنكره حتى على نفسها. ولكن الله يبدي ما تخفي، ويعرف الناس ما تنكره، وإذا زيدٌ يريد أن يطلق امرأته والنبي ينهاه ويزجره ويحذره. ولكن الله بالغ أمره وممض إرادته ومتم حكمته، وإذا زيد يطلق امرأته، وإذا النبي يتزوج زينب، ويقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض في ذلك ما يقولون. ولكن الحب الخالص بين زيد ومحمد يخرج من هذه المحنة العنيفة ظافرًا منتصرًا كأنقى وأصفى ما يكون، وإذا الله ينزل في هذه المحنة قرآنًا ويسمي فيه زيدًا فيقول: وَإِذْ تَقُولُ لِلذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ ۖ فَلَمَّا قَضَىٰ زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا ۚ وَكَانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولًا. ثم يقول: مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَٰكِن رَّسُولَ اللهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ۗ وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا.

وقد تلقى المؤمنون الصادقون هذه المحنة كما كانوا يتلقون أمر الله كله راضين به مخلصين في الرضا، قد اطمأنت إليه قلوبهم، وصفت له نفوسهم، وصحت على إمضائه عزائمهم. وثقوا بأن الله قد اختار لهم فاختاروا لأنفسهم ما اختار لهم الله. وقد مضى زيد مع نبيه وصاحبه كما كان يمضي مع أبيه، وفيًّا أمينًا مخلصًا، مجاهدًا في سبيل الحق مضحيًا في ذات الله. وإذا رسول الله يزوجه حاضنته أم أيمن الحبشية، ويعده الجنة، فتنجب له أسامة بن زيد.

ثم تقبل المحنة الأخيرة. فهذا النبي يجهز لغزوة مؤتة. فإذا أتم جهازه اختار الأمراء؛ فقدم زيدًا وقال: «فإن أصيب فجعفر بن أبي طالب، فإن أصيب فعبد الله بن رواحة.» قال المحدثون: فوثب جعفر بن أبي طالب فقال: «يا رسول الله، ما كنت أرغب أن تستعمل عليَّ زيدًا.»

فقال رسول الله: «امضه فإنك لا تدري أي ذلك خير.»٤

ومضى المسلمون إلى مؤتة يقودهم زيد. حتى إذا كانت الموقعة، قاتل المسلمون على صفوفهم وقاتل الأمراء مترجلين، فقتل زيد رحمه الله طعنًا بالرماح. وقال النبي حين بلغه ذلك: «إنه دخل الجنة يسعى.» وصعد النبي المنبر فأنبأ المسلمين بمصرع الأمراء الثلاثة، وقال: «اللهم اغفر لزيد، اللهم اغفر لزيد، اللهم اغفر لزيد، اللهم اغفر لجعفر ولعبد الله بن رواحة» يستغفر لزيد ثلاث مرات، ويجمع بين ابن عمه جعفر وعبد الله بن رواحة في استغفار واحد.

تحدث ابن سعد عن الواقدي في إسناده، قال: لما أصيب زيد بن حارثة، أتاهم النبي قال فجهشت بنت زيد في وجه رسول الله فبكى رسول الله حتى انتحب. فقال له سعد بن عبادة: يا رسول الله ما هذا؟ قال: «هذا شوق الحبيب إلى حبيبه.»

١  النصف — بالتحريك — والنصف — بالكسر: الانتصاف وإعطاء الحق.
٢  «طبقات ابن سعد»: الجزء الثالث، صفحة ٢٨، طبعة ليدن.
٣  «طبقات ابن سعد»: الجزء الرابع، صفحة ٢١، طبعة ليدن.
٤  «طبقات ابن سعد»: الجزء الثالث، صفحة ٣٤، طبعة ليدن.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤