الفصل الثاني

سيد الشهداء

خلا الأمير إلى سُمَّاره حين تقدم الليل، وسكنت حركة الأحياء والأشياء، وارتفعت في السماء أضواء الدور في المدينة وأضواء القصور من حولها، وانحدرت إلى الأرض أشعة النجوم رفيقة رقيقة مضطربة. وكان الأمير على غير عادته كئيبًا كاسف البال، مؤثرًا للصمت معرضًا عن أصحابه، لا يكاد يسمع لما يدور حوله من الحديث. فلما سأله في ذلك آثر أصحابه عنده قال الأمير: «ألم ترَ إلى الناس حين كنا نعشيهم كيف كان إقبالهم على طعامهم فاترًا بطيئًا، وكيف كان حديثهم فيما بينهم خافتًا خفيًّا، وكيف كان يستأثر بهم ويسيطر عليهم ذهول غريب يجعل حركاتهم آلية لا تصدر عن رأي ولا إرادة، وإنما تصدر عن عادة وغريزة! لقد خيل إليَّ أن قد فرق بينهم وبين أنفسهم، فكأنما كانت أنفسهم في السماء وأجسامهم في الأرض. ولقد عرفت هؤلاء الناس وعرفوني، ولقد بلوتهم وبلوني، وما أذكر أنهم أخذوني بما لا أحب، وما أذكر أني سرت فيهم بما لا يرضون من سيرة الأمراء.»

قال صاحب الأمير: «فإن الأمير أعزه الله يعلم أن هؤلاء الناس قد شغلوا اليوم عن أنفسهم بآبائهم وأجدادهم، وشغلوا عن يومهم الحاضر وغدهم المقبل بأمسهم القريب.» قال الأمير: «وما ذاك؟» قال صاحبه: «فإن أصحابك قد رفعوا إليك من غير شك قصة هذه القبور التي نبشت، وقصة هذه الآية التي ظهرت.»

قال الأمير: «فإن أصحابي لم يرفعوا إليَّ من ذلك شيئًا، وإنما هو أمر جاء من دمشق، ومضينا في إنفاذه اجتهادًا للناس ونصحًا لهم وإيثارًا لهم بالري والخصب والعافية. وما أعرف أن أحدًا منهم أنكر من هذا الأمر شيئًا، أو قال فيه بغير ما نقول، أو أشار فيه بغير ما أمر أمير المؤمنين.»

قال صاحب الأمير: «أما والله لولا أن الأمر قد سبق بذلك منذ العام الماضي حين لم تكن واليًا على هذه المدينة وحين كان أمرها إلى من لا نحب أن نتحدث إليه أو نشير عليه، لقد كان لنا في ذلك رأي غير ما رأى، ولقد كنا خليقين أن نشير على أمير المؤمنين بغير ما تقدم به في أمر هذه القبور. إنها قبور الشهداء؛ إنها قبور الذين صرعوا في الله يوم أحد؛ وإن كثرتهم لمن الأنصار. وقد أراد الله أن يدفنوا حيث صرعوا. وقد أنبئنا أن جماعة من الأنصار هموا بنقل موتاهم إلى المدينة ليدفنوا فيها، فكره رسول الله ونهى عنه وأمر بهؤلاء الشهداء فردوا إلى مصارعهم ودفنوا حيث أراد الله أن يدفنوا ورسول الله قائم يصلي عليهم ويشهد دفنهم، وكأنما كان يستودعهم هذه الأرض التي طهرتها دماؤهم الذكية حتى يكون اليوم الذي ينشرون فيه من قبورهم ليلقوا جزاء الشهداء الصديقين. فلو قد سئلنا في ذلك لأجبنا. ولو قد استشرنا في ذلك لرأينا لأمير المؤمنين غير ما رأى له هؤلاء الشباب من فتيان قريش. فإن من الخير أن يجري أمير المؤمنين لأهل المدينة هذه العين تحمل إليهم الري والخصب، ولكن مما يؤذي أهل المدينة أن تنبش قبور آبائهم وأجدادهم من الشهداء، وأن يحولوا عن أرض قسمها لهم الله ورسوله.»

قال الأمير: «فتراهم قد سخطوا على ذلك وضاقوا به وأنكروه؟»

قال صاحب الأمير: «ما أشك في ذلك. ولكن الله عز وجل قد أراد بهم وبأمير المؤمنين خيرًا، فأظهر لهم هذه الآية التي صرفتهم عن الدنيا إلى الدين، وعن التفكير في اليوم والغد إلى التفكير في أمس وفي يوم يرونه بعيدًا ويراه الله عز وجل قريبًا.»

قال الأمير: «فإني لا أفهم عنك ما تقول منذ الليلة!» قال صاحبه: «فإن أصحابك إذًا لم ينبئوك بالحال التي وجدوا عليها أجسام الشهداء.» قال الأمير: «لم ينبئني أحد بشيء.» قال صاحبه: «فإن أجسام الشهداء قد وجدت رطابًا كشأنها يوم دفنت. ولقد كانت تحمل من مكان إلى مكان فتنثني وتضطرب، رخصة كأنما هي مغرقة في النوم لم يلم بها الموت. وأكثر من ذلك أن المسحاة أصابت رجل سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب فجرى منها دم زكيٌّ كما يجري دم أحدنا حين يصيبه الجرح اليسير، وقد مضى على مصرع هؤلاء الشهداء أكثر من أربعين عامًا، وقد رأى الناس ذلك وأحسوه، وتأثرت به نفوسهم، واضطربت له قلوبهم، وازداد له إيمانهم، فهم بين الحزن لما كان من تحويل هؤلاء الشهداء عن قبورهم، والإعجاب بما كان من هذه الآية، وقد صرفهم هذا الإعجاب عن إظهار ما كان خليقًا أن يملأ قلوبهم من سخط وإنكار. فلا تضق بما رأيت من وجومهم وذهولهم؛ فإن بعض هذا كان خليقًا أن يضطرهم إلى الوجوم والذهول.»

وكان في القوم شيخ قد تقدمت به السن وظهرت عليه الكبرة والهرم، وقد جلس في آخر المجلس مطرقًا ممعنًا في الصمت والسكون كأنه قطعة من صخر. فلما انتهى سمر الأمين من حديثه إلى هذا الموضع، رفع هذا الشيخ رأسه وقال في صوت هادئ رزين يكاد يضطرب شيئًا، وإن عينيه الغائرتين الضئيلتين لتَبِضَّانِ بِوَشَلٍ من الدمع شديد التأثير في النفوس — وأي شيء أبلغ من بكاء الشيوخ! — قال هذا الشيخ في صوته الهادئ الرزين: «رحم الله حمزة! إن كان لسيد الشهداء حقًّا، وإن كانت حياته لموضع العبرة الصادقة والموعظة البالغة. كان إسلامه عنيفًا، وكان بلاؤه في الإسلام عنيفًا، وكان مصرعه في الله عنيفًا، وكان ما ترك من حزن عليه ووجد به وحب له عنيفًا أيضًا. وماذا تقولون في أنه لم يبلغ حزنٌ من قلب رسول الله ما بلغه الحزن على حمزة حين رآه صريعًا قد مثَّل به المشركون تلك المثلة المنكرة! لقد حدثنا من رآه قائمًا ينظر إلى هذا المشهد الفظيع. فيأخذ الحزن من قلبه الكريم الكبير كل مأخذ حتى يخرجه عن طوره ويدفعه إلى الثورة، وإن كان لأبعد الناس عن الثورة، وإن كان لألزم الناس للوقار. لقد ثارت لهذا المشهد البشع نفسه الهادئة الرضية، فإذا هو يُوعِد ويُنذر، وإذا هو يقسم لئن أظهره الله على قريش ليمثِّلن بقتلاهم كما مثَّلوا بعمه، وإذا غضبُ هذه النفس الهادئة الرضية يَشيع في نفوس أصحابه كما تَشيع النار في الحطب الجزْل، فيقسمون لئن أظهرهم الله على قريش ليمثلُنَّ بقتلاهم مُثْلة لم تعرفها العرب قط. ولكن الله عز وجل كان يريد برسوله وبعباده غير ما أراد لهم الغضب، وإذا هو يؤدبهم بأدب غير هذا الأدب العتيق الذي يقوم على الحفيظة والحمية والثأر، وإذا هو ينزل على رسوله هذه الآيات الكريمة: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ ۖ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرِينَ * وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلا بِاللهِ ۚ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ * إِنَّ اللهَ مَعَ الذِينَ اتَّقَوا وَّالذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ. فيثوب إلى القلب الكريم ما فارقه من العفو، ويعود إلى النفس الكبيرة ما ندَّ عنها من الصبر، ويكفِّر النبي عن يمينه، ويرد المسلمون إلى العفو والصبر والحلم والأناة، ويظهر الله رسوله وعباده على الذين قتلوا حمزة وأصحابه الشهداء ومثلوا بهم، فلا يلقون منهم إلا العفو والبر، وإلا الرحمة والعطف، وإلا المودة والإحسان. وكذلك يقوم أمر هذه الأمة على الصبر والمغفرة والصفح الجميل.»

ثم أطرق الشيخ إطراقةً غير قصيرة، وأمعن في صمت عميق، وأمعن السمار مثله في صمت عميق أيضًا، كأنما حضر مجلسهم روح قوي أخذ عليهم أمرهم واضطرهم إلى هذه التروية المتصلة التي قطعها الشيخ حين رفع رأسه وقال في صوته الهادئ الرزين: «نعم! رحم الله حمزة! لقد كانت حياته عنفًا كلها، ولكنها لم تعقب إلا مودة ورحمة. أترون إلى أخته صفية وقد بلغها مصرعه العنيف، فأقبلت تسعى لتراه وتحمل ثوبين لتلفه فيهما، ويشفق رسول الله عليها من هذا المشهد، فيأمر ابنها الزبير أن يردها، ولكنها تأبى؛ فقد بلغها أنه صرع، وبلغها أنه مثل به، وقد رضيت بذلك واطمأنت إليه، فذلك في الله قليل. أخت عنيفة لأخ عنيف، عنيفة بنفسها قبل أن تعنف بالناس، ولكنها أخت رحيمة لأخ رحيم. أترون إليها وقد أقبلت فرأت أخاها، وتنظر فترى جهد المسلمين وفقرهم وعجزهم عن تكفين موتاهم، فترد عن أخيها أحد الثوبين ليكفن المسلمون به شهيدًا من شهدائهم، وترضى لأخيها بعد أن صرع هذا المصرع ومثل به هذه المثلة أن يكفن في ثوب واحد لا يلف جسمه كله، إن ستر رأسه أظهر رجليه، وإن ستر رجليه أظهر رأسه. وإذا النبي يأمر بأن يستر الثوب رأسه وأن تغطى رجلاه بأوراق الشجر.

لقد كان حمزة عم النبي وأخاه في الرضاعة، وقد اجتمع مع النبي من جهتيه، من جهة أبيه ومن جهة أمه؛ فقد كانت أمه هالة بنت عم آمنة. ولقد كان النبي به رفيقًا وعليه شفيقًا وبولده برًّا. فأي عجب في أن يبلغ مصرع حمزة بالنبي طور الجزع الذي لم يألفه قلبه الكريم، فيغضب ويثور وينذر ويوعد، حتى إذا رده الله عن الغضب والثورة وعن الإيعاد والنذير عاد إلى المدينة وقد أقر الله في قلبه حزنًا قويًّا مقيمًا، قوامه الرحمة والحب. يمر ببني عبد الأشهل، فيسمع بكاء النساء على شهداء الأنصار، فيقول هذه الكلمة البالغة التي لا أعرف أروع منها في تصوير الرحمة والحزن معًا: لكن حمزة لا بواكي له!

وتبلغ هذه الكلمة آذان الأنصار وتنفذ إلى قلوبهم وتستقر فيها، وتملؤها حبًّا لحمزة وحزنًا عليه، وإيثارًا للنبي ومشاركة له فيما يجد، وإذا هم يأمرون نساءهم أن يذهبن إلى بيت النبي فيبكين عمه وأسده وصفيه وأخاه. وقد فعلن، وتلقاهن نساء النبي فبكين، ورضيت نفس النبي لذلك، وامتلأت له حنانًا وودًّا. ولكن الله يأبى على نبيه وعلى عباده حتى هذا الإغراق في الحزن، وإذا النبي يصرف هؤلاء النساء رفيقًا بهن داعيًا لهن، فإذا أصبح صعد المنبر فنهى عن إعلان البكاء أشد ما يكون النهي. ولكن كلمته قد استقرت في نفوس الأنصار، وقد نفذت إلى قلوب الأنصاريات خاصة، وقد توارثنها وتوارثن التأثر بها، فما يموت من الأنصار أحد وما تبكي امرأة أنصارية على أحد إلا بدأت بحمزة فبكت عليه وذكرته بالخير، ثم ثنت بصاحبها فسفحت عليه دموع الحب والحزن. وما أرى إلا أن هذا سيظل دأب الأنصاريات إلى آخر الدهر. أترون إلى العنف كيف يعقب الرحمة، وإلى الشدة كيف تعقب اللين!

رحم الله حمزة! لقد كانت حياته كلها عنفًا، ولقد أصبحت آثاره كلها رحمة ولينًا. أتعرفون كيف أسلم حمزة؟ لقد أسلم إسلام الفتيان أولي البأس والشدة وذوي الحزم والقوة أولئك الذين يأنفون الضيم، ويأبون الخسف، ويغضبون للولي ويكرهون أن يؤخذوا بما لا يحبون. ولولا أن الله يكره مثل هذا التعبير لقلت إن إسلامه كان إسلام الحمية والحفيظة. غضب لابن أخيه غضبة عربية قرشية، وانتقم لابن أخيه انتقامًا عربيًّا قرشيًّا، وسلك الله به إلى الإسلام أقرب الطرق وأدناها إلى قلبه القوي العنيف. كان فتى من فتيان قريش، فيه عنفها، وفيه شدتها، وفيه صلفها، وفيه أنفتها، وفيه حرصها، وفيه إيثارها لهذه اللذات التي يؤثرها أصحاب المروءة والرجولة الكاملة. كان صاحب صيد وقنص، يخرج للذته هذه من آخر الليل ويعود موفورًا مبتهجًا مع الضحى، فلا يلم بأهله حتى يذهب إلى المسجد، فيقف على أندية قريش مسلمًا متحدثًا، ثم يطوف بالكعبة ثم ينصرف إلى داره وقد رضي عن نفسه وأرضى الناس عنها. وقد أقبل ذات يوم فأنبأته امرأة بنبأ عظيم تغيرت له حياته كلها. كانت هذه المرأة مولاة لعبد الله بن جدعان، وأكبر ظني أنها كانت صاحبة دعابة وغزل. وأكبر ظني أن أبا جهل حين وقف إليها إنما وقف مداعبًا مغازلًا طامعًا منها في شيء مريب.

ويمر النبي فتمتلئ نفس أبي جهل غيظًا لمرآه على ما كان يضمر له من بغض وقلى. وإنه لفي موقفه هذا المريب الذي لا يحسن بالأشراف من قريش إذ أخذ يؤذي النبي في نفسه بأشنع القول وأبشعه. ولكن الله قد أدب رسوله فأحسن تأديبه، أمره بأن يأخذ العفو ويأمر بالعرف ويعرض عن الجاهلين، فيمر بأبي جهل ويسمع منه وينصرف عنه معرضًا كريمًا لا يجيبه ولا يلتفت إليه. ويقع هذا كله من نفس المرأة أشد المواقع وأبلغها. وأكبر ظني أنها صدفت بعد ذلك عن أبي جهل صدوفًا وصرفته عن نفسها صرفًا عنيفًا. ومضى أبو جهل خزيان خجلًا، حتى بلغ ناديًا من أندية قريش فجلس مهمومًا مخذولًا.

ويقبل حمزة من صيده متوشحًا قوسه مبتهجًا بما أصاب من لذة وما أنفق من نشاط، فيمر بهذه المرأة في طريقه إلى المسجد، وإذا هي تقفه، وإذا هي تنبئه بما رأت وما سمعت، فيسمع منها ويمضي دون أن يجيبها ودون أن يلوي على شيء، قد أضرم الله في قلبه نار الغضب هذه التي تطهر النفوس من الإثم وتزيل عنها الحوب وتردها إلى الحياة مرة ثانية نقية ناصعة كما برأها الله وقبل أن تعلق بها حبائل الشيطان.

ويمضي حمزة لا يلوي على شيء، تتأجج في قلبه هذه النار المقدسة حتى يبلغ المسجد، ويرى أبا جهل في ناديه فيقصد قصده، حتى إذا انتهى إليه قام وراءه ثم ضرب رأسه بالقوس فشجه شجة بالغة، ثم أعلن إسلامه وتحدى قريشًا وطلب إليها أن ترده إن استطاعت عن هذا الإسلام. ويتواثب بنو مخزوم وقد غضبوا لأبي جهل، فهم يريدون أن يمنعوه وأن يبطشوا بحمزة. ولكن أبا جهل يخذلهم ويردهم إلى الدعة والهدوء، ويقول لهم: «دعوا أبا عمارة! فوالله قد سببت ابن أخيه سبًّا موجعًا.» يكفهم عنه أبو جهل فرقًا وخزيًا وإشفاقًا أن يتكشف الحق ويظهر ما خفي من موقفه المريب، وإن زعمت بنو مخزوم أنه إنما كفهم عنه إيثارًا للعافية وإنصافًا من نفسه.»

قال الأمير وهو يبتسم: «امض في حديثك أيها الشيخ فإنا نعرف بغضك لبني مخزوم.»

قال الشيخ: «في أي حديث تريد أن أمضي أيها الأمير؟ لقد كان إسلام حمزة عزًّا للنبي وأصحابه، كف عنه كثيرًا من أذى قريش. ولقد كان حمزة من هؤلاء المسلمين الذين عاشوا في مكة أعزة أقوياء يجهرون بإسلامهم ولا يخافتون به والذين هاجروا من مكة في غير تحفظ ولا استخفاء. والله لم يعز به الإسلام في مكة وحدها وإنما أعزه به في المدينة. فلحمزة عقد النبي أول لواء في الإسلام، وأفعال حمزة في بدر ما تعلم أيها الأمير، وصرعى حمزة يوم بدر من تعلم أيها الأمير. ولو قد استشارنا معاوية قبل أن يحول شهداءنا عن مقابرهم التي احتفرها لهم الله ورسوله لقلنا له إنا نؤثر الظمأ والجدب وسوء الحال على أن يحول هؤلاء الشهداء أو تنبش قبورهم، ولقلنا له: إن بين هؤلاء الشهداء سيدهم حمزة بن عبد المطلب قاتل شيبة بن ربيعة وعتبة بن ربيعة، الذي صرعه وحشي وبقرت بطنه ولاكت كبده هند!»

وكان الشيخ حين انتهى إلى هذا الموضع من حديثه قد استحال استحالة كاملة، فانحسر عنه ضعف الشيخوخة وارتفع صوته وثبت ولم يضطرب، وأصبح كأنه النمر قد جرى فيه غضب وهياج وأخذت عيناه تقدحان شررًا، وخيل إلى من حوله أنه قد عاد إلى شبابه حين كان من شجعان الأنصار وأبطالهم المقدمين يوم البأس.

قال الأمير وهو يبتسم ويملك نفسه: «حسبك أيها الشيخ! لقد بدأ أمر حمزة بالعنف، وانتهى إلى الرحمة واللين، وابتدأت حديثك لينًا رفيقًا، وها أنت ذا تنتهي إلى العنف وتحيي ما حط الله عنا من حمية الجاهلية وعصبيتها!

رحم الله حمزة! فما ينبغي أن يثير ذكره شرًّا، وما ينبغي أن يثير ذكره إلا المودة والرحمة والنصح للمسلمين ولأمير المؤمنين. وما يدريك! لعل هؤلاء الشهداء أنفسهم لو استشيروا لأشاروا على أمير المؤمنين بأن يحملهم بعد موتهم هذه التضحية في سبيل المسلمين! فهل كانت حياتهم إلا تضحية في سبيل الله ورسوله والمسلمين!»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤